تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

لكن هذا بعيد ، وأصله : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي : لا تقلن قولا يعرف به الرغبة في الرجال ، والميل إلى الدنيا ، والركون فيها (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) : ما يكون فيه تغيير المنكر والأمر بالمعروف ، والله أعلم.

وقوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ).

قد قرئ بكسر القاف وفتحها ، فمن قرأ بالكسر فهو من الوقار ، ومن قرأ بالفتح : (وَقَرْنَ) جعله من القرار والسكون فيها.

وقوله : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى).

قال بعضهم : تبرج الجاهلية الأولى قبل أن يبعث رسول الله ؛ كان يخرج نساؤهم متبرجات بزينة مظهرات ، فأمر الله أزواج رسوله بالستر والحجاب عليهن ، وإدناء الجلباب عليهن ، وهو ما قال : (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) [الأحزاب : ٥٩].

وقال بعضهم (١) : (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) قال : الجاهلية التي ولد فيها إبراهيم ، أعطوا أموالا كثيرة ، وكن يتبرجن في ذلك الزمان تبرجا شديدا ؛ فأمر أزواجه بالعفة والترك لذلك ، فلسنا ندري ما أراد بالجاهلية ، ومن أراد بذلك : الذين كانوا بقرب خروج رسول الله وبعثه ، أو الذين كانوا من قبل في الأمم السالفة؟

والتبرج كأنه هو الخروج بالزينة على إظهار لها ؛ أعني : إظهار الزينة.

قال القتبي (٢) : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) أي : لا تلنّ به.

وقوله : (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي : صحيحا.

وقوله : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) بالكسر من الوقار ، ويقال : وقر في منزله يقر وقورا ، و (وَقَرْنَ) بفتح القاف من القرار ، وكأنه من : قر يقر أراد أقررن في بيوتكن ، فحذف الراء الأولى وحول فتحها إلى القاف ، كما يقال : ظلن في موضع كذا ، من اظللن ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ) [الواقعة : ٦٥] ولم نسمع قرّ يقرّ إلا في موضع قرة العين ، فأمّا في الاستقرار فإنما هو قرّ يقرّ.

وقوله : (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ) يحتمل أن يكون الأمر لهن بإيتاء الزكاة من حليهن ؛ لأنهن لا يملكن شيئا سوى ذلك ما يجب في مثله الزكاة ؛ ألا ترى أنه وعد لهنّ التمتيع والسراح الجميل إذا أردن الحياة الدنيا وزينتها ، فلو كان عندهن شيء من فضول الأموال كن ينفقن ويتمتعن ، وإن لم يكن عند رسول الله ما يمتعهن ولا يطلبن ذلك من

__________________

(١) قاله عكرمة ، أخرجه ابن سعد عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٧٥).

(٢) انظر تفسير غريب القرآن (٣٥٠).

٣٨١

غيره ، فدل ذلك أنهن لا يملكن شيئا من ذلك ، فيجوز أن يستدل بظاهر هذه الآية في إيجاب الزكاة في الحلي ، وكذلك روي عن ابن عباس ، رضي الله عنه.

وقوله : (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أمرهن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة لله ورسوله ؛ لئلا يغتررن بما اخترن المقام مع رسول الله وإيثارهن إياه على أن ذلك كاف لهن في الآخرة ، ولا شيء عليهن سوى ذلك من العبادات ؛ بل أخبر أنكنّ وإن اخترتن المقام معه وآثرتن إياه على الدنيا وزينتها لا يغنيكن ذلك عما ذكر ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) قال بعضهم : إن هذه الآية مقطوعة عن الأولى ؛ لأن الأولى في أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذه في أهل بيته ، وهو قول الروافض ، ويستدلون بقطعها عن الأولى بوجوه :

أحدها : ما روي عن أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنها قالت : عنى بذلك عليّا وفاطمة والحسن والحسين ، وقالت : لما نزلت هذه الآية ، أخذ النبي ثوبا ، فجعله على هؤلاء ، ثم تلا الآية : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) فقالت أم سلمة من جانب البيت : يا رسول الله ، [ألست] من أهل البيت؟ قال : «بلى إن شاء الله» (١).

وعن الحسن بن علي أنه خطب الناس بالكوفة وهو يقول : يا أهل الكوفة ، اتقوا الله فينا فإنا أمراؤكم ، وإنا ضيفانكم ، ونحن أهل البيت الذي قال الله ـ تعالى ـ : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ)(٢).

ويقولون ـ أيضا ـ : إن الآية الأولى ذكرها بالتأنيث حيث قال : (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وهذه ذكرها بالتذكير دل أنها مقطوعة عن الأولى.

ويقولون ـ أيضا ـ : إنه وعد أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا وعدا مطلقا غير مقيد ، وذلك الرجس الذي ذكر مما يحتمل أزواجه ممكن ذلك فيهن غير ممكن في أهل بيته ومن ذكره.

ويقولون ـ أيضا ـ ما روي عنه أنه قال : «تركت فيكم بعدي الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما ليردان بكم الحوض» (٣) أو كلام نحو هذا ، ففسر

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٦٢) في التفسير : باب «ومن سورة الأحزاب» (٣٢٠٥) ، وابن جرير (٢٨٤٩٩) ، وابن المنذر ، والحاكم وصححه ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة كما في الدر المنثور (٥ / ٣٧٧).

(٢) ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ١٨١) وقال : رواه الطبراني ورجاله ثقات.

(٣) أخرجه أحمد (١ / ١١٨) والنسائي في الكبرى (٥ / ١٣٠) ، كتاب الخصائص : باب «من كنت وليه ـ

٣٨٢

العترة بأهل البيت ، ونحو ذلك من الوجوه.

وأما عندنا فهي غير مقطوعة من الأولى : إما أن يكون على الاشتراك بينهن وبين من ذكروا من أولاده ؛ إذ اسم أهل البيت مما يجمع ذلك كله في العرف.

أو تكون الآية لهن على الانفراد ، فأمّا أن يخرج أزواجه عن أهل بيته والبيت يجمعهم ، فلا يحتمل ذلك.

وأما قولهم : إنه ذكر هذه الآية بالتذكير والأولى بالتأنيث فعند الاختلاط كذلك يذكر باسم التذكير.

وأمّا قولهم : إن وعده لهم منه خرج مطلقا غير مقيد ، فكذلك كن أزواج رسول الله لم يأت منهن ما يجوز أن ينسبن إلى الرجس والقذر إلا فيما غلبن على رأيهن وتدبيرهن بالحيل ، فأخرجن فيما أخرجن.

