تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

قد ذكرنا في غير موضع فائدة تخصيص ذكر المصير إليه والمرجع إليه في ذلك اليوم ، وإن كانوا صائرين إليه في كل وقت.

وقوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ* وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ).

ضرب هذا المثل يخرج على وجوه :

أحدها : شبه الأصنام التي كانوا يعبدونها بالأعمى والظلمة والميتة والحرور حقيقة ؛ لأنها كذلك عميان موتى لا نور فيها ؛ يقول : والله إنكم تعلمون أن الذين تعبدون من دون الله عميان لا بصر لهم ولا نور ولا حياة ولا شيء من ذلك ، وأن الله هو البصير ، ومنه يكون كل خير ونفع ، فكيف اخترتم عبادة من هذا سبيله على عبادة الله تعالى؟! وبالله الهداية والعصمة.

والثاني : شبه أولئك الكفرة بالعميان والظلمة والموت وما ذكر ، والمؤمن بالبصير والنور والظل والحياة ، ليس على إرادة حقيقة البصر والحياة وما ذكر ؛ لأن لهم بصرا يبصرون وهم أحياء فيقولون : نحن البصراء والأحياء ، وأنتم العميان والأموات ، وما ذكر ، لكن شبههم بالعميان والموتى ؛ لأنه لا حجة لهم ولا برهان على عبادتهم الأصنام ، وهم يعلمون أنه لا حجة لهم ولا برهان على ذلك من كتاب أو رسول أو نحوه ، إنما هو هوى يهوون ذلك ، وللمؤمنين في عبادتهم الله حجة وبرهان ، فمن كان له حجة في عبادته فهو بصير حيّ نور ، ومن ليس له ذلك فهو أعمى ميت.

والثالث : يذكر هذا دلالة على البعث ؛ لأنهم يعلمون أن الخلق ليس كلهم على حدّ واحد وحالة واحدة ، بل فيهم العميان والبصراء وفيهم الأحياء والأموات وفيهم ما ذكر ، وقد استووا جميعا في منافع هذه الدنيا ، وفي الحكمة التفريق بينهم لا الجمع ، فلا بدّ من دار أخرى سوى هذه يفرق بينهم ؛ إذ في الحكمة والعقل التفريق لا الجمع ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ).

دل قوله : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) على أن قوله : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) إنما أراد به الكافر ، ثم أخبر أن رسوله لا يسمع لما لا يقدر على ذلك ، وليس عنده ذلك ؛ إذ لو كان بيانا مبينا أو دعاء على ما يقوله المعتزلة ، لكان يسمع ويبين ويقدر على ذلك ، فإذ لم يقدر رسول الله على ذلك دل أن عند الله لطفا وشيئا لم يعطهم ، فإذا أعطاهم ذلك اهتدوا وآمنوا ؛ وكذلك هذا في قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] ، ولو

٤٨١

كان بيانا على ما تقوله المعتزلة لهدى من أحبّ وقد أحب فلم يهتد ؛ دل أن عند الله شيئا لو أعطى ذلك لاهتدى ، ولم يكن ذلك عند رسوله وهو التوفيق والعصمة ، وهذا ينقض على المعتزلة قولهم : إن الله قد أعطى كل كافر ما به يهتدي لكنه لم يهتد.

ثم لا يحتمل قوله : (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) على القسر والقهر دل أنه لا يحتمل.

وقوله : (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : ليس عليك إلا الإنذار باللسان ؛ كقوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨] ، وقوله : (ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) [المائدة : ٩٩] ، وأنت لا تؤاخذ بتركهم قبول الإنذار ؛ كقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ...) الآية [الأنعام : ٥٢] ، وقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ ...) الآية [النور : ٥٤].

ويحتمل الإنذار بالسيف بأمره إياه بالقتال معهم حتى يؤمنوا ، وإن كان على هذا فهو يحتمل النسخ ؛ يؤمر بالقتال في وقت ، ولا يؤمر في وقت ، وأمّا النذارة باللسان فهو لا يحتمل النسخ أبدا. والله أعلم.

وقوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً).

يحتمل قوله : (بِالْحَقِ) أي : بالتوحيد ، أي : أرسلناك لتدعو الناس إلى توحيد الله ، أو أرسلناك بالحق ، أي : بالحق الذي لله عليهم وما لبعض على بعض.

أو (أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) أي : للحق وهو البعث الذي هو كائن لا محالة.

وقوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً).

أي : بشيرا بالجنة لمن آمن بالله وأجابك ، ونذيرا بالنار لمن عصاه وخالف أمره وترك إجابته ، هذا يدل على أنه لم يرد في قوله : (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) أنه نذير خاصة ليس ببشير.

وقوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ).

قال بعضهم : ليس من أصناف الخلق وجواهرهم على اختلاف جواهرهم وأصنافهم إلا وقد خلا لهم نذير ؛ ليأمر وينهى ويمنع ويبيح ؛ كقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ...) الآية [الأنعام : ٣٨] ، أخبر أن الخلق على اختلاف أصنافهم وجواهرهم أمم أمثالهم البشر ، فيتحملون ما يتحمل البشر من الأمر والنهي والنذارة والبشارة.

وقال بعضهم : ذلك راجع إلى الجن والإنس خاصة ليس إلى الكل ؛ لأنهما هما المخصوصان بالخطاب والنطق والعقل وغير ذلك ، وفيهما ظهر بعث الرسل والنذر ، ولم

٤٨٢

يظهر ذلك في غيرهما ، فكأنه قال : وإن من أمة من هذين من القرون إلا خلا فيها نذير ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ).

يعزي رسوله ويصبره على تكذيب قومه إياه ، يقول : لست أنت بأول مكذب من الرسل ، قد كذب إخوانك الذين من قبل بعد ما جاءوا بالبينات والزبر ، أي : بالكتب المنيرة إليهم مع ما جاءهم بذلك فكذبوهم ، فصبروا على تكذيبهم ، فاصبر أنت أيضا على تكذيب قومك ، والله أعلم.

وقوله : (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ).

أي : ثم أخذت الذين كذبوا رسلهم بالتكذيب فآخذ قومك على تكذيبهم إليك أيضا ، يذكر هذا له ليصبره على ذلك وينفي حزنه على تكذيبهم إياه.

أو يذكره زجرا لقومه على تكذيبهم إياه ؛ فينزل بهم من العذاب ما نزل بأولئك بالتكذيب.

