تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

والمعاملة : أن يصبر على ذلك ، ويشكر له في نعمه.

وقوله : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ).

اختلف في ظنه :

قال بعضهم (١) : ظن بهم ظنا ، فوافق ظنه فيهم حين قال : (لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) [الإسراء : ٦٢] من عصمت مني ، وما قال : (لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً* وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ ...) [النساء : ١١٨ ، ١١٩] إلى آخر ما ذكر ، فقد صدق ما ظن فيهم.

وقال بعضهم (٢) : (صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) ، وذلك أن إبليس خلق من نار السموم ، وخلق آدم من طين ، ثم قال إبليس : إن النار ستغلب الطين ؛ فمن ثمة صدق ظنه ؛ فقال : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر : ٣٩ ، ٤٠].

يقول الله : (فَاتَّبَعُوهُ).

ثم استثنى عباده المخلصين فقال : (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

يعني : عباده المخلصين ؛ فإنهم لم يتبعوه ، الذين قال : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) [الحجر : ٤٢].

وقال قائلون : (مِنَ) هاهنا صلة ؛ كأنه قال : (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، الذين هم [مؤمنون] في الحقيقة ، فأمّا من كان عندكم من المؤمنين في الظاهر فقد اتبعوه ؛ لأنه لا كل مؤمن عندنا هو في الحقيقة مؤمن (٣).

أو أن يكون قوله : (فَاتَّبَعُوهُ) فيما دعاهم إليه ، والله أعلم.

وقوله : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ).

قال الحسن : والله ما ضربهم بالسيف ، ولا طعنهم بالرمح ، ولا أكرههم ، على شيء ، وما كان منه إلا غرور أو أمانيّ ووسوسة دعاهم إليها ؛ فأجابوه (٤).

وقال بعضهم : قوله : (وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) ، أي : حجة ، ليس له حجة عليهم ، أي : لم يمكن من الحجة ؛ ولكن إنما مكن لهم الوساوس والتمويهات ، ثم جعل

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٨٣١) وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٤٤٠) ، وهو قول مجاهد وقتادة.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٤٠).

(٣) ثبت في حاشية أ : ويحتمل أن يكون (من) للتبعيض ، ومعناه : فاتبعوه إلا فريقا ، شرح.

(٤) أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٤٠).

٤٤١

الله للمؤمنين مقابل ذلك حججا يدفعون بها شبهه وتمويهاته.

وقوله : (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ).

هذا يخرج على وجوه :

أحدها : ليعلم كائنا ما قد علمه غائبا عنهم.

والثالث (١) : يكنى بالعلم [عن] معلومه ، أي : ليكون المعلوم ، وذلك جائز في اللغة ؛ كقوله : (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر : ٩٩] أي : الموقن به ، وذلك كثير في القرآن.

وقوله : (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ).

من الإيمان والشرك وغيره من الأعمال ، حفيظ عالم به.

قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٢٧)

وقوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ).

أنهم آلهة : الملائكة والأصنام ومن عبدوهم من دونه : هل يملكون لكم شيئا من دفع ضر أو جرّ نفع؟!

فيقول : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ؛ فكيف تسمونها : آلهة.

أو أن يقول : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أنها آلهة ؛ فليكشفوا عنكم الضر الذي نزل بكم من الجوع وغيره ؛ كقوله : (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) [الزمر : ٣٨] ؛ فالجواب لذلك أن يقولوا : لا يملكون مثقال ذرة ولا أصغر ولا أكبر ؛ فكيف يذكرون ما ذكر؟! يذكر ـ والله أعلم ـ سفههم وفرطهم في عبادتهم من يعلمون أنه لا يضر ولا ينفع ، وتسميتهم إياها آلهة.

__________________

(١) كذا في أ ، ولم يذكر الثاني.

٤٤٢

(وَما لَهُمْ فِيهِما).

يعني : في خلق السموات والأرض ، وحفظهما ، من تعبدون من دونه.

(مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ).

أي : من عون في ذلك ؛ فكيف سميتموها : آلهة وشركاء في العبادة.

وقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ).

يقول ـ والله أعلم ـ : لا يملك أحد الشفاعة إلا لمن أذن الله بالشفاعة له ، فهو لم يأذن بالشفاعة لأحد من الكفرة ؛ فذكر هذا ـ والله أعلم ـ :

لقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، ولقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

أو يذكر أن من ترجون منهم الشفاعة بالمحل الذي ذكرهم من الخوف والفزع ؛ فكيف ترجون شفاعتهم؟! كقوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) [سبأ : ٢٣].

أو لا يملكون مثقال ذرة ولا أصغر منه ولا أكبر ؛ فكيف يملكون الشفاعة لكم؟! أو نحوه من الكلام ، والله أعلم.

وقوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ).

ليس لهذا الحرف في ذا الموضع صلة يوصل بها ، ولا تقدم بعطف عليه ، وعلى الابتداء : لا يستقيم ؛ فبعض أهل التأويل يقول : كان بين عيسى ومحمد فترة زمان طويل لا يجري فيها الرسل ، فلما بعث الله محمدا ، وكلم جبريل بالرسالة إلى محمد ، سمع الملائكة ذلك ؛ فظنوا أنها الساعة قامت ؛ فصعقوا مما سمعوا ، فلما انحدر جبريل جعل كلما يمرّ بهم جلّى عنهم وكشف ؛ فقال بعضهم لبعض : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) ، أي : الوحي.

وقال بعضهم (١) : كان الوحي إذا نزل من السماء نزل كأنه سلسلة على صخرة ، قال :

__________________

(١) ورد في معناه حديث :

أخرجه البخاري (١٤ / ٤١٩) كتاب التوحيد : باب قوله تعالى (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) الآية (٧٤٨١) ، والترمذي (٥ / ٢٧٦) في التفسير : باب «ومن سورة سبأ» (٣٢٢٣) ، وأبو داود (٢ / ٤٣٠) كتاب الحروف والقراءات (٣٩٨٩) ، وابن ماجه (١ / ١٩٣) في المقدمة : باب فيما أنكرت الجهمية (١٩٤) ، وابن جرير (٢٨٨٤٧) ، وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٤٢) عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنها سلسلة على صفوان ...» الحديث.

