تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

شيئا ولا تحييه ولا تميته ؛ كقوله : (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) [الفرقان : ٣].

وقال بعضهم (١) : (وَما يُبْدِئُ) الشيطان الخلق فيخلقهم (وَما يُعِيدُ) خلقهم في الآخرة فيبعثهم بعد الموت ، بل الله يفعل ذلك.

أو أن يكون قوله : (قُلْ جاءَ الْحَقُ) أي : حجج الحق ، (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ) ، وما أبدأ الباطل ، أي : لا يقذف بحجج الحق علام الغيوب :

قال بعضهم : هو ما ذكر في آية أخرى : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ ...) إلى آخر الآية [الأنبياء : ١٨] ، قال : يزهق الباطل ويثبت الحق ، أي : نقذف بالحق على الباطل فيهلك الباطل ويثبت الحق ، وهو أيضا ما ذكر : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد : ١٧].

وقوله : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ) ، بكسر اللام ونصبها كلاهما لغتان.

قال الكسائي : تقول العرب : ضلّ يضلّ ضلالة ، وضلّ يضلّ بالخفض والنصب جميعا.

ثم قوله : (إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي) يخرج على وجهين :

أحدهما : إن ضللت فإنما يكون ضرر ضلالي على نفسي ، لا يكون على الله من ذلك شيء ؛ كقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] ، وقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦].

والثاني : إن ضللت فإنما يكون ذلك على نفسي ، ولا يكون على أنفسكم من ضلالي شيء ؛ كقوله : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) [هود : ٣٥] ، ونحوه.

وقوله : (وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) ، هذا يخرج أيضا على وجهين :

أحدهما : وإن اهتديت إلى طاعة الله وشرائع الدين فبما يوحي إليّ ربي في ذلك ، أي : فبوحيه اهتديت إلى ذلك.

والثاني : وإن اهتديت إلى دينه وهدايته فبتوفيقه إياي وعصمته اهتديت ، أضاف الهداية إلى الله والضلال إلى نفسه ، فهو لما ذكرنا أن كان من الله إليه لطف في ذلك ليس ذلك في الضلال ، وعلى قول المعتزلة يجيء أن يكون المعنى فيها واحدا ؛ لأنهم يقولون : إنه لا يكون من الله سوى [الأمر] والنهي ؛ فلا يكون منه إليه في الهداية إلا كما كان منه إليه في الضلال ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ).

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير (٢٨٨٨٥) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٥١).

٤٦١

قال بعضهم : (سَمِيعٌ) أي : مجيب للداعي ؛ كقوله : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ...) الآية [البقرة : ١٨٦]. وقال بعضهم : (سَمِيعٌ) لمقالتكم لمحمد ، حيث قالوا له : لقد ضللت حين تركت دين آبائك ، (قَرِيبٌ) ، أي : مجيب له.

وقيل : (سَمِيعٌ) الدعاء (قَرِيبٌ) الإجابة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٥١) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٢) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ)(٥٤)

وقوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) ، اختلف فيه :

قال بعضهم (١) : وذلك أنهم بعثوا (٢) بعثين قاصدين تخريب الكعبة ، فلما بلغوا البيداء خسف أحدهما والآخر ينظر وينفلت منهم مخبر ، فيحول وجهه في قفاه فيخبرهم بما لقوا ؛ وذلك قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا) من الخسف والعذاب (فَلا فَوْتَ) عن عذاب الله (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ).

أو من تحت أقدامهم يخسف بهم الأرض ؛ وعلى ذلك يخرج قوله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ : ٥٤] من تخريب الكعبة كما فعل بأشياعهم من قبل ، وهم أصحاب الفيل ؛ وعلى ذلك روي عن أم سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا بالبيداء خسف بهم ، فلا ينفلت منهم إلا واحد يخبر عنهم» ، قالت : يا رسول الله ، وإن كان فيهم المكره؟ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يبعثون على نياتهم» (٣).

وقال بعضهم : قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ) وهو عند الموت يفزعون منه ، ولا فوت لهم عنه ، (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) أي : على المكان :

والحسن يقول : (فَزِعُوا) من القبور (فَلا فَوْتَ) يقول : أخذوا عند ذلك وهو المكان القريب.

وقال بعضهم (٤) : ذلك عند القيامة يفزعون عند معاينتهم العذاب ، وأفزعهم ذلك ولا يفوتون الله.

__________________

(١) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير (٢٨٨٩٠) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٥٢).

(٢) ثبت في حاشية أ : في الكفرة الذين قصدوا الكعبة ؛ فإنه ذكر في أن الكفرة بعثوا. شرح.

(٣) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٠٨ ، ٢٢٠٩) كتاب الفتن وأشراط الساعة : باب الخسف بالجيش (٤ / ٢٨٨٢) ، وأبو داود (٢ / ٥١٠) كتاب المهدي (٤٢٨٩) ، وأحمد (٦ / ٢٩٠).

(٤) قاله ابن معقل ، أخرجه ابن جرير (٢٨٨٩٥) وابن أبي شيبة وعبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٥٢).

٤٦٢

(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ).

وهو كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ ...) الآية [غافر : ٨٤] ؛ وكقول فرعون حين أدركه الغرق : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) [يونس : ٩٠] ، ونحوه.

وقوله : (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ).

قال بعضهم (١) : (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) أنهم سألوا الرجعة والرد أن ينالوه من مكان بعيد ؛ قالوا : من الآخرة إلى الدنيا.

وقال بعضهم : أي : لا سبيل لهم إلى الإيمان في ذلك الوقت ، وقد كفروا به من قبل في حال الدعة والرخاء فلم يؤمنوا.

وقال بعضهم : (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، أي : من حيث لا ينال ولا يكون ؛ فذلك البعيد ؛ كقول الله : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [فصلت : ٤٤] ، أي : من حيث لا يكون أبدا ليس على إرادة حقيقة المكان.

وقتادة يقول : هو عند الموت وعند نزول العذاب بهم ، ليس من أحد بلغ ذلك الوقت إلا وهو يؤمن ويتمنى الإيمان لكن لا ينفع ، كقوله : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها ...) الآية [الأنعام : ١٥٨] على ما ذكر.