وقوله : (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ).

قال بعضهم : فكيف كان إنكاري ، وقال بعضهم : عذابي.

ودل قوله : (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) [على] قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [النور : ٣٥] ، أي : منير السموات بما سمى الكتاب في غير آي من القرآن : نورا ، هو نور بما ينير القلوب والصدور.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)(٣٠)

وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) إلى آخر ما ذكر ـ فيه فوائد من الحكمة :

أحدها : أنه جعل ـ عزوجل ـ طبع الماء مما يلائم ويوافق طباع هذه الثمرات على اختلاف جواهرها وألوانها ؛ حتى يكون حياة كل شيء منها وقوامه بهذا الماء ، وكذلك جعل طبع هذا الماء ملائما موافقا طباع جميع الخلائق من البشر والدواب والطير والوحش

٤٨٣

وجميع الحيوان ، على اختلاف جواهرهم وأصنافهم وغذائهم ، حتى صار هو غذاء وحياة لهم وقياما به ؛ ليعلم أن من ملك هذا وقدر توفيق هذا ـ على اختلاف ما ذكرنا من الجواهر والأغذية ـ وتدبيره ، لا يعجزه إنشاء شيء لا من شيء ، ولا يخفى عليه شيء ، وفي ذلك دلالة البعث : أن من بلغت قدرته وتدبيره وعلمه هذا المبلغ لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء.

والثاني : أنه أنشأ ما ذكر من مختلف الأشياء والجواهر بهذا الماء ، وجعله سببا لحياة ما ذكر من البشر والدواب وغيره ، من غير أن يكون في ذلك الماء الذي أنشأ ذلك منه ، وجعله سببا لحياتهم من أثر ذلك فيه أو من جنسه ؛ ليعلم أنه لم يكن أنشأ هذه الأشياء بهذا الماء ، ولا جعله سببا لها على الاستعانة به والتقوية ، بل إعلاما للخلق أسباب مطالب الغذاء والفضل لهم ؛ إذ لو كان على الاستعانة وجعله سببا له في إنشاء ذلك ، لكان يكون تلك الأشياء المنشأة مشاكلة للماء مشابهة له ؛ دل أنه جعل ذلك سببا للخلق في الوصول إلى ما ذكرنا من الأغذية لهم من غير أن يروا أرزاقهم من تلك الأسباب والمكاسب ولكن من فضل الله.

والثالث : أنشأ هذه الفواكه والثمرات مختلفة ألوانها وطعمها ؛ لما علم من البشر من الملالة والسامة من نوع واحد ولون واحد ؛ ليتم نعمه عليهم ليتأدّى بذلك الشكر عليها ، والله أعلم.

وقوله : (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ).

قال بعضهم (١) : أنشأ الجبال أيضا مختلفة من بيض وحمر وغرابيب ، كما أنشأ الثمرات والدواب والحيوان كلها مختلفة.

وقال بعضهم (٢) : ذلك وصف ، وصفها بالسواد للطرق التي أنشأها في الجبال ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كاختلاف الجبال والثمار ، وكذلك : (وَغَرابِيبُ) جمع غربيب ، وهو الشديد السواد ، يقال : أسود غربيب ؛ وهو [قول] القتبي وأبي عوسجة ، ورجل غربيب الشعر ، أي : أسود الشعر ، ومأخذه من الغراب لأنه أسود ، والجدد : الخطوط والطرائق في الجبال.

وقال أبو عوسجة : الجدة : الخطة ، [و] الجدد : جميع الخطوط ، يقال : جددت ،

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن المنذر من طريق ابن جريج عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٦٩).

(٢) قاله ابن عباس وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٦٨) وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما.

٤٨٤

أي : خططت ، [و] يقال : ثوب جديد وثياب جدد ، (وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) أي : طرائق مختلفة ألوانها بعضها بيض وبعضها غرابيب وهي سود.

يذكر قدرته وتذكيره أن الجبال مع غلظها وشدتها وارتفاعها جعلها بحيث يتطرق منها في صعودها وهبوطها ، فمن قدر على هذا لا يعجزه ولا يخفى عليه شيء.

أو يذكر نعمه عليهم حيث سخرها لهم ؛ ليقضوا فيها حوائجهم فيما بعد عنهم وصعب عليهم ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ).

هذا يحتمل وجوها :

أحدها : أن الذي يحقّ على العالم بالله أن يكون هو يخشاه ؛ لما يعلم من سلطانه وهيبته وقدرته وجلاله.

والثاني : أن العالم بالبعث والمؤمن به هو يخشى مخالفة الله في أوامره ونواهيه ؛ لما يعلم من نقمته وعذابه من خالفه وعصى أمره ، فأمّا من [لم] يعلم بالبعث ولم يؤمن به فلا يخافه ؛ كقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) [الشورى : ١٨] ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) [المؤمنون : ٥٧] ونحوه.

أو أن يكون قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) عباده من جملة المؤمنين ؛ يقول ـ والله أعلم ـ : إنما يخشى الله من عباده المؤمنون به ، المصدقون عذابه ونقمته ، فأمّا من لم يؤمن به فلا يخافه كما ذكرنا في قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم : ٥] إن في ذلك لآيات لكل مؤمن ، ويكون الصبار والشكور كناية عن المؤمن ؛ فعلى ذلك هذا محتمل.

وقال أهل التأويل : على التقديم والتأخير ، أي : أشد الناس لله خشية أعلمهم بالله ، والخشية :

قال الحسن : هي الخوف الدائم اللازم في القلب غير مفارق له ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ).

قال بعضهم : العزيز : المنتقم من أعدائه ، والغفور لذنوب المؤمنين.

وقال بعضهم : عزيز في ملكه ومن دونه ذليل ، غفور ، أي : ستور على ذنوب المؤمنين.

وقوله : (الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ).

يحتمل ما ذكر من تلاوة الكتاب هاهنا ، ما ذكر في آية أخرى قال : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة : ١٢١] وأقاموا فيها من الأمر بالصلاة والأمر بالزكاة.

