تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

أعلم.

وقوله : (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا).

قال بعضهم (١) : ظن ناس من المنافقين ظنونا مختلفة ، يقولون : هلك محمد وأصحابه ، ونحوه من الظنون الفاسدة السوء ، وكقوله : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب : ١٢] ، ونحوه.

وجائز أن يكون ذلك الظن من المؤمنين : ظنوا بالله ظنونا لتقصير أو تفريط كان منهم نحو قوله : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [التوبة : ٢٥] ، وكقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ ...) الآية [آل عمران : ١٥٥].

ثم قال : (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) بالقتال وأنواع الشدائد

(وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً).

قيل : جهدوا جهدا شديدا ، وقيل (٢) : حركوا تحريكا شديدا.

قوله تعالى : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً)(٢٠)

وقوله : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

يحتمل أن يكون قوله : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : هما واحد ، وهم

__________________

(١) قاله الحسن أخرجه ابن جرير (٢٨٣٧٣) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٧).

(٢) انظر : تفسير ابن جرير (١٠ / ٢٦٨).

٣٦١

المنافقون.

وجائز أن يكون المنافقون هم الذين أضمروا الخلاف له ، وأظهروا الوفاق ، على إبانة الحق لهم وظهوره ، (وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) : هم الذين كانوا مرتابين في ذلك ، لم يبن لهم ذلك ، ولم ينجل قالوا هذا :

(ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) :

قال عامة أهل التأويل (١) : الذي وعد لهم فتوح البلدان ، قالوا لما أحاط بهم ـ أعني : بالمؤمنين ـ الكفار قال ذلك المنافقون.

وقوله : (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ).

قيل (٢) : (يَثْرِبَ) : المدينة ، ويقال : (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) : يأهل المدينة ، وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قال للمدينة : يثرب ، فليستغفر الله ثلاثا ؛ هي طابة هي طابة» (٣)

ثم قال بعضهم : إن قوله : (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) إنما قاله أهل النفاق لبعضهم : (لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا).

ثم يحتمل قوله (لا مُقامَ لَكُمْ) وجهين :

أحدهما : ما قالوا : (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من الفتح والنصر (إِلَّا غُرُوراً).

والثاني : (لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا) ؛ لما لم يقع عندهم أنهم يصلون إلى ما كانوا يطمعون ويأملون ؛ لأنهم كانوا يخرجون رغبة في الأموال وطمعا فيها ، وهو ما وصفهم : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ...) الآية [الحج : ١١].

وجائز أن يكون هذا القول من المؤمنين لأهل النفاق ؛ فإن كان من المؤمنين لأولئك فالوجه فيه : أنهم أرادوا أن يطردوهم ؛ لفشلهم ولجبنهم ؛ لئلا يهزموا جنود المؤمنين بانهزامهم ؛ لأنهم قوم همتهم الانهزام فإذا انهزموا هم انهزم غيرهم ؛ فالمعنى : إذا كان ذلك من المؤمنين لهم غير المعنى إذا كان [من] أهل النفاق بعضهم لبعض ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٣٧٧) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٥٨).

(٢) قاله السدي ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٣٥٩) ، وورد في هذا المعنى حديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت بقرية تأكل القرى يقولون : يثرب وهي المدينة ، تنفي الناس كما ينفى الكير خبث الحديد».

أخرجه البخاري (٤ / ٥٧١) ، كتاب فضائل المدينة باب فضل المدينة (١٨٧١) ، ومسلم (٢ / ١٠٠٦) ، كتاب الحج باب المدينة تنفي شرارها (٤٨٨ / ١٣٨٢).

(٣) أخرجه أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٥٩).

٣٦٢

وقوله : (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ).

بالرجوع إلى المدينة ، كقوله : (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) [التوبة : ٤٥].

وقوله : (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ).

قال بعض أهل التأويل : (١) (بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) : خالية من الناس ، ليس فيها أحد ، فنخاف السرق عليها والأخذ والمكابرة.

ويحتمل أن يكونوا أرادوا بالعورة دخول العدوّ عليها إذا كانوا هم في الجند ، العورة ، أي : يدخل علينا مكروه ما يحزننا ويهمّنا ، أو كلام نحو هذا ، فأكذبهم الله في قولهم ، وقال : (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) ، بل الله يحفظها على ما وعد ، حتى لا يدخل عليهم مكروه لما يخافون ولا يصيبهم.