وفي الباب عن النواس بن سمعان وابن عباس وغيرهما ، وهو قول ابن مسعود وابن عباس وقتادة.

٤٤٣

فيفزع الملائكة بذلك ؛ فيخرون سجدا ، (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) ، قال : إذا انجلى عن قلوبهم (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ).

وقوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) ، قيل (١) : جلّى وكشف الغطاء.

قال الكسائي : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ) مشتقة من الفزع ؛ كما تقول : هيبه عن قلبه وفرقه وفزع كله واحد (٢).

ومن قرأ : فرغ ، بالراء : أخرج وترك فارغا من الخوف والشغل ، وهي قراءة ابن مسعود.

قال بعضهم ـ في قوله : (قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ) يقول : يخبرون بالأمر الذي جاءوا به ، ولا يقولون إلا الحق ، لا يزيدون ولا ينقصون.

وقوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) ، أي : لا يملكون إنشاء ذرة في السموات والأرض ، (وَما لَهُمْ) في إنشائها (فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ) في إنشاء ذلك من عون ؛ فكيف تعبدونهم وتسمونهم آلهة؟!.

وجائز أن يكون قوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَ).

ذلك الفزع منهم وذلك القول منهم في القيامة ؛ فزعوا لقيامها ، وقد قرئ (حَتَّى إِذا فُزِّعَ) ، بنصب الفاء ، أي : حتى إذا فزع الله ، أي : كشف الله عن قلوبهم الفزع ، وجلا ذلك عنهم ، والله أعلم.

وقوله : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

هذا في الظاهر وإن كان استفهاما فهو على التقرير والإيجاب ؛ لأنا قد ذكرنا : أن كل استفهام كان من الله ، فهو على التقرير والإيجاب.

ثم لو كان ذلك ممن يكون منه الاستفهام ، لكان جواب قوله : (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يقولون : الله يرزقنا ؛ كقوله : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ...) [يونس : ٣١] ، ثم قال في آخره : (فَسَيَقُولُونَ اللهُ) ، فيقول لهم : فإذا علمتم أن الله هو رازقكم ، فكيف صرفتم عبادتكم عنه إلى من تعلمون أنه لا يملك شيئا من رزقكم؟! كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) [العنكبوت : ١٧] ؛ إنه لا يملك [غيره] شيئا من رزقكم.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٨٣٨) وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٤١).

(٢) ثبت في حاشية أ : هيبه عن قلبه : فرقه وفزعه ، شرح.

٤٤٤

ذكر في حرف ابن مسعود وحفصة : قل من يرزقكم من السماء والأرض قالوا الله قال إني أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين.

وقال بعضهم في قوله : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ) من المطر (وَالْأَرْضِ) النبات؟ فإن أجابوك ، فقالوا : الله ، وإلا فقل : الله يفعل ذلك بكم ؛ فكيف تعبدون غيره.

(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً).

يقول ذلك رسول الله لأهل مكة : إنا لعلى هدى أو إنكم لعلى هدى ، وإنا أو إياكم لفي ضلال مبين.

وقال بعضهم : معناه : وإنا لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين ، ولكن ليس هذا في ظاهر هذا الكلام.

وجائز أن يكون هذا على تعريض الشتم لهم بالضلال ، والكناية لذلك كما يقول الرجل لآخر في حديث أو خبر يجري بينهما : إن أحدنا لكاذب في ذلك ، أي : أنت كاذب في ذلك ، لكنه تعريض منه بذلك ليس بتصريح.

وقال قتادة : هذا قول محمد وأصحابه لأهل الشرك : والله ما نحن وأنتم على أمر واحد ، والله إن أحد الفريقين لمهتد ، والفريق الآخر في ضلال مبين ، فأنتم تعلمون أنا على هدى ؛ لما أقمنا من الدلائل والحجج والبراهين على ذلك ، وأنتم لا.

وقال بعضهم : قال ذلك ؛ لأن كفار مكة قالوا للنبي وأصحابه : تعالوا ننظر في معايشنا : من أفضل دينا : أنحن أم أنتم؟ فعلى ذلك يكون في الآخرة ؛ فردّ الله ذلك عليهم في قوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ ...) الآية [الجاثية : ٢١].

وقوله : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

قال بعضهم : قال ذلك ؛ لأنهم كانوا يعيرون رسول الله ويوبخونه في طعنه الأصنام التي عبدوها ، وذكره إياها بالسوء ، وما يدعون عليه من الافتراء بأنه رسول الله ، فيقول لهم : (لا تُسْئَلُونَ) أنتم (عَمَّا أَجْرَمْنا) نحن ، (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، وهو كقوله في سورة هود : (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) [٣٥].

أو أن يكون قوله : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) ، أي : عما دنّا من الدين. أو عما عملنا من الأعمال ، (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) أنتم عما تدينون من الدين ؛ كقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] ، وكقوله : (لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ) [يونس : ٤١] ، وقوله : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) [القصص : ٥٥] ، وإنما يقال هذا بعد ظهور العناد والمكابرة ، فأمّا عند الابتداء فلا ، والله أعلم.

٤٤٥

وقوله : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ).

هذا ـ والله أعلم ـ صلة ما تقدم من قوله : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، وصلة قوله : (قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) ؛ كأنهم قالوا لرسول الله وأصحابه : إنا لعلى هدى ، وأنتم على ضلال مبين ؛ فقال عند ذلك جوابا لهم : (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) ، أي : يجمع بيننا ، (ثُمَّ يَفْتَحُ) ، أي : يقضي بيننا بالحق : من منّا على الهدى؟ ومن منا على الضلال نحن أو أنتم؟ (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) ، أي : وهو الحاكم العليم : ما ظهر وما بطن حقيقة ، والمفاتحة هي المحاكمة ، يقال : هلم حتى نفاتحك إلى فلان ، أي : نحاكمك ، وذلك جائز في اللغة.

ويحتمل قوله : (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) ، أي : يكشف كل خفي منا وكل ستير وباطن ؛ فيجعله ظاهرا بيننا ؛ ليظهر الذي من هو على الحق من الباطل؟ والهدى من الضلال؟ (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) ، أي : الكاشف المظهر العليم ، يعلم الظاهر والباطن جميعا ، والإعلان والإسرار جميعا ، والله أعلم.