٤٨٥

أو أن يكون قوله : (يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) أي : يتبعون كتاب الله فيما فيه مما لهم ومما عليهم ، يتبعون كله من الإقدام على الحلال والاجتناب على الحرام ، والمشفقون بكتاب الله هم الذين اتبعوا ما فيه من إقامة الصلاة وإنفاق ما رزقوا ، فأما من تلا ولم يتبع ما فيه فكأنه لم يتل ، وهو كما نفى عنهم هذه الحواس من البصر والسمع واللسان وغيره ؛ لتركهم الانتفاع بها وإن كانت لهم تلك الحواس حقيقة ، وأثبتها للمؤمن لما انتفع بها وإن لم تكن له تلك حقيقة ؛ فعلى ذلك يحتمل الأول ، والله أعلم (١).

وقوله : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً).

يحتمل قوله : (سِرًّا وَعَلانِيَةً) في كل حال وكل وقت لا يتركون الإنفاق على كل حال ؛ كقوله : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) [آل عمران : ١٣٣ ، ١٣٤] ، أي : ينفقون على كل حال. ويحتمل : فلينفقوا مما رزقناهم (سِرًّا وَعَلانِيَةً) ، أي : يتصدقون الصدقة ظاهرا وباطنا ، أي : ما ظهر للناس وعلموا به ، وما خفي عنهم واستتر ؛ لما قصدوا بها وجه الله لا مراءاة الخلق ، فمن كان قصده بالخيرات وجه الله لا مراءاة الخلق ، فعلمهم به وجهلهم سواء ، لا يمتنع عن ذلك أبدا ، والله أعلم.

وقوله : (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ).

سمى ما يبذل العبد لله : تجارة ، وإن كان ذلك له في الحقيقة لطفا منه وإحسانا ، وكذلك ما ذكر من إيفاء الأجر لهم على أعمالهم حيث قال : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) ، وذلك ليس في الحقيقة أجرا لما يستوجبون الأجر قبله بتلك الأعمال ؛ لما عليهم من الشكر فيما أنعم عليهم من أنواع النعم ، ومتى يفرغون عن شكر ما أنعم عليهم حتى يكون ذلك أجرا لهم ، لكنه ـ عزوجل ـ بفضله وإنعامه وعد لهم الثواب والأجر على حسناتهم وأعمالهم الصالحات ؛ إفضالا منه وإنعاما منه ، وسمى ذلك : تجارة كأن ليس ذلك له في الحقيقة ؛ ترغيبا منه الخلق في ذلك وتحريضا لهم على ذلك ، والله أعلم.

(وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على ذلك أيضا.

وقوله : (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ).

يحتمل قوله : (غَفُورٌ) أي : ستور لمساويهم ، (شَكُورٌ) أي : مظهر لحسناتهم بإدخاله إياهم الجنة ؛ ليعلم أحد أنه كان محسنا لا مسيئا.

أو (غَفُورٌ) : يتجاوز عن مساوئهم ، (شَكُورٌ) : يقبل اليسير من العمل القليل منهم

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : فعلى هذا التأويل : يدخل تحت الآية من يعمل بالكتاب وإن لم يقرأه بلسانه ، وعلى الوجه الأول : لا يدخل ما لم يقرأه بلسانه ، شرح.

٤٨٦

[و] يجزيهم على ذلك الجزيل من الثواب ، والله أعلم.

وقوله : (لَنْ تَبُورَ).

قال أبو عوسجة والقتبي (١) : (لَنْ تَبُورَ) أي : لن تفنى أو لن تكسد ، يقال : بارت التجارة تبور فهي بائرة : إذا كسدت.

(لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) : من الإيفاء ، يقال : أوفيته حقه ، أي : أعطيته [حقه] كله.

قوله تعالى : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (٣٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٣٧) إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٣٨)

وقوله : (وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) : يا محمد ، (مِنَ الْكِتابِ) : وهو القرآن ، (هُوَ الْحَقُ) : أنه من عند الله ، (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : موافقا للكتب التي قبله.

ثم يكون وفاقه إياها بأحد شيئين :

إما في الأخبار والأنباء : أن توافق الأنباء والأخبار التي في القرآن أنباء الكتب المتقدمة وأخبارها ويصدق بعضها بعضا ، فكذلك كانت الكتب كلها داعية إلى توحيد الله والعبادة له والطاعة.

أو توافق الأحكام ، فإن كانت الموافقة في الأحكام ففيها الناسخ والمنسوخ مختلفة ؛ ألا ترى أن في القرآن ناسخا ومنسوخا ، ثم أخبر أنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ، ولو كان الناسخ والمنسوخ خلافا في الحقيقة لكان من عند غير الله على ما أخبر ، فدل أن بينهما وفاقا ليس باختلاف.

وقال بعضهم : إن محمدا يصدق ما قبله من الكتب والرسل ، وهو ما ذكرنا : أن جميع الكتب والرسل إنما دعوا الخلق إلى توحيد الله وعبادته.

__________________

(١) انظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة (٢ / ١٥٥).

٤٨٧

وقوله : (إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ).

أي : (لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) بما به مصالحهم ، أو (لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) ، أي : على علم وبصيرة منه بتكذيب القوم رسلهم بعث الرسل إليهم لا عن جهل منه بذلك ، وذلك لا يخرجه عن الحكمة كما قال بعض الملاحدة : إن ليس بحكيم من بعث الرسل إلى من يعلم أنه يكذبه ويرد رسالته ، فهذا لو كان بعث الرسل لحاجة المرسل ولمنفعته يكون إرساله وبعثه إلى من يعلم أنه يكذبه ويردّ رسالته [عبثا] ، فأمّا الله ـ سبحانه وتعالى ـ يتعالى عن أن يرسل الرسل لحاجة له أو لمنفعة بل لحاجة المبعوث إليه والمرسل [إليه] ؛ فلم يخرج علمه برده وتكذيبه عن الحكمة ، والتوفيق بالله.

أو أن يكون قوله : (لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) يخرج عن الوعيد ، أي : عالم بأحوالهم وأفعالهم ؛ ليكونوا أبدا على حذر ومراقبة ، والله أعلم.

وقوله : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ).

اختلف فيه :

قال بعضهم : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) هو ممن أخبر أنه اصطفاه للهدى من متبعي محمد ، وهم أصحاب الكبائر في قول بعض.

وقال بعضهم : هم أصحاب الصغائر.

وقال بعضهم : هم أصحاب الصغائر والكبائر جميعا.

ومنهم من يقول : هو في الناس جميعا المتبع له وغير المتبع.

