تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) ، أي : ضمنت أجورهن وقبلت ؛ ويكون الإيتاء عبارة عن القبول والضمان ؛ وذلك جائز نحو قوله : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة : ٥] هو على القبول ، تأويله : فإن تابوا وقبلوا إيتاء الزكاة ؛ فخلوا سبيلهم ، هو على القبول والضمان ليس على فعل الإيتاء نفسه ؛ إذ لا يجب إلا بعد حولان الحول ، وكذلك قوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) [التوبة : ٢٩] إلى قوله : (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) [التوبة : ٢٩] ليس على نفس الإعطاء ؛ ولكن حتى يقبلوا الجزية ؛ إذ الإعطاء إنما يجب إذا حال الحول ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) ، أي : قبلت أجورهن وضمنت.

والثاني : (إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي) هن لك إذا (آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) ، أي : قبلت ؛ معناه : إنا أحللنا لك إبقاءهن إذا آتيت أجورهن.

وفيه دلالة : أن المهر قد يسمى أجرا ؛ فيكون قوله : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [النساء : ٢٤] ، أي : مهورهن ؛ فيكون الاستمتاع بهن استمتاعا في النكاح ؛ فعلى ذلك يجوز أن يكون قوله : (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ؛ فيكون الخلوص له بلا أجر لا بلفظة «الهبة» ؛ لأنه ذكر على أثر ذكر حل أزواجه بالأجر ؛ كأنه قال : إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن ، وأحللنا لك ـ أيضا ـ امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها بلا أجر خالصة لك من دون المؤمنين بغير أجر ؛ لأن خلوص الشيء إنما يكون إذا خلص له بلا بدل ولا مئونة ، فأما أن يكون الخلوص بلفظة دون لفظة فلا.

وبعد فإنه قد ذكر في آخر الآية ما يدل على ما ذكرنا ؛ وهو قوله : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) ؛ دل هذا أن خلوص تلك المرأة له ب «قد ...» ؛ فإن ذكر هذا له خرج مخرج الامتنان عليه ؛ فلا منة له عليه في لفظة «الهبة» ، ليست تلك في لفظة «التزويج» ، يقول مكان قوله : (وَهَبَتْ) : «زوجت» ؛ دل أن المنة له عليه فيما صارت له بلا مهر ، لا في لفظة «الهبة».

أو أن يكون قوله : (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) في الآخرة ، أي : لا تحل لأحد سواك إذا تزوجتها وصارت من أزواجك ، فأمّا أن يفهم من قوله (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) بلفظة «الهبة» فلا ؛ إذ لا فرق بين أن تقول : «وهبت» ، وبين أن تقول : «زوجت».

٤٠١

وبعد : فإن كثيرا من الصحابة وأهل التأويل ، من نحو : عبد الله بن مسعود ، وابن عباس وغيرهما ـ رضي الله عنهم ـ لم يفهموا من قوله : (خالِصَةً لَكَ) بلفظة دون لفظة ، حتى روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال في قوله : (إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَ) : «هن الموهوبات» ، فما بال الشافعي في فهم ذلك ما ذكر؟! وبعد فإنه ليس من عقد إلا وهو يحتمل الانعقاد بلفظة «الهبة» من البياعات والإجارات وغيرها ؛ فعلى ذلك النكاح ، والله أعلم.

وقوله : (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ).

أي : قد أحللنا لك ما ملكت يمينك ، وأحللنا لك أيضا ، (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ).

ثم جائز أن يكون حل بنات من ذكر من الأعمام والأخوال للناس بهذه الآية ؛ لأنهن لم يذكرن في المحرمات في سورة النساء ؛ فيكون ذكر حلهن لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكرا للناس كافة ، كما كان ذكر حل نكاح حليلة زيد بن حارثة له حلا للناس في أزواج حلائل التبني ؛ حيث قال : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) [الأحزاب : ٣٧] ؛ فعلى ذلك الأول.

أو أن يكون معرفة حل نكاح بنات الأعمام والعمات ومن ذكر بقوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] ؛ إذ ذكر المحرمات في الآية على إبلاغ : ما كان بنسب ، وما كان بسبب ، ثم قال : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] ؛ فيكون ما وراء المذكورات محللات بظاهر الآية ، إلا ما كان في معنى المذكورات في الحرمة ، والله أعلم.

وقوله : (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ).

لم يفهم أحد من قوله : (هاجَرْنَ مَعَكَ) : الهجرة معه حتى لا يتقدمن ولا يتأخرن ؛ بل دخل في قوله : (مَعَكَ) من هاجر منهن من قبل ومن بعد ، والله أعلم.

وقوله : (ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ).

قال بعضهم : ما فرضنا على الناس ، (فِي أَزْواجِهِمْ) ، وهن أربع نسوة لا تحل الزيادة على الأربع ، (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ، وهي الجواري والخدم يجوز الزيادة على ذلك وإن كثرن.

وقال بعضهم : كان مما فرض الله ألا يتزوج الرجل إلا بولي ومهر وشهود ، إلا النبي خاصة ؛ فإنه يجوز له أن تهب المرأة نفسها بغير مهر وبغير ولي ، والله أعلم.

وقوله : (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) ، (فَرَضْنا) : أي بينا ما يجوز وما لا

٤٠٢

يجوز ، أي : بين ذلك كله في الأزواج.

أو (فَرَضْنا) : أوجبنا عليهم في أزواجهم من الأحكام والحقوق ونحوها ، والله أعلم.

وقوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) : اختلف فيه :

عن الحسن قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها النبي أو يتزوجها ، وإذا ترك خطبتها كان لغيره أن يخطبها ، ثم إذا خطبها رسول الله ، لم يكن لأحد أن يخطبها بعد ذلك ، إلا أن يترك خطبتها ، أو كلام نحوه ؛ فيصرف تأويل الآية إلى ما ذكرنا. وكذلك يقول قتادة : إن الآية في الخطبة.

وقال بعضهم : هذا في قسمة الأيام بينهن كان يسوي بينهن قسمين ، فوسع الله عليه في ذلك ، فأحل له ، فقال : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) ، أي : من نسائه ، أي : تترك من تشاء منهن ، فلا تأتيها ، (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) ، فتأتيها.

(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ) ، يقول : ممن اخترت من نسائك أن تأتيها فعلت ، فقال : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَ) على ترك القسم إذا علمن أن الله قد جعل لك ذلك حلالا ، وأنزل فيهن الآية ، (وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) ، إذا علمن أن الرخصة جاءت من الله ـ تعالى ـ له ، كان أطيب لأنفسهن ، وأقل لحزنهن من ترك ذلك.