وقوله : (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ).

قال بعضهم : معناه ـ والله أعلم ـ : وذلك أنهم كانوا في الدنيا يشكون في الآخرة ، ويكفرون بالغيب ، ويرجمون بالظن.

وقال بعضهم : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) ، أي : يتكلمون بالإيمان من مكان تباعد عنهم ، فلا يقبل منهم ، وقد غاب عنهم الإيمان عند نزول العذاب ، فلم يقدروا عليه ، (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) ، من قبول التوبة والإيمان عند نزول العذاب بهم ، أو عند معاينتهم إياه ، كما فعل بأشياعهم من قبل ، يقول : كما عذب أوائلهم من الأمم الخالية من قبل هؤلاء ؛ لأنهم كانوا في شك من العذاب أو البعث والقيامة مريب.

وقال بعضهم (٢) : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من أهل أو مال أو زهرة.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير (٢٨٩٠١ ، ٢٨٩٠٣) وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٥٤) وهو قول مجاهد أيضا.

(٢) قاله مجاهد أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير (٢٨٩١٩) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٥٤).

٤٦٣

وقال بعضهم (١) في قوله : (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) : هو قولهم : هو ساحر هو شاعر كاهن.

والتناوش عند عامة أهل التأويل : التناول (٢).

وقال بعضهم (٣) : الرجعة والردّ إلى الدنيا.

قال أبو عوسجة : التناوش : التناول من موضع بعيد لا يكون من قريب.

والقتبي (٤) يقول : (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) ، أي : تناول ما أرادوا بلوغه وإدراك ما طلبوا من التوبة من الموضع الذي لا يقبل فيه التوبة.

قال أبو معاذ والزجاج : الناش في كلام العرب : الطلب ، تقول : ناشت إليه ، أي : طلبت منه ، لكن هذا ليس من باب التناوش.

وقوله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ).

هو ما ذكرنا من اختلافهم : منهم من قال : بين الإيمان والتوبة ، ومنهم من قال : بين شهواتهم التي كانت لهم في الدنيا ، لكن كأنه على الإيمان والتوبة ، فإنما حيل بينهم وبين القبول للإيمان والتوبة ، وإلا نفس الفعل قد أتوا به ، وإن كان على الشهوات فهو على حقيقة حيلولة الفعل ، وكذلك إن كان على تخريب البيت على ما يقوله بعض أهل التأويل ، والله أعلم.

وقوله : (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ).

قال أبو عوسجة : (بِأَشْياعِهِمْ) : أمثالهم وأشباههم ، فهو ـ والله أعلم ـ بأشباههم وأمثالهم في التكذيب والجحود.

وقال بعضهم : هو من شيعة الرجل.

وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) ، من العذاب بأنه غير نازل بهم.

وقال [بعضهم] : إنهم كانوا في شك من البعث والإحياء بعد الممات وشكهم وريبهم ؛ لما استبعدوا الإحياء بعد الهلاك وبعد ما صاروا رمادا ، فمن هذه الحجة أنكروا ، ثم لم يروا خلق الشيء للفناء خاصة ، لا لعاقبة وحكمة ، فارتابوا في ذلك ، والله أعلم بالصواب.

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير (٢٨٩١٠) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٥٤).

(٢) انظر : تفسير ابن جرير (١٠ / ٣٨٨) ، والبغوي (٣ / ٥٦٣).

(٣) تقدم أنه قول ابن عباس ومجاهد.

(٤) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٥٨ ـ ٣٥٩).

٤٦٤

سورة فاطر وهي نزلت بمكة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

ما ذكر في القرآن الحمد لله إلا وذكر على أثره التعظيم لله والإجلال له على ما أنعم به [على] الخلق ؛ ليلزمهم الشكر له والثناء عليه ؛ نحو ما ذكر : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، ونحو ما قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ...) الآية [سبأ : ١] ، ونحو قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) الآية [الأنعام : ١] ، وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ...) الآية [الكهف : ١] ، وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ...) الآية [الإسراء : ١١١] ، جميع ما ذكر في القرآن من الحمد له ما ذكر على أثره ما يوجب التعظيم له والتبجيل والثناء عليه والشكر له ؛ تعليما منه الخلق الثناء على ذلك والشكر له ، وبالله المعونة والقوة على ذلك.

وقوله : (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

قال بعضهم : الفاطر : هو المبتدئ والبادئ ؛ وهو قول القتبي من أهل الأدب ، وكذلك ذكر عن ابن عباس أنه قال : «ما أدري ما (فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، حتى جاء أعرابيان فاختصما في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها أنا بدأتها ، فعند ذلك عرفت» (١) ، أو كلام نحوه.

ويجيء أن يكون الفاطر هو الشاق ، أي : شق السماوات كلها من واحدة وكذلك الأرضين كقوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] أي : انشقت ؛ كما قال : (إِنَّ اللهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) [الأنعام : ٩٥] أي : الشاق.

لكن جميع ما أضيف إلى الله من الشق والفطر والجعل وغيره من نحو قوله : (جاعِلِ

__________________

(١) أخرجه أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب كما في الدر المنثور (٥ / ٤٥٨).

٤٦٥

الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) كله على اختلاف الألفاظ عبارة عن الخلق ، أي : خلاق ذلك كله.

وأصل الخلق في اللغة هو التقدير ، خلقت ، أي : قدرت ؛ وكذلك قال الكسائي : إن الفطر في كلام العرب هو الشق ، معناه : أنه شق من السماء ست سماوات ومن الأرض مثلهن ، ومنه الحديث : «حتى تفطرت قدماه دما».

وقوله : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً).

ففي ظاهر الآية : أنه جعل جميع الملائكة رسلا ، فإن كان على ذلك فكأنه ولى كل واحد منهم أمرا من أمور الخلق والعباد ، وإن كان على البعض فيكون تأويله : جاعل من الملائكة رسلا أو في الملائكة رسلا.