وأما قولهم في الثقلين اللذين تركهما فينا بعده : الكتاب والعترة ، فعترته : سنته ؛ على ما قيل ، وقوله : «أهل بيتي» كأنه قال : تركت الثقلين كتاب الله وسنتي بأهل بيتي ، وذلك جائز في اللغة.

وأما ما روي عن أم سلمة فإنه في الخبر بيان على أن أزواجه دخلن حيث قالت له أم سلمة : ألست من أهل البيت؟ قال : «بلى إن شاء الله» (١).

وفي هذه الآية دلالة نقض قول المعتزلة من وجوه :

أحدها : ما يقولون : إن الله قد أراد أن يطهر الخلق كلهم : الكافر والمسلم ، وأراد أن يذهب الرجس عنهم جميعا ، لكن الكافر حيث أراد ألا يطهر نفسه ولا يذهب عنه الرجس لم يطهر ، فلو كان على ما يقولون لم يكن لتخصيص هؤلاء بالتطهر ودفع الرجس عنهم فائدة ولا منة ـ دل أنما يطهر من علم منه اختيار الطهارة وترك الرجس ، وأما من علم منه اختيار الرجس فلا يحتمل أن يذهب عنه الرجس ، أو يريد منه غير ما يعلم أنه يختار ، وأن التطهير لمن يكون إنما يكون بالله ، لا بما تقوله المعتزلة ؛ حيث قال : (وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ؛ إذ على قولهم لا يملك هو تطهير من أراد تطهيره ؛ إذ لم يبق عنده ما يطهرهم ، فذلك كله ينقض عليهم أقوالهم ومذهبهم.

__________________

ـ فعليّ وليه» ، من طريق أبي الطفيل عن زيد بن أرقم ، قال : لما رجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ، ثم قال : «كأني قد دعيت فأجبت ، إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يتفرقا حتى يردا على الحوض ...» الحديث.

(١) تقدم.

٣٨٣

وقوله : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : قوله : (وَاذْكُرْنَ) أي : اتلون ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ، وجعل بيوتكن موضعا لنزول الوحي.

والثاني : اذكرن على حقيقة الذكر ؛ أي : اذكرن ما منّ الله عليكن ، وجعلكن من أهل بيت يتلى فيه آيات الله والحكمة ، وجعل بيوتكن موضعا لنزول الوحي فيها ، وخصكن بذلك ، ما لم يجعل في بيت أحد ذلك ، يذكرهن عظيم ما أنعم ومنّ عليهن ؛ ليتأدّى به شكره ؛ ليعرفن منن الله ونعمه عليهن.

وقوله : (مِنْ آياتِ اللهِ) يحتمل آيات القرآن.

ويحتمل حججه وبراهينه.

والحكمة : قالت الفلاسفة : الحكيم : هو الذي يجمع العلم والعمل جميعا.

وقال بعضهم : الحكيم : المصيب ، والحكمة : هي الإصابة.

وقيل : هي وضع الشيء موضعه ، وهي نقيض السفه.

وأصل الحكمة في الحقيقة كأنه هي الإصابة في كل شيء ، والحكيم : هو الذي لا يلحقه الخطأ في الحكم ولا الغلط.

وقال بعضهم (١) : الحكمة ـ هاهنا ـ هي السنة.

وقوله : (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) اللطيف : هو البارّ ؛ يقال : فلان لطيف : إذا كان بارّا.

والثاني : اللطيف : هو الذي يستخرج الأشياء الخفية الكامنة مما لا يتوهمها العقول استخراجها من مثلها.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(٣٥)

وقوله : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ...) إلى آخر ما ذكر.

إن أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وامرأة يقال لها : نسيبة بنت كعب ، أتيا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٥٠٤) ، وعبد الرزاق وابن سعد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٧٩).

٣٨٤

فقالتا : يا رسول الله ، ما بال ربنا يذكر الرجال في القرآن بالخير ، ولا يذكر النساء في شيء؟ فنزل : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ...)(١).

ثم قوله : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) يدل أن الإسلام والإيمان هما في الحقيقة واحد ـ أعني : في الحقيقة المعنى واحد ـ وإن كانا مختلفين بجهة ؛ لأنّ الإسلام هو أن يجعل كل شيء لله سالما خالصا ، لا يجعل لغيره فيه شركا ولا حقّا ، والإيمان هو التصديق لله بشهادة كل شيء له بالوحدانية والربوبية والألوهية ، فمن جعل الأشياء كلها لله ، خالصة سالمة له ، والذي صدق الله بشهادة كلية الأشياء له بالوحدانية والربوبية واحد ؛ لأن المخلص هو الذي يرى كل شيء لله خالصا ، والموحد هو الذي يرى الوحدانية له والربوبية في كل شيء ؛ فهما في حقيقة المعنى واحد ، والله أعلم.

وقوله : (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) القنوت : هو القيام في اللغة ؛ روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن أفضل الصلاة؟ فقال : «طول القنوت» (٢) ، وفي بعضه : «طول القيام» (٣) ، فسّر القنوت بالقيام ؛ فثبت أن القنوت هو القيام ، فيكون تأويله ـ والله أعلم ـ : القائمين والقائمات بجميع أوامر الله ومناهيه. وكذلك يخرج تأويل أهل التأويل : القائمين : المطيعين والمطيعات لله ؛ لأن كل قائم بأمر آخر فهو مطيع له ، هذا كأنه يقول : يكون في الاعتقاد ، والله أعلم.

وقوله : (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ...) إلى آخره ؛ يكون في المعاملة في تصديق ما اعتقدوا وقبلوا ، يصدقون ويوفون بالأعمال فيما اعتقدوا وقبلوا.

وقوله : (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) الصبر : هو كف النفس وحبسها عن التعاطي في جميع المحرمات المحظورات ، وعلى ذلك يخرج قول أهل التأويل : الصابرين على أمر الله وطاعاته ، وعلى الأذى والمصائب ، يكفون عن جميع ما لا يحل فيه ، ويرون ذلك من تقديره.

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٣ / ٥٢٩) وعزاه لمقاتل مرسلا ، وأخرجه الفريابي ، وابن سعد ، وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد ، والنسائي ، وابن جرير (٢٨٥٠٨ ، ٢٨٥٠٩) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أم سلمة بنحوه.

وأخرجه الفريابي ، وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، والترمذي (٣٢١١) وحسنه ، والطبراني وابن مردويه عن أم عمارة الأنصارية كما في الدر المنثور (٥ / ٣٧٩).

(٢) أخرجه مسلم (١ / ٥٢٠) كتاب صلاة المسافرين وقصرها : باب أفضل الصلاة طول القنوت (١٦٤ / ٧٥٦) ، والطحاوي في شرح المعاني (١ / ٢٩٩).