وقوله : (إِنْ يُرِيدُونَ) ، أي : ما يريدون (إِلَّا فِراراً) من القتال.

وقوله : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما ، أي : لو دخلوا عليهم من أطراف المدينة ونواحيها ، ثم دعوا إلى الشرك لأجابوهم ، (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) ، أي : لم يمتنعوا عن إجابتهم ، بل لأجابوهم به كما دعوا.

وقال بعضهم : إنهم لو كانوا في بيوتهم ، فدخلوا عليهم من نواحيها ، ثم سئلوا الأموال وما تحويه أيديهم (لَآتَوْها) ، أي : لأعطوها.

(وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً).

يخبر عن نفاقهم وخلافهم له في السرّ أنهم يعطون لأولئك ما يريدون من الأموال أو الدين ، ويوافقونهم ولا يوافقونكم البتة ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ).

قال بعضهم (٢) : كان أناس غابوا وقعة بدر وما أعطى الله أصحاب بدر من الفضيلة والكرامة ؛ فقالوا : لئن شهدنا قتالا لنقاتلن ؛ فساق الله ذلك إليهم حتى كان في ناحية المدينة.

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٨٣٨١) ، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٥٩).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٣٨٨).

٣٦٣

وقال بعضهم : قوله : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) ، وذلك أنهم كانوا عاهدوا الرسول على عهدهم بمكة على العقبة بمنى ، واشترط عليهم لربّه ولنفسه : أمّا لربّه : أن يعبدوه وألا يشركوا به شيئا ، واشترط لنفسه أن ينصروه ويعزروه ويعينوه [ويمنعوه] ما يمنعون منه أنفسهم ونساءهم وأولادهم ؛ فقالوا : فإذا فعلنا ذلك ؛ فما لنا يا نبي الله؟ قال : لكم النصر في الدنيا ، [و] الجنة في الآخرة ؛ قالوا : قد فعلنا ؛ فذلك قوله : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ) ليلة العقبة حين شرطوا للنبي المنعة : ألا يولوا الأدبار منهزمين.

(وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً).

أي : يسأل من نقض العهد في الآخرة ومن وفى.

وجائز أن يكون قوله : (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) مجزيا نقضا أو وفاء ، يجزون على وفاء العهد ونقضه.

وقوله : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ).

قال أهل التأويل : إن قضي عليكم الموت أو القتل ؛ فلن ينفعكم الفرار.

وقال بعضهم : إن جعل انقضاء آجالكم الموت أو القتل لن ينفعكم الفرار ؛ بل تنقضي.

وأصله : إن كان المكتوب عليكم الموت أو القتل لن ينفعكم الفرار منه ؛ بل يأتي لا محالة ؛ كقوله : (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) الآية [آل عمران : ١٥٤] ، أي : لا محالة المكتوب عليهم القتل ـ وإن كانوا في بيوتهم ـ لبرزوا ؛ فيقتلون.

(وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً).

قال بعضهم (١) : إنما الدنيا قليل إلى آجالكم.

وجائز أن يكون معناه : ولئن نفعكم الفرار عنه (لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) ؛ كقوله : (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) الآية [الشعراء : ٢٠٥ ، ٢٠٦].

قال أبو عوسجة والقتبي (٢) : أدعياءكم : من تبنيتموه واتخذتموه ولدا ، ما جعلتم بمنزلة الصلب وكانوا يورثون من ادعوا.

(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ).

إن قولكم على التشبيه والمجاز ، ليس على التحقيق.

__________________

(١) قاله الربيع بن خثيم ، أخرجه ابن جرير (٢٨٣٩٠) و (٢٨٣٩٢) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٦٠) ، وهو قول قتادة أيضا.

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٤٨).

٣٦٤

(وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ).

وقوله : (أَقْسَطُ) : أعدل.

(وَإِذْ زاغَتِ) : عدلت ومالت (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) ، أي : كادت تبلغ الحلقوم من الخوف ، والحناجر جماعة الحنجرة ، وهي المذبح.

وقوله : (وَزُلْزِلُوا) ، أي : شددوا عليهم وهوّلوا ، والزلزال : الشدائد ، وأصلها من التحريك واللائى تظهرون و (اللَّاتِي) مآلهما واحد ، والله أعلم.