ثم اختلف في قوله : (ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) :

قال بعضهم (١) : هو المنافق الذي أظهر الموافقة لرسوله وأضمر الخلاف له.

وقال بعضهم : هم اليهود والنصارى ، فقد آمنوا قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به.

وقال بعضهم (٢) : هم المشركون وقد أقسموا أنه لو جاءهم نذير : (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) [فاطر : ٤٢].

فهؤلاء كلهم في النار ، وما ذكر من الاصطفاء والاختيار على قول هؤلاء يكون لرسول الله ؛ حيث بعث إليهم ؛ ليدعوهم إلى توحيد الله.

والأشبه أن يكون قوله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) من أمته من متبعي الرسول ما روي في

__________________

(١) قاله الحسن أخرجه ابن جرير (٢٩٠٠٦ ، ٢٩٠٠٧) وعبد بن حميد والبيهقي عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٧٤) وهو قول قتادة وابن زيد وغيرهما.

(٢) أخرجه ابن مردويه عن عمر مرفوعا قال : هو الكافر ، انظر الدر المنثور (٥ / ٤٧٤).

٤٨٨

الخبر عن أبي الدرداء رضي الله عنه ـ إن ثبت ـ قال : «تلا رسول الله هذه الآية فقال : أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا ثم يدخل الجنة ، وأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يظن أنه لن ينجو ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة» ، ثم قال رسول الله : وهم الذين قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ...)(١) الآية [فاطر : ٣٤]. وكذلك روي عن أنس (٢) وعائشة (٣) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن ثبت عنه فهو تأويل الآية ، وتفسير الظالم من أهل التوحيد والملة.

والمقتصد : قال بعضهم : هو الذي يخلط عملا صالحا بعمل سيئ ؛ كقوله : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) [التوبة : ١٠٢].

وقال بعضهم : هو الذي يقوم بأداء الفرائض والأركان وأما غيره فلا.

والسابق يخرج على وجهين :

أحدهما : سابق بالخيرات كلها لا تقصير فيه ولا نقصان.

أو سابق بالخيرات فيه تقصير ونقصان ، وقد ذكرنا هؤلاء الفرق الثلاثة في غير موضع : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ ...) الآية [التوبة : ١٠٠] ، ثم قال : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ) [التوبة : ١٠٢] (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ) [التوبة : ١٠٦] ، فالذين اعترفوا بذنوبهم هم المقتصد ، والآخرون هم الظالم لنفسه.

وقال في موضع آخر : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة : ١٠ ـ ١٢] ، وقال : (وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ. فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ) [الواقعة : ٢٧ ، ٢٨] إلى آخر ما ذكر ، وقال : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ) [الواقعة : ٤١] ـ ففي ظاهر هذا أن أصحاب الشمال المكذبون ؛ حيث ذكر في آخر هذه السورة الفرق الثلاثة حيث قال : (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ* فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ* وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ* وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ) [الواقعة : ٨٨ ـ ٩٢] ، ففي ظاهر هذا أن الظالم لنفسه هو المكذب والكافر في قوله : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ) [الواقعة : ٤١] في ظاهر ما ذكر في سورة التوبة أنه من أهل التوحيد حيث

__________________

(١) أخرجه الفريابي وأحمد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه والبيهقي كما في الدر المنثور (٥ / ٤٧٢).

(٢) أخرجه ابن النجار عن أنس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له» ، انظر : الدر المنثور (٥ / ٤٧٣).

(٣) أخرجه الطيالسي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط والحاكم وابن مردويه عن عقبة ابن صهبان عنهما موقوفا كما في الدر المنثور (٥ / ٤٧٢).

٤٨٩

قال : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ ...) الآية [التوبة : ١٠٦] ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (بِإِذْنِ اللهِ).

يحتمل : بعلم الله ، ويحتمل : بمشيئة الله ، وقيل : بأمره.

وقوله : (ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ).

يقول ـ والله أعلم ـ : هذا الذي أورثناهم من الكتاب هو الفضل الكبير ؛ كقوله : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) [النساء : ١١٣].

أو يقول : إدخالهم الجنة فضل منه كبير.

وروي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : «(فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ) قال : ألا إن سابقنا سابق ، وإن مقتصدنا ناج ، وإن ظالمنا مغفور له» (١).

وقال عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ : «ألا إن سابقنا أهل الجهاد منا ، وإن مقتصدنا أهل حضرنا ، وإن ظالمنا أهل بدونا» (٢).

وابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يقول : «الظالم لنفسه كافر» (٣).

وعن الحسن قال : «الظالم لنفسه المنافق وهو هالك ، وأما السابق والمقتصد فقد نجيا» (٤).

وقوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ).

ذكر التحلي فيها بالذهب واللؤلؤ ولبس الحرير ، وليس للرجال رغبة في هذه الدنيا في التحلي بذلك ولا لبس الحرير ، اللهم إلا [أن] يكون للعرب رغبة فيما ذكر ، فخرج الوعد لهم بذلك والترغيب في ذلك ، وهو ما ذكر من الخيام فيها والقباب والغرفات ، وذلك أشياء تستعمل في حال الضرورة في الأسفار ، وعند عدم غيره من المنازل والغرف عند ضيق المكان ، فأما في حال الاختيار ووجود غيره فلا ، لكنه خرج ذلك لهم ؛ لما لهم في ذلك من فضل رغبة ؛ ألا ترى أنهم قالوا : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) [الزخرف : ٥٣] ، ذكروا ذلك لما لذلك عندهم فضل قدر ومنزلة ورغبة في ذلك.

أو يذكر هذا لهم في الجنة ـ أعني : الذهب والفضة والحرير وما ذكر ـ ليس على أن

__________________

(١) أخرجه العقيلي وابن لال وابن مردويه والبيهقي كما في الدر المنثور (٥ / ٤٧٣).

(٢) أخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٧٣).

(٣) أخرجه الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث كما في الدر المنثور (٥ / ٤٧٣).

(٤) أخرجه ابن جرير (٢٩٠٠٦ ـ ٢٩٠٠٧).

٤٩٠

هذا مما يشابهه بحال أو يماثله في الجوهر على التحقيق سوى موافقة الاسم ؛ لما روي في الخبر : «أن فيها ـ يعني في الجنة ـ ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر أو بال بشر» (١) على ما ذكر ، وما ذكر ـ أيضا ـ أن ما في الجنة لا يشبه ما في الدنيا أو لا يوافقه إلا في الاسم أو كلام نحو هذا ، والله أعلم.