(٣) أخرجه الحميدي (١٢٧٦) والطحاوي في شرح المعاني (١ / ٢٩٩).

٣٨٥

وقوله : (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) قال بعضهم (١) : الخاشع : المتواضع.

وأصل الخشوع : هو الخوف اللازم في القلب ؛ وهو قول الحسن : يخافون الله في كل حال ، لا يخافون غيره ، ويرجون الله ، ولا يرجون غيره ؛ هكذا عمل المؤمن : يكون حقيقة خوفه ورجائه منه.

وأمّا الكافر فإنه لا يخاف ربه ، ولا يرجو منه ؛ لأنه لا يعرفه ولا يخضع له ، وعلى ذلك المعتزلة إنما خوفهم من أعمالهم السيئة ورجاؤهم منها ـ أعني : من أعمالهم الحسنة ـ لا من الله حقيقة ، وكذلك على قولهم : لا يكون لأحد رجاء في شفاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما رجاؤه في أعماله ؛ لقولهم : أن ليس لله في أفعال العباد شيء من تدبيره ولا تقديره.

وقوله : (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) أي : المنفقين في طاعة الله (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) قد ذكر أن هذا راجع إلى حقيقة الفعل في الصيام ، والصدقة ، والصدق في القول والمعاملة ، والخشوع منه.

وجائز أن يكون في القبول والاعتقاد ؛ على ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) فيما لا يحل ؛ كقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المعارج : ٢٩ ، ٣٠].

وقوله : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) قال بعضهم : أي : المصلون لله الصلوات الخمس.

وقال بعضهم : الذاكرين الله كثيرا والذاكرات باللسان على كل حال ، لكن غيره كأنه أولى بذلك ؛ أي : الذاكرين حق الله الذي عليهم كثيرا والذاكرات (أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً).

قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً

__________________

(١) قال سعيد بن جبير : يعني المتواضعين لله في الصلاة ...

أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٨٠).

٣٨٦

إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً)(٤٠)

وقوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) قال جعفر بن حرب المعتزلي : دلت هذه الآية على أن الكفر مما لم يقضه الله ؛ لأنه لو كان مما قضاه الله لكان لا يكون لهم الخيرة والتخيير ، فإذا قال : إنه إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة ، دل أنه مما لم يقضه الله ، لكن يقول : إن القضاء ـ هاهنا ـ ليس هو قضاء الخلق ؛ على ما فهم هو ، ولكن القضاء ـ هاهنا ـ الأمر أو الحكم ؛ كقوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٢٣] أي : أمر ربّك وأوجب ألا تعبدوا إلا إياه.

أو أن يكون الحكم ؛ كقوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ) [النساء : ٦٥] أي : مما حكمت ؛ فإذا كان القضاء يحتمل الأمر والحكم ؛ على ما ذكرنا ، فيكون كأنه قال : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) ، أي : إذا أمر الله ورسوله أمرا ، وإذا حكم الله ورسوله أمرا أن يكون له الخيرة من أمرهم ، وهكذا يكون فيما أمر الله ورسوله بأمر أو حكم يحكم ألا يكون لأحد التخيير في ذلك.

ومما يدل ـ أيضا ـ على أن القضاء أيضا ـ هاهنا ـ ليس هو القضاء الذي فهم المعتزلة ؛ حيث أضاف ذلك إلى رسوله ـ أيضا ـ حيث قال : (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) ، ولا شك أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لا يملك القضاء الذي هو قضاء خلق ؛ دل أن المعتزلة أخطأت وغلطت في فهم ذلك ، وقصرت عقولهم عن درك ذلك ، وأن التأويل ما ذكرنا نحن.

ثم أجمع أهل التأويل على أن قوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) إنما نزل في زينب بنت جحش ؛ يذكرون أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان أعتق زيد بن حارثة وتبناه ، وكان مولى له ، فخطب له زينب بنت جحش ، فقالت زينب : إني لا أرضاه لنفسي وأنا من أتم نساء قريش ـ وكانت ابنة عمة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أميمة بنت عبد المطلب ـ فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قد رضيته لك ، فزوجي نفسك منه» فأبت ذلك ؛ فنزل قوله فيها : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(١) ، لكن إذا كان على ما يذكرون من الخطبة لها ؛ فلا يحتمل أن يجبرها على

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٨٥١٣ ، ٢٨٥١٦) عن ابن عباس.

٣٨٧

النكاح ، وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس للولي مع الثيب أمر» (١) ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البكر تستأمر في نفسها ، والثيب تشاور» (٢) ، ثم تجيء الآية في جبرها على النكاح ممن لا ترضاه إلا أن يكون على الأمر من الله ـ تعالى ـ ومن رسوله ، فعند ذلك لا يكون لها التخير في ذلك ؛ لأن الله [له] أن يأمر من شاء على النكاح ممن شاء ، وله الحكم بالنكاح لمن شاء على من شاء ، وليس لهم الخيرة في ذلك ، فأمّا بالخطبة نفسها دون الأمر والحكم من الله لا جبر في ذلك ؛ ألا ترى أنه ذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خطب أمّ سلمة ، فقالت : إن أوليائي غيب ، فقال : «ليس أحد من أوليائك لا يرضى بي» (٣) أو كلام نحوه خطبها ، ولم يجبرها على ذلك ؛ فعلى ذلك زينب ؛ إلا أن يكون على الأمر أو الحكم ؛ على ما ذكرنا.

أو أن يكون سبب نزول الآية ـ فيما ذكر أهل التأويل ـ في خطبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زينب

__________________

(١) انظر تخريج الحديث الآتي.