وقوله : (قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً).

ذكر هذا على أثر قوله : (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) ، يقول ـ والله أعلم ـ : إنكم ، وإن فررتم من الموت أو القتل ، فإن الله إن أراد بكم سوءا أو هلاكا لا يملك أحد دفعه عنكم ، أو إن أراد بكم رحمة ونجاة وخيرا لا يملك أحد منعه عنكم ، وقد تعلمون أنكم لا تجدون من دون الله وليّا ينفعكم ولا نصيرا ينصركم ويمنعكم عن حلول ذلك عليكم ، والله أعلم.

وقوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ) : هم المانعون منكم ، (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) :

قال بعضهم (١) : هم اليهود أرسلوا إلى المنافقين ، وقالوا : من ذا الذي يحملكم على قتل أنفسكم بأيدي أبي سفيان ومن معه من أصحابه؟! فإنهم إن قدروا عليكم هذه المرة ما استبقوا منكم أحدا ، فإنا نشفق عليكم ؛ فإنما أنتم إخواننا ونحن جيرانكم ، (هَلُمَّ إِلَيْنا).

وقال بعضهم (٢) : هم المنافقون ، عوق بعضهم بعضا ومنع عن الخروج مع رسول الله إلى قتال العدوّ. وفيه أمران :

أحدهما : دلالة على إثبات الرسالة ؛ لأنهم كانوا يسرون هذا ويخفون فيما بينهم ، ثم أخبرهم بذلك ؛ ليعلموا أنه إنما علم ذلك بالله تعالى.

والثاني : أن يكونوا أبدا على حذر مما يضمرون من الخلاف له ؛ كقوله : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ...) الآية [التوبة : ٦٤].

وقوله : (وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً).

أي : لا يأتون القتال والحرب إلا مراءاة وسمعة ، هذا ـ والله أعلم ـ يشبه أن يريد بالقليل : أنهم لا يأتون إتيان من يريد القتال والقيام معهم ؛ ولكن مراءاة وسمعة وإظهارا

__________________

(١) قاله مقاتل ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٥١٨).

(٢) قاله قتادة بنحوه أخرجه ابن جرير (٢٨٣٩٦) ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٣٦٠).

٣٦٥

للوفاق لهم ، والله أعلم.

وقوله : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ).

قال عامة أهل التأويل (١) : أي : بخلاء على الإنفاق عليكم ، أي : لا ينفقون عليكم ولا على سبيل الخير ، والله أعلم.

وقال بعضهم : الشح ـ أيضا ـ : هو الحرص ، يقول : (أَشِحَّةً) ، أي : حراصا على قسمة الغنيمة ، يخبر عن معرضهم في الدنيا وركونهم إليها وميلهم فيها ، ثم أخبر عن جبنهم وفشلهم وشدة خوفهم ، وهو ما قال : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [الأحزاب : ١٩].

يخبر أنهم لجبنهم وفشلهم يصيرون كالمغشي عليه من الموت.

(فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ).

يخبر عن شدة حرصهم في قسمة الغنيمة ورغبتهم فيها ـ أنهم أشح قوم وأسوؤهم مقاسمة ، يقولون : أعطونا ، أعطونا ؛ إنا قد شهدنا معكم ؛ كقوله : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) [النساء : ١٤١] ونحوه.

وقوله : (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ).

قال بعضهم : هذا قولهم ، أي : إنا أشح منكم على رسول الله وعلى دينه ، وأضن منكم على الخير ، أي : نحن أحرص عليه منكم.

وقال بعضهم (٢) : (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) ، أي : حراصا على الغنيمة والنيل منها.

ثم أخبر عنهم ، وعن خلافهم له ؛ حيث قال : (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ).

التي عملوها في الظاهر ، (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) :

أي : صنعهم الذي صنعوا على الله ، (يَسِيراً) ، أي : لا يضره.

وقال بعضهم : حبط أعمالهم ، وتعذيبه إياهم مع كثرة أتباعهم وأعوانهم على الله يسير ، أي : لا يشتد عليه ولا يصعب ، والله أعلم.

وقوله : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا).