وقوله : (قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ).

أي : أروني الذين ألحقتم بالله شركاء في تسميتكم الأصنام : آلهة.

أو أروني الذين ألحقتم به شركاء في العبادة.

وجائز أن يكون قال ذلك للذين عبدوا الملائكة وأشركوا فيها ؛ كأن فيه إضمارا ، يقول : أروني الذين ألحقتم به شركاء : هل خلقوا شيئا؟ أم هل رزقوا؟ أم هل أحيوا؟ أم هل أماتوا؟ فإذا عرفتم أنهم لم يخلقوا ، ولم يرزقوا ، ولا يقدرون ذلك ، وعلمتم أن الله هو خالق ذلك كله ، وهو الرزاق ؛ فكيف أشركتم من لا يملك ذلك في ألوهيته؟

(كَلَّا بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

منهم من يقول : (كَلَّا) ردّا على قولهم : شركاء ، أي : ليسوا بشركائي ؛ بل هو المتفرد الواحد الحكيم.

ومنهم من يقول : هو ردّ على قوله : هل خلقوا شيئا؟ أم هل رزقوا شيئا؟! يقول : (كَلَّا) ، أي : لم يخلقوا ولم يرزقوا ؛ بل هو الله المتفرد بذلك ، والله الموفق.

قال أبو عوسجة : (فُزِّعَ) : ذهب.

وقال القتبي (١) : (فُزِّعَ) : خفف.

__________________

(١) انظر تفسير غريب القرآن (٣٥٦).

٤٤٦

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٨) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٩) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (٣١) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٣٣)

وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ) ، يا محمد ، (إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً) ، بالجنة لمن اتبعه ، (وَنَذِيراً) بالنار لمن خالفه وعصاه.

وقوله : (كَافَّةً لِلنَّاسِ) ، قال بعضهم (١) ، أي : ما أرسلناك إلا جامعا للناس إلى الهدى داعيا إليه.

ومنهم (٢) [من] يقول : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) ، أي : ما أرسلناك إلا إلى الناس جميعا إلى العرب والعجم ، وإلى الإنس والجن ، ليس كسائر الأنبياء ؛ إنما أرسلوا إلى قوم دون قوم ، وإلى بلدة دون بلدة.

وكذلك روي عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «أعطيت أربعا لم يعطهن نبي قبلي : أحدها (ما ذكرنا) : بعثت إلى الناس جميعا عامة : إلى الأحمر والأسود ، والعرب والعجم ، والثاني : جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، وأرعب لنا عدوّنا مسيرة شهرين ، وأحلت لي الغنائم» (٣).

وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

قال بعضهم : لا يصدّقون ، ويحتمل لا يعلمون ، أي : لا ينتفعون بما يعلمون ، ولا يعملون. أو لا يعلمون حقيقة ؛ لما لم ينظروا إلى الحجج والآيات [التي] قد مكن لهم :

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٤٥) وهو قول محمد ابن كعب أيضا.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٨٦١) وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٤٥).

(٣) أخرجه أحمد (٥ / ٢٤٨ ، ٢٥٦) والطبراني في الكبير (٨ / ٧٩٧) ، (٨٠٠١) عن أبي أمامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فضلت بأربع : جعلت الأرض لأمتي مسجدا وطهورا ، وأرسلت إلى الناس كافة ، ونصرت بالرعب من مسيرة شهر ، يسير بين يدي ، وأحلت لأمتي الغنائم».

٤٤٧

لو نظروا علموا ، والله أعلم.

وقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

هذا القول منهم إنما يقولون على الاستهزاء والسخرية ، ليس على الاسترشاد على أنه لا يكون ذلك ، وأنه كذب ؛ كقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها) [الشورى : ١٨] : أخبر أن أولئك يستعجلون بها ؛ لتركهم الإيمان بها استهزاء منه ، والذين آمنوا خائفون منها ؛ لإيمانهم بها أنها كائنة لا محالة ، لكن الله ـ سبحانه ـ لم يجبهم بما يجاب المستهزئ ؛ ولكن أجابهم بما يجاب المسترشد ؛ بلطفه وكرمه وجوده حيث قال : (قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ).

أي : لكم ميعاد [اليوم] الذي وعدكم محمد أنه كائن لا محالة ، وهو يوم (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ) ، وهكذا الواجب على كل مسئول إذا كان سائله سؤال استهزاء أن يجيبه جواب ما يجاب المسترشد ، لا ما يجاب المستهزئ ، ولا يدع علمه وحكمته لسفه السفيه ، ولا لهزء الهازئ ، ولكنه يحفظ حكمته وعلمه وعقله ، ولا يشتغل بجواب مثله ، وبالله العصمة.

وقوله : (لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ).

فإن كان على طلب التأخير وطلب التقديم ، ففيه تعيير وتوبيخ لهم ؛ كأنه يقول : ليس لكم من الخطر والقدر والمنزلة ما يؤخر لكم ما تستأخرون أو يقدم لكم ما تستقدمون.

وإن كان على تحقيق ترك التأخير وترك التقديم ، كأنه يقول : ميعادكم يوم لا تملكون تأخيره إذا جاء ، ولا تقديمه عن وقته ولا رفعه ، والله أعلم.

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ).

كأن هذا القول منهم ـ والله أعلم ـ خرج عن مخاصمة وقعت بينهم وبين المؤمنين في شأن القرآن أو في شأن محمد ؛ فتحاكموا إلى [أهل] الكتاب على اتفاق منهم على ما في كتبهم ، فلما خرج ذلك على موافقة قول المؤمنين ، ومخالفة قول أولئك ـ قالوا عند ذلك : (لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) ، وإلا على الابتداء من غير تنازع وخصومة كان بينهم في ذلك غير مستقيم.