ثم أخبر عن الملائكة : أنهم أولو أجنحة مثنى وثلاث ورباع يطيرون بها ، ليس كالطيور التي تطير بجناحين لو زيد لها جناح أو جناحان يمنعها عن الطيران ، كالأصبع الزائدة لبني آدم تمنعهم عن بعض العمل ، ولا تزيد لهم نفعا بل تنقص ، وأمّا ما ذكر من عدد الأجنحة للملائكة فذلك لا يمنعهم عن الطيران ، بل زيد لهم قوة ومقدرة على ذلك.

ثم قال : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) قال بعضهم : يزيد في الملائكة على أربعة أجنحة ما يشاء (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من خلق الأجنحة في الزيادة (قَدِيرٌ).

وذكر أن الإسرافيل ستة أجنحة ، ولجبريل ستمائة جناح ، ذكر عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يقول : «أري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جبريل ، وله ستمائة جناح» (١).

وقال بعضهم (٢) : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) أي : الصوت الحسن.

وقال بعضهم : الشعر الحسن.

فهو فيما ذكروا من الزيادة في الأجنحة أشبه وأقرب. (عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : من الزيادة والابتداء ، ولا يصعب عليه.

وقوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها).

عن ابن عباس : من عافية (٣).

وقال قتادة (٤) : أي : من خير.

وقال مقاتل وغيره : أي : من رزق ؛ كقوله : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ)

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٥٩١ ـ ٥٩٢) كتاب التفسير : باب (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى ...) الآية (٤٨٥٦) ، ومسلم (١ / ١٥٨) كتاب الإيمان : باب في ذكر سورة المنتهى (٢٨٠ / ١٧٤) ، والترمذي (٥ / ٣١٤) أبواب التفسير : باب «ومن سورة النجم» (٣٢٧٧) ، وأحمد (١ / ٣٩٨ ، ٤١٢).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٥٩) ، وهو قول أبي التياح والزهري.

(٣) ثبت في حاشية أ : العافية تشتمل على الخير والرزق (شرح).

(٤) أخرجه ابن جرير (٢٨٩٢٤) ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٤٥٩).

٤٦٦

[الإسراء : ٢٨] ، أي : من رزق ، وكله واحد ؛ إذ الخير يشتمل على العافية والرزق ، وكذلك كل واحد من ذلك.

وقال بعضهم : الرحمة والغيث والمطر ، وهو ما ذكرنا كله يرجع إلى واحد من ذلك.

ثم قوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) يخرج على وجهين :

أحدهما : على تسفيه أحلام الكفرة في عبادتهم الأصنام التي كانوا يعبدونها من دون الله ، يقول ـ والله أعلم ـ : تعلمون أنتم أنه ليس لكم مما تعبدون من دون الله جرّ نفع أو خير ، ولا كشف ضر عنكم أو سوء فكيف تعبدونها؟! كقوله : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ ...) الآية [الزمر : ٣٨] ، أي : تعلمون أنهن لا يملكن ذلك ، والله هو المالك لذلك كله ، فكيف صرفتم العبادة إليها عنه؟!

أو يقول : إنكم تعلمون أن ما تعبدون من الأصنام من دون الله لا يرزقونكم ولا منها تبتغون الرزق ، ولا كانت منها إليكم سابقة نعمة ، فإنما يعبد لإحدى هذه الوجوه من يعبد : ما لسابقة نعمة ، أو نيل خير ، أو جر نفع ، أو كشف ضر ، أو دفع سوء ، أو طمع في العاقبة ، فإذا لم يكن شيء من ذلك [من] الأصنام ومن الله ذلك كله فكيف صرفتم عبادتكم عنه إليها؟! كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت : ١٧] هذا إذا كان قوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) راجعا إلى الكفرة وإذا كان ذلك راجعا إلى المؤمنين فهو يخرج على وجهين : أحدهما : فيه قطع الطمع من الخلق والإياس عما في أيديهم ، وألا يرجوا من دونه ولا يخافوا غيره ، بل فيه الأمر بأن يروا ذلك كله من الله ، وأنه هو المالك لذلك دون الخلق.

والثاني : قطع طمع الرزق من المكاسب والأسباب التي يكتسبونها والأمر فيها ـ أعني : المكاسب ـ أن يرونها تعبدا ، وأن يروا أرزاقهم من فضل الله.

وعلى قول المعتزلة إذا فتح الله لأحد رحمة يقدر عبد في أن يمسك ذلك ، وإن أمسك هو قدر أن يرسل ؛ لأنهم يقولون : إن الله إذا جعل لأحد أجلا وضمن له الحياة ووفاء الرزق إلى مضي الأجل ، يجيء عدو من أعدائه فيقتله قبل انقضاء أجله واستيفاء رزقه ؛ فذلك منع ـ على قولهم ـ عن وفاء ما ضمن وما جعل له من المدة والأجل (١).

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : ثم الآية حجة على المعتزلة ؛ فإن الله تعالى أخبر أنه إذا فتح لأحد رحمة لا يقدر أحد من العباد أن يمسكها ، وإذا أمسك هو لا يقدر أحد أن يرسل ، وهم يقولون : إن الله ـ تعالى ـ إذا فتح ... إلخ ، شرح.

٤٦٧

وفي حرف ابن مسعود : ما يفتح الله على الناس من رحمة.

وقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : قد ذكرناه في غير موضع.

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

كأنه هو صلة ما تقدم.

ثم هو على التقرير والإيجاب وإن خرج مخرج الاستفهام في الظاهر ، كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : إنكم تعلمون أنه هو رازقكم دون من تعبدون.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ).

أي : لا إله إلا هو ، فما الذي حملكم على افككم وكذبكم أنها شركاؤه وأنها آلهة ، وأنها شفعاؤكم عند الله وأن عبادتكم إياها تقربكم إلى الله زلفى ـ كتاب أو رسول ، وأنتم لا تؤمنون بكتاب ولا رسول فمن أين تؤفكون وتكذبون؟! والله أعلم.

وقوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ).