أي : يحسب هؤلاء المنافقين أن الأحزاب لم يذهبوا ؛ من الفرق والجبن والفشل الذي فيهم يوم الخندق.

(وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) ، أي : يقبل الأحزاب ، (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) ،

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٨٤٠٠) ، والفريابي وابن أبي شيبة ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٦١).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٣٩٩) ، وهو قول السدي.

٣٦٦

أي : بألسنتهم كانوا بمنزلة البداء ؛ وأنهم تركوا أوطانهم وديارهم.

(يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) :

كانت همتهم التخلف والفرار من القتال وطلب أخبار المؤمنين : أنهم ما فعل بهم؟ نحو ما قال : (وَيَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ. لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) [التوبة : ٥٦ ، ٥٧] هكذا كانت عادتهم ، ثم ابتلاهم الله بما كانوا يظهرون الموافقة للمؤمنين ويضمرون الخلاف لهم ؛ والعداوة بفضل فشل وجبن ما لم يكن ذلك في غيرهم ؛ ففي ذلك تحذير للمؤمنين وزجر عن مثل هذا الصنيع ومثل هذه المعاملة ؛ لئلا يبتلوا بمثل ما ابتلي أولئك.

وفيه أنه يعامل بعضهم بعضا على الظاهر الذي ظهر دون حقيقة ما يكون ؛ وعلى ذلك يجري الحكم على ما عامل رسول الله وأصحابه أهل النفاق ، وحكمه على ما أظهروا دون ما أضمروا في الأنكحة والصهر وغير ذلك من الأحكام ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً).

قال بعضهم : (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) ، أي : إلا فيما يدفعون عن أنفسهم لو قصدوا ، فأما الدفع عن المؤمنين ودينهم فلا.

وجائز أن يكون المراد بالقليل ، أي : لا يقاتلون البتة حقيقة القتال ، وهو ما ذكر عنهم ؛ حيث قال : (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالاً) [التوبة : ٤٧] ، أي : فسادا في أمركم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤) وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً)(٢٧)

وقوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).

قال بعضهم : ذلك حيث كان يباشر القتال بنفسه ، فباشروا معه القتال [فمن باشر معه القتال] أساه بأسوة حسنة ، ومن لم يفعل فلم يواسه.

٣٦٧

وابن عباس يقول : (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ، أي : سنة صالحة أو نحوه.

مثل هذا إنما يذكر عن زلات تكون إما من المنافقين أو من المؤمنين ، فيقول : لكم في التأسي برسول الله الاقتداء والقدوة به ، فهو يخرج على وجوه :

أحدها : أي : لقد كان لكم في رسول الله قبل أن يبعث رسولا ، وقبل أن يوحى إليه فيما عرفتموه من حسن خلقه وكرمه وشرفه وأمانته ـ أسوة حسنة ؛ فكيف تركتم اتباعه إذا بعث رسولا؟!

والثاني : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) ، أي : صار لكم (فِي رَسُولِ اللهِ) إذا بعث رسولا (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) : فيما أنزل إليه وأوحي إليه ، وفيما شاهدتموه من حسن خلقه وكرمه ؛ فالواجب عليكم أن تتأسوا به.

والثالث : لقد كان لكم بالمؤمنين أسوة استوائهم لو اتبعتم ما شرع لكم رسول الله وسن.

أو الأسوة : هي الاستواء ؛ كقول الناس : «فلان أسوة غرمائه» ، أي : يكون المال بينهم على الاستواء ، هذا ـ والله أعلم ـ يشبه أن يكون تأويل الآية.

وقوله : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ).

قال بعضهم : يكون في رسول الله أسوة لمن خاف الله وآمن باليوم الآخر وبجزاء الأعمال ، فأما المنافق والذي لا يؤمن بالبعث ، فلا يكون فيه أسوة له.

وجائز أن يكون قوله : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) ، أي : لقد كان لكم أسوة حسنة ، ولمن كان يرجو الله واليوم الآخر.

أو أن يكون لكم في رسول الله أسوة حسنة ، وفيمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، والله أعلم.

وقوله : (وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً).

ذكر الله يحتمل في نعمته وإحسانه ، يذكر بالشكر له وحسن الثناء ، أو يذكر سلطانه وملكه أو جلاله وعظمته وكبرياءه ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ).

