تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

[الأنبياء : ٧٩] وكذا ، ونحوه ، ولكن إن كان على حقيقة العرض فهو على التخيير الذي ذكرنا ، (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) ، فكان له الثواب إن قام بها ، وعليه العقاب إن لم يقم.

وقال بعضهم (١) : قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) ، أي : عرض على أهل السموات وأهل الأرض وأهل الجبال ، فلم يحملوها ، إلا الإنسان منهم فإنه حملها.

(إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) قال الحسن : ظلوما لنفسه ، جهولا لأمر ربه (٢).

وقال بعضهم : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) ، أي : أبين أن يعصين الله وأشفقن منه ؛ أي : لم يعصوا قط (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي : عصى الإنسان ربه ؛ فيجعل الحمل كناية عن العصيان والوزر ، يقول : لأنه ما ذكر في القرآن الحمل إلا في الوزر والخطايا ؛ كقوله : (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) [العنكبوت : ١٢] ، وقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] ، وقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [النحل : ٢٥] ، وقوله : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) [الشرح : ٢ ، ٣] ، ونحوه كثير.

وقوله : (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) إلى أي تأويل من هذه التأويلات التي ذكرنا صرف هذا إليه ـ استقام ، والله أعلم.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : (الْأَمانَةَ) : العبادة : قال الله ـ تعالى ـ للسماوات والأرض والجبال : تأخذن العبادة بما فيها ، قلن : يا ربّ ، وما فيها؟ قال : إن أحسنتن جزيتن ، وإن أسأتن عوقبتن ، (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها) ، أي : خفن ، وعرضت على الإنسان فقبلها (٣) ، وهو قول الله لبني آدم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال : ٢٧] أما خيانتهم الله ورسوله فمعصيتهما ، وأمّا خيانة الأمانة فتركهم ما افترض الله عليهم من العبادة.

وقتادة : يقول : أما والله ما بهن معصية ، ولكن قيل لهنّ : أتحملنها وتؤدين حقها؟ قلن : لا نطيق ذلك ، فقيل للإنسان ـ وهو آدم ـ : أتحملها وتؤدي حقها؟ قال : نعم (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) عن حقها (٤).

__________________

(١) هو قول ابن عباس وقد تقدم.

(٢) وقاله الضحاك وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٨٦٩٩ ، ٢٨٧٠١).

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه ابن جرير (٢٨٦٩٣) وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢٣).

٤٢١

وفي حرف أبيّ وابن مسعود وحفصة (فَأَبَيْنَ)(١) أي : فلم يطقنها.

وقال أبو معاذ : الإباء في كلام العرب على وجهين :

أحدهما : هذا ، وهو العجز.

والآخر : قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى) [البقرة : ٣٤] أي : عصى وترك الأمر.

والحسن يقول : عرضت الأمانة على السموات وما ذكر ، فقيل لهن : أتأخذن الأمانة بما فيها ، قلن : يا رب ، وما فيها؟ قيل لهن : إن أحسنتن جزيتن ، وإن أسأتن عوقبتن ، قلن : لا (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً) لنفسه (جَهُولاً) بربه ، وهو مثل الأول.

وقال بعضهم (٢) : كان ظلوما لنفسه في ركوبه المعصية ، جهولا بعاقبة ما تحمل.

والوجه فيه ما ذكرنا بدءا أنه لا تفسّر الأمانة أنها ما هي؟ وكيف كان ذلك العرض على من ذكر من السموات والأرض والجبال ، وإباؤهن ، وإشفاقهن؟ والله أعلم ما أراد بذلك.

وقوله : (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ ...) [على] من ذكر ؛ أي : ليعذب من علم أنه لا يقوم بوفائها ويضيعها ـ أعني : الأمانة التي احتملها ـ وإنما ضيعها من ذكر من المنافقين والمشركين ، ويثيب من لم يضيعها وقام بوفائها ، وهم المؤمنون.

قال أبو عوسجة : السداد : الاستقامة ؛ تقول : سددك الله ، وأرشدك.

وقال أبو عبيدة (٣) : السديد : القصد.

وكذلك قال القتبي ، والقصد كأنه العدل ، والله أعلم.

وصلى الله على محمد وآله أجمعين.

* * *

__________________

(١) لم يذكر فرقا بين القراءة المتواترة وغيرها.

(٢) هو قول الضحاك وقتادة وقد تقدم.

(٣) انظر : تفسير غريب القرآن (٣٥٢).

٤٢٢

سورة سبأ نزلت بمكة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ)(٢)

قوله ـ عزوجل ـ : (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

قال أهل التأويل : حمد نفسه بما صنع إلى خلقه.

ثم هو يخرج على وجهين :

أحدهما : على التعليم لخلقه : الحمد له ، والثناء عليه ؛ لآلائه وإحسانه إلى خلقه : ما لو لا تعليمه إياهم الحمد له والثناء عليه لم يعرفوا ذلك.

والثاني : حمد نفسه ؛ لما لم ير في وسع الخلق القيام بغاية الحمد له والثناء عليه على آلائه وأياديه ، فتولى ذلك بنفسه ، وهو ما ذكر في قوله : (صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب : ٥٦] ؛ فقالوا : قد عرفنا السلام عليك ؛ فكيف الصلاة عليك؟ فقال : «أن تقولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ...» إلى آخره ؛ فهذا تفويض الصلاة إلى الله والدعاء له أن يصلي هو عليه دونهم ؛ فهو ـ والله أعلم ـ كأنه لم ير فيهم وسع القيام بحقيقة الصلاة عليه ، ولا بغاية الثناء ؛ فأمرهم أن يفوضوا ذلك إليه ؛ ليكون هو القاضي لذلك عنهم ؛ فعلى ذلك الحمد لله.