ويذكر بعض أهل التأويل ـ ابن عباس وغيره ـ : أن رهطا بعثهم قريش إلى المدينة إلى رؤساء اليهود ؛ يسألونهم عن محمد وبعثه ؛ فأخبروهم أنه كائن وأنه مبعوث ، فلما رجعوا إليهم فأخبروهم أنهم قد عرفوه ، وهو عندهم في التوراة والإنجيل ـ فعند ذلك قالوا ما قالوا ثم كأنه اشتد ذلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وثقل عليه ؛ فقال له على التعزية والتصبير على

٤٤٨

ذلك : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

أي : محبوسون عند ربهم ، أي : على محاسبة ما كان منهم من العناد والمكابرة والتكذيب ، أي : لو رأيتهم ما فيهم من الذل والهوان والخضوع لرحمتهم ولأخذتك الرأفة لهم ، والله أعلم.

وقوله : (يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ).

أي : يلوم بعضهم بعضا ؛ فيقولون ما ذكر.

(يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) ، أي : السفلة والأتباع ، (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) ، أي : القادة منهم والرؤساء ، (لَوْ لا أَنْتُمْ) فيما صرفتمونا عن دين الله وصددتمونا عنه ، (لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) به تابعين له ؛ لأنهم كانوا يصدرون لآرائهم ويقبلون قولهم ؛ لما هم كانوا أهل شرف ومعرفة ، والسفلة لا ، فيقولون : لو لا أنتم لكنا نتبع رأي أنفسنا ، فنؤمن به ، لكن قلتم لنا : إنه كذب ، وإنه افتراء ، وإنه سحر ؛ فنحن صدقناكم في ذلك.

(قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ).

قوله : (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ) هو على التقرير ، أي : لم نصدّكم ، وإن كان ظاهره استفهاما ، ولكن أنتم بأنفسكم تركتم اتباعه ؛ لأن الرؤساء منهم كانوا يقولون للأتباع : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) [المؤمنون : ٣٣] أخبروا أنه بشر مثلهم ، ثم أخبروهم : أنكم إذا أطعتم بشرا مثلكم إذا تكونوا خاسرين ، ونحن بشر ، فكيف اتبعتمونا وأطعتمونا؟.

(بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ).

في اتباعكم بما اتبعتموه.

أو أن يكون قوله : (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) ، أي : لو لا تلبيسكم علينا وتمويهكم أن الرسل كذبة ، وأنهم سحرة فيما يقولون ويدعون ، وأنهم يفترون على الله ـ وإلا لكنا مؤمنين.

والثاني : لو لا منعكم إيانا عن النظر والتفكر في أمورهم ، والتأمل في الحجج والآيات لكنا مؤمنين ؛ هذا قول الأتباع للرؤساء.

ثم أجاب لهم الرؤساء فقالوا : (أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) ، يقولون ـ والله أعلم ـ : إن صددناكم ومنعناكم عن اتباعهم ظاهرا وعلانية ؛ فمتى منعناكم سرّا من غير أن نطلع ونعلم نحن بذلك.

أو ما ذكرنا من قوله : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) [المؤمنون : ٣٤] ،

٤٤٩

وقد عرفتم أنا بشر مثلكم فأطعتمونا وتركتم طاعة الرسل ؛ لأنهم بشر ؛ فأجاب لهم الأتباع فقالوا : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) ، بل بمكركم إيانا ، وقولكم في الليل والنهار : إنهم كذبة سحرة ، وخداعكم إيانا ، وإنهم بشر مثلكم ؛ تركنا اتباعهم ؛ (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً).

أو يقولون : بل مكركم في الليل والنهار (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ) ، أي : من تخويفكم إيانا وتهييبكم لنا من الأخذ على البغتة والغفلة ـ تركنا اتباعهم في السر إذا ظهر وبلغكم الخبر به.

هذه مناظرات أهل الكفر فيما بينهم يومئذ ، وردّ بعضهم على بعض ، ولعن بعضهم على بعض ؛ يذكرها في الدنيا ، ليلزمهم الحجة ، وألا يقولوا يومئذ : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [الأعراف : ١٧٢].

فإن قيل : إنهم كانوا لا يؤمنون بهذا القرآن ولا بالبعث ؛ فكيف يلزمهم ذلك ، وهم لا يستمعون له؟!.

قيل : إنهم قد مكنوا من الاستمتاع والنظر فيه ؛ فيلزمهم الحجة ، وإن لم يستمعوا له ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ).

قال بعضهم : أسروا الرؤساء الندامة ؛ بصرف الأتباع وصرف أنفسهم عن دين الله واتباع الرسل لما رأوا العذاب.

وقيل : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) : الأتباع والرؤساء جميعا.

وقوله : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) ، قال [بعضهم] : من الإسرار والإخفاء ، أخفى بعضهم من بعض.

وقال بعضهم : أخفى الكفرة الندامة عن المؤمنين.

وقال القتبي (١) : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ) ، أي : أظهروا ، وهو من الأضداد ، يقال : أسررت الشيء : أخفيته وأظهرته.

وأما غيره من أهل التأويل فإنهم قالوا : هو من الإخفاء.

وقوله : (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا).

الأغلال : جماعة الغل : وهو ما يجعل في اليد ، ثم يشد اليد إلى العنق.

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن (٣٥٧).

٤٥٠

(هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

أي : لا يجزون إلا جزاء عملهم في الدنيا.

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٣٤) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٦) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (٣٨) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٣٩)

وقوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ).

قال بعضهم : المترف : المتكبر.

وقال آخرون : المترف هو الذي يجمع أصناف المال مع العناد والتكبر.

وقال بعضهم (١) : المترفون هم الرؤساء منهم.

وهذا ينقض على المعتزلة قولهم : إن الله لا يفعل إلا ما هو أصلح له في الدين ، ولا شك أن هؤلاء المترفين إنما قالوا لما قالوا وفعلوا ما فعلوا ؛ لسعتهم وبسطهم في المال ؛ فلو لم يكن ذلك لهم ـ ما فعلوا ذلك ، دل أن المنع لهم عن ذلك أصلح لهم من البسط ، والله أعلم.

وقوله : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) ، المترف ما ذكر.

[و] قال بعضهم : المتكبر المتجبر.

وقال بعضهم : المترف : الذي يجمع مع الكبر والعناد الأموال.

وقال بعضهم : (مُتْرَفُوها) : أغنياؤها ، وكله واحد ، وهم رؤساؤها.