وقال بعضهم : إن أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم اللاتي كن تحته خشين أن يطلقهن ؛ فقلن : يا رسول الله ، اقسم لنا من نفسك ومالك ما شئت ولا تطلقنا ؛ فنزل : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) ، أي : تعتزل من تشاء منهن أن تعتزل بغير طلاق ، (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ) ، أي : ترد وتضم من تشاء منهن إليك ؛ (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ).

وقال بعضهم : الآية في ترك نكاح ما أباح له من القرابات من يشاء منهن ، وفي الإقدام على نكاح من يشاء منهن ؛ لأنه على أثر ذلك ذكر ، يقول : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) ، يعني : من بنات العم والعمة والخال والخالة ، فلا تزوجها ، (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ) ، أي : تضم إليك من تشاء منهن فتزوجها.

فنقول : خير الله رسوله في نكاح القرابة ؛ فذلك قوله : (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) منهن فتزوجها ، و (مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) ، أي : لا حرج عليك في ذلك ؛ (ذلِكَ أَدْنى) ، يقول : أجدر وأحرى وأقرب (أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) ، أي : النساء اللاتي عندك واخترتهن ، (وَلا يَحْزَنَ) إذا علمن ألا تتزوج عليهن ، ويرضين بما آتيتهن كلهن من النفقة ، وكان في نفقتهن قلة.

وجائز أن يكون قوله : (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) ، ذلك حين خيرهن رسول الله بين اختيار الدنيا وزينتها ، وبين اختيار رسول الله

٤٠٣

والدار الآخرة ؛ فاخترن رسول الله ، يقول ـ والله أعلم ـ : إذا اخترن المقام عند رسول الله والدار الآخرة ، فاخترن رسول الله (ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَ) عن قلة النفقة والجماع ، (وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) من النفقة وغيره.

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) ، من الحب والرضا ، (وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً).

وقوله : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ).

اختلف في قوله : (مِنْ بَعْدُ).

قال قائلون : من بعد اختيارهن رسول الله والدار الآخرة ؛ لأن الله لما خيرهن بين اختيار الدنيا وزينتها ، وبين اختيار رسول الله والدار الآخرة ، فاخترن رسول الله والدار الآخرة قصره الله عليهن ، فقال : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) أي : من بعد اختيارهن المقام معك.

(وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) :

فإن كان على هذا فيخرج الحظر والمنع مخرج الجزاء لهنّ والمكافات ؛ لما اخترنه على الدنيا وما فيها ؛ لئلا يشرك غيرهن في قسمهنّ منه. وروي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : اشترطنا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما اخترناه والدار الآخرة : ألا يتزوج علينا ، ولا يبدل بنا من أزواج.

ثم استثنى ما ملكت يمينه ؛ لأنه لا حظ لهن في القسم.

وقال بعضهم (١) : قوله (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) ، أي : من بعد المسلمات : كتابيات لا يهوديات ولا نصرانيات : ألا يتزوج يهودية ولا نصرانية ؛ فتكون من أمّهات المؤمنين ، (إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) أي : لا بأس أن تشتري اليهودية والنصرانية ؛ فإن كان على هذا ، ففيه حظر الكتابيات لرسول الله لما ذكر خاصّة ، وأمّا المؤمنون : فإنه أباح لهم نكاح الكتابيات ؛ بقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [المائدة : ٥] ؛ فيكون حل الكتابيات للمؤمنين دون النبي بإزاء الزيادة والفضل الذي كان يحل لرسول الله.

وقال بعضهم (٢) : قوله (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) ، أي : من بعد المذكورات المحللات له في الآية التي قبل هذه الآية من بنات العم والعمات وبنات الخال والخالات ؛ يقول : لا يحل لك من النساء سوى من ذكر أن تتزوجهن عليهن ، ولا

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٨٥٨٩) ، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٩٩).

(٢) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير (٢٨٥٨٨).

٤٠٤

تبديلهن ، (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) ، والله أعلم.

وقوله : (لا يَحِلُّ لَكَ) أن تتزوج عليهن بعد اختيارهن لك والدار الآخرة على الدنيا وما فيها من الزينة.

أو أن يكون على التحريم نفسه في الحكم ، وليس لنا أن نفسّر أي تحريم أراد؟ تحريم الحظر والمنع في الخلق ، أو تحريم الحكم ؛ لأن ذلك كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقد كان عرفه أنه ما أراد بذلك ، والاشتغال به فضل.

والتبديل بهن يحتمل في التطليق : يطلقهن ، فيتزوج غيرهن.

ويحتمل بالموت : إذا متن ـ أيضا ـ لم يحل له أن ينكح غيرهن ، والله أعلم.

قال أبو عوسجة : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) ، أي : تحبس من تشاء منهن ولا تقربها.

وقال القتبي (١) : (تُرْجِي) ، أي : تؤخر ؛ يقال : أرجيت الأمر ، وأرجأته ، وكذلك قالوا في قوله : (أَرْجِهْ وَأَخاهُ) [الأعراف : ١١١] ، قال بعضهم : احسبه. وقال بعضهم : أخره.

وقوله : (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ) ، أي : تضم.

وقوله : (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) ، أي : حفيظا ، وقيل : شاهدا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً)(٥٥)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ).

يحتمل النهي عن دخول بيوت النبي وجهين :

أحدهما : لا تدخلوا بيوت النبي بغير إذن كما يدخل الرجل على ـ أمه ـ وإن كن هن كالأمهات لكم ـ بغير إذن ؛ فيكون النهي عن الدخول في بيته نهيا عن الدخول بغير إذن ؛

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن (٣٥١).

٤٠٥

كقوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) [النور : ٢٧].

ويحتمل : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) ضيفا (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ) : إلا أن تدعوا إلى طعام ؛ لأن رسول الله كان إذا هيئوا له شيئا من الطعام دعا أصحابه ؛ فيأكلونه ، وكان لا يمسك ولا يدخر فضل الطعام لوقت آخر ، فإذا نزل به ضيف ، ولم يكن عنده ما يقدم إليه استحيا وشق عليه ذلك ؛ فنهوا عن الدخول عليه والنزول به ضيفا ؛ لما ذكرنا ، وأمروا بالانتظار إلى أن يدعوا إلى الطعام ؛ فعند ذلك يدخلون عليه ويضيفونه.