وأصل الحمد له : هو الثناء عليه بجميع محامده وإحسانه بأسمائه الحسنى ، والشكر له على جميع نعمائه وآلائه.

وقوله : (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

كأنه قال ـ والله أعلم ـ : الحمد لله له ملك السموات والأرض ، وهو المستحق لذلك ، لا الأصنام التي عبدتموها وسميتموها : آلهة.

وقوله : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) :

قال بعضهم (١) : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) ، أي : يحمد أهل الجنة إذا دخلوا الجنة ؛ كقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣] ، وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) [الزمر : ٧٤] ، وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) [فاطر : ٣٤] ،

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٥٤٨).

٤٢٣

ونحوه ؛ يحمده أولياؤه في الآخرة ؛ ويحمده أولياؤه في الأولى ؛ كقوله : (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) [القصص : ٧٠].

وجائز أن يكون قوله : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) ، أي : له الحمد في إنشاء الآخرة ؛ لأن إنشاء الدنيا وما فيها إنما كان حكمة بإنشاء الآخرة ، ولو لم يكن إنشاء الآخرة لكان خلق ذلك كله عبثا باطلا ؛ فأنشأ الآخرة حتى صار إنشاء الدنيا وما فيها من الخلائق حكمة ؛ فأخبر أن له الحمد على إنشاء ما صار له إنشاء الدنيا حكمة ، والله أعلم.

وقوله : (وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ).

قد تقدم معنى الحكيم والخبير في غير موضع ، وهو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير ، وهو الواضع كل شيء موضعه.

والفلاسفة يقولون : الحكيم : هو الذي يجمع العلم والعمل جميعا ، وهو ما ذكرنا.

أو الحكيم ؛ لما أحكم كل شيء وأتقنه ، حتى شهد على وحدانيته ، ودلّ على إلهيته.

وقوله : (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها).

يخبر أن الأرض مع كثافتها وغلظها لا تحجب عنه ما يدخل فيها وما يخرج منها ، وكذلك السماء مع صلابتها وشدّتها لا تحجب عنه شيئا كما يحجب عن الخلائق.

أو يخبر أن كثرة ما يدخل في الأرض ويخرج منها وازدحامه ، وكثرة ما ينزل من السماء من الأمطار وما يعرج إليه من الدعوات والملائكة ـ لا يشغله عن العلم بالآخر ، كما يشغل الخلائق ؛ لأنه عالم بذاته لا بسبب ، والخلق عالمون بأسباب ؛ فعلمهم بسبب يشغلهم عن الأسباب الأخر ؛ فأما الله ـ سبحانه ـ يتعالى عن أن يشغله شيء ، أو يحجب عنه شيء ، (وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٣) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧) أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (٨) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ

٤٢٤

عَبْدٍ مُنِيبٍ)(٩)

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ).

قال بعضهم : إنهم أقسموا باللات والعزى أن لا بعث ولا حياة بعد الموت ؛ فأمر الله نبيه أن يقسم بالله الواحد على بعث وقيامة بقوله : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ).

وجائز أن يكون على غير هذا ، وهو ما قال في آية أخرى ؛ حيث قال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا) [النحل : ٣٨] هم أقسموا بالله : إنه لا يبعث من يموت ؛ فأمر رسوله في هذه الآية أن يقسم بالله ـ الذي أقسموا هم : إنه يبعث ، وهو قوله : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ، وكأن قسمه بما أقسم عندهم أصدق من قسمهم ؛ لأنهم لم يأخذوا عليه كذبا قط ، ولا اتهموه في شيء ؛ يدل على ذلك ما أخبر الله عنهم ؛ حيث قال : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) [الأنعام : ٣٣] أخبر أنهم لا يكذبونك في مقالتك ؛ ولكن همتهم الجحود بالآيات والإنكار لها ؛ فيكون قسمه مقابل قسم أولئك في إنكارهم البعث ؛ ليعلموا كذب أنفسهم في قسمهم ـ بقسم رسول الله بما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (عالِمِ الْغَيْبِ) ، بالخفض ، وقد قرئ (عالِمِ الْغَيْبِ) : بالرفع ، و (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) :

فمن خفضه ، جعله صفة ونعتا لما تقدم من قوله : (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ).

ومن رفعه ، يجعله على الابتداء ، ويجعل الكلام تامّا بقوله : (وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ) ، ثم استأنف فقال : (عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ).

ثم قوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ).

قد قرئ برفع الزاي ، وبخفضها : (لا يَعْزُبُ) ، وكلاهما لغتان ، والعازب في كلام العرب : الغائب.

وقال بعضهم (١) : (لا يَعْزُبُ) ، أي : لا يبعد ، وهما واحد.

وقوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ).

وقال في الأولى (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها) : جائز أن تكون هذه الآية في جواهر الأشياء وأجناسها المختلفة ؛ لأنه أخبر عن

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن (٣٥٣).

٤٢٥

علمه بما يلج في الأرض وما يخرج منها ، وما يصعد فيها وما ينزل ، وذلك علم جواهر الأشياء.

وقوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ ...) إلى آخر ما ذكر : في الأفعال والأعمال ، يخبر أنه لا يخفى عليه شيء ، ولا يغيب عنه شيء من أفعالهم وأعمالهم ؛ ليكونوا أبدا على حذر ؛ ألا ترى أنه ذكر على أثر ذلك الجزاء ؛ حيث قال : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

أو أن يكونا واحدا ، إلا أنه ذكر في الآية الأولى الداخل في الأرض والخارج منها ، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ، ولم يذكر في ذلك الساكن فيهما والمقيم وما يكون فيهما ؛ فذكر ذلك في قوله : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) يخبر عن إحاطة علمه بالأشياء كلها : من الساكنة ، والمقيمة ، والمتحركة ، والمنقلبة فيهما ، والله أعلم.

وقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ).

المغفرة : هي التغطية والستر ، ثم يكون الستر بوجهين :

أحدهما : يستر على أعين الزلات أنفسها ألا تذكر.