وقوله : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ).

قال بعضهم : إنما يقول هذا الظالم لنفسه الذي ذكر في قوله : (فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ) أنهم يحبسون على الصراط حبسا طويلا ، أو يحاسبون حسابا شديدا ؛ فيطول حزنهم بذلك ، ثم يؤذن لهم بالدخول في الجنة ، فعند ذلك يقولون ذلك ويحمدون ربهم على إذهاب ذلك الحزن عنهم.

وقال بعضهم : لا ، ولكن يقول هذا كل مسلم إذا دخل الجنة ؛ لما يخاف كل مسلم في الدنيا على مساويه ؛ لما لا يدري إلى ما ذا يكون مصيره ومرجعه؟ وأين مقامه في الآخرة؟ فلما أدخل الجنة أمن ما كان يخافه في الدنيا ويحزن عليه ، وسلم من تلك الأخطار ، حمد ربه عند ذلك.

وقال بعضهم : ذلك الحمد إنما يكون منهم ؛ لما ذهب عنهم غمّ العيش والخبر الذي كان لهم في الدنيا ؛ إذ كل أحد يهتم لعيشه في الدنيا ، فلما دخل الجنة ذهب ذلك عنه ، فعند ذلك يحمد ربه.

وقال بعضهم : يحمدون ربهم ؛ لما يأمنون الموت عند ذلك ؛ إذ ذكر في الخبر «أنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش ، فيذبح بين أيديهم» (٢) ، فعند ذلك يأمنون الموت ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٤٦٨) كتاب التفسير : باب قوله (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ) (٤٧٧٩) ، ومسلم (٤ / ٢١٧٤) كتاب الجنة وصفة نعيمها (٢ / ٢٨٢٤) ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال الله تبارك وتعالى : «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» ، قال أبو هريرة : اقرءوا إن شئتم (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).

(٢) أخرجه البخاري (٩ / ٣٥٤) كتاب التفسير : باب (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) (٤٧٣٠) ، ومسلم (٤٠ / ٢١٨٨) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها : باب النار يدخلها الجبارون (٤٠ / ٢٨٤٩) ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي مناد : يأهل الجنة فيشرئبون وينظرون ، فيقول : هل تعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، هذا الموت ، وكلهم قد رآه ، ثم ينادي : يأهل النار ، فيشرئبون وينظرون ، فيقول : هل تعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، هذا الموت ، وكلهم قد رآه ، فيذبح ، ثم يقول : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار ، خلود فلا موت ، ثم قرأ : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ...) الآية.

٤٩١

وقوله : (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ).

لمساوئهم من غير أن كان منهم ما يستوجبون المغفرة ، شكور لحسناتهم حيث قبلها منهم وأعطاهم الثواب.

وقال أهل التأويل (١) : غفور لذنوبهم ، شكور يعطيهم الجزاء الجزيل بالعمل القليل.

وقوله : (الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ).

لما لا يتمنى التحوّل منها ولا الانتقال ، لا يبغون حولا.

وقوله : (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ).

ليس من صاحب نعمة في هذه الدنيا وإن عظمت إلا وهو يمل منها ويسأم ، ويتمنى التحول منها والانتقال ، وكذلك ليس من لذة وإن حلت في هذه الدنيا إلا وهي تعقب آفة وتعبا ، فأخبر أن نعيم [الآخرة] ولذاتها مما لا يتمنى ولا يبتغى التحول منها ، ولا لذتها تعقب آفة ولا تعبا ولا إعياء.

وجائز أن يكون قوله : (لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ) وذلك أن من حل بقرابته وبالمتصلين [به شيء](٢) في هذه الدنيا من آفاتها يهتم لذلك ويتكلف دفع ذلك عنهم ، فأخبر أنهم إذا حلوا في دار المقامة لا يهمهم شيء من ذلك ، والله أعلم.

وقال بعضهم (٣) في قوله : (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) : شكر لهم ما كان منه إليهم ، وغفر لهم ما كان منهم من ذنب ، وفي حديث رفع إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ) قال : «شكر الله للمؤمن اليسير من الحسنات ، وغفر لهم الذنوب العظام».

والنصب : الأذى ، ويقال : الفناء ، واللغوب : التعب.

وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) : فيستريحوا من عذابها ، (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها).

وفي قوله : (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها) نقض قول الجهم وأبي هذيل المعتزلي : أما قول الجهم ؛ لأنه يقول : بانقطاع العذاب عن أهل النار ، فأخبر أنه لا يخفف عنهم العذاب ، فلو كان يحتمل الانقطاع يحتمل التخفيف ، فإذا أخبر أنه لا يخفف عنهم دل أنه لا ينقطع ، وكذلك قول مالك لهم : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) [الزخرف : ٧٧] لما طلبوا منه

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٩٠١٩) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٧٦).

(٢) في أ : بشيء.

(٣) قاله شمر أخرجه ابن جرير عنه (٢٩٠٢٠).

٤٩٢

التخفيف : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) [غافر : ٤٩](١).

وأما على قول أبي الهذيل فإنه يقول : إن العذاب قد يفتر عن أهل النار ، ويصير بحال لو أراد الله أن يزيد في عذابهم شيئا ما قدر عليه ، وكذلك يقول في لذات أهل الجنة : إنها تصير بحال وتبلغ مبلغا لو أراد الله أن يزيد لهم شيئا منها ما قدر عليه ، فظاهر الآية يكذبهم ويردّ قولهم حيث قال : (وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها).

وقوله : (كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ) : لنعمه وجاحد وحدانيته.

وقوله : (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها).

قال بعضهم : يصيحون فيها.