(٢) أخرجه مالك (٢ / ٥٢٤) كتاب : النكاح ، باب : استئذان البكر والأيم في أنفسهما ، حديث (٤) ، ومن طريق مالك رواه أحمد (١ / ٢٤١ ـ ٢٤٢ ـ ٢٤٣ ـ ٣٤٥) ، والدارمي (٢ / ١٣٨) كتاب : النكاح ، باب : استئمار البكر والثيب ، ومسلم (٢ / ١٠٣٧) كتاب : النكاح ، باب : استئذان الثيب في النكاح ، حديث (٦٦ / ١٤٢١) ، وأبو داود (٢ / ٥٧٧) كتاب : النكاح ، باب : في الثيب ، حديث (٢٠٩٨) ، والترمذي (٣ / ٤١٦) كتاب : النكاح ، باب : ما جاء في استئمار البكر والثيب ، حديث (١١٠٨) ، والنسائي (٦ / ٨٤) كتاب : النكاح ، باب : استئذان البكر في نفسها ، وابن ماجه (١ / ٦٠١) كتاب : النكاح ، باب : استئمار البكر والثيب ، حديث (١٨٧٠) ، وابن الجارود ص (٢٣٨) كتاب : النكاح ، حديث (٧٠٩) ، والشافعي (٢ / ١٢) كتاب : النكاح ، باب : فيما جاء في الولي ، حديث (٢٤) ، وعبد الرزاق (٦ / ١٤٢) رقم (١٠٢٨٣) ، والدارمي (٢ / ١٣٨) كتاب : النكاح ، باب : استئمار البكر والثيب ، وسعيد بن منصور (١ / ١٨١ ـ ١٨٢) رقم (٥٥٦) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٤ / ٣٦٦) ، والدارقطني (٣ / ٢٣٨ ـ ٢٣٩) كتاب : النكاح ، والبيهقي (٧ / ١١٥) كتاب : النكاح ، باب : ما جاء في النكاح ، والخطيب في تاريخ بغداد (٥ / ٣٧٦) ، والبغوي في شرح السنة (٥ / ٢٥) عن عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير بن مطعم عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر في نفسها ، وإذنها صماتها».

وأخرجه أحمد (١ / ٢١٩) ، ومسلم (٢ / ١٠٣٧) كتاب : النكاح ، باب : استئذان الثيب في النكاح ، حديث (٦٧ / ١٤٢١) ، وأبو داود (٢ / ٥٧٧ ـ ٥٧٨) كتاب : النكاح ، باب : في الثيب حديث (٢٠٩٩) ، والنسائي (٦ / ٨٥) كتاب : النكاح ، باب : استئمار الأب البكر في نفسها ، والحميدي (١ / ٢٣٩) رقم (٥١٧) من طريق زياد بن سعد عن عبد الله بن الفضل عن نافع عن جبير عن ابن عباس به بلفظ : «الثيب» بدل «الأيم».

وأخرجه أبو داود (٢ / ٥٧٨) كتاب : النكاح ، باب : في الثيب (٢١٠٠) ، والنسائي (٦ / ٨٤) كتاب : النكاح ، باب : استئمار الأب البكر في نفسها ، وأحمد (١ / ٢٦١) من طريق صالح بن كيسان عن عبد الله بن الفضل به.

وأخرجه عبد الرزاق (٦ / ١٤٢) رقم (١٠٢٨٢) من طريق سفيان الثوري عن عبد الله بن الفضل به.

(٣) أخرجه أحمد (٦ / ٣١٧) وابن سعد في الطبقات (٨ / ٧١).

٣٨٨

بنت جحش ، ويكون الوعيد الذي ذكر فيه في غيره : فيما فيه أمر من الله أو حكم ؛ نحو ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الفجر ، فرأى رجلين جالسين ، فقال لهما : «ما بالكما لم تصليا معنا؟» فقالا : إنا قد صلينا في رحالنا ، فقال : «إذا صليتما ، ثم أتيتما المسجد ، فصليا معهم ؛ فتكون لكما سبحة» (١) ، وإنما قال : «فصليا معهم» لا في صلاة الفجر ، ولكن في الصلوات التي يتطوع بعدها.

وقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) : إن كان هذا في المؤمنين فيكون الضلال هو الخطأ ؛ كأنه قال : فقد أخطأ خطأ بينا ، ويجوز هذا في اللغة ، نحو قول إخوة يوسف لأبيهم في تفضيله يوسف عليهم ؛ حيث قالوا : (إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [يوسف : ٨] أي : في خطأ بين ؛ حيث يفضل من لا منفعة له منه على من له منه منفعة ؛ فعلى ذلك هذا.

وإن كان في المنافقين فهم في ضلال بين ، فالضلال من المؤمن لا يفهم [منه] ما يفهم من الكافر والمنافق ؛ ألا ترى أن الظلم من المؤمن لا يفهم منه ما يفهم من المنافق أو الكافر ؛ ألا ترى أن آدم وحواء لما ارتكبا وقربا تلك الشجرة قالا : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا) [الأعراف : ٢٣] لم يريدا ظلم كفر ، وعلى ذلك قوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ٣٥] فعلى ذلك المفهوم من ضلال المؤمن غير المفهوم من ضلال المنافق والكافر ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) قال أهل التأويل (٢) : أنعم الله عليه بالإسلام ، وأنعمت عليه بالإعتاق ؛ حيث أعتقه ؛ لأنه ذكر أن زيدا كان عربيّا من أهل الكتاب ، أصابه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من سبي أهل الجاهلية ، فأعتقه وتبناه ، فأنعم الله عليه حيث أعطاه الإسلام ، ووفقه الهدى ، وأنعم عليه الرسول حيث أعتقه.

ويحتمل إنعام الله عليه ـ أيضا ـ في الإعتاق ؛ حيث وفق رسوله للعتاق ، أو في خلق فعل الإعتاق من رسوله وإجرائه إليه ، وعلى قول المعتزلة : ليس لله على زيد ولا على جميع المسلمين في الإسلام إنعام ولا إفضال ؛ لوجوه :

أحدها : أنهم يقولون : قد أعطى كلّا سبب ما يلزمهم الإسلام وهو القوة ؛ فهم إنما

__________________

(١) أخرجه أحمد (٤ / ١٦٠ ـ ١٦١) ، وأبو داود (١ / ٢١٣) كتاب الصلاة : باب فيمن صلى في منزله ثم أدرك الجماعة (٥٧٥ ـ ٥٧٦).

والترمذي (١ / ٢٥٨ ـ ٢٥٩) أبواب الصلاة : باب ما جاء في الرجل يصلي وحده ثم يدرك الجماعة (٢١٩) ، والنسائي (٢ / ١١٢) كتاب الإمامة : باب إعادة الفجر لمن صلى وحده ، وابن خزيمة (١٢٧٩) ، والطحاوي في شرح المعاني (١ / ٣٦٣) ، والدارقطني (١ / ٤١٣) ، والحاكم (١ / ٢٤٤).

(٢) قاله عكرمة ، أخرجه عبد بن حميد ، وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٨٥).

٣٨٩

يسلمون لا بصنع من الله في ذلك ؛ فعلى قولهم : كان من الله سبب لزوم الإسلام ، فأمّا في الإسلام نفسه فلا صنع له فيه ، فإذا كان كذلك فلا منة تكون منه عليهم ولا إنعام.