والثاني : يستر بالجزاء الحسن إذا لم يجز للزلات ، هذا للمؤمنين : يستر عليهم الزلات مرة بترك ذكرها ، ومرة بترك الجزاء عليها.

وأما الكافر فإنه إذا جزي على سيئة فقد أظهر وفشا ، ولم يستر عليه.

أو أن يكون قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) ، أي : ستر وهو أنه إذا أدخلهم الجنة ، أنساهم زلاتهم ؛ حتى لا يذكروا أبدا ؛ لأن ذكر زلاتهم لربهم ينغص عليهم لذاتهم وتنعمهم.

وقوله : (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) ، قيل (١) : الكريم : الحسن.

وجائز أن يكون سماه : كريما ؛ لأن من ناله كرم وشرف ، كقوله : (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) [المعارج : ٣٥] ، والله أعلم.

وقوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ).

يحتمل حقيقة سعيهم في آياته بما ذكر ؛ كقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) [يوسف : ١٠٥] : ذكر مرورهم عليها والإعراض عنها ؛

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٥٤٨).

٤٢٦

فهو سعي.

وجائز على التمثيل ، أي : يعملون عمل من أعجز الآيات ؛ للجحود لها والتمرد والعناد ، والمعجز : هو السابق ، (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٣١] ، أي : سابقين فائتين ، أي : لا تعجزونني ، ولا تفوتون عني.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ).

الرجز : العذاب الأليم ، أي : مؤلم ، وذلك جائز في اللغة.

وقال أبو عوسجة : المعاجز : الهارب ؛ يهرب ؛ لكي يعجز.

وقوله : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ).

قال بعضهم (١) : الذين أوتوا العلم هم المؤمنون : مؤمنو أهل الكتاب الذين أوتوا العلم على التوراة والإنجيل وغيرهما ؛ يقول ـ والله أعلم ـ يعلم الذين أوتوا منافع تلك الكتب أن ما أنزل إليك من ربك هو الحق ، بأجمعهم جميعا الذين أوتوا العلم بتلك الكتب ؛ لما يجدون نعته وصفته فيها ، يعلمون أنه هو الحق من ربّك ، لكن بعضهم عاندوا ولم يؤمنوا به ، وبعضهم قد آمنوا به.

وقال بعضهم (٢) : قوله (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) : هم أصحاب محمد ـ صلوات الله عليه ـ أي : الذين أوتوا منافع ما أنزل إليك ، هم يعلمون أنه هو الحق من ربك ، فأما من لم يؤت منافع العلم فلا يعلم ذلك.

وفي حرف ابن مسعود ويعلم الذين أوتوا الحكمة من قبل الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ، يعني : القرآن.

وقوله : (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

قوله (وَيَهْدِي) يحتمل : يدعو ، ويحتمل (وَيَهْدِي) ، أي : يبين لهم (صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ).

كان بعضهم يقول لبعض : (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

__________________

(١) قاله الضحاك ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢٦) ، وانظر : تفسير البغوي (٣ / ٥٤٩).

(٢) قاله قتادة : أخرجه ابن جرير (٢٨٧١١) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢٦).

٤٢٧

قوله : (إِذا مُزِّقْتُمْ) يحتمل أن قالوا : النبي ، يقول : إذا تفرقت جوارحكم وأعضاؤكم تكونوا خلقا جديدا ، فإن كان على هذا فهو ـ والله أعلم ـ كان من أهل الدهر ذلك القول ؛ لأنهم يقولون بقدم العالم ، ولا يقولون بفنائه ؛ لأن أهل مكة كانوا فريقين : فرقة تذهب مذهب أهل الدهر ، وفرقة يقولون بحدث العالم ، ويقرون بفنائه ، لكنهم ينكرون إحياءه بعد الفناء. فإن كان ذلك من هؤلاء ؛ فيكون قوله : (يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) ، أي : إذا ذهبت أجسادكم ، وفنيت اللحوم والعظام ، وكنتم رمادا ورفاتا (إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، أي تكونون خلقا جديدا ، يخرج ذلك منهم على أحد وجهين :

إما على استبعاد ذلك في أوهامهم وعقولهم ، أي : لا يكون ذلك.

أو على التعجب : أن كيف يكون ذلك؟! فقال عند ذلك : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) :

يقولون : أفترى محمد على الله كذبا أم به جنون؟ إذ لم نسمع ذلك من أحد من قبل ، ولا رأينا ذلك أنه كان ما ذكر ، فرد الله ذلك عليهم وقال : (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) ، أي : بالبعث والإحياء بعد الموت ـ هم المفترون على الله ، هم (فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ).

جزاء قولهم : أم به جنون؟ يقول : بل هم في ضلال بعيد ، الضلال البعيد : كأنه هو الذي لا يرجع إلى الهدى أبدا ؛ فتكون الآية في قوم : علم الله أنهم يختمون على الضلال ، ولا يؤمنون أبدا ؛ فيكون في ذلك دلالة إثبات الرسالة.

وقوله : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) : قد ذكرنا قوله : (أَفَلَمْ يَرَوْا) ؛ (أَلَمْ تَرَوْا) [لقمان : ٢٠] ، ونحوه أنه يخرج على وجهين :

أحدهما : قد رأوا على الخبر.

والثاني : على الأمر : أن انظروا (إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

ثم يقول بعضهم لبعض : حيثما قدم الإنسان رأى بين يديه من السماء مثل السماء [التي] يرى خلفه ، وكذلك الأرض.

وقتادة يقول (١) : لينظروا كيف أحاطت بهم السماء والأرض ، وهما واحد.

(إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) ، كما خسفنا بمن كان قبلهم ، (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٨٧١٧) وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢٦).