[و] قال بعضهم (٢) : الاصطراخ : الاستغاثة ، أي : يستغيثون ، واصطراخهم قولهم : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) يفزعون أولا إلى كبرائهم الذين اتبعوهم في الدنيا ، يطلبون منهم دفع ما هم فيه من العذاب والتخفيف عنهم ؛ حيث قالوا : (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) [غافر : ٤٧] فأجابوا لهم : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) [إبراهيم : ٢١] ، وقال في آية أخرى : (إِنَّا كُلٌّ فِيها ...) الآية [غافر : ٤٨] ، فلما أيسوا وانقطع رجاؤهم بالفرج من عندهم فزعوا عند ذلك إلى خزنة جهنم حيث قالوا : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ. قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ) [غافر : ٤٩ ، ٥٠] ، فلما أيسوا منهم وانقطع رجاؤهم ، فزعوا إلى مالك يطلبون منه أن يسأل ربه ؛ ليقضي عليهم بالموت حيث قال : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ، فلما أيسوا ، سألوا ربهم الإخراج عنها ؛ ليعملوا غير الذي عملوا حيث قالوا : (رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ، فاحتج عليهم : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ) أي : أولم نعمركم فيها من العمر مثل العمر الذي يتعظ به من يتعظ ، فهلا اتعظتم فيه ما اتعظ من اتعظ فيه ، وقد أعمرناكم مثل الذي أعمرنا أولئك ، أو كلام نحو هذا.

(وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ).

قال بعضهم (٣) : جاءكم الرسول وأنذركم هذا فقد كذبتموه.

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : يؤيد هذا ما أخبر الله عنهم بقوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ)، شرح.

(٢) قاله قتادة أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٧٧).

(٣) قال السدي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٧٧) ، وهو قول ابن زيد.

٤٩٣

وقال بعضهم (١) : (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) أي : الشيب ، ومعناه ـ والله أعلم ـ أي : قد رأيتم وعاينتم تغير الأحوال في أنفسكم من حال إلى حال : من حال الصغر إلى الكبر من الشباب إلى الشيب ، ثم الرد إلى أرذل العمر ، فهلا اتعظتم به كما اتعظ أولئك ، فذوقوا ما أنذركم به الرسل (فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ).

وقوله : (إِنَّ اللهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : على الوعيد والتخويف ، أي : هو عالم بالأشياء التي لم يمتحنها بمحن ، ولا أمرها بأمور ، ولا نهاها بمناه ، فالذين امتحنهم بأنواع المحن ، وأمرهم بأوامر ، ونهى بمناه ـ أحق أن يكون عالما بهم.

والثاني : أنه على علم بما يكون من خلق السماوات وأهل الأرض ، خلقهم وبعث إليهم الرسل من التكذيب لهم والردّ عليهم ، لا عن سهو وجهل بما يكون منهم ؛ ليعلم أنه إنما بعث إليهم الرسل لحاجة أنفس المبعوث إليهم ولمنفعة لهم في ذلك ، لا لحاجة المرسل والباعث ولمنفعة له ؛ لذلك خرج البعث إليهم على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد للرسالة على الحكمة وفي الشاهد على السفه ؛ لأن في الشاهد إنما يبعث الرسل إلى من يبعث لحاجة نفسه ولمنفعة له في ذلك ، فخرج البعث إليه على علم منه بالتكذيب والردّ عليه سفها وباطلا ، ومن الله حكمة وحقّا ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ).

وكأن ذات الصدور هم البشر ، خصهم بعلم ما يكون منهم ؛ لأنهم أهل تمييز وبصر وامتحان ، فيخرج ذلك مخرج الوعيد لهم والتحذير ، وأما غيرهم من الدواب ونحوها فلا محنة عليهم ولا تمييز لهم ؛ لذلك خص هؤلاء بذلك ، وإن كان عالما بالكل بذات الصدور وغير ذات الصدور ، والله أعلم.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (٣٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (٤٠) إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن مردويه والبيهقي في سننه عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٧٨) ، وهو قول عكرمة.

٤٩٤

أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(٤١)

وقوله : (هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ).

فإن كان المخاطبون به أصحاب رسول الله وأمته ، فيخبر أنه جعلهم خلائف من تقدم منهم من القرون والأمم الماضية بعد ما أهلكوا أو استؤصلوا ، وإن كان المخاطبون به بني آدم كلهم فيخبر أنكم خلف من تقدمكم من الجن والملائكة ؛ لأنه ذكر أن الجن كانوا سكان الأرض قبل بني آدم ، فجعلوا خلائف الجن.

ثم وجه الحكمة في جعل بعض خلائف بعض وإنشاء قرن بعد فناء آخر ، وإفناء آخر بعد إنشاء آخر وجوه :

أحدها : أن يعرفوا أنه إنما أنشأهم لعاقبة تقصد وتتأمل ؛ حيث أنشأ قرنا ثم أفناهم ، ثم أنشأ غيرهم ، ولو لم يكن في إنشائهم إلا هذا ، كان إنشاؤه إياهم للفناء خاصة ؛ إذ من بنى في الشاهد بناء للنقض والفناء لا لعاقبة تقصد به ، كان في بنائه عابثا سفيها ؛ فعلى ذلك إنشاء هؤلاء في هذه الدنيا ، لو لم يكن لعاقبة كان الإنشاء للفناء ، وذلك عبث غير حكمة.

والثاني : أن يعرفوا أن الدنيا ليست هي دار القرار والمقام ، إنما هي مجعولة زادا للآخرة ، وبلغة إليها ، ومسلكا لها ، ومنزلا ينزل فيها ؛ ثم يرتحل كالمنازل المجعولة للنزول فيها في الأسفار والتزود منها ثم الارتحال ، لا للمقام فيها ؛ فعلى ذلك الدنيا جعلت لما ذكرنا ؛ لئلا يطمئنوا إليها ولا يركنوا ويعملون عمل من يريد الارتحال عنها لا عمل المقيم فيها.

والثالث : أن يعرفوا أن الآلام التي جعلت فيها واللذات ليست بدائمة أبدا ، بل على شرف الزوال والتحول ؛ لأن في الحياة لذة وفي الموت ألما ، فلا دامت اللذة و [لا] الألم ؛ لأنه أحيا قرنا ثم أفناهم ثم أحيا قرنا آخر وأفناهم ، فلا دامت اللذة ولا الآلام ، ولكن انقضيا ؛ ليعلموا أنهما لا يدومان أبدا ، ولكن يزولان.

والرابع : أن يعتبروا بمن تقدم منهم من القرون : أنه على ما ذا يكون الثناء الحسن ، ويبقى الأثر والذكر الجميل؟ وبأي عمل ينقطع ويفنى ذلك؟ فمن كان من متبعي الرسل وقادة الخير والتوحيد والطاعة ، فبقي له أثر الخير والثناء الحسن والذكر الجميل ، ومن كان من أتباع أهل الكفر والشر لم يبق لهم شيء من ذلك ؛ ليعملوا بالذي يبقي لهم الثناء الحسن ويعقب لهم الذكر لا الذي يقطع ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ).