وفيه ردّ قول المعتزلة في الأصلح ، على ما ذكرنا.

وقوله : (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً).

يخرج قولهم ذلك لوجهين :

أحدهما : قالوا ذلك : إنا إذا أوتينا في الدنيا الأموال والأولاد ؛ فلا يعذبنا في الآخرة على ما تزعمون.

أو أن يقولوا ذلك : إنك لو كنت بعثت رسولا على ما تزعم ، فنحن أولى بالرسالة

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٨٦٧) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٤٧).

٤٥١

منك ؛ لأنا أكثر أموالا وأولادا ، والله أعلم.

وقوله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ).

هذا أيضا ينقض على المعتزلة ومن يقول بأن الله لا يبسط على أحد الرزق ؛ إذا لم يكن في البسط إصلاح له وخير ، وكذلك لا يقتر على أحد ذلك إذا لم يكن في التقتير خير له.

وعندنا : يبسط الرزق لمن يشاء وإن لم يكن خيرا له ، وكذلك يقتر على من يشاء ، وإن كان شرّا له ؛ على ما نطق ظاهر الآية ، ليس عليه حفظ الأصلح لهم ولا الخير ، والله أعلم.

وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

أي : لا ينتفعون بعلمهم ، أو لا يعلمون حقيقة ؛ لما تركوا النظر والتفكر ، في أسباب العلم ليعلموا ؛ فلا يعذرون لما مكن لهم العلم به.

وقولهم : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) قالوا ذلك ؛ لما لم يروا في الحكمة أن يحسن أحد إلى عدوه ، والسعة هي من الفضل والإحسان ، ثم رأوا لأنفسهم ذلك ، ظنوا أنهم أولياء الله ، وأن الرسل حيث ضيقت عليهم الدنيا إنما ضيقت عليهم الدنيا ؛ لأنهم ليسوا بأولياء الله ؛ لذلك قالوا : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ).

وهذا القول منهم لإنكارهم البعث : فإن كانوا مقرين به ، لكانوا لا يقولون ذلك ، ويعلمون أن السعة في الدنيا والضيق فيها بحق الامتحان ، وأما إذا كان بعث ودار أخرى للجزاء ـ ففي الحكمة أن يجزى الولي جزاء الولاية ، والمسيء من العدو جزاء الإساءة والعداوة. وأما الدار التي هي دار امتحان وابتلاء فيجوز ذلك بحق الامتحان في الحكمة ؛ وكذلك خرج على الجواب لهم ؛ حيث قال : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) ، أي : يبسط الرزق لا لفضل وقدر له ونعمة عنده ، ويقتر على من يشاء لا لعداوة وجناية كانت منه إليه بحق الامتحان ؛ ألا ترى أنه قد وسع على بعض المؤمنين ، وضيق على بعض أولئك ؛ فظهر أن التوسيع لأهل السعة ليس لفضل لهم وقدر ، أو نعمة كانت لهم عنده حتى يكون ذلك منه مكافأة لذلك ، وكذلك التضييق لأهل التضييق : لم يكن لخيانة أو إساءة كانت منهم إليه لما ذكر ؛ ولكن لما ذكرنا ؛ ألا ترى أنهم إذا رأوا أنه وسع على بعض وقتر على بعض ـ هلا علموا أنه يملك أن يوسع على من قتر عليه ، ويقتر على من وسع عليه ، فيكون في ذلك لهم ترغيب في التوحيد واختيار له ، وتحذير عن الكفر وعمّا هم فيه ؛ إذ يملك التقتير على من وسع عليه والتوسيع على من قتر عليه ؛ فيبطل هذا كله

٤٥٢

قولهم : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ...) الآية ، ويبين أن التقتير والتوسيع ليس لفضل ولا لقدر ولا لنعمة ولا لخيانة ولا لذنب ؛ ولكن للامتحان ، والله أعلم.

وقوله : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى).

ولكن ما ذكر ؛ حيث قال : (إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً).

أي : ذلك الذي يقرب عندنا زلفى من أتى به ، سواء كان له مال وولد أو لم يكن.

(فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا).

من الناس من احتج بتفضيل الغناء على الفقر بهذه الآية ، يقول : أخبر أن لهم جزاء الضعف إذا آمنوا وعملوا الصالحات بالأموال التي أعطاهم ، وأما الفقير فليس له ذلك ؛ إذ ليس له عنده ما يضاعف له ، أو كلام يشبه هذا.

وأما عندنا : أن قوله : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) لهم جزاء الضعف للصالحات والحسنات التي عملوها ؛ لأن الله وعد أن يجزي لكل من عمل بحسنة أو صالحة ـ عشر أمثالها ، وذلك جزاء الضعف له ، وذلك للغني والفقير جميعا.

وذكرنا في غير موضع أن التكلم في فضل الغناء على الفقر والفقر على الغناء كلام لا معنى له ؛ لأنهما شيئان لا صنع لأحد في ذلك يمتحنان في تلك الأحوال : أحدهما بالشكر ، والآخر بالصبر ؛ فمن وفي بما امتحن هو في تلك الحال ، فهو أفضل ممن لم يف بذلك ، وبه يستوجب الفضل إن استوجب ، فأمّا بنفس تلك الحال فلا ، لكن من يفضل الغناء على الفقر يذهب إلى أن الله ـ تعالى ـ سمى الضيق : بلاء وشرّا في غير موضع من القرآن ، وسمى السعة : خيرا ونعمة وحسنة في غير موضع ، ولا شك أن الخير والحسنة أفضل وأحمد من الشرّ والسيئة ؛ فلو لم يكن هذا شرّا وسيئة في الحقيقة ـ لم يسمه بذلك ، و [لو لم يكن] هذا خيرا ـ لم يسمه.

ومن يقول بتفضيل الفقر يذهب إلى أن الغني إذا أعطى وبذل إنما استوجب ذلك الفضل ؛ لما يفقر نفسه ويحوج ، وأصله ما ذكرنا.

وقوله : (وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ).

من صاحبه النعمة ، ويحزنه (١) ، والله أعلم.

وقوله : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ).