حيث أخبرهم أنكم ستلقون كذا في قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ) [البقرة : ٢١٤] : قالوا لما عاينوا ما وعد لهم وأخبرهم :

(هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) فيما أخبرنا من الوحي قبل أن يكون وقبل أن نلقاه.

٣٦٨

(وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً).

أي : ما زادهم إلا إيمانا ما رأوا وعاينوا ، فيما وعد وأخبر ، إلا إيمانا وتصديقا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وعده وخبره.

وقال قائلون : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد وعد لهم وأخبر : أن يوم الخندق (١) تكون من الأحزاب كذا والجنود كذا ، وإنكم ستلقون يومئذ كذا ، فلما رأوا ذلك وعاينوه قالوا عند ذلك : (هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً) وتصديقا لرسول الله ؛ لأن ذلك آية وحجة لرسالته ؛ فهو يزيدهم تصديقا له.

وقوله : (وَتَسْلِيماً) ، أي : تسليما لأمر الله وتفويضا له.

وقيل : وما زادهم بما أصابهم يوم الخندق إلا إيمانا وتصديقا إلى تصديقهم الأول ، ويقينا إلى يقينهم الأوّل ، وتسليما لأمر الله ؛ لأن ذلك الأمر كان قضي عليهم أن يصيبهم ، فسلموا لله أمره ؛ فصبروا عليه ، وأصله ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ).

قوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يخرج على وجهين :

أحدهما : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ـ الذين هم عندكم مؤمنون ـ (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) ، ورجال لم يصدقوا وهم المنافقون ؛ لأن ظاهر هذا الكلام يدل على أن من المؤمنين الذين هم في الظاهر عندهم مؤمنون لم يصدقوا ، فأما من كان في الحقيقة مؤمنا فقد صدق عهده.

والثاني : ذكر (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ؛ خصّ بعض المؤمنين بصدق ما عاهدوا وهم الذين خرجوا لذلك : لم يكن بهم عذر فوفوا ذلك العهد ؛ وتخلف بعض من المؤمنين ؛ للعذر ؛ فلم يتهيأ لهم وفاء ذلك العهد لهم وصدقه ؛ وكذلك يخرج قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) ، أي : وفي بعهده. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ).

بالوفاء أن يرتفع عنه العذر ؛ فبقي ذلك ، والله أعلم.

ثم قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) : وفاءه.

وقال بعضهم : (مَنْ قَضى نَحْبَهُ) ، أي : هلك عليه ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) ذلك ، أي على شرف الهلاك.

وقوله : (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).

__________________

(١) ينظر : سبل الهدى والرشاد (٤ / ٥١٢ ، ٥١٣).

٣٦٩

هذا يقوي التأويل الذي ذكرنا : أخبر في قوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) : أن الذين خلفهم العذر فلم يوفوا عهده ، والذين لا عذر بهم ، فخرجوا فوفوا كلهم لم يبدلوا عهد الله تبديلا ؛ لأنه إنما خلفهم العذر ؛ فلم يكن في ذلك تبديل.

وقوله : (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) على ما وفوا ، (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) :

هذا يدل أن من المنافقين من قد يتوب ؛ حيث قال : (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) ، ويعذب الذي مات على نفاقه.

(إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) ، أي : لم يزل غفورا رحيما ، حيث رحمهم ، ولم يأخذهم وقت ارتكابهم الجرم ، ولكن أمهلهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ) ، أي : ردّ كفار مكة يوم الخندق ، (لَمْ يَنالُوا خَيْراً).

قال بعضهم : أي : غنيمة ، أي : ردهم بغيظهم ، لم يصيبوا شيئا من الغنيمة ؛ فإن كان المراد من الخير : الغنيمة ؛ فجائز أن يستدل على تملك أهل الحرب أموال المسلمين إذا أحرزوها ، حيث قال : (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) ، أي : مالا.

وجائز أن يكون قوله : (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) ، أي : سرورا بما كانوا يأملون ويطمعون هلاك المؤمنين على أيديهم ، لما أحاطوا بهم وضيقوا عليهم الأمر ؛ حتى احتاجوا إلى الخندق ؛ فكانوا في أيديهم. يقول : إنهم لم ينالوا ذلك السرور الذي كانوا يأملونه ويرجونه ، والله أعلم.