فإن كان الأوّل : ففيه الأمر بالحجاب والنهي عن الدخول بلا استئذان.

وإن كان الثاني : ففيه النهي عن النزول به ضيفا قبل أن يدعوا ؛ لما ذكرنا ؛ ويكون الأمر بالحجاب في قوله : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ).

وقال بعضهم (١) : ذكر هذا ؛ لأن أناسا من المسلمين كانوا يتحينون طعام رسول الله وغداه ، فإذا حضر ذلك دخلوا عليه بغير إذن ؛ فجلسوا في بيته ينتظرون نضج الطعام وإدراكه ؛ فنهوا عن ذلك ، وكانوا إذا أكلوا وفرغوا منه ، جلسوا في بيته ، ويتحدثون ، ويستأنسون ؛ فنهوا عن ذلك ، وأمروا بالانتشار والخروج من عنده وعند نسائه ، ولم يكن يحتجبن قبل ذلك منهم ؛ فشق ذلك على النبي ، والله أعلم.

وجائز أن يكون الأمر بالانتشار والخروج من عنده ؛ لما كان لرسول الله أمور وعبادات يحتاج إلى القيام بها : إما بينه وبين الله ، أو بينه وبين غيرهم من الناس ، فكانوا يشغلونه عن ذلك ؛ فنهوا عن ذلك لذلك.

أو لما ذكر بعض أهل التأويل من الحاجة له في أزواجه والخلوة بهن وقت القيلولة ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ).

الدخول عليه بغير إذن ؛ أو الانتظار لنضج الطعام وإدراكه ، أو الجلوس بعد فراغهم من الطعام والحديث ، أو ما كان.

وقوله : (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ).

ورسول الله ـ أيضا ـ كان لا يستحي من الحق ، لكنه يستحيي أن يقول لهم : «اخرجوا من منزلي ولا تدخلوا عليّ» ، ونحوه ؛ لما يقبح ذلك في الخلق أن يقول الرجل لآخر : «لا تدخل منزلي» أو «اخرج من منزلي» ؛ لما يرجع ذلك إلى دناءة الأخلاق والبخل ، فلما

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٦٠١) وهو قول مجاهد وقتادة.

٤٠٦

أنزل الله ـ تعالى ـ الآية ، وأمر أن يقول لهم ما ذكر قال لهم ، وأخبرهم بذلك ؛ فلم يستح عند ذلك ؛ لما صار ذلك من حق الذين فرضا عليه لازما أن يعلمهم الآداب ، ويخبر عما يلزمهم من حق الدين ، وكان قبل ذلك في حق الملك وحق النفس ، فلما أنزل الله الآية ، وأمر بذلك صار من حق الدين ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) ، أي : لا يدع ولا يترك أن يعلمهم الحق والأدب ، وقد ذكرنا معناه في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ...) الآية [البقرة : ٢٦].

وقوله : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ).

جائز أن يكون المعنى الذي يكون أطهر لقلوب الرجال غير المعنى الذي يكون أطهر لقلوبهن : ذلك المعنى الذي يكون أطهر لقلوبهم : من الفجور والهم لقضاء الشهوة ، وما تدعوه النفس إليه ، (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) : من العداوة والضغينة ، لا الفجور وقضاء الشهوة ؛ وذلك أنهن قد عرفن أنهن لا يحللن لغيره نكاحا ؛ لما اخترنه والدار الآخرة على الدنيا وزينتها ، وقد أوعدن بارتكاب الفاحشة العذاب ضعفين ، على ما ذكر ، وذلك يمنعهن ويزجرهن عن ارتكاب ذلك فإذا كان كذلك ، فإذا عرفن من الداخلين عليهن والناظرين إليهن نظر الشهوة وقع في قلوبهن لهم العداوة والضغينة ؛ فيقول : السؤال من وراء الحجاب أطهر لقلوبكم من الفجور والريبة وأطهر لقلوبهن من العداوة والضغينة ، والله أعلم.

وجائز أن يكون ذلك واحدا ، وهو الريبة والفجور ؛ لما مكن فيهن من الشهوات ، وركب فيهن من فضل الدواعي إلى ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً).

قال بعض أهل التأويل (١) : إن [نساء] الرسول لما احتجبن بعد نزول آية الحجاب ، ونهوا عن الدخول عليهن والنظر إليهن ـ قال رجل : أننهى أن ندخل على بنات عمنا وبنات عماتنا وبنات خالنا وخالاتنا؟ أما ـ والله ـ لئن مات لأتزوجن فلانة ـ ذكر امرأة من نسائه ـ فنزل (وَما كانَ) أي : لا يحل (لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) ، لكن هذا قبيح ؛ لا يحتمل أن أحدا من الصحابة يقول ذلك ، أو واحدا ممّن صفا إيمانه به وحسن إسلامه ، أن يخطر بباله ذلك إلا أن يكون منافقا.

ويحتمل : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) فيما تقدم ذكره ، (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا

__________________

(١) قاله طلحة بن عبيد الله ، أخرجه السدي عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٠٤).

٤٠٧

أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) ابتداء نهي.

وجائز أن يكون : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) في نكاح أزواجه ؛ فيكون أذاهم رسول الله في نكاح أزواجه من بعده ، ولو كان لا يحل أزواجه للناس ؛ لما يذكر بعض أهل التأويل : لأنهن أمهات ـ لم يحتج إلى النهي عن نكاحهن بعده ؛ إذ لا أحد يقصد قصد نكاح الأم ، ولكن كان يحل لهم ذلك ، وكان المعنى في ذلك ما ذكرنا من التعظيم له والاحترام ؛ حتى نهاهم عن نكاح أزواجه من بعده ، وجعله في حرمة أزواجه على غيره بعد وفاته ؛ كأنه حي ، وكذلك جعل في حق ماله وملكه في منع الميراث لوارثه ؛ كأنه حيّ لم يرث ماله وارثه ، بل جعل باقيا أبدا على ملكه ، وكذلك أزواجه ، وكذلك جعل في حق الرسالة والنبوة ؛ كأنه حيّ ، لم تنسخ شريعته بعد وفاته بشريعة أخرى ، كما نسخت شريعة الأنبياء الذين كانوا قبله إذا ماتوا بشريعة أخرى ؛ بل جعله كأنه حيّ في إبقاء شريعته إلى يوم القيامة ؛ فعلى ذلك جعل في أزواجه كأنه حيّ في حرمة أزواجه في الآخرة ؛ وعلى ذلك يخرج تأويل قوله ـ عندنا ـ : (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [الأحزاب : ٥٠] ، أي : هي لك خالصة لا تحل لأحد بعدك ؛ فتكون زوجته في الجنة ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً).