معلوم أنهم كانوا لا يكذبونه في قوله : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) ، ولا في قوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ) ؛ لأنهم كانوا يعلمون أنه ليس من خالق غير الله ولا فاتح رحمة سواه إذا كان هو ممسكها ، ولا ممسك لها إذا كان هو مرسلها ، ولكن إنما يكون تكذيبهم إياه فيما يخبر أنه رسول الله إليهم ، كذبوه في الرسالة أو فيما يخبر أنه أوحي إليه من الله كذا ، أو فيما يخبر عن البعث بعد الموت أنه كائن ، وأمثال ذلك ، فأما فيما ذكرنا فلا ، وهو تعزية منه لرسوله ليصبر على تكذيبهم إياه ؛ ليعلم أنه ليس بأول مكذب ، بل قد كان إخوانه من قبل قد كذبوا من قبل فيما أخبروا قومهم عند الله ، فصبروا على ذلك ، فاصبر أنت أيضا ؛ كقوله : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ...) الآية [الأحقاف : ٣٥] ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ).

وإلى الله يرجع تدبير الأمور ، أي : لا تدبير للخلق في ذلك.

أو يقال : إلى الله يرجع الحكم في الأمور هو الحاكم فيها ؛ كقوله : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ

٤٦٨

حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ)(٨)

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ).

قال عامة أهل التأويل : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي : البعث أنه كائن لا محالة.

وجائز أن يكون قوله : (وَعْدَ اللهِ حَقٌ) فيما وعد من الثواب على الطاعات ، ووعده حق فيما أوعد من العقاب على السيئات أنه يكون ، والله الموفق.

وقوله : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا).

معنى قوله : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) ـ والله أعلم ـ أي : لا تشغلنكم الحياة الدنيا عن ذكر الحياة الآخرة ، ولا تنسينكم الحياة الدنيا عن حياة الآخرة ، وإلا الدنيا لا تغر أحدا في الحقيقة ، وكذلك هي [ليست] بلعب ولا لهو ، ولا هي غارة ، ولكن يغر أهلها بها لما غفلوا عما جعلت هي وأنشئت ، وهو ما ذكرنا : أنها جعلت زادا للآخرة وبلغة إليها ، فمن لم يجعلها زادا للآخرة ولا بلغة إلى الوصول إلى الآخرة ، ولكن جعلها في غير ما جعلت هي وأنشئت وهي الحياة فيها والمقام بها ـ صارت لعبا ولهوا ، وصارت غرورا ؛ إذ صيروها كالمنشأة لنفسها لا للآخرة ، وهذا كما قال : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٤ ، ١٢٥] أخبر أن السورة كانت تزيد لأهل الإيمان إيمانا ، ولأهل الكفر والنفاق رجسا وعمى ، والسورة لا تزيد رجسا ولا عمى في الحقيقة ؛ لأنه وصف القرآن بأنه نور وأنه هدى ورحمة وبرهان ، ولكن صار عمى [و] رجسا لمن أعرض عنه وكذب ورده ، وأما من تلقاه بالقبول وأقبل عليه ، ونظر إليه بالتعظيم والإجلال له والخضوع ـ فهو له نور وهدى ورحمة ؛ فعلى ذلك الدنيا وما فيها من النعم واللذات ، إذا جعلها غير ما جعلت هي وأنشئت صارت لعبا ولهوا وغرورا ، بل لو حمدت هي على ما أنشئت مكان ما ذمت لكان حقّا وصدقا ؛ لأنها سمي نعيمها : حسنة وخيرا وصلاحا ونحوه ؛ فلا جائز أن يذم الحسنة والخير ، بل حق الذم على أهلها حيث غروا بها وصيروها في غير ما صيرت وجعلت لغفلتهم عما جعلت هي ، وصرفهم إياها إلى غير الذي صرفت ، وجهلهم بها ؛ وعلى ذلك لا يجوز ذم الغناء والسعة والصحة والسلامة ؛ لأن ذلك كله نعم من الله أنعمها على الناس ؛ فيجب أن ينظروا إلى ما عليهم لله من الشكر في ذلك فيؤدوه ؛ وكذلك العز والثناء الحسن ونحوه لا يجب أن يذم شيء من ذلك ، بل يذم من لم يعرف أن العز فيم؟ إنما العز في طاعة الله والعبادة له لا في

٤٦٩

معاصيه ، فهؤلاء سموا معصية الله : عزّا ؛ لجهلهم في العز ؛ وكذلك الثناء الحسن يجب أن يحمد ربه ويشكر له فيما يستر على الخلق فضائحه ومساوئه ، حتى أثنوا عليه ما لو بدا ذلك منه وأظهر لهربوا منه فضلا أن يثنوا عليه ويحمدوه ؛ فيجب أن يشكر ربه ويثني عليه على ستر معاصيه وفضائحه ، والله الموفق.

وقوله : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ).

الغرور ـ بفتح الغين ـ هو الشيطان ؛ يقول : لا يغرنكم بالله الشيطان.

ثم يحتمل قوله : (بِاللهِ الْغَرُورُ) وجوها :

أحدها : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) أي : بكرمه وجوده ، يقول : إنه كريم وجواد غفور يتجاوز عنكم ويعفو عنكم معاصيكم [و] مساوئكم.

والثاني : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) أي : بغناه ؛ يقول : إنه غني ما به حاجة إلى عبادتكم إياه ، فيما أمركم به ونهاكم عنه.

والثالث : أن يكون قوله : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ) أي : لا يغرنكم عن طاعة الله وعبادته فتعصوه ، وذلك جائز في اللغة «الباء» مكان «عن» ؛ كقوله : (عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦] أي : عنها ؛ إذ لا يشرب بالعين وإنما يشرب عنها ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا).

يذكر هذا ـ والله أعلم ـ لأن ما يدعو الشيطان الخلق إليه في الظاهر يخرج مخرج الشفقة لهم والنصيحة كما يدعو الأولياء ؛ لأنه يدعوهم إلى قضاء شهواتهم ولذاتهم وما تهوى به أنفسهم ، وإن كان يضمر ويقصد به هلاكهم ؛ ألا ترى أنه كيف أظهر لآدم وحواء من الشفقة لهم والنصيحة حيث قال : (ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ ...) إلى قوله : (لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف : ٢٠ ، ٢١] ونحوه ، وكان قصده بذلك ما ذكر : (فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ ...) الآية ، هذا كان يضمر ويقصد في دعائه إياهما إلى التناول من تلك الشجرة التي نهاهما ربهما [عنها] ؛ فعلى ذلك فيما يدعو الناس به إلى قضاء شهواتهم وحاجاتهم في الظاهر ، فهو يقصد بذلك هلاكهم لمخالفتهم المولى لا ما يظهر ويبدي لهم ؛ لذلك قال : إنه عدو لكم ليس بولي ، (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) ، أي : كونوا من دعائه وأمره على حذر ، كما يحذر المرء دعاء عدوه.

(إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ).

قال بعضهم : أهل طاعته.

وقال القتبي و [أبو] عوسجة : حزبه : أنصاره ، والحزب : الأنصار.

٤٧٠

وقال بعضهم : جنده.

وقال بعضهم (١) : حزبه : ولاته الذين يتولاهم ويتولونه ؛ وكله واحد.

ثم يقول : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ) لكنه خصّ حزبه بالدعاء لهم ؛ لما أن حزبه هم المجيبون له والمطيعون ، فأما غير حزبه فلا يجيبونه ؛ وهو كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [يس : ١١] ، وكان ينذر من اتبع الذكر ومن لم يتبع الذكر ، لكن خص بإنذار من اتبع الذكر ؛ لما أن متبع الذكر هو المنتفع به دون من لم يتبع ؛ لذلك خص ـ والله أعلم ـ فعلى ذلك ما خصّ بدعائه حزبه ؛ لأن حزبه هم المجيبون له والمطيعون.

وقوله : (لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ).

قصد بدعائه إلى ما يدعوهم ، ليكونوا من أصحاب السعير ، وإلا لو كان أظهر لهم الدعاء إلى أصحاب السعير ما أجابوه ولا أطاعوه ، ولكن دعاهم إلى أعمال توجب لهم السعير ، أو ليكون لهم عذاب السعير.

وقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) : وهو ظاهر.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

قوله : (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لما عملوا من غير الصالحات بعد إيمانهم ، أو مغفرة لذنوبهم في الإيمان ، (وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) لإيمانهم وأعمالهم الصالحات.

وقوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً).

ليس لهذا الحرف في ذا الموضع جواب ، فجائز أن يكون جوابه في قوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) على التقديم له ، كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) ، (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) ، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء.

أو أن يكون قوله : (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) فلزمه كمن قبح له ؛ فانتهى عنه ، ليسا بسواء ، كقوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) [الأنعام : ١٢٢] ذكر أن قوله : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ) نزل في عمر بن الخطاب (٢) ، وقوله : (كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ) في أبي جهل ؛ فعلى ذلك الأول ، وأن يكون ما ذكر بدءا على التقديم والتأخير.

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) : من الضلالة إلى الهدى ، يضل من

__________________

(١) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٦٠).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٨١) وهو قول الضحاك وزيد بن أسلم وأبي سنان.

٤٧١

علم منه أنه يختار الضلال ، ويهدي من علم منه أنه يختار الهدى.

وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ).

هذا يحتمل وجوها :

أحدها : قوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) أي : لا تضل ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ؛ إشفاقا على ما ينزل بهم بتركهم الإيمان ؛ لأن رسول الله كاد أن يهلك نفسه إشفاقا عليهم فنهاه عن ذلك.

والثاني : على تخفيف الحزن عليه ودفعه عنه وتسليته إياه ؛ لأنه يشتد به الحزن ، لمكان كفرهم وتكذيبهم إياه وتركهم الإيمان به ليس على النهي ؛ كقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [الحجر : ٨٨] وقد ذكرنا معناه فيما تقدم مقدار ما حفظنا فيه ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ).

هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : أن الله تعالى على علم بصنيعهم أنشأهم ، لا عن جهل بما يكون منهم.

والثاني : عليم بما يصنعون ؛ فلا تكافئهم ولا تشغلن بشيء مما يكون منهم ، ولكن فوض ذلك إلى الله وأسلم إليه.

قوله تعالى : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠) وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)(١٤)

وقوله : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ).

أي : كذلك يحيي الموتى ، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم.

وقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً).

٤٧٢

قال بعضهم (١) : من كان يريد القوة والمنعة بعبادة الأصنام ومن عبدوا دونه ، فلله العزة جميعا ، أي : فبعبادة الله وطاعته ذلك في الدنيا والآخرة ، أي : فمن عنده اطلبوا ذلك عند الله من كان يريد ثواب الدنيا والآخرة ، أي : من عنده اطلبوا ذلك في الدنيا والآخرة.

وقال بعضهم : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) أي : العزة والتعزيز (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) ، أي : فبالله يكون عز الدنيا والآخرة [لا] بالأصنام التي عبدتموها ، وقد كان بعبادتهم الأصنام طلب الأمرين : طلب العز ؛ كقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) [مريم : ٨١] ، وطلب القوة والمنعة ؛ كقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ) [يس : ٧٤] ، فأخبر أن ذلك إنما يكون بالله وبطاعته ، فمن عنده اطلبوا لا من عند من تعبدون دونه ، والله أعلم.

وقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ).

اختلف فيه :

قال قائلون : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) هو الوعد الحسن ، (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) هو إنجاز ما وعد ، أي : إذا أنجز ما وعد من الوعد الحسن ، ووفى ذلك الإنجاز الوعد الحسن وعد.

قال بعضهم : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) هو كلمة التوحيد وشهادة الإخلاص ، (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي : إخلاص التوحيد لله يرفع الكلم الطيب الذي تكلم به ؛ فعلى هذا التأويل أي : يصعد الكلم الطيب إليه ما لم يخلص ذلك [إلا] لله.

وقال قائلون : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) هي كلمة التوحيد على ما ذكرنا ، (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) أي : يرفع الله العمل الصالح لصاحبه ـ يعني : لصاحب الكلام الطيب ـ فعلى هذا التأويل : يصعد الكلم الطيب إليه دون العمل الصالح.

وبعض أهل التأويل [قال :] يرفع الكلام : التوحيد ، الطيب : العمل الصالح ـ إلى الله ، وبه يتقبل الأعمال الصالحة.

وظاهر الآية أن يكون العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب ، لكن الوجه فيه ـ والله أعلم ـ ما ذكرنا من الوجوه.

وبعضهم يقول (٢) : إن العمل الصالح يرفع الكلام الطيب ، والوجه فيه ما ذكرنا.