أي : عليه ضرر كفره.

٤٩٥

(وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً ...) الآية.

أي : لا يزيد كفرهم بالله وبرسوله وعبادتهم الأصنام إلا مقتا وخسارا ؛ لأنهم كانوا يعبدونها رجاء أن تشفع لهم يوم القيامة ، ورجاء أن تقرب عبادتهم إلى الله زلفى ؛ يقول ـ والله أعلم ـ : لا يزيد ذلك لهم إلا مقتا من ربهم وخسارا.

أو يكون أعمالهم التي عملوا في هذه الدنيا من صلة الأرحام والقرب التي رجوا منها الربح والنفع في الآخرة لا يزيد ذلك لهم إلا مقتا وخسارا ، والله أعلم.

وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ).

ظاهر قوله : (أَرُونِي) أمر ، لكنه يخرج على وجهين :

أحدهما : على الإعجاز ، أي : يعجز ولا يقدر ما تعبدون من دونه خلق السموات والأرض ، ولا إشراكه في خلق السموات ، ولا إنزال كتاب من السماء ؛ ليأمرهم بذلك ، بل الله هو الخالق لذلك كله وهو القادر عليه ، فكيف صرفتم العبادة عنه والألوهية إلى من هو عاجز عن ذلك كله؟!

والثاني : على التنبيه والتعيير لهم والتسفيه لأحلامهم ؛ يقول ـ والله أعلم ـ : إنكم تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها دون الله وتسمونها : آلهة لم يخلقوا شيئا مما ذكر ، ولا لهم شرك في ذلك ولا لكم كتاب يبيح لكم ذلك ويأذن لكم ، وتعلمون أن الله هو الفاعل لذلك كله حيث قال : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] ، ولا لهم كتاب في ذلك ؛ لأن الكتاب جهة وصوله إليه الرسول ، وأنتم لا تؤمنون بالرسول ، فكيف عبدتموها وتركتم عبادة من تعلمون أنه الفاعل لذلك والقادر عليه؟!

وقوله : (ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ).

يحتمل جواهر الأرض نفسها ، ويحتمل الخارج منها مما به معاشهم وقوامهم ؛ وكذلك قوله : (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) يحتمل في جواهرها ، ويحتمل ما ينزل عنها مما به معاشهم وأرزاقهم.

وقوله : (فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ) أي : على حجة وبيان منه.

وقوله : (بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً).

يحتمل وعدهم الذي ذكر لبعضهم بعضا ما قالت القادة منهم والرؤساء للأتباع : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] وما لبسوا هم على الأتباع من أمر الكتاب والرسول : هو ساحر كذاب ، وأنه مفتر ، وأمثال ذلك مما يكثر عدده ، فذلك كله منهم تغرير للأتباع.

٤٩٦

وقوله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ).

يحتمل أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) ، فإن كان على هذا فيقول : تعلمون أن الله هو رافع السماوات والأرض والممسك لهما والمانع عن أن تزولا عن مكانهما ، لا يقدر أحد على إعادتهما ، ولا أمسكهما سواه ، فكيف تعبدون من لا يملك ذلك؟!

أو أن يكون ذلك قوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ ...) الآية [مريم : ٩٠] ، كادتا أن يتفطرن ويتشققن حين قالوا : لله ولد ، وله شريك ، فإذا قالوا : اتخذ الله ولدا كادتا أن تزولا من مكانهما ، وتسقطا عليهم تعظيما ؛ لما قالوا في الله سبحانه.

وجائز أن يكون لا على الصلة بشيء مما ذكرنا ولكن على الابتداء ، فإن كان على الابتداء فهو يخبر عن قدرته وسلطانه ؛ حيث رفع السماء وأمسكها في الهواء مع غلظها وشدتها بلا عمد من تحت ولا شيء من فوق ، يمنعها عن الانحدار والزوال عن مكانها والإقرار على ذلك والتقرير ، وفي الشاهد أن ليس في وسع أحد من الخلائق إمساك الشيء في الهواء ولا إقامته إلا بأحد هذين السببين : إما من تحت ، وإما من فوق ، وكذلك الأرض حيث دحاها وبسطها على الماء ، ومن طبعها التسرب والتسفل في الماء لا القرار عليه ؛ حيث لا يحفر مكان منها إلا ويخرج منه الماء ؛ فدل تقرير الأرض على الماء وإمساك السماء في الهواء بلا شيء يقرهما ويمنعهما عن التسفل والانحدار ـ أنه الواحد القادر بذاته لا يعجزه شيء.

وقوله : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً).

(حَلِيماً) : حين لم يرسل السماوات عليهم ؛ لعظيم فريتهم على الله والقول فيه بما لا يليق به ـ سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا ـ وحيث لم يعجل بعقوبتهم في الدنيا ، (غَفُوراً) : رحيما حيث ستر عليهم ذلك ، ولم يفضحهم في الدنيا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤٢) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً (٤٣) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (٤٤) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ

٤٩٧

بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً)(٤٥)

وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ).

هو قسمهم بالله ، ومعناه ـ والله أعلم ـ : أن العرب كانت من عادتهم أنهم كانوا يحلفون بالآباء والطواغيت ، لا يحلفون بالله إلا فيما عظم أمره ، وجل قدره ؛ تأكيدا لذلك الأمر ؛ لذلك كان قسمهم بالله جهد أيمانهم ، وقد ذكرنا معنى جهد الأيمان فيما تقدم.

وقوله : (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ) قيل : رسول (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ).

فيه دلالة : أنهم قد وقعت لهم الحاجة ، ومستهم الضرورة إلى رسول يبين لهم أمر الدين ومصالحهم ، وما لهم ، وما عليهم ، حيث أقسموا وعهدوا أنه لو جاءهم نذير لاتبعوه واقتدوا به ، ثم تركهم لذلك العهد ؛ لما لم يروه أهلا لذلك ؛ لما كان هو دونهم في أمر الدنيا ؛ استكبارا منهم عليه ؛ ولذلك قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] وإن تركوا أتباعهم نقضوا عهدهم لما رأوا مذاهب الناس مختلفة ، فظنوا أن الاختلاف يرفع من بينهم به ، فإن لم يرتفع تركوا اتباعه ، أو لمعنى آخر لا نعلمه ، والله أعلم.