يحتمل [كان] أذى رسول الله ونكاح أزواجه عند الله عظيما ، أو عظيما في العقوبة عند الله.

وقوله : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ) ، أي : تبدوا شيئا للعباد ، أو تخفوه عنهم.

(فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً).

أي : ما أبديتم وما أخفيتم ؛ (عَلِيماً) لا يخفى عليه شيء ؛ يذكر هذا ؛ ليكونوا أبدا على حذر وخوف ، والله أعلم.

وقوله : (لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَ).

أي : لا حرج ولا مأثم على النساء في دخول من ذكر عليهن بلا إذن ولا حجاب من (آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَ).

ذكر هؤلاء ، ولم يذكر الأعمام ولا الأخوال ؛ فقال بعضهم : إنما لم يذكر هؤلاء ، ولم يبح لهم في ذلك ؛ لأنهن يحللن بالنكاح لأولاد الأعمام والأخوال ، فإذا دخلوا عليهن ، فرأوهن متجردات متزينات ؛ فيصفوهن لأولادهم ، وقد يصف الرجل لولده حسن المرأة وقبحها ؛ فينزل وصفهم إياهن لأولادهم منزلة رؤيتهم بأنفسهم ؛ فيزيد لهم رغبة فيهن أو

٤٠٨

رهبة عنهن ، والله أعلم.

وقال بعضهم : إنما لم يذكر الأعمام والأخوال ؛ لما في ذكر المذكور من بني الإخوة وبني الأخوات غنى عن ذكر الأعمام والأخوال ؛ لأنهم جميعا من جنس واحد ومن نوع واحد في معنى واحد ، وقد يكتفى بذكر طرف من الجنس ؛ إذا كان في معنى المذكور ، نحو ما ذكر من أجناس المحرمات على الإبلاغ ، وترك من كل جنس شيئا لم يذكره ؛ إذ الذي لم يذكره هو في معنى المذكور ؛ ففي ذكر من ذكر غنى عن الذي لم يذكر ؛ فعلى ذلك في ذكر بني الإخوة وبنى الأخوات غنى عن ذكر الأعمام والأخوال ؛ إذ هم في معناهم ، والله أعلم.

وجائز أن يكون لم يبح الدخول للأعمام والأخوال ؛ لأنهم إذا دخلوا عليهن فرأوهن متجردات ؛ فلعل بصرهم يقع على فروجهن ؛ فينظر إليها بشهوة ؛ فيحرمن على أولادهم ، وهم إذا تزوجوهن لم يعلموا أنهن محرمات عليهم ؛ فمنع دخول الأعمام والأخوال عليهن لذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا نِسائِهِنَ) ، قال بعضهم (١) : أي : نساء المسلمات ، يقول : خص نساء المسلمات ، وأباح لهن الدخول عليهن بلا إذن ، وأن يرينهن متزينات ، ولم يبح ذلك لليهوديات والنصرانيات وأمثالهن ؛ مخافة أن يصفن ذلك لأهل دينهن ؛ فيكون ذلك سبب افتتانهم بهن والرغبة فيهن ، والله أعلم.

وقال بعضهم : نساؤهن : قراباتهن ، خص هؤلاء من بين غيرهن من الأجنبيات ، وذلك يحتمل وجهين :

أحدهما : ما ذكرنا من خوف وصف الأجنبيات لأزواجهن والمتصلين بهن ؛ من حسنهن وزينتهن إذا رأينهن متجردات متزينات ، ولا يخاف ذلك من قراباتهن.

والثاني : خص القرابات ؛ لما بهن ابتلاء ، وليس بالأجنبيات ذلك ، وقد يخفف الحكم ربما فيما فيه الابتلاء ، ويغلظ فيما هو أخف منه ودونه ؛ إذا لم يكن فيه ابتلاء ؛ وعلى ذلك جائز أن يقال : إن الأعمام والأخوال لم يذكروا في الآية والرخصة ؛ لأنه ليس بهم ابتلاء ، وبمن ذكر ابتلاء ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ).

يحتمل الإماء خاصّة ؛ كقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٠٥).

٤٠٩

مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٥ ، ٦] : لم يفهموا منه سوى الإماء ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون المفهوم في قوله : (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) الإماء ، ويحتمل الإماء والعبيد جميعا ؛ فإن كان على الإماء والعبيد جميعا ، فذلك ـ والله أعلم ـ إنما أباح الدخول للعبيد على مولياتهم بلا إذن ؛ لأنهم إنما يدخلون عليهن عند حاجاتهن إليهم في أوقات معلومة ، وهن في تلك الأوقات يكنّ متأهبات لدخولهم عليهن محجبات عنهم ؛ وعلى ذلك يخرج ما روى أن مكاتبا لعائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ كان يدخل عليها ، فلما أدى فعتق منعته من الدخول عليها ، وهو لما ذكرنا : أنه كان يدخل عليها لوقت حاجتها إليه ، وهي كانت متأهبة لدخوله عليها ، وإلا لا يحتمل أن يكون يدخل عليها ويراها متجردة أو متزينة ، بعد ما أمرن بالاحتجاب ؛ فعلى ذلك العبيد لا يحل لهم النظر إلى مولياتهم ولا يكونون محرما لهن.

أو إن احتمل الآية العبيد ؛ فهم بالإذن يدخلون لا بغير إذن ؛ فيكون الإذن مضمرا فيه.

ثم قال : (وَاتَّقِينَ اللهَ).

فيما ذكر من إباحة دخول من لم يبح دخوله عليهن والنظر إليهن.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) ، هذا تحذير وتوعيد لهن ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (٥٧) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٥٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٩) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً)(٦٢)

وقوله : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

ذكر في بعض الحديث : أنه لما نزلت هذه الآية ، قيل له : يا رسول الله ، هذا لك فما لنا؟ فنزل قوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ...) الآية [الأحزاب : ٤٣] : قد بين ما صلاته وصلاة الملائكة؟ وهو ما ذكر من إخراجهم من الظلمات إلى النور ، وهو دعاؤهم إلى الهدى والرشد ، وذكر عن كعب بن عجرة قال : لما

٤١٠

نزل : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) قمت إليه ، فقلت : يا رسول الله ، السلام قد عرفناه ؛ فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال : «قل : اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ؛ إنك حميد مجيد ، وبارك على محمد ، وعلى آل محمد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم» (١).