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٨٩٣٥) والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٦١).

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٨٩٤١) وآدم بن أبي إياس والبغوي والفريابي وعبد بن حميد والبيهقي في الأسماء والصفات عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٦٢) وهو قول سعيد بن جبير والحسن والضحاك وشهر بن حوشب.

٤٧٣

وقوله : (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ).

قال عامة أهل التأويل (١) : والذين يعملون السيئات.

وجائز أن يكون ما ذكر من مكرهم السيئات هو مكرهم برسول الله وأذاهم إياه ؛ كقوله : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ...) الآية [الأنفال : ٣٠] ، ويمكر الله بهم في الدنيا بالهلاك والقتل وفي الآخرة بالعذاب الشديد الذي حيث قال : (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) ، أي : هو يهلك ؛ من البوار ، وهو الهلاك ، وهو قتلهم ببدر ، والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ).

(خَلَقَكُمْ) ، أي : قدركم مع كثرتكم من أول أمركم إلى آخر ما تنتهون إليه من التراب الذي خلق آدم منه ؛ إذ الخلق في اللغة : التقدير.

وقوله : (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ).

أي : قدركم أيضا مع كثرتكم وعظمكم من تلك النطفة ، يخبر عن علمه وتدبيره في تقديره إيانا مع كثرتنا في ذلك التراب وفي تلك النطفة ، وإن لم نكن نحن على ما نحن عليه في ذلك التراب والنطفة لا يعجزه شيء.

أو أن يكون إضافته إيانا إلى ذلك التراب والماء ؛ لأنه كان ذلك أصلنا ومبادئ أمورنا ، وكان المقصود بخلق ذلك التراب والماء ، والأصل هذا الخلق وهو العاقبة ، وقد يذكر ويضاف العواقب إلى المبادئ وتنسب إليها إذا كان المقصود من المبادئ العواقب وله نظائر كثيرة ، وقد ذكرناه في غير موضع.

وقوله : (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) ، أي : خلقكم من ذلك ذكرا وأنثى ليسكن بعضه إلى بعض ، أو جعلكم أزواجا أصنافا.

وفي حرف ابن مسعود : والله الذي خلقكم من نفس واحدة ثم جعلكم أزواجا ، والله أعلم.

وقوله : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ).

يقول ـ والله أعلم ـ : (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) من أول ما تحمل إلى آخر ما تنتهون إليه (إِلَّا بِعِلْمِهِ) السابق ، وكذلك لا تضع كل حامل من أول ما تضع إلى آخر ما ينتهون إليه إلا بعلمه السابق ، أنها تحمل كذا في وقت كذا من كذا ، وأنها تضع كذا في وقت كذا ،

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٦٣).

٤٧٤

يخبر عن علمه السابق من أول منشئهم إلى آخر ما يكونون وينتهون إليه ، أنه كان كله بذلك التقدير الذي كان منه ، والله أعلم.

وقوله : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ).

قال بعضهم : قوله : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي : ما يطول من عمره وإن طال ، وما ينقص من عمره ، أي : ما نقص وقصر من ذلك ولم يطل (إِلَّا فِي كِتابٍ) ، أي : إلا كان ذلك كله في الكتاب مبينا هكذا مطولا.

وقال بعضهم : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي : من كثر عمره وطال أو قل عمره ، فهو يعمر إلى أجله الذي كتب له ، ثم قال : (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) كل يوم وكل ساعة حتى ينتهي إلى آخر أجله (إِلَّا فِي كِتابٍ) : في اللوح المحفوظ المكتوب قبل أن يخلقه.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) قال صاحب هذا [التأويل :] إن كتاب الآجال حين كتبه الله في اللوح المحفوظ على الله هين.

وقال آخر قريبا من هذا في قوله : (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) في جري الليل والنهار والساعات (إِلَّا فِي كِتابٍ) ، وذلك أن الله ـ تعالى ـ كتب لكل نسمة عمرا تنتهى إليه ، فإذا جرى عليها الليل والنهار نقص ذلك عمرها حتى يبلغ ذلك أجلها ، فمن قضي له أن يعمر حتى يدركه الكبر أو عمر دون ذلك ، فهو بالغ ذلك الأجل الذي قضي له ، وكان ذلك في كتاب ينتهون إليه.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يقول قائل هذا : إن حفظ ذلك على الله بغير كتاب يسير هين.

وجائز أن يكون قوله : (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) ، أي : أن علم ما ذكر وتقديره من أول ما أنشأهم وتغيير أحوالهم إلى آخر ما يكونون وينتهون إليه ـ يسير ، أي : لا يخفى عليه.

وقوله : (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ).

فيه وجوه من المعتبر :

أحدها : يذكر ألا يستوي في الحكمة الخبيث من الرجال والطيب منهم ، كما لا يستوي المالح من الماء الأجاج والعذب منه والسائغ ، وقد استوى الطيب من الرجال والخبيث في منافع الدنيا ومأكلاتها ، وفي الحكمة التفريق بينهما والتمييز ؛ دل أن هنالك دارا يميز بينهما ويفرق ؛ إذ قد يستوي في منافع [الدنيا] وحطامها ، وفي الحكمة التفريق والتمييز لا الجمع والاستواء ، وذلك يدل على البعث.

والثاني : فيه أن المنشأ من الأشياء في هذه الدنيا والمخلوق فيها لم ينشئها لحاجة نفسه ، ولكن لحوائج الخلق ومنافعهم وما يكون لهم العبرة في ذلك ؛ إذ من أنشأ شيئا

٤٧٥

لحاجة نفسه أنشأ ألذ الأشياء وأحلاها وأنفعها له لا مرّا مالحا أجاجا ما لا ينتفع به ، يخبر عن غناه عما أنشأه من الأشياء ، ليعلم أنه لم ينشئها لحوائج نفسه ، ولكن لما ذكرنا ، وهو على المعتزلة في قولهم : إنه لم يخلق شيئا لا ينتفع به ، وأنه لا يفعل بهم إلا ما هو أصلح لهم في الدين ؛ لأنه أنشأ ماء أجاجا مالحا لا ينتفع به ؛ ليكون لهم العبرة في ذلك.