أي : يسعون في آياتنا سعي من يكون معاجزا ، لا سعي من لا يكون ، وهو ما قال : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) [العنكبوت : ٤] ، أي : يعملون عمل من يحسب أنه يسبق ، لا عمل من لا يسبق ، وهو كقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) [البقرة : ٩] لا أحد يقصد قصد

__________________

(١) كذا في أ.

٤٥٣

مخادعة الله ؛ لعلمه أنه لا يخادع ؛ ولكن كأنه قال : يعملون عمل من يخادع الله ، لا عمل من يعلم أنه لا يخادع ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وقوله : (فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) : إنما كان سعيهم في الآيات في آيات الوحدانية أو آيات النعمة أو آيات الرسالة ؛ ليسقطوا عن أنفسهم مئونة ذلك ، وقبولها ، والعمل بها.

(أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ).

قال القتبي : (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا) : لم يرد فيما يرى أهل النظر ـ والله أعلم ـ أنهم يجازون عن الواحد بواحد مثله ولا اثنين ، وكيف يكون هذا والله يقول : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠] و (خَيْرٌ مِنْها) [القصص : ٨٤]؟! ولكنه أراد : (لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ) : إنما هو مثله يضم إلى مثل إلى ما بلغ ، وكأن الضعف : الزيادة ، أي : لهم جزاء الزيادة ، ويجوز أن يجعل الضعف في معنى جميع ، أي : جزاء الأضعاف ، ونحوه : (فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً) [ص : ٦١] ، أي : جعلت مثله. وخبط مضاعف ، أي : قد ضم إليه خبط آخر قد قتلا.

قال : (زُلْفى) هي الدنوّ ، يقال : تزلفت إليه ومنه ، أزلفته : أدنيته.

وقال القتبي (١) : أي : قربة ومنزلة عندنا ، وهما واحد ، والله أعلم.

وقوله : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) ذكر الأموال والأولاد ، ثم ذكر (بِالَّتِي) بالتأنيث ؛ قال بعضهم : هذا من مقاديم الكلام ؛ كأنه قال : وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ولا أولادكم ، ولو لا ذلك لغلب فعل الآدميين ، فعل الأموال.

قال أبو معاذ : يجوز أن تجمع الأموال والأولاد ، ثم تقول : «التي» ؛ لأنك تقول : ذهبت الأموال وهلكت الأولاد ؛ كقوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا) [الحجرات : ١٤] ، و (قالَتْ رُسُلُهُمْ) [إبراهيم : ١٠] ونحوه كثير من القرآن ؛ فعلى ذلك عند الجمع (٢).

وقوله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن (٣٥٧).

(٢) ثبت في حاشية أ : فإن قال قائل في قوله : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) ، ذكر الأموال والأولاد ، ثم نعتهم بالتأنيث بقوله : (بِالَّتِي) ، وفعل البنون يغلب فعل الجمادات ؛ فيجب أن يذكر كفعل المرأة والرجل ، إذا ذكرا يذكر على جهة التذكير ، كذلك هاهنا ؛ فيجب أن يذكر بصفة التذكير.

قيل : تقدير الكلام : وما أموالكم بالتي تقربكم عندنا زلفى ، ولا أولادكم ، وإذا كان تقدير الكلام هكذا ، فالفعل يكون للمؤنث والمذكر معطوفا على الأول ؛ لذلك يؤنث. شرح.

٤٥٤

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) : في الدنيا والآخرة ؛ لأن ما أنفق العبد لو كان الله أخلفه له في الدنيا ما أحصى أحدكم ماله ، ولا يجد مكانا يجعله فيه ، أو كلام هذا معناه.

وقال آخر : كل نفقة كانت في طاعة الله فإن الله يخلفها في الدنيا ، أو يدّخرها لوليّه في الآخرة.

ومجاهد يقول : إذا أصاب أحدكم مالا ، فليقصد في النفقة (١) ، ولا يتأولنّ قوله : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) ؛ فإن الرزق مقسوم.

وقال بعضهم (٢) : (فَهُوَ يُخْلِفُهُ) إذا كانت في غير إسراف ولا تقتير.

وهذه التأويلات كلها ضعيفة ؛ لأن الآية كانت ـ والله أعلم ـ في منع أولئك الإنفاق ؛ مخافة الفقر وخشية الإملاق ؛ لأنها نزلت على أثر قول الرجل : (إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) ، يقول ـ والله أعلم ـ تعلمون أن الله هو الباسط لكم والموسع عليكم وعلى الخلق كله الرزق ، وهو المقتر أيضا على من شاء التقتير عليه ، فإذا كنتم تعلمون أنه هو الفاعل لذلك ؛ فكيف تمتنعون عن الإنفاق خشية الفقر؟! فهو القادر على البسط والخلف لما أنفقتم ، وهو القادر على التقتير من غير إنفاق كان منكم.

أو أن يذكر هذا ؛ ليقطعوا أطماعهم عن الخلق من الناس والبذل لهم ، على ما ينفق الرجل من النفقة ؛ فيطمع من الناس البرّ له والمكافأة لما أنفق ؛ فيقول : اقطعوا الطمع من الناس فيما تنفقون ؛ فإن الله هو المخلف لذلك لا الناس.

ويحتمل ما قال ابن عباس : إنه يخلف في الآخرة ؛ إذ لو أعطى لكل رجل أنفق في الدنيا خلفا ـ ما أحصى أحدكم ماله ، ولا أين يجعله؟ [يكون] هذا هكذا إذا كان الخلف من نوع ما أنفق وأعطى ، فأمّا إذا جاز أن يكون الخلف من نوع ما أنفق ، ومن غير نوعه : من نحو ما يدفع عن المرء وعن المتصلين له من أنواع البلايا والشدائد ، ويعطيه من أنواع النعم من السلامة له في نفسه ودينه والصحة وغير ذلك مما لا يحصى ، فذلك كله بدل وخلف عما أنفق ، وذلك أنه إذا علم في سابق علمه أنه ينفق جعل ذلك في الأصل خلفا عما أنفق ؛ وعلى ذلك يخرج ما روي : «أن صلة الرحم تزيد في العمر» (٣) : إذا علم أنه

__________________

(١) أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٤٨).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه سعيد بن منصور ، والبخاري في الأدب المفرد ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٤٨) وهو قول الحسن وسعيد بن جبير.