ففي الآية الأمر للمؤمنين أن يصلوا على النبي ، ثم لما سئل هو عن كيفية الصلاة عليه وماهيتها؟ قال لهم : أن تقولوا : «اللهم صل على محمد» ، وهو سؤال أن يتولى الرب الصلاة عليه.

وفي ظاهر الآية : هم المأمورون بتولي الصلاة بأنفسهم عليه ، لكنه ـ صلوات الله [عليه] ـ لما أمروا بالصلاة عليه ، وهي الغاية من الثناء ، لم ير في وسعهم وطاقتهم القيام بغاية ما أمروا به من الثناء عليه ـ أمرهم أن يكلوا ذلك إلى الله ويفوضوا إليه ، وأن يسألوه ليتولى ذلك هو دونهم ؛ لما [لم] ير في وسعهم القيام بغاية الثناء عليه ، وإلا ليس في ظاهر الآية سؤال الرب أن يصلي هو عليه ؛ ولكن فيها الأمر : أن صلوا أنتم عليه ، والله أعلم.

وقوله : «كما صليت وباركت على إبراهيم وآله» : تخصيص إبراهيم من بين غيره من الرسل يحتمل ما ذكره أهل التأويل : إنه ليس من أهل دين ومذهب إلا وهو يدعي ويزعم أنه على دينه ومذهبه ، وأنه يتأسّى به ؛ لذلك خصّه بالصلاة عليه من بين غيره من الأنبياء وجائز أن يكون لا لهذا ؛ ولكنه لمعنى كان فيه وفي ذريته ، لا نعرفه نحن ؛ فخصّه بذلك من بين غيره ، والله أعلم.

وقوله : «وبارك على محمد» البركة كأنها اسم كل خير يكون أبدا على النماء والزيادة في كل وقت ، وقد ذكرنا فيما تقدم ما قيل في صلاة الله عليهم وصلاة الملائكة وصلاة المؤمنين.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) : اختلف فيه : قال بعضهم (٢) : نزلت الآية في اليهود ؛ حين قالوا : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] ، وهو (فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١] ، وفي النصارى ؛ حين قالوا : (الْمَسِيحُ

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٣٩٢) كتاب التفسير ، باب : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ...) ، ومسلم كتاب الصلاة ، باب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد التشهد.

(٢) قاله ابن عباس ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٥٤٣).

٤١١

ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ، وإنه (ثالِثُ ثَلاثَةٍ) [المائدة : ٧٣] ؛ وفي مشركي العرب ، حين قالوا : الملائكة بنات الله ، والأصنام آلهة ، ونحو ذلك ، وأذاهم رسول الله حين شجّوه وكسروا رباعيته ، وقالوا : إنه مجنون ، أو ساحر ، وأمثال ذلك ؛ فأنزل الله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ) ، يقول : عذبهم الله (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) :

فأما تعذيبه إياهم في الدنيا : قتلهم بالسيف يوم بدر ـ يعني : مشركي العرب ـ وأهل الكتاب : بالجزية إلى يوم القيامة.

وفي الآخرة : النار.

وقال بعضهم قريبا من ذلك (١) : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) هم أصحاب التصاوير والتماثيل ؛ فلهم ما ذكر.

وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا).

أي : يقعون فيهم.

وقال بعضهم : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) هم الذين قذفوا عائشة بصفوان ؛ آذوا رسول الله في زوجته عائشة حين قذفوها ، وهي بريئة مما قذفوا.

وقوله : (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) : صفوان وعائشة.

وقال بعضهم (٢) : نزلت في علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ فعلى هذا : عذابهم في الدنيا الجلد ، وفي الآخرة : النار.

وجائز أن يكون هذا الوعيد في قاذف كل مؤمن ومؤمنة بغير ما اكتسب به ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) إضافة الأذى إلى الله ؛ على إرادة رسوله خاصة ؛ لأن الله لا يجوز أن يقال : إنه يتأذى بشيء ، أو يؤذيه شيء ؛ لأن الأذى ضرر يلحق ، والله يتعالى عن أن يلحقه ضرر أو نفع ؛ بل هو القاهر الغالب القادر الغني بذاته ، ويكون المراد بإضافة الأذى إليه : رسوله خاصة ، على ما ذكرنا في قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) [البقرة : ٩] ؛ أي : يخادعون رسوله ، أو يخادعون أولياءه ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لا يخادع ، وكقوله : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] ، أي : إن تنصروا دين الله ينصركم ، أو إن تنصروا رسوله وأولياءه ينصركم ، وأمثال ذلك كثير في القرآن ؛ نسب ذلك إلى نفسه على إرادة أوليائه ، فعلى ذلك هذا ، والله أعلم ، وبالله العصمة والتوفيق.

إلا أن يريد بالأذى ـ أعني : ما ذكر من أذى الله ـ : المعصية ؛ فهو جائز ، وكذلك ما

__________________

(١) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٦٣٩) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤١٣).

(٢) قاله مقاتل ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٥٤٣).

٤١٢

روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من آذاني فقد آذى الله» (١) ، أي : من عصاني فقد عصى الله.

وفي الآية بيان وقوع المراد على الاختلاف والتفاوت من لفظ واحد ؛ لأنه ذكر ـ هاهنا ـ أذى رسول الله ، وعقب الوعيد الشديد من اللعن والعذاب في الدنيا والآخرة ، وذكر في الآية التي قبلها ، حيث قال : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) [الأحزاب : ٥٣] ، و (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) [الأحزاب : ٥٣] ، وما ذكر من الأذى ، ثم لا شك أن المفهوم من هذا الأذى المذكور في هذه الآية ـ غير المفهوم من الأذى المذكور في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ، وأن أحدهما من المؤمنين ، والآخر من الكفار ، وإن كان ظاهر اللفظ في المخرج واحدا ، وكذلك المفهوم من الظلم الذي ذكر في قوله : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) [الفرقان : ١٩] غير المفهوم من الظلم الذي قال آدم : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] ، والمفهوم من الضلال الذي قال موسى : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) [الشعراء : ٢٠] غير المفهوم من ضلال فرعون وسائر الكفرة ، وكذلك الفسق ، ومثل هذا كثير ، لا يجب أن نفهم من أمثال هذا شيئا واحدا أو معنى واحدا ، وإن كان اللفظ لفظا واحدا ؛ ولكن على اختلاف الموقع.