والثاني : يقولون : أن ليس لله أن يفعل بالخلق إلا ما هو أصلح لهم في الدّين ، ولا شك أن الإسلام لهم أصلح ؛ فعليه أن يفعل ذلك بهم ، فهو فعل ما عليه أن يفعل ، ولا يجوز أن يفعل غيره ، ومن أدى حقا عليه لا يكون في فعله منعما ولا مفضلا ؛ إنما هو مؤدي حق عليه.

والثالث : يقولون : أن ليس من الله إلى الأنبياء والمؤمنين جميعا شيء إلا وقد كان ذلك منه إلى إبليس وأتباعه وإلى جميع الفراعنة ، فإذا كان قولهم ومذهبهم ما ذكرنا ـ لم يكن لله على أحد من أهل الإسلام في إسلامهم إنعام ولا إفضال ، والله أخبر أن له عليهم في ذلك نعمة ومنة ، وكذلك فهم منه ذلك في قوله : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ...) [الحجرات : ١٧] إلى (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) [الحجرات : ١٧].

وقوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ).

ذكر بعض أهل التأويل (١) : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد أبصر امرأة زيد فأعجبته وودّها ، ففهم زيد ذلك منه ؛ فقال : يا رسول الله ، إني أريد أن أطلق فلانة ، وإن فيها كبرا تتعاظم عليّ وتؤذيني بكذا ؛ فعند ذلك قال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) في طلاقها ، ولا تطلقها ، لكن لا نقول نحن شيئا من ذلك إلا بخبر ثبت من رسول الله يخبر أنه كان ذلك.

وجائز أن يكون زيد استأذن رسول الله في طلاقها ، على ما يطلق الرجل امرأته ؛ لما يمل منها بلا سبب يكون ؛ فقال له عند ذلك : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) ، ولا تطلق زوجك بلا سبب يستوجب به الطلاق ؛ لأنه لا يسع للرجل أن يطلق زوجته بلا سبب يحمله على الطلاق من تضييع حدود الله ، وترك إقامتها ، أو معنى نحوه ، فأما بلا سبب يكون في ذلك فلا يسع.

أو أن يكون قوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) ، أي : تزوجها واتق الله في ترك تزوجها ؛ فيكون هو مأمورا بنكاحها ، كما كانت هي مأمورة بتزويجها نفسها منه ، فيقول : اتق الله في ترك الأمر للنبي ذلك في ترك ما ندبت إليه وأمرت به ، والله أعلم.

وقوله : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ).

__________________

(١) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير عنه (٢٨٥١٩) ، وأخرجه ابن سعد ، والحاكم عن محمد بن يحيى بن حبان ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٨٢).

٣٩٠

قال عامة أهل التأويل (١) : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ) حبّها وإعجابها ، (مَا اللهُ مُبْدِيهِ) ، أي : ما الله مظهره في القرآن ، أي : حبها وتزوجها.

وقال قائلون : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ) يا محمد : ليت أنه طلقها ، (مَا اللهُ مُبْدِيهِ) ، أي : مظهره عليك ، حتى ينزل به قرآنا.

لكن هذا بعيد محال ؛ لا يحتمل أن يكون النبي يقول لزيد : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) ، ثم يخفي هو في نفسه : ليت أنه يطلقها ؛ حتى يتزوجها هو.

وجائز أن يكون قوله : (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ) هذا القول نفسه ، هو الإبداء ؛ حيث جعله آية تتلى بعد ما أخفى رسول الله شيئا في نفسه : ما لو لا ذكر الله إياه ذلك لم يعلم الخلق أنه أخفى شيئا ، ولا ندري ما الذي أخفاه كذا وكذا إلا بخبر يجيء عنه ، فيقول : إني أخفيت في نفسي كذا ؛ فعند ذلك يسع ، فأمّا على الوهم فلا نقول به.

وقوله : (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ).

قال بعضهم (٢) : (وَتَخْشَى النَّاسَ) ، أي : تستحي قالة الناس : «إنه تزوج امرأة ابنه» ؛ وتترك نكاحها ، والله أحق أن تستحي منه في ترك أمره إياك بالنكاح.

وقال بعضهم : (وَتَخْشَى النَّاسَ) ، أي : تتقي قالة الناس ؛ تستحي منهم في أمر زينب وما أعجبت هي إليك حسنها وحبها ، (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) على الابتداء على غير إلحاق بالأول في كل أمر وكل شيء ؛ كقوله : (فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) [البقرة : ١٥٠] ، والله أعلم.

وقوله : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها).

قال أهل التأويل (٣) : (قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) أي : حاجة ، أي : جماعا ؛ فإن كان الجماع ـ ففائدة ذكر الجماع فيه ؛ ليعلم أن حليلة ابن التبني تحل للرجل ، وأن الوطر هو عقد النكاح والجماع جميعا ، وإن كان كل واحد منهما سبب الحظر والمنع في نكاح حليلة ابن الصلب.

وجائز أن يكون قوله : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) ، أي : قضى همة نفسه ، وبلغ غاية ما همت نفسه منها ؛ فعند ذلك زوجناكها.

ذكر أن زينب بنت جحش كانت تفتخر على سائر أزواج النبي ، فتقول : «زوجكن

__________________

(١) قاله ابن عباس ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٥٣١).

(٢) قاله ابن عباس والحسن ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٥٣١).

(٣) انظر تفسير ابن جرير (١٠ / ٣٠٣) ، والبغوي (٣ / ٥٣٢).

٣٩١

آباؤكن رسول الله ، والله زوجني بنبيه فوق سبع سماوات (١) ؛ ففيه دلالة رسالته ؛ لأنه أخفى في نفسه ما كان يخشى قالة الناس في ذلك واستحى منهم ، وفي العرف أن من أخفى شيئا يستحي من الناس إن ظهر عندهم أن يكتم ذلك من الناس ولا يظهره ، فإذا كان رسول الله أظهر ما كان يخشى قالة الناس فيه ، ولم يكتمه منهم ؛ دل أنه رسول ؛ إذ لو كان غير رسول ، لكتمه وأخفاه ولم يظهره ؛ لما ذكرنا من العرف في الناس من كتمان ما يستحيون منهم إذا ظهر.

وكذلك روي عن عمر وعائشة أنهما قالا : «لو كان رسول الله كاتما شيئا من القرآن ، لكتم هذه الآية» (٢).

وقوله : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً).

في الآية دلالة لزوم الاتباع لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كل ما يخبر ويأمر به ، وفي كل فعل يفعله في نفسه ، إلا فيما ظهرت الخصوصية ، فأما فيما لم تظهر فعلى الناس اتباعه فيما يخبر ويفعل ؛ لأنه قال : تزوج امرأة دعيّه ، ثم قال : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) ، ولو كان يخبرهم بذلك خبرا لحل لهم ذلك ؛ فعلى ذلك : هو ذلك أخبر أن ذلك ؛ لكيلا يكون على المؤمنين حرج في مثل فعله ، والله أعلم. وفيه وجه آخر.