وقوله : (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ).

حيث بعث عليهم الريح وسلط عليهم الملائكة ؛ حتى هزموهم حتى كفوا القتال والحرب معهم.

(وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً).

أي : كان الله لم يزل قويّا عزيزا ؛ لأنه قوي بذاته عزيز بذاته لا يلحقه ذل ، وإن لحق أولياءه الذل والضعف ، ليس كملوك الأرض إذا ذهب أصحابهم أو دخل فيهم ذل وضعف ؛ ذلّ ملكهم ؛ لأنه عزيز بجنده وحشمه ، فأمّا الله ـ سبحانه ـ [فهو] قوي بذاته ، عزيز بذاته ، لا يلحقه ذل ولا ضعف بذهاب أوليائه.

وقال بعضهم في قوله : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) : كان رجال فاتهم يوم بدر ؛ فقالوا : لئن حضرنا قتالا ، لنفعلن ولنفعلن ، فلما كان يوم الأحزاب قاتلوا ؛ فذلك قوله :

٣٧٠

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) ، أي : مات على ما عاهد الله عليه ، (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) : يوما آخر يكون فيه قتال ؛ فيقاتل على ما عاهد الله عليه ، (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً).

وفي حرف أبي : ومنهم من بدل ؛ فيرجع ذلك إلى المنافقين الذين ذكرنا بدءا.

وقال القتبي (١) قوله : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) ، أي : خالية ، وأصل العورة : ما ذهب عنه الستر والحفظ ؛ فكأن الرجال ستر وحفظ للبيوت ؛ فإذا ذهبوا ، أعورت البيوت ؛ تقول العرب : أعور المنزل ، أي : ذهب ستره ، أو سقط جداره ، وأعور الفارس : إذا بدا فيه موضع خلل للضرب بالسيف.

يقول الله ـ تعالى ـ (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) ؛ لأن الله حافظها ، ولكن يريدون الفرار.

وقوله : (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها) ، أي : من جوانبها ، (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) ، أي : الكفر ، (لَآتَوْها) ، أي : أعطوها من أرادها ، (وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً) ، أي : بالمدينة. ومن قرأها : (لَآتَوْها) ـ بغير مدّ ـ أراد : لصاروا إليها.

وقال أبو عوسجة : قولهم : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) : من ناحية العدو ، والعورة : الموضع الذي يخاف منه.

وقوله : (أَقْطارِها) ، أي : من نواحيها ، الواحد : قطر ، (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) ، أي : عرضت عليهم ، وهو الكفر.

وقال القتبي : (٢) (سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) ، يقول : آذوكم بالكلام ، يقال : خطيب مشلق (٣) وسلاق. وفيه لغة أخرى : صلقوكم بالصاد : وهو الضرب.

أبو عوسجة يقول قريبا منه : (سَلَقُوكُمْ) ، أي : كلموكم وضربوكم (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) ، أي : طوال ، والسلق : الضرب ، والخاطب : السلاق والمسلاق من هذا ، وهو طول اللسان والجرأة على الكلام.

وقوله : (لا مُقامَ لَكُمْ) بنصب الميم لا يكون إلا من القيام ، و (لا مُقامَ لَكُمْ) برفع الميم يكون من الإقامة ، وهو قول أبي عوسجة.

وأبو عبيدة (٤) يقول : (لا مُقامَ لَكُمْ) ، أي : ليس لكم مقام تقومون فيه ، و (لا مُقامَ) ، أي : لا إقامة لكم.

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٤٨).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٤٩).

(٣) في أ : سيلق.

(٤) ينظر : مجاز القرآن (٢ / ١٣٤).

٣٧١

وقال أبو عوسجة : المقامة : المجلس ، ومقامات ـ جمع المقام ـ : موضع القدمين ، والمقام : الموضع الذي يقيم فيه الرجل.

وقال : (الْمُعَوِّقِينَ) ، قال : المتعوق ، المحتبس ، والمعوق : الذي يعوق غيره ، أي : يحبس.

وقوله : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) ، أي : حراصا على ما نالكم من الشر ، الواحد : شحيح ، يقال : شح يشح شحّا ؛ فهو شحيح ، أي : حرص يحرص حرصا ؛ فهو حريص.