وفي الآية دلالة عصمة رسول الله ، وألا يكون منه ما يستحق الأذى بحال ، وقد يكون من المؤمنين والمؤمنات ما يستوجبون الأذى ويستحقونه ؛ حيث ذكر الأذى لرسول الله مطلقا مرسلا غير مقيد بشيء ؛ حيث قال : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ) ، وذكر أذى المؤمنين مقيدا بشرط الكسب ؛ حيث قال : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) ؛ فدل شرط الكسب على أنهم قد يكتسبون ما يستحقون الأذى ، ويكون منهم ما يستوجبون ذلك ، وأما الرسول فلا يكون منه ما يستحق ذلك أو يوجب له ، ولا قوة إلا بالله.

واللعن : هو الطرد في اللعنة ، طردهم عن رحمته ، وبعدهم عنها ، والبهتان : قيل : هو أن يقال [فيه] ما ليس فيه ؛ فبهت : قيل : تحير وانقطع حجاجه.

وقال بعضهم (٢) : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) أنزل في قوم همتهم الزنا بالإماء ، وكانت الحرائر يومئذ يخرجن بالليل على زي الإماء فيتابعونهن ، ويطلبون [ما يطلبون] من الإماء ؛ فكان ذلك يؤذيهم ويتأذين بذلك جدّا ؛ فشكوا ذلك إلى

__________________

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٥٤ ، ٥٥) ، وابن أبي عاصم في السنة (٢ / ٤٧٩) عن عبد الله بن مغفل ، وإسناده ضعيف قاله العلامة الألباني في ظلال الجنة.

(٢) قاله الضحاك والكلبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٥٤٣ ـ ٥٤٤).

٤١٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك ؛ فنزل (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) ، ثم أمرن عند ذلك بإدناء الجلباب وإرخائه عليهن ؛ ليعرفن أنهن حرائر ، ونهين أن يتشبهن بالإماء ؛ لئلا يؤذين ، وهو قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ).

وقال بعضهم (١) : نزل هذا بالمدينة في نساء المهاجرين ؛ وذلك أن المهاجرين قدموا إلى المدينة ، وهي مضيقة ، ومعهم نساؤهم ؛ فنزلوا مع الأنصار في ديارهم ؛ فضاق الدور عليهم ، فكانت النساء يخرجن بالليل إلى البراز ، فيقضين حوائجهن هنالك ، فكان المريب يرصد النساء بالليل ، فيأتيها فيعرض عليها ، وإنما كانوا يطلبون الولائد والإماء ، فلم تعرف الأمة من الحرة بالليل ؛ لأن زيهن كان واحدا يومئذ ؛ فذكر نساء المؤمنين ذلك إلى أزواجهن ما يلقين بالليل من أهل الريبة والفجور ؛ فذكروا ذلك لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزل فيهم : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ...) إلى آخر ما ذكر : أمر الحرائر بإرخاء الجلباب وإسداله عليهن ؛ ليكون علما بين الحرائر والإماء.

وروى عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن جارية مرت به متقنعة ؛ فضربها بالدرة ، وقال : «اكشفي قناعك ، ولا تتشبهي بالحرائر» (٢) ، وأمر الإماء بكشف ما ذكر ، والحرائر بستر ذلك.

وقد أمر الحرائر في سورة النور بضرب الخمر على الجيوب بقوله : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) [النور : ٣١] ؛ لئلا يظهر الزينة التي على الجيوب ، ونهين أن يظهرن ويبدين زينتهن للأجنبيين إلا ما ظهر منها ، وأمرن في هذه الآية على إرخاء الجلباب وإسداله عليهن ؛ ليعرفن أنهن حرائر ؛ فلا يؤذين بما ذكرنا.

ثم اختلف في الجلباب :

قال بعضهم : هو الرداء ، والجلابيب : الأردية ، وهو قول القتبي (٣) : أمرن أن يلبسن الأردية والملإ.

وقال أبو عوسجة : الجلابيب : المقانع ، الواحد : جلباب ، يقال : تجلببي ، أي تقنعي ، وهو الذي يكون فوق الخمار.

__________________

(١) قاله السدي ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤١٦).

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن أنس عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤١٥).

(٣) انظر : تفسير غريب القرآن (٣٥٢).

٤١٤

وفي الآية دلالة رخصة خروج الحرائر للحوائج ؛ لأنه لو لم يجز لهن الخروج لم يؤمرن بإرخاء الجلباب على أنفسهن ؛ ولكن ينهاهن عن الخروج ؛ فدل أنه يجوز لهن الخروج للحاجة ، والله أعلم.

وقوله : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

جائز أن يكون قوله : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) عما سبق ذكره من التعرض للنساء بالزنا والفجور بهنّ ؛ وإنهم هم الفاعلون لذلك بهنّ. وأما المسلمون فلا يحتمل أن يتعرضوا لشيء من ذلك [في ذلك] الوقت ؛ فقال : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ) ومن ذكر ، عن ذلك يفعل بهم ما ذكر.

وقال بعضهم (١) : إن أهل النفاق كانوا يرجفون أخبار العدو ويذيعونها ، ويقولون : قد أتاكم عدد وعدة من العدو ؛ كقوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران : ١٧٣] : كانوا يجبنونهم ويضعفونهم ؛ لئلا يغتروا أولئك الكفرة ، يسرون النفاق والخلاف لهم ، ويظهرون الوفاق ويسرون فيما بينهم ، ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ؛ فنهوا عن ذلك ؛ حيث قال : (فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) [المجادلة : ٩] ؛ فنهوا عن ذلك ؛ فقال هاهنا : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) عن صنيعهم ذلك ، (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً).

قال بعضهم (٢) : (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ) ، أي : لنسلطنك عليهم.

وقال بعضهم : لنحملنك عليهم.

وقال بعضهم : لنولعنك بهم.

وكأن الإغراء هو التخلية بينه وبينهم ؛ حتى يقابلهم بالسيف ويقتلهم ، وكان قبل ذلك يقابلهم باللسان ، لم يأمره بالمقابلة بالسيف إلى هذا الوقت ، وأخبر أنهم (مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا).

أي : مطرودون أينما وجدوا ؛ لأن اللعن هو الطرد ، وأنهم يقتلون تقتيلا ، وأنهم لا يجاورونك إلا قليلا فيما لا تعلم بهم.