وقوله : (إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) ، ذكر قضاء الوطر منهن ؛ لأن من النساء من لا يحرمن على بعض هؤلاء بالعقد ، ولكن إنما يحرمن بقضاء الوطر ، ومنهن من يحرمن بالعقد نفسه دون قضاء الوطر ؛ فأخبر أن أزواج الأدعياء ـ وإن قضوا منهن الوطر ـ فإنهن لا يحرمن عليهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً).

أي : ما كان بأمر الله مفعولا ، وكذلك ما قيل : الصلاة أمر الله ؛ أي : بأمر الله تكون ؛ وإلا الصلاة هي فعل العباد ؛ فلا تكون أمر الله ، ولكن بأمر الله ، فعلى ذلك قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) ، أي : ما يكون بأمر الله مفعولا ، وكذا قوله : (حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ) [الحديد : ١٤] ، أي : جاء ما يكون بأمر الله ، وهو العذاب الذي أوعدوا ؛ لأن أمر الله لا يجيء.

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني عن قتادة عنها ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٨٣) ، وله شواهد عن أم سلمة وعائشة والشعبي ، وغيرهم.

(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٦٤) في التفسير : باب «ومن سورة الأحزاب» (٣٢٠٧ ، ٣٢٠٨) ، وأحمد (٦ / ٢٤١ ، ٢٦٦) ، وابن جرير (٢٨٥٢٢) وسعيد بن منصور ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وابن مردويه عن عائشة ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٨٣).

٣٩٢

ثم يحتمل ذلك وجهين :

أحدهما : التكوين : يكونه ؛ فيكون مكونا ؛ كقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].

والثاني : على الإيجاب واللزوم ، أي : ما يكون بأمر الله يكون واجبا لازما ؛ إذا أراد به الإيجاب والإلزام ، والله أعلم.

وقوله : (ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : (فَرَضَ اللهُ) ، أي : بين الله ؛ كقوله : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها) [النور : ١] ، أي : بيناها.

ويحتمل (فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) ، أي : أوجب الله عليه ، ويقال : فرض عليه ، أي : حرم ، وفرض له ، أي : أحل له ، وكذلك قوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) [التحريم : ٢] يحتمل هذا وجهين :

أي : بين لكم تحلة أيمانكم.

والثاني : أوجب عليكم تحلة أيمانك ، والله أعلم.

وقوله : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ).

قال بعضهم : هكذا كان سنة الله فيمن كان قبله من الرسل ـ مثل داود وسليمان وهؤلاء ـ كثرة النساء ، ليس ذلك ببديع في رسول الله محمد. وفي كثرة نساء الرسل لهم آية عظيمة ؛ لأنهم آثروا الفقر والضيق على السعة والغناء ، وكفوا أنفسهم عن جميع لذاتها ، وحملوا على أنفسهم الشدائد في العبادات والأمور العظام الثقيلة ، وهذه الأشياء كلها أسباب قطع قضاء الشهوات في النساء والحاجة فيهن ؛ فإذا لم تقطع تلك الأسباب عنهم ؛ دل أنهم بالله قووا عليها.

وقال بعضهم : سنة الله في الذين قبل محمد ، يعني : داود النبي حين هوى المرأة التي فتن بها ، فجمع الله ـ تبارك وتعالى ـ بين داود وتلك المرأة ؛ فكذلك يجمع بين محمد وبين امرأة زيد ؛ إذ هويها كما فعل بداود ، لكن هذا بعيد.

وقيل : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) : أنه لا يحرج على أحد فيما لم يحرم.

وجائز أن يكون (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) ـ في حل نكاح أزواج الأدعياء ، كان يحل لهم ذلك ؛ فعلى ذلك لرسول الله ، والله أعلم.

وقوله (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً).

٣٩٣

هو ما ذكرنا في قوله : (وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي : ما كان بأمر الله وتقديره مقدورا.

قال أبو عوسجة : الدعي : الذي يدعى بعد ما يكبر ، والادعاء أن يكون الرجل نفى ولده ولم يقبله ، ثم ادعاه من بعد ذلك ، هذا هو المعروف عندي.

قال : وفي موضع آخر : (وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ) [يس : ٥٧] ، أي : ما يتمنون ويشتهون ، ويقال : «ظللنا اليوم فيما ادعينا» أي : وجدنا كل ما اشتهينا ، يقال من هذا : ادعيت أدعي ادعاء. وقال : الوطر : الحاجة ، والأوطار : جميع ، والخيرة ، أي : صيرت إليهم الخيرة ، وهو من قولك أي شيء تختار؟ (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص : ٦٨] ، أي : لم يجعل إليكم الاختيار : إن شئتم فعلتم ، وإن شئتم لم تفعلوا ، والقنوت في الأصل : القيام ؛ على ما ذكرنا.

وقوله : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ).

يقول أهل التأويل : هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة ؛ فمعناه ـ والله أعلم ـ إن كان هو المراد به : أنه فيما تزوج حليلة دعيه زيد مبلغ رسالات ربه ، حيث قال : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) ، وتبليغ الرسالة يكون مرة بالخبر والقول ، ومرة بالفعل ، يلزم الناس في اتباعه في فعله كما يلزم في خبره وأمره ، إلا فيما ظهرت له الخصوصية في فعل ما.

وجائز أن يكون قوله : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) هم الأنبياء الذين قال : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) [الأحزاب : ٣٨] نعتهم ، وقال : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) : فسنة الله في محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كسنة أولئك الذين كانوا من قبل فيما ذكر ، (وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) ، يقول ـ والله أعلم ـ : يخشون الله في ترك تبليغ الرسالة ، ولا يخشون أحدا سواه في التبليغ ، ويكون قوله : (إِلَّا اللهَ) ، بمعنى : سواه ؛ على المبالغة في الأمر ، وإلا لو قال : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً) كافيا ، أي : لا يخشون أحدا فيما يبلغون ، لكن يحتمل ما ذكرنا : ألا يخشوا أحدا فيما يبلغون سواه.

وجائز أن يكون قوله : (وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) بما يصيبهم من الأذى والبلاء بالتبليغ ، يقول : لا يرون ذلك من أولئك ، ولكن بتقدير من الله إياه ؛ وإلا كانوا يخافون من أولئك ؛ ألا ترى أنهم قالوا : (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) [طه : ٤٥] ، وحيث قال موسى : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء : ١٤] و (أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) [الشعراء : ١٢] ونحوه.