٤٢٨

أي : عذابا من السماء ؛ كما أنزل على من كان قبلهم بالتكذيب والعناد ، يذكر هذا على أثر قولهم : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) ، أي : لو نظروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض ؛ لعرفوا أنه رسول الله ، وأنه صادق ، وأن ما يقول : إنه بعث بعد الموت ، وإن العذاب ينزل ـ يقوله لا عن جنون ، ولكن عن علم وعقل ومعرفة ؛ لأن من قدر على إنشاء السماء على ما أنشأ من سعتها وغلظها وشدتها ، وكذلك الأرض ، قدر على البعث وخسف من يشاء أن يخسف ؛ وإسقاط السماء على من يشاء أن يسقط.

أو يقول : لو نظروا ، لعرفوا أنه لم ينشئ ما ذكر من السماء والأرض عبثا باطلا ؛ ولكن أنشأهما على الحكمة ، وإنما يصير إنشاؤهما حكمة بالبعث والإحياء بعد الموت ومصيرهم إليه ، وأما للفناء خاصة فلا يكون حكمة ، والله أعلم ما أراد بذلك.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ).

المنيب ، قيل : هو المطيع لله ، وقيل (١) : هو المقبل على أمر الله.

والمنيب كأنه هو المؤمن ؛ لأنه هو المصدق بالآيات ، فإذا كان المؤمن هو المصدق بالآيات ، فيكون هو المنتفع بها ؛ فيكون الآية [له]. وأما المكذب بها فلا ينتفع بها ؛ فلا يكون الآية له في الحقيقة.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ)(١٤)

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً).

أي : علما ، كقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) [النمل : ١٥].

وقال بعضهم : (فَضْلاً) ، أي : نبوة.

وقال بعضهم : الفضل : هو الملك الذي آتاه الله.

وجائز أن يكون ما ذكر من الفضل أنه آتاه ـ هو ما ذكر على أثره من تسخير الجبال

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير عنه (٢٨٧١٨).

٤٢٩

والطير والتسبيح معه ، وإلانة الحديد له بلا نار ولا شيء ؛ حتى اتخذ منه ما شاء أن يتخذ من الدروع وآلات الحروب ، وقد أتى الله داود من الفضل ما لو تكلفنا عدّه وإحصاءه ما قدرنا عليه.

وقوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ).

قيل (١) : سبحي معه.

وقوله : (وَالطَّيْرَ).

من نصب الطير جعلها مسخرة له ؛ كأنه قال : سخرنا له الطير. ومن رفعها جعله على النداء : يا طير أوبي معه ، أي : سبحي معه.

ثم اختلف في تسبيح الجبال والطير.

قال بعضهم : تسبيح خلقة لا تسبيح قول ونطق ؛ لما جعل في خلقة كل شيء الشهادة له بالوحدانية والألوهية ، لكن ذكر هاهنا : أن سبحى معه ، ولو كان تسبيح خلقة لم يكن لذكر التسبيح مع داود فائدة ؛ لأن تسبيح الخلقة يكون كان معه داود أو لم يكن ؛ ولكن جائز أن يجعل الله ـ تعالى ـ في سرّية الجبال من التسبيح ما يفهم منها داود ، ولم يفهم غيره ؛ على ما ذكرنا في قول النملة لسائر النمل ؛ حيث قال : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ...) الآية [النمل : ١٨] : جعل الله ـ تعالى ـ في سرية النمل معنى ألقى ذلك في مسامع سليمان ؛ ففهم منها ذلك ، ولم يلق ذلك في مسامع غيره من الجنود ؛ فعلى ذلك تسبيح الجبال والطير ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ).

جعل له آية لنبوته ؛ لما ألان له الحديد بلا نار ولا سبب يلينه ؛ حتى كان يعمل منه ما شاء ، ولم يجعل في وسع أحد من الخلائق سواه استعمال الحديد إلا بالنار وأسباب أخر ؛ ليكون له في ذلك آية.

وقوله : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ).

كأنه قال : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) ، وقلنا له : (أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ).

قال بعضهم (٢) : السابغات : هي الدروع.

وقال بعضهم (٣) : هي الواسعات.

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٨٧١٩ ، ٢٨٧٢٠) وابن أبي شيبة في المصنف كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢٦) ، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك ، وغيرهم.

(٢) قاله قتادة وابن زيد أخرجه ابن جرير عنهما (٢٨٧٣١ ـ ٢٨٧٣٢).

(٣) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٥٥٠).

٤٣٠

وقيل (١) : هي الطوال.

فكأنه أمر أن يتخذ من الدروع ما يأخذ من الرأس إلى القدم ما يصلح لحرب العدوّ.

وقوله : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ).

قال بعضهم (٢) : كانت الدروع قبل ذلك صفائح مضروبة ، فسرد نبي الله حلقها بعضها في بعض ، والسرد : المسامير والحلق ، يقول : قدر المسامير في الحلق : لا بدق المسامير وتوسع الحلق ؛ فتسلسل ، ولا تضيق الحلق وتعظم المسامير فتقصم وتكسر ؛ ولكن مستويا لتكون أحكم.

قال أبو عوسجة والقتبي (٣) : (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) ، أي : في النسج ، أي : لا تجعل المسامير دقاقا ؛ فتقلق ، ولا غلاظا ؛ فتكسر الحلق ؛ ومنه قيل لصانع الدروع : سرّاد ، وزرّاد ؛ كما يقال : صراط وسراط وزراط. والسرد : الحرز أيضا ، وقال غيره : السرد : الخروق في طبق الحلق ، وإدخال الحلق بعضها في بعض.

وقوله : (وَاعْمَلُوا صالِحاً).

جائز أن يكون قوله : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) ، فيما ذكر من عمل الدروع ، ويحتمل في غيره من الأعمال ، (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، هو على الوعيد ، والله أعلم.

وقوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) كأنه يقول : سخرنا لسليمان الريح ؛ كما ذكرنا في آية أخرى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) [ص : ٣٦]. وقوله : (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) ، أي : تجري به الريح في غدوها مسيرة شهر ، وفي رواحها مسيرة شهر ، وذلك آية له ، فمثلها من الآية كان لرسول الله ، حيث أسري في ليلة واحدة مسيرة شهرين من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

وما كان لسليمان من الملك بالأعوان من الجن والإنس كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه ؛ حيث قال : «نصرت بالرعب مسيرة شهرين» (٤) ، [فإن لم يكن] أعظم مما كان لسليمان فلا يكون دونه.

وما كان لأبيه داود من إلانة الحديد له بلا سبب وما ذكر ـ كان لمحمد انشقاق القمر له ، وذلك أعظم في الآية مما ذكر.

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٥٥٠).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٨٧٣٦) وهو مرسل مجاهد والحاكم.

(٣) انظر : تفسير غريب القرآن (٣٥٤).

(٤) أخرجه الطبراني عن ابن عباس ، كما في مجمع الزوائد (٨ / ٢٦٢) وقال الهيثمي : وفيه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر وهو ضعيف.

٤٣١

وما كان لموسى من انفجار العيون من الحجر ، كان لمحمد من أصابعه ، حتى ذكر أنهم كانوا ألفا وأربعمائة نفر شربوا جميعا منه ورووا ؛ فذلك وإن لم يكن أعظم في الآية لا يكون دونه.

وما كان لعيسى من إحياء الله الموتى وإجرائه على يديه ، كان لمحمد مقابل ذلك كلام الشاة المصلية المسمومة التي أخبرته : إني مسمومة ؛ فلا تتناول مني ؛ لما أراد التناول منها ، فآياته كثيرة حتى لم تذكر لأحد من الأنبياء والرسل ـ صلوات الله عليهم ـ آية إلا ويمكن أن يذكر لمحمد جميعا مقابل ذلك مثلها أو أعظم منها.

ثم يحتمل ذكر ملك سليمان وأبيه ؛ لئلا يحسدوا محمدا ـ صلوات الله عليه ـ على ما أعطاه الله له من الملك والشرف ؛ ليعرفوا أنه ليس هو المخصوص بالملك والشرف ، ولكن له في ذلك شركاء وإخوان أعطاهم الله مثل ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ).

قيل (١) : النحاس ، وقيل (٢) : الصفر ، قيل (٣) : أسيل له يعمل به ما أحبّ ، كما ألين لأبيه الحديد ؛ فيعمل به ما أحبّ من الدروع وغيرها بلا سبب ، والله أعلم.

وقوله : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ).

قيل (٤) : بأمر ربه ، أي : سخر الله الجن له ، وأمرهم بطاعته في جميع ما يأمرهم فيما أحبّ ، شاءوا أو كرهوا ، يخرج قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِ) على وجهين :

أحدهما : على التسخير له ؛ فيكون الإذن كناية عن التسخير.

والثاني : (بِإِذْنِ رَبِّهِ) ، أي : بأمر ربه ، أي : أمرهم ربهم أن يطيعوه في جميع ما يأمر وينهى.

وقوله : (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا) ، أي : عصاه فيما أمره به ، (نُذِقْهُ) ، ما ذكر.

يحتمل إضافة أمره إلى نفسه ؛ لما بأمره ما يستعملهم فيما يستعملهم ، والله أعلم.

وقوله : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ).

قال بعضهم (٥) : المحاريب هي المساجد.

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٨٧٤٧) ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢٨).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه الطستي عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢٨) ، وهو قول مجاهد وابن زيد.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٧٤٨) ، وهو قول عكرمة والسدي.

(٤) انظر تفسير ابن جرير (١٠ / ٣٥٤) ، والبغوي (٣ / ٥٥١).

(٥) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٨٧٥٣).

٤٣٢

وقال بعضهم (١) : هي القصور.

والمحاريب هي أشرف المواضع ، ذكرت كناية عن غيرها ، والله أعلم.

وقوله : وتمثيل.

قال بعضهم (٢) : هي التماثيل كهيئة تماثيل الرجال ، يصوّرون في المساجد تماثيل الرجال العبّاد الزهاد ، والملائكة ، والنبيين ، والرجال المتواضعين ؛ لكي إذا رآهم الناس مصورا عبدوا عبادتهم ، وتشبهوا بهم.

أو أن تكون تماثيل لا رأس لها ، نحو : الأواني والكيزان ونحوها.

أو أن يكون التماثيل يومئذ غير منهي العمل بها ، فأما اليوم فقد نهوا عن العمل بها ؛ مخافة أن يدعو ذلك إلى عبادة غير الله ؛ وكذلك غرّ إبليس قوما حتى عبدوا الأصنام ؛ وإلا ليس من الأصنام ولا فيها ما يغتر به المرء على عبادته ، والله أعلم.

وقوله : (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ).

قال بعضهم (٣) : أي : قصاع كالجواب ، كهيئة حياض الإبل ؛ حتى يجلس على القصعة الواحدة ألف وزيادة يأكلون منها.

وقال بعضهم (٤) : (وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) ، أي : كالجوبة من الأرض التي تحفر للماء ؛ يصف عظم ذلك ؛ ففيه أنهم كانوا يجتمعون في الأكل لا ينفردون به.

وقوله : (وَقُدُورٍ راسِياتٍ).

أي : كانوا يتخذون له قدورا عظاما في الجبال التي لا تحرك من مكان ، (راسِياتٍ) ، أي : ثابتات كما ذكر ، والجبال الرواسي ، أي : الثوابت.

وقال بعضهم (٥) : (وَقُدُورٍ راسِياتٍ) : هي القدور العظام التي أفرغت إفراغا وأكفيت ـ لعظمها ـ إكفاء ، وهما واحد ، والله أعلم.

وقوله : (اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً).