(٣) طرف من حديث عن أبي أمامة : أخرجه الطبراني في الكبير ، كما في مجمع الزوائد (٣ / ١١٨) ، وقال الهيثمي : إسناده حسن ، وفي الباب عن أم سلمة وأبي سعيد الخدري ، وصححه العلامة الألباني بمجموع طرقه كما في الصحيحة (١٩٠٨).

٤٥٥

يصل رحمه زاد في عمره في الأصل ما لو يعلم أنه لا يصل رحمه ، لكان يجعل عمره دون ذلك ؛ فعلى ذلك الأول.

وروي عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكل معروف صدقة (١) ، وما أنفق المرء على نفسه وأهله ، أو وقى به عرضه فهو له صدقة ، وكل نفقة أنفقها مؤمن ؛ فعلى الله خلفها ضامنا ، إلا نفقة في معصية أو نفقة في بنيان» ، أي : لا يحتاج إليه.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ)(٤٢)

وقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً) : الملائكة ومن عندهم ، ثم نقول للملائكة : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ. قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) ؛ لأنه قال لهم : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ).

ليس قول الملائكة فيما خاطبهم ربهم لما خوطبوا بقوله : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) ؛ حيث قالوا : (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) ؛ لأنه قال لهم : (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) ؛ فجوابهم أن يقولوا : بلى أو لا ، فأما أن يكون قولهم : (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) أعلم منا ـ (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ ...) الآية ـ جوابا لذلك ؛ فلا يحتمل إلا أن يقال : إن أولئك الكفرة ادعوا على الملائكة الأمر لهم بالعبادة إياهم دون الله ؛ فهنالك يحتمل أن يقول : أهؤلاء عن أمركم عبدوكم ؛ فعند ذلك قالوا : (سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ) ، ونحن براء منهم ، ما أمرناهم بعبادتنا ، وأنت أعلم منا ، بل كانوا يعبدون الجن ؛ بل كانوا أطاعوا أمر الجن والشياطين في ذلك ؛ إذ لو كنا أمرناهم بذلك ـ لم نكن أولياءك ، ولا كنت أنت ولينا من دونهم ، وهذا كما يقول لعيسى ؛ حيث قال الله : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) [المائدة : ١١٦] ، وقد كان علم ـ جل وعلا ـ أنه لم يقل ذلك ، ولكن كأن أولئك ادّعوا عليه الأمر والقول لهم في ذلك ، فذكر ذلك لعيسى ؛ تعييرا لهم وتوبيخا على صنيعهم ، وإظهارا لكذبهم في دعواهم ؛ فعلى ذلك الأول يحتمل أن يخرج على ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ).

هم كانوا لا يقصدون عبادة الجن ؛ ولكن لما بأمرهم كانوا يعبدون ما يعبدون ؛ نسب العبادة إليهم كقوله : (يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ) [يس : ٦٠] ، وهو كقول

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ٤٦٢) كتاب الأدب ، باب كل معروف صدقة (٦٠٢١) ، والترمذي (٤ / ٣٤٧) كتاب البر والصلة ، باب ما جاء في طلاقة الوجه وحسن البشر (١٩٧٠).

٤٥٦

إبراهيم : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) [مريم : ٤٤] ، وهم كانوا لا يقصدون بعبادتهم الشيطان ، لكنهم لما عبدوا من دونه بأمر الشيطان ـ نسب العبادة إليه ؛ كأنهم عبدوه.

وقوله : (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا).

أي : لا يملك يوم القيامة ما أملوا أو طمعوا من عبادتهم لأولئك من التقريب لهم إلى الله زلفى ، والشفاعة لهم عنده ؛ لقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] يقول : لا يملك بعضكم لبعض ما أملوا أو طمعوا من عبادتهم لأولئك.

(وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ).

أي : كنتم تكذبون الرسل بما أوعدكم بها في الدنيا.

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٥) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (٤٦) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٤٧) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (٤٨) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (٤٩) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ)(٥٠)

وقوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ).

قد ذكرنا الآيات والبينات في غير موضع.

وقوله : (ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ) :

كل رسول [يريد] أن يصد قومه عما كان يعبد آباؤهم من الأصنام والأوثان ، لكن هذا القول من أولئك الرؤساء إغراء للأتباع على الرسل ، يقولون : ألا ترون أن واحدا قد خالف الآباء في دينهم ، ويريد أن يصدّكم عن دين آبائكم.

و (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً).

أي : ما يدعو محمد إليه ليس إلا إفك مفترى.

و (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ).

وقوله : (لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ) ، أي : ما جاء للحق وهو القرآن والتوحيد من البيان

٤٥٧

والإيضاح له أنه الحق ، وأنه من عند الله جاء ، وهو الآيات والبراهين التي جاءت له أنه حق وأنه من عند الله جاء ، لا أنه مفترى وإفك وسحر ما تزعمون ، ولم تزعموا ، ولم يزل طعن أولئك الكفرة في الآيات والحجج : بأنها سحر ، وأنها إفك ، وأنها مفترى ، يلبسون بذلك على أولئك الأتباع والسفلة ، ويموهون عليهم ويغرون ؛ لئلا يتبعوه ، ويستسلموا لهم ، والله أعلم.

وقوله (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) ، وهو ـ والله أعلم ـ صلة (ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) وقالوا (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) ، وقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ) ، يقول ـ والله أعلم ـ جوابا لقولهم : (وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) فتخبرهم أن ما يقول محمد إفك مفترى ، ولا أرسلنا إليهم أيضا من قبله رسولا يخبرهم : أنه كذب مفترى ، وظهور الكذب في القول والخبر إنما يكون بأحد هذين الأمرين إما بكتاب أو نبي ، وهم لا يؤمنون بكتاب ولا نبي ، فكيف يدعون عليه الكذب والافتراء؟! يخبر عن سفههم وقلة عقولهم وعنادهم بعد ما خصهم ـ عزوجل ـ وفضلهم على غيرهم من البشر ؛ حيث بعث الرسول منهم ومن أنفسهم ، والكتاب على لسانهم وبلغتهم بعد قسمهم : إنه لو بعث إليهم نذيرا ورسولا اتبعوه حيث قالوا : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ) [فاطر : ٤٢] لم يؤمنوا به ، ولم يعرفوا منة الله عليهم وخصوصيتهم فيما خصهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

يذكر رسوله ويصبره على تكذيب أولئك له ، يقول : قد كذب الذين كانوا من قبلهم رسلهم ، لست أنت بأول مكذب بل كذب إخوانك من قبل ، والله أعلم.