والثالث : فيه ترغيب في إيمان الخبيث الكافر ، ودفع الإياس عن توحيدهم ، وقطع الرجاء عن عودهم إليه ؛ حيث أخبر عما يأكلون من الماء المالح والأجاج والعذب السائغ جميعا اللحم الطري مما حق مثله إذا ألقي فيه أو في مثله اللحم الطري أن يفسد من ساعته.

ويذكرهم أيضا عن قدرته أن من قدر على حفظ ما ذكر من اللحم الطري في الماء الذي لا يقدر على الدنو منه والقرب ؛ فضلا أن يكون فيه حفظ ما ذكر من الإفساد ، فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء ولا يخفى عليه شيء.

والرابع : يذكر نعمه التي أنعمها عليهم حيث قال : (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) يذكر عظم نعمه وقدرته حيث جعل البحار مسخرة مذللة يقدرون على استخراج ما فيها من الحلي والجواهر ، والوصول إلى المنافع التي هي وراء البحار ، وقطعها بسفن أنشأها لهم ، وأجراها في الماء الراكد الساكن برياح تعمل عمل جريان الماء ، بل الأعجوبة في إجراء السفن بالرياح في المياه الراكدة الساكنة أعظم وأكثر من جريانها على جرية الماء ؛ لأنها في الماء الجاري لا تجري إلا على الوجه الذي يجري الماء ، وفي البحار تجري بريح واحدة من الأسفل إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأسفل حيث شاءوا ؛ دل أن الأعجوبة في هذا أكثر وأعظم ، ومن ملك هذا لا يعجزه شيء.

أو أن يكون المثل الذي ذكر في البحرين : أحدهما عذب ماؤه ، والآخر أجاج ماؤه يكون للعمل الصالح وهو التوحيد ، وللعمل السيئ وهو الكفر يقول : كما لا يستوي في الفضل الماء العذب والماء المالح ؛ فعلى ذلك لا يستوي العمل الصالح والعمل السيئ.

وقوله : (وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ).

قال بعضهم (١) : (مَواخِرَ) تجريان إحداهما مقبلة ، والأخرى مدبرة بريح واحدة ، وتستقبل إحداهما الأخرى.

وقال بعضهم : المواخر : هي التي تشق الماء ، وتقطعه ؛ من مخر يمخر ، وقد ذكرناه

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٨٩٥٤) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٦٥).

٤٧٦

فيما تقدم.

وقوله : (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ).

هذا يدل أن ما يصاب بالأسباب والمكاسب إنما هو فضل الله ؛ إذ قد تكتسب ولا يكون منه شيء ، والله أعلم.

وقوله : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى).

يذكر هذا لأهل مكة ؛ لإنكارهم الصانع ، وإنكارهم البعث ، وإنكارهم الرسل ؛ لأنهم كانوا فرقا ثلاثة : منهم من ينكر الصانع والتوحيد ، ومنهم من ينكر البعث ، ومنهم من ينكر الرسل ، ففي الآية دلالة إثبات الصانع وتوحيده ، وفيها دلالة البعث والإنشاء بعد الموت ، وفيها دلالة إثبات الرسالة :

أما دلالة إثبات الصانع والوحدانية له : فاتساق الليل والنهار والشمس والقمر وما ذكر ، وجريانهما وجريان الأمور كلها على سنن واحد وميزان واحد وقدر واحد ، من أوّل ما كان إلى آخر ما يكون من غير زيادة أو نقصان يدخل فيه ، أو تقديم أو تأخير يكون فيه ، يدل على أن لذلك كله صانعا مدبرا أنشأ ودبر كل شيء على ما كان وحفظه كله على ميزان واحد ؛ إذ لو كان ذلك بنفسه لكان لا يجري على حد واحد ، بل يتفاوت ويتفاضل ، وكذلك لو كان فعل عدد ، لكان يتقدم ويتأخر ويتغير ويمتنع ويذهب رأسا على ما يكون فعل العدد من الملوك : أن ما أراد [هذا إثباته أراد] الآخر نفيه ومنعه ، وما أراد هذا نفيه وإبطاله أراد الآخر إثباته ، وذلك معروف فيهم من مخالفة بعض بعضا ؛ فدل اتساق ما ذكرنا وجريانه على تدبير واحد : أنه فعل واحد وتدبير واحد لا عدد ، وبالله القوة.

ودل ذهاب الليل وتلفه بكليته حتى لا يبقى له أثر ، وكذلك ذهاب ضوء النهار ونوره ، وكذلك الشمس والقمر وإتيان الآخر بعد تلفه أنه بعث ؛ إذ لو لم يكن بعث كان تدبير ذلك كله وتقديره لعبا باطلا ، وإن من قدر على هذا يقدر على الإحياء بعد الموت ، وأنه لا يعجزه شيء.

فإن ثبت ما ذكرنا لا يحتمل أن يتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يمتحنهم بأنواع المحن ، فلا بد من رسول يأمر وينهى ويخبر عما لهم وعليهم.

وفيه أن مدبر ذلك كله عليم حكيم ، ثم يخبر أن الذي فعل ذلك كله هو ربكم الذي له الملك ؛ يقول : الذي فعل هذا كله [الله] لا الأصنام التي عبدتم دونه ، وسميتموها : آلهة ، فكيف صرفتم العبادة إليها والألوهية ، وما تعبدون من دونه لا يملكون ما ذكر؟! حيث

٤٧٧

قال : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)(١) يسفه أحلامهم في عبادة من عبدوا دونه على علم منهم أنهم لا يملكون ما ذكر ، وصرفهم العبادة عن الله على علم منهم : أن ذلك كله من الله ، وهو المالك لذلك.

ثم يخبر عن عجز من عبدوه حيث إن تدعوهم على حقيقة الدعاء لا يسمعون دعاءكم حقيقة ، ولو سمعوا ما استجابوا لكم ، أي : لو سمعوا دعاءكم ما يملكون إجابتكم في دفع ضر وسوء ولا في جر نفع.

أو أن يكون قوله : (إِنْ تَدْعُوهُمْ) أي : تعبدوهم (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) ، أي : لا يجيبوكم إلى ما تقصدون بعبادتكم إياهم.