__________________

(١) قال قتادة : قصور ومساجد ، أخرجه ابن جرير (٢٨٧٥١) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢٩).

(٢) انظر تفسير البغوي (٣ / ٥٥٢).

(٣) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير (٢٨٧٦٣) وابن أبي شيبة وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢٩).

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٧٥٧) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢٩) ، وهو قول مجاهد وعطية.

(٥) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٢٨٧٦٤) ، وهو قول قتادة وابن زيد والحسن ، وغيرهم.

٤٣٣

قال بعضهم (١) : أي : اعملوا لآل داود شكرا ؛ لأنه ذكر أنه ليس من زمان في ليل ونهار إلا ويكون من آل داود صائم بالنهار ومصلّ بالليل ، أو كلام نحوه ؛ فأمروا بالشكر لهم.

وقال بعضهم (٢) : كأنه قال : اعملوا يا آل داود شكرا ، لما أعطيتكم من الملك والفضل.

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ).

أي : قليل من عبادي المؤمنين ، والشكور كناية عن المؤمن ؛ على ما ذكرنا في قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم : ٥] ، أي : لكل مؤمن ، والله أعلم.

قال أبو عوسجة والقتبي : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) ، أي : أذبنا له عين النحاس ، والشكور هو الفعول ، والفعول والفعال هما اللذان يكثران الفعل ؛ فكأن الشكور هو الذي يعتقد الشكر لربه ، ويشكر مع الاعتقاد ؛ فيكون منه الاعتقاد والمعاملة جميعا.

وقوله : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ).

دل هذا على أن موته كان بحضرة أهله وبمشهد منهم ؛ حيث ذكر : (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) ثم يذكر بعض أهل التأويل (٣) أنه سأل ربّه أن يعمّى على الجن موته ؛ حتى يعلم الإنس (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) ـ أعني : الجن ـ (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ).

وبعضهم يقول : سأل ربه أن يعمي على الجن موته ؛ حتى يفرغوا من بناء بيت المقدس ، فدأبوا حولا يعملون ، فلما فرغوا من بنائه خر سليمان ميتا من عصاه ، وكان متكئا عليها.

وبعضهم يقول : لما حضره الموت ـ وكان على فراشه في البيت ـ لم يكن على عصاه ؛ فقال : لا تخبروا الجن بموتي ؛ حتى يفرغوا من بناء بيت المقدس ـ وكان بقي عمل سنة ـ ففعلوا ، فلما فرغوا من بنائه ـ خرّ ؛ فعند ذلك علمت الجن بموته ، والله

__________________

(١) قاله ثابت البناني بنحوه ، أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد في الزهد وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٣٠).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٣٠).

(٣) ورد في معناه حديث عن ابن عباس

أخرجه ابن جرير (٢٨٧٧٧) ، والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني ، وابن السني في الطب ، والبغوي وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٣٢) ، وهو قول ابن مسعود وقتادة وابن زيد ، وغيرهم.

٤٣٤

أعلم.

وقوله : (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ).

في حرف ابن مسعود : فلما قضينا عليه الموت ، وهم يدأبون له حولا ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبينت الإنس على أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين (١) ؛ لأنهم كانوا يدّعون علم الغيب فابتلوا بذلك.

ودل قوله : (ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) على أنهم كانوا لا يدنون منه لأحد وجهين :

إما لهيبته وسلطانه على الناس ؛ فإن كان ذلك أطاع له كل شيء وخضعوا له : من الجن والطير والوحش وغير ذلك.

أو لما كان يكثر العبادة لله والخضوع له يتوحد ويتفرد بنفسه ، لم يجترئوا أن يدنوا منه ؛ وإلا لو دنوا منه لرأوا فيه آثار الموتى ، اللهم إلا أن يكون ما ذكر بعضهم أنه قال لأهله : لا تخبروا أحدا بموتي ، وأمرهم أن يكتموا موته ، والله أعلم.

وقوله : (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) ، قيل (٢) : المنسأة : العصا ، سمي : منسأة من المنسإ ؛ لأنه كان بها يؤخر ما أراد تأخيره ، وبها يدفع ما أراد دفعه.

ثم في إمساكه العصا أحد وجهين :

لما لضعفة في نفسه ؛ كان يتقوى بها في أمور ربه ، أو يمسكها ؛ لخضوعه لربه وطاعته له.

وفيه دلالة : أن الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ كانوا لا يشغلهم الملك وفضل الدنيا ، ولا الحاجة ولا الفقر عن القيام بأمر الله وتبليغ الرسالة إلى الناس ، وهما شاغلان لغيرهم ، وهم كانوا فريقين :

[فريق] قد وسع عليهم الدنيا نحو سليمان وإبراهيم وغيرهما ، وفريق قد اشتدت بهم الحاجة والفقر ، وكلاهما مانعان شاغلان عن القيام بأمور الله وتبليغ الرسالة ؛ ليعلم أنهم لم يأخذوا من الدنيا ما أخذوا ـ للدنيا. ولكن أخذوا للخلق ، ولله قاموا فيما قاموا لذلك ، لم يشغلهم ذلك عن القيام بما ذكرنا ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٣٢).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٧٧٠ ، ٢٨٧٧١) وعبد بن حميد ، وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٣٣) وهو قول مجاهد وقتادة والسدي ، وغيرهم.

٤٣٥

ودل قوله : (ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) أنه كان يأمرهم ويستعملهم في أمور شاقة وأعمال صعبة ؛ حيث ذكر لبثهم في ذلك لبثا في العذاب المهين ، والله أعلم.

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)(٢١)

وقوله : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ).

يحتمل الآية التي ذكر لهم في مساكنهم : الجنتين اللتين ذكرهما : إحداهما عن اليمين ، والأخرى عن الشمال ، ويكون لهم فيها عبرة ، فتحملهم على الشكر لربهم عليهما ، والحمد له ، والثناء عليه في تلك النعم.