وقوله : (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) قال بعضهم (٣) : هم الزناة ، و (الْمُنافِقُونَ) ، هم

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٦٥٩) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤١٧).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٦٦١) وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤١٨).

(٣) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٦٥٤) وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق مالك بن دينار عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤١٧) ، وهو قول قتادة وأبي صالح وابن زيد.

٤١٥

المنافقون ، (وَالْمُرْجِفُونَ) : ليسوا بمنافقين ؛ ولكنهم قوم كانوا يحبون أن يفشوا الأخبار ، ويقال : الإرجاف : هو تشييع الخبر.

وجائز أن يكون المنافق هو الذي كان مع الكفرة في السر حقيقة ، والذي في قلبه مرض : هو الذي في قلبه ريب واضطراب ، لم يكن مع الكفرة لا سرّا ولا ظاهرا ، والذي بين الكافر والمنافق.

وقوله : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ).

قال بعضهم : سنة الله في الأمم السالفة الإهلاك من الكفار.

وجائز أن يكون قوله : (سُنَّةَ اللهِ) في أهل النفاق من الأمم السالفة ـ ما ذكر في هؤلاء.

وقال مقاتل : (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) : أهل بدر حين أسروا وقتلوا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (٦٣) إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (٦٤) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٦٥) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (٦٦) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)(٦٨)

وقوله : (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) :

جائز أن يكون السؤال عنها ما ذكر في آية أخرى حيث قال : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) [الأعراف : ١٨٧] وعن قيامها فقال : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ).

ففيه دلالة إثبات رسالة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه حين سئل عنها ، فوض أمرها وعلمها إلى الله ، على ما أمر به ، ولو كان غير رسول الله ـ لكان يجيبهم ـ علم أو لم يعلم ـ على ما يفعله طلاب الرئاسة ، بل قال : (عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) ؛ دل أنه رسول الله ، فبلغ إليهم ما أمر بالتبليغ إليهم.

وقوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً).

هذا يخرج على الوعيد والتحذير ، وهو يخرج على وجهين :

أحدهما : كأنه يقول : اعلم أن الساعة تكون قريبا ؛ على الإيجاب ؛ لأن (لَعَلَ) من الله واجب ؛ فهو وكل ما هو آت فهو كالكائن.

والثاني : على الترجي ، أي : اعملوا على رجاء أنه قريب ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً).

لعنهم ، أي : طردهم عن رحمته ؛ لما علم أنهم يختارون الكفر على الإيمان ويختمون

٤١٦

عليه.

(وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً. خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

قوله : (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) ينقض على الجهمية قولهم ، وعلى أبي الهذيل العلاف.

أما على الجهمية ؛ لأنهم يزعمون أن الجنة والنار تفنيان ولهما النهاية ، وقالوا : لأنا لو لم نجعل لهما النهاية والغاية ، لخرجتا عن علم الله ؛ لأن الشيء الغير المتناهي خارج عن علمه ؛ لكن هذا بعيد ، جهل منهم بربهم ؛ لأن علمه بالشيء الغير المتناهي : أنه غير متناه ، وعلمه بالمتناهي : أنه متناه ، ولا يجوز أن يخرج شيء عن علمه متناهيا كان أو غير متناه ، وبالله العصمة.

وأمّا العلاف ؛ فلأنه يقول : إن أهل الجنة وأهل النار يصيرون بحال في وقت ما حتى إذا أراد الله أن يزيد لأحد منهم لذة أو نعمة أو عذابا ـ لم يملك عليه ، أو كلام نحو هذا ؛ فنعوذ بالله من السرف في القول على الله.

وقوله : (لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً).

مما طمعوا في الدنيا ورجوا من كثرة الأسباب والحواشي ، أو عبادة الأصنام وغيرها أن ينفعهم ذلك وينصرهم في الآخرة ؛ بل ضل عنهم ذلك وحرموا ؛ على ما أخبر : (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) [الأعراف : ٥٣] ، والله أعلم.

وقوله : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ).

وقال في آية أخرى : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ) [الفرقان : ٣٤] ، وأصله ما ذكر في قوله : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الملك : ٢٢] : يفعل بهم في الآخرة على ما كانوا في الدنيا.

وقوله : (يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا).

لا يزال الكفرة قائلين لهذا القول مترددين له في الآخرة ؛ لما رأوا من العذاب حين حل بهم (يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) : الرسول المطلق : رسول الله والسبيل المطلق : هو دين الله ، هو المعروف في القرآن.

وقوله : (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا).

قال بعضهم السادة : الملوك ، والكبراء : العلماء.

وجائز أن يكون السادة : القادة ، والكبراء : دونهم.

و (الرَّسُولَا) و (السَّبِيلَا) : أثبتوا الألف فيه عند الوقف ، وأما عند الوصل فلا ؛ وذلك أن من عادة العرب ألا تقف على الحركة ؛ ولكن تزيد لها ألفا إذا كانت فتحة ، وإذا

٤١٧

كانت كسرة : ياء.

وقوله : (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ).

ظنوا أن يكون لهم بعض التسلي والتفرج ؛ إذا رأوا أولئك الذين أضلوهم في زيادة من العذاب ، على ما يكون للرجل بعض التسلي إذا رأى عدوه في بلاء وشدة ، فلما لم يكن لهم من ذلك تسلّ ، بل كان لهم من ذلك زيادة عذاب وشدة ؛ فقالوا عند ذلك : (يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ...) الآية [الزخرف : ٣٨].

وقوله : (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً).

جائز أن يكون هذا ، أي : عذبهم عذابا كبيرا طويلا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً (٦٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (٧١) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً)(٧٣)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا).