أو أن يقول : ما قبلوا ذلك عنكم ولا نفعوكم فيه ، والله أعلم.

وقوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) ينكرون يوم القيامة أن يكونوا شركاءهم أو أمروهم بذلك ؛ كقوله : (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ...) الآية [مريم : ٨٢] ، وقوله : (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ. قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) [سبأ : ٤٠ ، ٤١] ونحوه ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) ، أي : لا ينبئك أحد مثل الذي أنبأك الخبير في الصدق والحق.

أو أن يكون قوله : (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) أي : لا يكون نبأ أحد مثل نبأ الخبير ، فاعمل به وأقبل عليه ، ولا تقبل على نبأ غيره ، والله أعلم.

وفي قوله : (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) وجهان من اللطف : أحدهما : يتلف حتى يذهب أثره ويأتي بالآخر.

أو يزيد في هذا وينقص من الآخر ، ويدخل من ساعات هذا في ساعات الآخر.

وفيه نقض قول الثنوية في قولهم : إن منشئ الخير غير منشئ الشر ، ويقولون : إن النور من منشئ الخير والظلمة من منشئ الشر ، فلو كان ما ذكروا لكان إذا ذهب النور وجاءت الظلمة [كانت الظلمة] هي الغالبة والنور هو المغلوب في يدها ؛ وكذلك النور إذا جاء وذهبت الظلمة صارت هي مقهورة مغلوبة في يد النور ، والنور هو الغالب عليها ، فإذا صار مغلوبا مقهورا في يد صاحبه يجيء ألا يقدر على استنقاذ نفسه من يده أبدا ، على ما يكون من عادة الأعداء إذا غلب بعضهم بعضا وقهر بعضهم بعضا أن يهلك ولا يتخلص

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : القطمير : هو لفافة النواة وهي القشرة الرقيقة الملتفة عليها ، شرح.

٤٧٨

منه ، فإذ لم يكن ، ولكن جاء كل منهما في وقته بعد ذهاب أثره على التقدير الذي ذكرنا ؛ دل أنه فعل واحد وتدبير واحد لا تدبير عدد ، وبالله الحول والقوة.

والقتبي يقول (١) : القطمير : هو الفوفة (٢) التي يكون فيها النواة.

وأبو عوسجة يقول : هو القشرة الرقيقة التي تكون بين لحم التمرة وبين نواتها ، واحده وجمعه سواء.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ)(٢٦)

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

فيه وجوه من الدلالة :

أحدها : أنه إنما أمركم ونهاكم وامتحنكم بأنواع المحن لحاجتكم وفقركم إليه ، لا لحاجة وفقر له في ذلك ، فإن ائتمرتموه وأطعتموه ، فإلى أنفسكم ترجع منفعة ذلك ، وإن عصيتم فعلى أنفسكم يلحق ضرر ذلك ؛ كقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧].

والثاني : يقول : تعلمون أن فقركم وحاجتكم إلى الله ، لا إلى الأصنام التي تعبدونها واتخذتموها آلهة ، فكيف صرفتم العبادة والشكر إلى من تعلمون أنكم لا تحتاجون إليه ولا تفتقرون؟!

والثالث : يأمرهم بقطع أطماعهم من الخلق ؛ لأنه خاطب الكل وأخبر أنكم جميعا فقراء إلى الله الطامع والمطموع فيه ، فاقطعوا طمعكم ورجاءكم عن الخلق ، واطمعوا ذلك من الله ؛ فإنه الغني الحميد والخلق جميعا فقراء إليه ، يؤيسهم عن الطمع والرجاء

__________________

(١) انظر تفسير غريب القرآن ص (٣٦٠).

(٢) ثبت في حاشية أ : الفوفة : الحبة البيضاء في باطن النواة التي تنبت فيها النخلة ، شرح.

٤٧٩

من الخلق ، والله أعلم.

وقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ).

يخبر عن غناه وقدرته ، لو شاء أذهبكم لتعلمون أنه لم ينشئكم ، ولا أمركم ، ولا نهاكم ؛ لحاجة نفسه ولا لمنفعة له ، ولكن لحاجة أنفسكم.

وقوله : (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ).

يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : لا يعز ولا يثقل عليه ذهابكم وفناؤكم ؛ لأنه لم ينشئكم لحاجة نفسه فذهابكم وفناؤكم وبقاؤكم عليه واحد.

والثاني : لا يصعب عليه ولا يعز إذهابكم وإحداثكم ، ولا يعجزه شيء ، يخبر عن قدرته ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ).

كأن هذا صلة قوله : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ...) الآية [العنكبوت : ١٢] ، يؤيسهم ليقطعوا أطماعهم يومئذ عن تناصر بعضهم بعضا ، وتحمل بعضهم مؤن بعض وشفاعة بعضهم بعضا ، على ما كانوا يفعلون في الدنيا كان ينصر بعضهم بعضا في الدنيا إذا أصابهم شيء ؛ ويفدي بعضهم عن بعض ، ويشفع بعضهم بعضا ، كانوا يحتالون مثل هذا الحيل في الدنيا ؛ ليدفعوا عن المتصلين بهم الضرر ، فأخبر أن ليس لهم ذلك في الآخرة ؛ كقوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة : ١٢٣] ، وقوله : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) [لقمان : ٣٣] [و] مثله كثير ، يؤيسهم عن أن يكون لهم في الآخرة ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ).

هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : إنما ينتفع بالإنذار الذين يخشون ربهم بالغيب ، فأما [من] لا يخشى ربه فإنه لا ينتفع به ، وإلا كان منذر من اتبع الذكرى ومن لم يتبع ، ومن خشي ربه ومن لم يخش.

والثاني : كأنه يقول : إنك تنذر غير الذي اتبع الذكر وغير الذي خشي ، فإنما يتبع إنذارك ويقبله الذي خشي ربه واتبع ذكره ، والله أعلم.

وقوله : (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) ، أي : من عمل خيرا ، فإنما يعمل لنفسه.

أو من جاء بالتوحيد والأعمال الصالحة فإنما يصلح أمره وعمله يثاب عليه.

(وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ).

٤٨٠