أو أن يكون في الابتداء خافوهم ، ثم أمنهم الله ؛ فلم يخافوا ؛ حيث قال : (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦] ، والله أعلم.

وقوله : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).

٣٩٤

قيل : شهيدا على تبليغ الرسالة.

وقوله : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ).

معناه ـ والله أعلم ـ : ما كان محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبا أحد أبوة تحرم بها حلائل الأبناء ، وإلا كان هو أبا لجميع المؤمنين ؛ حيث قال : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) [الأحزاب : ٦] إذا كانت أزواجه أمهاتنا ؛ فهو أب لنا على ما ذكرنا.

لكن التأويل فيه : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) أبوة تحرم بها حلائل الأبناء ؛ ولكن أبوة التعظيم له والتبجيل ، وأبوة الشفقة والرحمة ، وهو ما قال : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ ...) الآية [الحجرات : ٢].

وكذلك قوله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [الأحزاب : ٦] يحتمل وجهين :

أولى أن يعظم ويكرم ويشرف من [غيره] ، كقوله : (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ) [الفتح : ٩].

والثاني : (أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) ، أي : أشفق عليهم وأرحم بهم من أنفسهم ، وهو ما وصفه ـ جل وعلا ـ من رحمته ورأفته ؛ حيث قال : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨].

وقوله : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) يخرج على وجهين :

أحدهما : في حق الانتساب إليه ، أي : ليس هو أبا أحدكم ينسب إليه ويدعى به ؛ لأنه ذكر أنهم يدعونه ويسمونه : زيد بن محمد ، أنه يجوز التبني ولا يجوز إليه النسبة ولا التسمية به ؛ كقوله : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) [الأحزاب : ٥].

والثاني : في حق الحرمة ؛ كأنه قال : ليس هو أبا أحدكم في حرمة حلائل الأبناء عليه لا بالتبني ، ولا في حق النسبة ، وإن كان هو أبا لكم في الشفقة والرحمة والرأفة ، على ما ذكرنا بدءا ولكن رسول الله ما ذكرنا في التعظيم له والتبجيل في المعاملة والمصاحبة ، أو في الدعوة به والتسمية.

وقوله : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ).

أخبر ليس بأبي أحد من رجالكم ، على ما ذكرنا ، ولكن رسول الله ؛ لئلا يعاملوا رسوله معاملة آبائهم ، ولا يصاحبوه صحبة غيره ؛ ولكن يعاملوه معاملة الرسل في التعظيم له والتبجيل والإكرام ؛ لأن أبوته وشفقته دينية ، وشفقة الآباء شفقة دنياوية ، ولأن الرجل قد يتبسط مع والده في أشياء لا يسع مثله مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ولذا قال : (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) ، أي : ختم به الرسالة لا نبي بعده.

٣٩٥

وقوله : (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ).

جائز أن يكون ذكره وإخباره : أنه خاتم النبيين ؛ لما علم ـ جل وعلا ـ أنه يسمى غيره بعده نبيّا ؛ على ما قالته الباطنية : إن قائم الزمان هو نبي ؛ فأخبر بهذا أن من ادّعى ذلك لا يطالب بالحجة والدلالة ؛ ولكنه يكذب ؛ وكذلك روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا نبي بعدي» (١) أخبر أنه ختم به النبوة.

وقوله : (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) ، أي : لم يزل الله بما كان ويكون وبما به صلاحهم عليما.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً)(٤٤)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) :

أما أهل التأويل يقولون : اذكروا الله في كل حال وفي كل وقت ، ذكرا كثيرا باللسان. وجائز أن يكون تأويل أمره بالذكر له كثيرا ، أي : اذكروا نعمه ؛ لتشكروا له ، واذكروا أوامره ؛ لتأتمروا ، ونواهيه ومناهيه ؛ لننتهي ، ومواعيده ؛ لنخاف ، وعداته ؛ لنرغب ، واذكروا عظمته وجلاله وكبرياءه ؛ ليهاب ، (ذِكْراً كَثِيراً) ، أي : دائما يذكرون ما ذكرنا ؛ ليكون ما ذكرنا ؛ إذ إنما يكون ذلك بالذكر ؛ والله أعلم.

وقوله : (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً).

البكرة : هي ختم الليل وابتداء النهار ، والأصيل : هو ختم النهار وابتداء الليل ؛ فكأنه أمر بالذكر له ، والخير في ابتداء كل ليل وختمه ، وابتداء كل نهار وانقضائه ؛ ليتجاوز عنهم ويعفو ما يكون منهم من الزلات في خلال ذلك ؛ وعلى ذلك ما روي في الخبر «أن من صلى العشاء الأخيرة والفجر بالجماعة فكأنما أحيا ليلته» (٢).

وجائز أن يكون ذلك ليس على إرادة البكرة والأصيل ؛ ولكن على إرادة كل وقت وكل

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٤٧١) كتاب الإمارة : باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء (٤٤ / ١٨٤٢) عن أبي هريرة يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي وستكون الخلفاء فتكثر ، قالوا : فما تأمرنا؟ قال : فوا ببيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم».

(٢) أخرجه مسلم (٢ / ٤٢) كتاب المساجد : باب فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة (٢٦٠ / ٦٥٦) عن عثمان بن عفان.

٣٩٦

حال ، ليس من وقت ولا من حال إلا ولله على عباده شكر أو صبر : الشكر على نعمائه ، والصبر على مصائبه.

وقال بعضهم : الأمر بالذكر له بالبكرة والأصيل هي الصلوات الخمس : من الظهر إلى آخر الليل أصيل ؛ فيدخل فيه صلوات الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وفي البكرة صلاة الفجر.

وقوله : (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ).

أما صلاة الله : هي الرحمة والمغفرة ، وصلاة الملائكة : الاستغفار وطلب العصمة والنجاة ؛ كقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً ...) الآية [غافر : ٧] ، وقوله : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ...) الآية [غافر : ٨] ، وقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٥] جائز أن يكون المؤمنين خاصة.

وجائز أن يكون الكل : الكافر أو المؤمن ؛ فإن كان هذا فيكون استغفارهم طلب الأسباب التي بها يستوجبون المغفرة ، وهو الهدى ؛ كقول هود : (وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) [هود : ٥٢] ، وقول نوح : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [نوح : ١٠] لا يحتمل أن يستغفروا وهم كفار ؛ ولكن يطلبون منه التوبة عن الكفر ؛ ليستوجبوا المغفرة ؛ وكذلك استغفار إبراهيم لأبيه لا يحتمل أن يستغفر له وهو كافر ؛ ولكن كان يطلب له من الله أن يجعله بحيث يستوجب المغفرة والرحمة ، وهو الهدى ، والله أعلم.