يقول عامة أهل التأويل : إن موسى كان لا يغتسل فيما يراه أحد ؛ فقال بنو إسرائيل : إن موسى آدر ، ويروون على ذلك عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن بني إسرائيل طعنوا نبي الله موسى بذلك ، فذهب ذات يوم يغتسل ، فوضع ثيابه على حجر ، فسعى الحجر بثوبه ؛ فجعل موسى يعدو في إثره ويقول : [ثوبي] حجر ـ أي : يا حجر ثوبي ـ حتى مرّ به على ملأ بني إسرائيل ؛ فعلموا أنه ليس به شيء (١) ، فذلك قوله : (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا)» ، وكان موسى يتأذى بما كانوا يطعنون ؛ فعلى ذلك رسول الله كان يتأذى ؛ إذا قالوا : زيد بن محمد ؛ فأمروا أن يدعوه لأبيه ، يقول : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) [الأحزاب : ٥] زيد بن حارثة ، لكن هذا التأويل بعيد ؛ لأن موسى كان يدعوهم إلى ستر العورة ، لا يحتمل أن يطمعوا هم منه الاغتسال معهم ، وأن يكشف عورته لهم ، أو ينظر إلى عورة أحد ، هذا وخش من القول أو يسلط حجرا ، فيذهب بثيابه حتى يراه الناس

__________________

(١) أخرجه البخاري (٧ / ٩٦) كتاب أحاديث الأنبياء (٣٤٠٤) ، ومسلم (٤ / ١٨٤٢) كتاب الفضائل : باب من فضائل موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٥٥ / ٣٣٩) ، والترمذي (٥ / ٢٧٣) في التفسير : باب «ومن سورة الأحزاب» (٣٢٢١) ، وأحمد (٢ / ٥١٤) ، وابن جرير (٢٨٦٧٣) من حديث أبي هريرة.

٤١٨

متجردا ، والله أعلم.

وقال بعضهم (١) : آذوه ؛ لأنه كان خرج بهارون إلى بعض الجبال ؛ فمات هارون هناك ، فرجع موسى إليهم وحده ؛ فقال بنو إسرائيل لموسى : أنت قتلته حسدا ؛ فقال موسى : «ويلكم ، أيقتل الرجل أخاه» ؛ فآذوه ، فذلك قوله : (لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) ؛ فجاءت به الملائكة فوضعته بينهم ، فقال لهم : لم يقتلني أحد ؛ إنما جاء أجلي فمت ، فذلك قوله : (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا).

هذا يشبه أن يكون ـ وغيره ـ كأنه أقرب وأشبه ، وهو ما كان قوم كل رسول نسبوا رسولهم إلى الجنون مرة ، وإلى السحر ثانيا ، وأنه كذاب مفتر ، ونحوه ، على علم منهم أنه رسول الله ، ولا شك أنهم كانوا يتأذون بذلك جدّا ؛ ولذلك قال : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) [الصف : ٥] : لا يحتمل أن يكون هذا في الأول ؛ لأنهم لو كانوا علموا أنه ليس به ما ذكروا ـ لم يؤذوه ؛ فدل أن أذاهم إياه فيما ذكرنا ، وفي أمثال ذلك ، وكذلك ما نهى قوم رسول الله من الأذى له ؛ لما نسبوه مرة إلى الجنون ، وإلى السحر ثانيا ، وإلى الافتراء والكذب على الله ثالثا ، لا فيما ذكر أولئك.

(وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً).

أي : مكينا في القدر والمنزلة ، والله أعلم.

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً).

جائز أن يكون قوله : (اتَّقُوا اللهَ) ، أي : اتقوا الشرك في حادث الوقت ، (وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) ، أي : ائتوا بالتوحيد في حادث الوقت ؛ لأنه إنما خاطب به المؤمنين :

(يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ).

أي : بالتوحيد ؛ لأنه بالتوحيد تصلح الأعمال وتذكر ، وبه يغفر ما كان من الذنوب ، وبه يكون الفوز العظيم ، وبالله التوفيق.

ويحتمل قوله : (اتَّقُوا اللهَ) في الخيانة فيما بينكم وبين الخلق ، أي : لا تخونوا الخلق.

(وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) ، أي : صدقا وصوابا ؛ أي : لا تكذبوا ، ولا تقولوا فحشا ونحوه.

ويحتمل (اتَّقُوا اللهَ) ولا تعصوه ، واعملوا بالمعروف ، وانتهوا عن المنكر (وَقُولُوا قَوْلاً

__________________

(١) قاله علي بن أبي طالب ، أخرجه ابن جرير (٢٨٦٧٦) وابن منيع ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه عن ابن عباس عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤١٩).

٤١٩

سَدِيداً) ، ومروا الناس ، وانهوا عن المنكر (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ...) إلى آخر ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) قد تكلف أهل التأويل تفسير هذه الأمانة المذكورة في الآية :

قال بعضهم : هي كلمة الشهادة والتوحيد.

ومنهم من قال (١) : هي جميع الفرائض التي افترض الله على عباده.

ومنهم من قال (٢) : هي الصلاة ، والصيام ، والحج ، وأمثاله ، وجميع ما أمروا به ونهوا عنه.

لكن التكلف والاشتغال بالتكلم في ماهية هذه الأمانة المذكورة المعروضة على من ذكر ـ فضل ، لا يجب أن يتكلف تفسيرها : أنها كذا ؛ لأنها مبهمة ، لا تعلم إلا بالخبر الوارد عن الله ـ تعالى ـ أنها كذا ، وأن يجعل ذلك من المكتوم ، ولا يشتغل بالتفسير ، والله أعلم بذلك.

ثم اختلف فيما ذكر من عرض هذه الأمانة على السموات والأرض والجبال ، وما ذكر من إبائها عن احتمالها والإشفاق :

فقال بعضهم : قوله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ومن ذكر ؛ أي : خلقنا خلقة ما ذكر من السموات والأرض والجبال خلقة لا تحتمل حمل ما ذكر من الأمانة ؛ (فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها) إباء خلقة ؛ أي : لم يخلق خلقتها بحيث تحتمل ذلك ، (وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ) أي : خلقنا خلقة الإنسان خلقة تحتمل ذلك ؛ إلى هذا يذهب بعضهم.

وقال بعضهم : قوله : (عَرَضْنَا) حقيقة العرض ، إلا أنه على التخيير بين أن تقبل وتتحمل وتفي بذلك فيكون لها الثواب ، أو لا تفي فيكون لها العقاب في الآخرة ، وبين ألا تتحمل ولا تقبل ؛ فتكون كسائر الموات تفنى بفناء الدنيا : لا ثواب لها في الآخرة ولا عقاب ، وإلا لم يحتمل أن يعرض عليهن ما ذكر عرض لزوم وإيجاب ، ثم يأبين ذلك ويشفقن منها ، وقد وصفهن الله بالطاعة له والخضوع في غير آي من القرآن ؛ حيث قال : (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] وقال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ...) الآية [الحشر : ٢١] ، وقال في آية : (يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ)

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٦٨٢ ، ٢٨٦٨٣) وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في كتاب الأضداد عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢١).

(٢) قاله ابن مسعود ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٨٦٩٤).

٤٢٠