وقوله : (وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ).

يقول ـ والله أعلم ـ : لم يبلغ هؤلاء الذين كذبوك عشر أولئك في القوة والغناء والفضل والعلم والأتباع والأعوان وغير ذلك مع ما كانوا كذلك لم يقوموا في دفع العذاب الذي نزل بهم بالتكذيب عن أنفسهم ، فقومك الذين هم دون أولئك بما ذكروا أحق ألا يقوموا لدفع العذاب عن أنفسهم إذا نزل بهم بالتكذيب.

وقوله : (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ).

يقول ـ والله أعلم ـ : أليس وجدوا عذابي حقّا.

قال الزجاج : هو «نكيرى» بالياء ، لكن طرحت الياء ؛ لأنه آخر الآية وختمها ، فأبقيت

٤٥٨

الكسرة علامة لها أو كلام يشبه هذا.

قال أبو عوسجة : نكيري : عقوبتي.

وقال القتبي (١) : أي : إنكاري.

وقوله : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ).

قال بعضهم (٢) : (بِواحِدَةٍ) أي : بكلمة الإخلاص والتوحيد.

وقال بعضهم (٣) : أي : بطاعة الله.

وقال بعضهم : (بِواحِدَةٍ) أي : بكلمة واحدة ؛ كقول الرجل لصاحبه : أكلمك كلمة واحدة ، واسمع مني كلمة.

لكن الواحدة التي وعظهم بها عندنا ما ذكر على أثره حيث قال : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى) جميعا (وَفُرادى) وتتفكروا وتنظروا فيما بينكم : هل رأى أحد منكم به جنونا قط؟

وقال بعضهم : يريد بالمثنى : أن يتناظر الرجلان في أمر النبي (وَفُرادى) ، أي : تفكير واحد.

وقال بعضهم : يريد بالمثنى : أن يتناظر الرجلان في أمر النبي ؛ فإن ذلك ما دل على أن النبي ليس بمجنون ، ولا كذاب على ما تزعمون.

ثم كان الذي حملهم على أن نسبوه إلى الجنون وجوها :

أحدها : أنهم رأوه قد خالف الفراعنة والجبابرة الذين كانوا يقتلون من خالفهم على الغضب في أدنى شيء بلا أعوان ولا أتباع له ، فقالوا : لا يخاطر بهذا إلا من به جنون ؛ فنسبوه إلى الجنون.

والثاني : أنهم رأوه قد خالف دينهم ودين آبائهم جملة من بينهم ، فقالوا : لا يحتمل أن يصيب دينا بعقله من بين الكل لا يصيب أحد ذلك ، فاتهموه في العقل.

والثالث : أنه كان في حال صغره وصباه ، لم يروه اشتغل بشيء من اللعب وخالط الصبيان في شيء من أمورهم ، بل اعتزلهم من حال صباه إلى آن الوقت الذي بلغ ، فقالوا : إن به جنونا وإلا لم يعتزل الناس كل هذا الاعتزال.

ثم أخبر أنكم لو تفكرتم ونظرتم ثم عرفتم أن ليس بصاحبكم جنون : (إِنْ هُوَ) أي :

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن (٣٥٨).

(٢) قال مجاهد : بلا إله إلا الله. أخرجه الفريابي ، وعبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٥٠) ، وهو قول ابن جريج أيضا.

(٣) قاله مجاهد أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير (٢٨٨٨١) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٥٠).

٤٥٩

ما هو (إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) في الآخرة إن عصيتم ، أي رسول الله إليكم ونذير مبين ، [بين] يدي عذاب شديد في الآخرة إن عصيتم عوقبتم في الآخرة.

وقال بعضهم في قوله : (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) يقول ـ والله أعلم ـ : ألا يتفكر الرجل منكم وحده أو مع صاحبه ، فينظر أن في خلق السموات والأرض وما بينهما الذي خلق هذه الأشياء وحده أنه واحد لا شريك له ، وأن محمدا لصادق في قوله بأن الله واحد لا شريك له ، وما به جنون إن هو إلا نذير.

وقوله : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) ، هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه سأل ، قال بعضهم : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم سأل قومه أن يؤدّوا قرابته وألّا يؤذوهم ؛ كقوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] ، وما قال في آية أخرى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [الفرقان : ٥٧] ، يقول : (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) يعني : المودة في القربى (فَهُوَ لَكُمْ) ، أي : الذي سألتكم هو لكم وهو المودة في القربى واتخاذ السبيل إلى ربي.

والثاني : قوله : (ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) ، أي : لم أسألكم على تبليغ الرسالة إليكم أجرا منكم ، فيمنعكم ثقل ذلك الأجر وغرمه عليكم عن الإجابة ؛ كقوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [القلم : ٤٦].

وقوله : (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللهِ).

أي : ما أجري إلا على الله.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

بأني نذير وما بي جنون.

أو هو على كل شيء شهيد بأني لم أسألكم عليه أجرا.

أو على كل شيء من صنيعكم شهيد عالم به ، والله أعلم.

وقوله : (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) هذا يحتمل وجوها :

يحتمل : (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) ، أي : يقضي بالحق ، أو (يَقْذِفُ بِالْحَقِ) ، أي : يتكلم بالوحي ويلقيه.

وقوله : (عَلَّامُ الْغُيُوبِ).

كل شيء غاب عن الخلق ، وقد ذكر في غير موضع.

وقوله : (قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ ...) الآية ، اختلف فيه :

قال بعضهم (١) : ما يبدئ الأوثان والأصنام التي عبدوها (وَما يُعِيدُ) ، أي : لا تخلق

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٥٦٢).

٤٦٠