أو يذكرهم قدرة خالقهم وسلطانه وهيبته ؛ فيحملهم ذلك على الخوف في العواقب ، والعقاب على خلافه ، ورجاء الثواب على طاعته ، فلم يتذكروا.

أو أن يكون الآية التي ذكر لهم في تبديل الجنتين اللتين كان لهم فيهما كل سعة وخصب ، وكل ألوان الفواكه والجواهر ، على غير مئونة تلحقهم ؛ لأنه قال في غير آي من القرآن : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الأنعام : ١١] فأخبر هاهنا لهم أن لهم في تبديل جنتيهم جنتين آية لو اعتبروا واتعظوا ؛ فلا يقع لهم الحاجة إلى النظر في آثار من تقدم منهم ، بل العبرة في ذلك لهم أكثر ؛ لأنهم عاينوا هذا على ما عاينوا من أنواع النعم ، ثم غير ذلك وبدّل عليهم ، وما تقدم منهم إنما يعرفون ذلك عن خبر يبلغهم ؛ لأن أصلهم قد هلكوا ، وهذا على المشاهدة والمعاينة.

وقوله : (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ).

قيل : عن يمين الوادي وشماله ، ويحتمل : عن يمين الطريق وشماله ؛ فتكون عن يمينهم وشمالهم.

وقوله : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ).

٤٣٦

كأنه قالت لهم الرسل : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) ؛ إذ ذكر أنه بعث فيهم كذا كذا رسولا.

ثم وصف بلدة سبأ أنها طيبة ؛ حيث قال : (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) :

يحتمل ما ذكر من طيبها : هو سعتها وكثرة ريعها ومياهها وألوان ثمارها وفواكهها.

وقوله : (وَرَبٌّ غَفُورٌ) ، أي : إن ربكم إن شكرتم فيما رزقكم وأنعم عليكم رب غفور لذنوبكم.

أو يقال : (وَرَبٌّ غَفُورٌ) ، أي : ستور ، يستر عليكم ذنوبكم ، ولا يفضحكم إذا صدقتموه ، وأطعتموه ، وشكرتم نعمه.

ذكر أن المرأة منهم كانت تحمل المكتل على رأسها ، والمغزل بيدها ، فتدخل البستان ؛ فتمتلئ مكتلها من ألوان الفواكه والثمار من غير أن تمس شيئا بيدها ؛ لكثرة ريعها ونزلها ، والله أعلم.

ثم ذكر سبب تبديل الجنتين اللتين كانت لهم ، وبم كان التبديل؟ وهو ما قال : (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ).

قال بعضهم (١) : كان أهل سبأ إذا مطروا يأتيهم السيل من مسيرة شهر أياما كثيرة ، فعمدوا فسدّوا العرم ، وهو الوادي ما بين الجنتين ، بالصخرة والقبو ، وجعلوا عليه الأبواب ، فلما عصوا ربهم ، فأعرضوا عنه ، وكفروا نعمه ؛ فسلط الله عليهم ـ على ذلك السدّ الذي بنوا الفأرة ؛ فنقبت الردم ، فغشي الماء أرضهم ؛ فعقر أشجارهم ، وأباد أنعامهم ، ودفن محاريثهم ، وذهب بجناتهم.

ومنهم من يقول (٢) : (الْعَرِمِ) : وهو المسنّاة ، واحدها : عرمة ، فذهب السيل الذي أرسل عليهم بالمسناة ؛ فيبست جناتهم ، وأبدل لهم مكان الثمار والأعناب ما ذكر من الخمط والأثل والسدر ؛ حيث قال : (ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ).

الأكل القليل هو الثمر ، والخمط : الأراك.

وقال بعضهم : شجر العضاة ، وهي شجر ذات شوك ، والأثل ، قيل (٣) : هو شبيه

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٧٩٣) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٣٧) ، وهو قول الضحاك أيضا.

(٢) قاله عمرو بن شرحبيل ، أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٣٧).

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٨٨٠٨) وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٣٧).

٤٣٧

بالطرفاء إلا أنه أعظم منه ، والسدر هو معروف عندهم.

وقال أبو عوسجة قريبا من ذلك ، قال : الأكل : الحمل ، والخمط عندي : السدر وحمله ، [و] قال : الخمط : الريح الطيبة ، وتقول : هذا شجر له خمطة ، أي : ريح طيبة ، والخمط : أن تأخذ شيئا من هنا وثمة ، وتخلطه ، والأثل : شجر أيضا لا حمل فيه.

والزجاج يقول : الأثل هو الثمرة التي فيها المرارة تذهب تلك المرارة بطعمها ، أو كلام نحوه.

وقوله : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا).

أخبر أنه جزاهم بما كفروا نعمه ، ولم يشكروا ربهم عليها.

وقوله : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) ، لله في نعمه.

وقوله : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً).

قيل (١) : متواصلة بعضها ببعض من أرضهم إلى الشام ، على كل ميل قرية وسوق وكل شيء فيها.

(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) من الجوع والعطش والسباع وكل ما يخاف منه.

ثم جائز أن يكون ما ذكر من القرى الظاهرة كان لهم مع الجنان التي ذكرنا بدءا ؛ فيكون هذا موصولا بالأول ؛ فلما لم يشكروا ربهم في ذلك كله ـ أبدل لهم الكل بما ذكر.

وجائز أن يكون لا على الصلة بالأول ؛ ولكن على ما ذكر بعض أهل التأويل : أنه لما غيّر عليهم ذلك وأبدل ـ ضاق بهم الأمر ؛ فمشوا إلى رسلهم ، فقالوا : ادعوا ربكم فليردّ علينا ما ذهب عنا ، ونعطيكم ميثاقا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ، فدعوه ، فردّ الله عليهم ، وجعل لهم ما ذكر من قرى ظاهرة ؛ فذكّرهم الرسل [ما] وعدوا ربهم ؛ فأبوا ؛ فغيّر ذلك.