وقوله : (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

قال بعضهم : رحمهم ؛ حيث أخرجهم من أصلاب آبائهم قرنا فقرنا إلى أن بلغوا ما بلغوا. وجائز إخراجه إياهم من ظلمات الكفر إلى نور الهدى بدعاء الملائكة واستغفارهم لهم.

(وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً).

لم يزل الله بالمؤمنين رحيما.

وقوله : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ).

جائز أن يكون تحية الملائكة عليهم : سلام ؛ كقوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ) [الرعد : ٢٤].

أو تحية بعضهم على بعض : سلام لا غير ، ليس كتحيتهم في الدنيا : أطال الله بقاءك ؛ وكيف حالك؟ ونحو ما يقولون في الدنيا ، ويسأل بعضهم بعضا عن أحوالهم ، يقول : ليس تحية أهل الجنة ذاك ؛ ولكن : سلام ؛ كقوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً. إِلَّا قِيلاً سَلاماً

٣٩٧

سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ، ٢٦].

أو أن يكون قوله : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) ، أي : صوابا وسدادا لا غير ؛ كقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] ليس أن يقولوا : سلام عليكم ؛ ولكن يقولون قولا صوابا سدادا ، لا يقابلونهم بمثل ما خاطبوهم ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قولهم : (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) ، أي : صواب من الكلام وسداد.

(وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) ، أي : حسنا.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً)(٤٩)

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً).

يحتمل قوله : (شاهِداً) على تبليغ الرسالة يشهد لهم بالإجابة له إذا أجابوه ، ويشهد عليهم إذا ردوه وخالفوه.

وقال بعضهم : (شاهِداً) على أمتك بالتصديق لهم ، وقيل : (شاهِداً) عليهم بالبلاغ.

وقوله : (وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) ، أي : يبلغ إليهم ما يكون لهم البشارة إن أطاعوه ، ويبلغ إليهم أيضا ما يستوجبون به النذارة إذا خالفوه ، والبشارة هي : إخبار عن الخيرات التي تكون في عواقب الأمور الصالحة ، والنذارة : إخبار عن أحزان تكون في عواقب الأمور السيئة ، أو نحوه من الكلام.

وقوله : (وَداعِياً إِلَى اللهِ).

يحتمل قوله : (وَداعِياً إِلَى اللهِ) إلى توحيد الله ، وإلى طاعة الله ، أو إلى دار السلام ؛ كقوله : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : ٢٥] ، أو إلى ما يدعو الله إليه.

وقوله : (بِإِذْنِهِ) ، قيل : بأمره.

وقوله : (وَسِراجاً مُنِيراً) : اختلف فيه :

قال بعضهم : هو صلة قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) ، وجعلناك (وَسِراجاً مُنِيراً) ؛ فالسراج المنير هو الرسول على هذا التأويل.

وقال بعضهم : السراج المنير هو القرآن ، يقول : أرسلناك داعيا إلى الله وإلى السراج المنير ، وهو هذا.

وقوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً).

فيه دلالة أن البشارة إنما تكون بفضل من الله ، لا أنهم يستوجبون بأعمالهم شيئا من

٣٩٨

ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ).

هذا قد ذكرناه في أول السورة.

وقوله : (وَدَعْ أَذاهُمْ).

هذا يحتمل : أعرض عنهم ، ولا تكافئهم بما يؤذونك.

أو أن يقول : (وَدَعْ أَذاهُمْ) ، أي : اصبر على أذاهم.

وقوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) ، أي : اعتمد بالله.

(وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) ، أي : كفى بالله معتمدا.

أو أن يقال : كفى بالله وكيلا ، أي : حافظا أو مانعا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً)(٥٢)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ).

ذكر أن رجلا جاء إلى ابن عباس فقال : كان بيني وبين عمتي كلام ، فقلت : يوم أتزوج ابنتك فهي طالق ثلاثا ؛ فقال : تزوجها فهي لك حلال ؛ أما تقرأ هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ...)(١) الآية.

فجعل الطلاق بعد النكاح.

وعندنا : أنه إذا حلف : إن تزوجها فهي طالق ؛ يكون طلاقا بعد النكاح ، وليس في الآية منع وقوع الطلاق إذا أضافه إلى ما بعد النكاح.

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد من طريق سعيد بن جبير عنه بنحوه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٩٢).

٣٩٩

وقوله : (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) ، يحتمل المماسة : الجماع ، أي : من قبل أن تجامعوهن.

ويحتمل : من قبل أن تدخلوا بهن المكان الذي تماسّونهن ؛ وإلا لو دخل بها المكان الذي يماسها ، ثم طلقها يجب كمال الصداق ، وإذا لم يجامعها ، ولم يدخل المكان الذي يماسها حتى طلقها ـ وجب نصف الصداق ؛ ويدل على ذلك قول الله حيث قال : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) [النساء : ٢١] ، والإفضاء ليس هو الجماع نفسه ؛ ولكن الدنو منها والمسّ باليد أو شبهه ، والله أعلم.

وقوله : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها).

هذا يدل على أن العدة من حق الزوج عليها ؛ حيث قال : (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) ، ولا يجوز له أن يجمع بين أختين فيما له من حق ؛ فعلى ذلك ليس له أن يجمع بين الأختين في حق العدة التي له قبلها ، والله أعلم.

وقوله : (فَمَتِّعُوهُنَ).

قال بعضهم (١) : هذه المتعة منسوخة بالآية التي ذكر في سورة البقرة ؛ حيث قال : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) [٢٣٧].

وقال بعضهم : هي التي وهبت نفسها بغير صداق ، فإن لم يجب الصداق وجب المتعة.

وعندنا : إن كان سمى لها صداقا ، فليس لها إلا نصف الصداق ، ولا يجب عليه المتعة وجوب حكم ، لكن إن فعل ومتعها فهو أفضل وأحسن ، وإن كان لم يفرض لها صداقا حتى طلقها قبل الدخول بها ؛ فهي واجبة على قدر عسره ويسره ، والله أعلم.

وقوله : (وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً).

قال بعضهم : السراح الجميل : هو أن يمتعها إذا سرحها.

وقال بعضهم : السراح الجميل : هو أن يبذل لها الصداق.

وقال بعضهم : السراح الجميل : هو أن يقول : لا تؤذوهن بألسنتكم إذا سرحتموهن ، والله أعلم.

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ).

__________________

(١) قاله ابن عمر ، أخرجه ابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٩١) ، وهو قول سعيد بن المسيب.

٤٠٠