وقوله : (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ).

قال بعضهم : يعنون : اليهود والنصارى.

وجائز أن يكونوا أرادوا بذلك الأمم جميعا ، لكنهم لم يروا الحق إلا لواحدة منها ، فقالوا : (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) ، والله أعلم.

وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) : استكبارا في الأرض لما ذكرنا.

وقوله : (وَمَكْرَ السَّيِّئِ).

يحتمل مكرهم : ما مكروا هم برسول الله من أنواع المكر حين هموا بقتله وإخراجه ؛ كقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ ...) الآية [الأنفال : ٣٠].

ويحتمل أيضا أنه لما خرج ودعا الناس إلى توحيد الله ، أقعدوا على الطرق والمراصد ناسا يقولون لمن قصد رسول الله : إنه ساحر ، وإنه كذاب ، وإنه مجنون ؛ يصدون الناس بذلك عنه ، فذلك كيدهم ومكرهم به ، وقد كان منهم برسول الله من أنواع المكر سوى ذلك مما لا يحصى.

وقوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

هو في الدنيا من أنواع العذاب والقتل الذي نزل بهم ، ويحتمل أن يكون ذلك في الآخرة ، والله أعلم.

٤٩٨

وقوله : (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ).

قال بعضهم : ما ينظرون إلا سنته في الأولين ، وسنته في الأولين الاستئصال والإهلاك عند العناد والمكابرة.

وقال بعضهم : ما ينظرون بإيمانهم إلا سنة الأولين : الإيمان عند معاينتهم العذاب ، وإن كان لا يقبل ولا ينفعهم ذلك ؛ كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ...) الآية [غافر : ٨٤].

وقوله : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً).

هذا يحتمل وجوها :

أحدها : (لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ) : وهي الاستئصال عند العناد والمكابرة (تَحْوِيلاً) وإن اختلفت جهة الهلاك والاستئصال ؛ كقوله : (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) [التوبة : ٣٠] ، وقوله : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة : ١١٨] لا شك أن نفس القول منهم مختلف في الكفر وسببه متفرق ، ثم أخبر أن قول هؤلاء ضاهى قول أولئك ، وشابهت قلوب بعض بعضا ، وإن كان سبب ذلك وجهة الكفر مختلفا ؛ فعلى ذلك سنته لا تحول ولا تبدّل وهي الاستئصال ، وإن كان جهة ذلك وسببه مختلفا.

والثاني : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ) التي سن فيهم وحكم مدفعا ولا رادّا ، أي : لن يجدوا إلى دفع ما سنّ فيهم وحكم من العذاب والهلاك [دافعا] ولا رادّا ؛ كقوله : (وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً).

والثالث : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ) وهي إيمانهم الذي يؤمنون عند معاينتهم العذاب وعند نزوله بهم (تَحْوِيلاً) و (تَبْدِيلاً) ، أي : يؤمنون لا محالة ولكن لا ينفعهم ذلك في ذلك الوقت.

والرابع : أن كل سنّة سنها في كل قوم وكل أمة وإن اختلفت ، لن تجد لذلك تحويلا ولا تبديلا ، والله أعلم.

وقوله : (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

هذا يخرج على وجوه :

أحدها : قد ساروا في الأرض ، ونظروا إلى ما حل بأولئك بالتكذيب والعناد ، لكن لم يتعظوا بهم ، ولم ينفعهم ذلك.

والثاني : على الأمر : أن سيروا في الأرض ، وانظروا ما الذي نزل بأولئك؟ ومم نزل؟ واتعظوا بهم ، وامتنعوا عن مثل صنيعهم.

٤٩٩

والثالث : أنهم وإن ساروا في الأرض ونظروا في آثارهم لم ينفعهم ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً).

أي : أنهم كانوا أكثر عددا وأشد قوة وبطشا منكم ، ثم لم يكن لهم دفع ما نزل بهم وحل ، فأنتم يا أهل مكة مع قلة عددكم وضعفكم لا تقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم.

وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ).

الإعجاز في الشاهد يكون بوجهين :

أحدهما : الامتناع ؛ يقول : لا يقدر أحد أن يمتنع عنه ومن عذابه.

والثاني : القهر والغلبة ؛ يقول : لا يسبق منه بالقهر والغلبة ، بل هو القاهر والغالب على خلقه (إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً).

وقوله : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا) : من المعاصي والمساوي ، (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) ، أي : على ظهر الأرض ، ووجهه : اكتفاء بما سبق من ذكر الأرض ، وهو قوله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [فاطر : ٤١].

أو علم الناس وفهموا من ذكر الظهر : ظهر الأرض ؛ لما على ظهر الأرض يكتسب ما يكتسب.

ثم قوله : (ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) قال بعضهم : المراد بالدابة : الممتحنون المميزون وهم بنو آدم خاصة ؛ لأنهم أهل اكتساب واجتراح ؛ إذ قد ذكر الإهلاك بما يكتسبون ، وهم أهل الاكتساب دون غيرهم من الدواب.

وقال بعضهم : كل دابة من البشر وغيره ؛ لأن غيره من الدواب إنما أنشئت للبشر ولحوائجهم لا لحاجة أنفسها أو لمنفعة لها حيث قال : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] ، وقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] ، فإذا كان غيرهم من الأشياء منشأة لهم ، فإذا أهلكوا هم أهلك ما كان منشأ لحوائجهم ولمنافعهم ، ولا يكون إهلاك ما ذكرنا من الدواب خروجا عن الحكمة [على] ما يقول الثنوية ؛ إذ ليس من فعل الحكيم الأمر بذبح أسلم الدواب والانتفاع بلحمها.

قيل : هكذا إذا كانت تلك منشأة لأنفسها ولمنافعها ، فأما إذا كان ما ذكرنا أنها منشأة لنا ولمنافعنا فجائز الانتفاع بها مرة بعينها ومرة بلحمها ، ولا يكون فعل ذلك ولا الأمر به غير حكمة.

ثم الفرق بين إباحة الانتفاع بلحم أسلم الدواب وحظر لحم الضارة منها والمضرة ؛

٥٠٠