وسبأ : ذكر أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أخبرني عن سبأ أجبل هو أم أرض؟ قال : فقال له : «لم يكن جبلا ولا أرضا ، ولكن كان رجلا من العرب ولد عشر قبائل : فأمّا ست فتيامنوا وأما أربع فتشاءموا» (٢).

__________________

(١) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير (٢٨٨١٦) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٣٨) وهو مرسل ابن أبي مليكة أيضا.

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٧٥) في التفسير : باب «ومن سورة سبأ» (٣٢٢٢) ، وأبو داود (٢ / ٤٣٠) كتاب الحروف والقراءات (٣٩٨٨) ، وابن جرير (٢٨٧٨٢ ، ٢٨٧٨٤) وأحمد وعبد بن حميد ، والبخاري في تاريخه وابن المنذر ، والحاكم وصححه وابن مردويه عن فروة بن مسيك ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٣٤).

٤٣٨

وقال بعضهم : كان سبأ رجلا اسمه : سبأ ، وسبأ هم الذين ذكرهم الله في سورة النمل.

وقال بعضهم : هو اسم قرية.

وفي قوله : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ) ـ دلالة خلق الأفعال ؛ لأنه أخبر أنه جعل بينهم وبين القرى المباركة قرى ظاهرة ، والقرى : ما اتخذها أهلها ، ثم أخبر أنه جعل ذلك ، والجعل منه خلق ؛ دل أنه خلق أفعال العباد ، وأخبر ـ أيضا ـ أنه قدر السير فيها ، والسير هو فعل العباد ، والتقدير هو الخلق أيضا ؛ دل أنه خلق سيرهم ، وخلق اتخاذهم القرى ، وذلك على المعتزلة ؛ لإنكارهم خلق أفعال العباد.

وقوله : (قُرىً ظاهِرَةً) ، قال عامة أهل التأويل (١) : قرى متواصلة بعضها ببعض ، يسيرون من قرية إلى قرية ، وينزلون فيها من غير أن تقع لهم الحاجة أو يلحقهم مئونة.

وجائز أن يكون قوله : (قُرىً ظاهِرَةً) نعمها بينة.

وقوله : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) ، يحتمل قوله : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) ، أي : قدرنا فيها السير ؛ لتسيروا فيها.

أو على الأمر ، أي : قدرنا فيها السير ، وقلنا لهم : سيروا فيما أنعم الله عليكم ، وتقلبوا فيها ليالي وأياما آمنين من الجوع والعدو وكل آفة.

وقال بعضهم (٢) في قوله : (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) أي : جعلنا ما بين القرية والقرية مقدارا واحدا.

وقوله : (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا).

فيه لغات من خمسة أوجه :

أحدها : ربنا بعد.

و [الثاني] : بعد ، كلاهما على الدعاء والسؤال.

والثالث و [الرابع] : بعد (٣) وبعد.

قال أبو معاذ : ولو لا تغيير الكتابة لكان يجوز «بوعد».

ومن قرأه (رَبَّنا باعِدْ) على الخبر ، وكذلك بعد ، ومن قرأه (باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) يخرج على الشكاية عما بعد من أسفارهم.

__________________

(١) تقدم أنه قول الحسن وابن أبي مليكة.

(٢) انظر تفسير ابن جرير (١٠ / ٣٦٧).

(٣) ثبت في حاشية أ : بعّد ، بعّد ، بعد بين ، بعد بين. كافى.

٤٣٩

فأمّا على السؤال والدعاء فهو ـ والله أعلم ـ لأنهم سئموا وملوا ؛ لكثرة ما أنعم الله عليهم ، ورفع عنهم المؤن ، وطال مقامهم فيها ، سألوا ربهم أن يحول ذلك عنهم ؛ سفها منهم وجهلا ، وكان كقوم موسى : حين أنزل عليهم المن والسلوى ، ورفع عنهم المؤنة سئموا وملوا في ذلك ، وقالوا (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) [البقرة : ٦١] ، وما ذكروا ، فعلى ذلك هؤلاء.

ومن قرأ (باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) ؛ على الشكاية ـ شكا إلى ربّه لما ذهب عنهم السعة والخصب ، وأصابهم الجهد والمؤنة.

وأمّا قوله : (باعِدْ) على الخبر ؛ فكأنه كانت فيهم ، وذلك كله منهم : [فيهم] من سأل تحويله ، وفيهم من شكا إذا زال ذلك وتحول ، وفيهم من أخبر بزواله.

وعلى ذلك يخرج قول موسى لفرعون ، حيث قال : (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢] لا أنه كان أحدهما ؛ فعلى ذلك الأول وما يشبه ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ).

أي : أهلكناهم كل إهلاك ؛ حتى صاروا عظة وعبرة لمن بعدهم.

وقال : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) للناس ؛ على حقيقة الحديث ، يتحدثون بأمرهم وشأنهم.

(وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ).

أي : فرقناهم كل تفريق ، أي : في كل وجه التفريق ؛ حتى وقع بعضهم بمكة ، وبعضهم بالمدينة ، وبعضهم بالشام ، وبعضهم بالبحرين وعمان ، ونحوه والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).

يحتمل أن يكون الصبار والشكور هو المؤمن ؛ كأنه قال : إن في ذلك لعبرا وعظات لكل مؤمن.

أو آيات لكل صبار على طاعة الله وأمره ، شكور لنعمه.

أو آيات لكل صبار على البلايا والمحارم ، شكور لنعم الله.

ثم يخرج على وجهين :

أحدهما : في الاعتقاد له.

والثاني : في المعاملة.

يعتقد الصبر لربه على جميع أوامره ونواهيه ، والشكر له على جميع نعمائه ،

٤٤٠