وقال غيره : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) ، أي : بخلاء ، لا ينفقون عليكم أو في سبيل الله.

وقال بعضهم : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) ؛ من شدة الفرق ؛ فهم هؤلاء المعوقون : اليهود أو المنافقون ، (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) : والأحزاب : هم الفرق أعداء رسول الله وأصحابه ، (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) ، يقول : خارجون في الأعراب من الرهبة ، (يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ) : يسألون عن خبر المؤمنين ساعة بعد ساعة ؛ جزعا ورهبة ، يقول الله للمؤمنين : (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) أي : معكم عند القتال هؤلاء الذين تقدم ذكرهم (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) رميا بالحجارة ؛ من ضعفهم وفرقهم ، أو ما ذكرنا ؛ دفعا عن أنفسهم ، وأمّا غيره فلا.

وقوله : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ).

ذكر في القصة : أن اليهود : يهود بني قريظة ظاهروا أبا سفيان وأصحابه على رسول الله وعلى المؤمنين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه ، فلما انهزم المشركون تحصن بنو قريظة في حصونهم ، ورجع النبي إلى المدينة ، فجاءه جبريل ، فقال له : «يا محمد ، والله ما وضع أهل السماء أسلحتهم ، وقد وضعتم أنتم أسلحتكم ، اخرج إلى بني قريظة ؛ فقال له النبي : «فكيف أصنع بهم وهم في حصنهم؟» قال : اخرج إليهم ؛ فو الله لأدقنهم بالخيل والرجال كما تدق البيضة على الصفا ، ولأخرجنهم من حصنهم ؛ فنادى رسول [الله] في الناس ، وأمر بالخروج إلى بني قريظة ؛ فخرجوا فحاصروهم كذا كذا ليلة ؛ حتى صالحهم على حكم سعد بن معاذ ؛ فنزلوا على حكمه ؛ فحكم سعد ؛ أن يقتل مقاتلتهم ، ويسبى ذراريهم ونساؤهم ، فقيل : إن رسول الله قال يومئذ : «يا سعد ، لقد حكمت بحكم الله» ؛ فأخرجت المقاتلة فقتلوا ، وسبوا ذراريهم ، وقسم أرضهم بين المهاجرين ؛ فقال قومه والأنصار : آثرت المهاجرين بالعقار دوننا ، فقال : «إنكم ذوو عقار وإن القوم لا عقار لهم» (١) ، أو كلام نحو هذا ، فذلك قوله : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) ، يعني :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٨٤٤٣) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة مرسلا كما في الدر المنثور (٥ / ٣٦٨).

٣٧٢

الذين ظاهروا أبا سفيان والمشركين جميعا على رسول الله وأصحابه ، (مِنْ صَياصِيهِمْ) ، أي : من حصونهم.

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) ، وهم المقاتلة ، (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) ، وهم النساء والذراري.

(وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) ، أي : لم تملكوها ، اختلف في قوله : (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) :

قال بعضهم (١) : هي أرض مكة.

وقال بعضهم : هي أرض الشام وقراها.

وقال بعضهم (٢) : هي أرض خيبر ، أي : سيورثكم الله إياها : فأما أرض مكة فقد فتحها وتركها في أيدي أهلها ، وكذلك بلاد الشام وقراها.

وعن الحسن (٣) : هي أرض الروم وفارس وما فتح الله عليكم.

وأما خيبر (٤) فقد فتحها وقسمها بين من ذكرنا وجعلها فيئا ؛ فهو أشبه من غيره ؛ ففيه أن من يخلف في ملك غيره وصفا ملكه للآخر وانتقل إليه يسمى : وارثا بموت أو بغيره ؛ حيث قال : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ ...) الآية ، وكذلك ما قال : (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ...) [الزمر : ٧٤] إلى كذا ، وقوله : (يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) ، أي : يبعثون فيها ، ونحوه ، وكقوله : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [آل عمران : ١٨٠] ، أي : يبقى [له] ملك السموات والأرض ، أي : لا ينازع فيه. وكذلك يخرج قوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ) [مريم : ٤٠] أي : نبقى فيها ، والخلائق يفنون.

ثم الفائدة في ذكر هذا وأمثاله لنا ، إذ هم قد شاهدوها وعاينوها ، يخرج على وجوه :

أحدها : تعريف لآخر هذه الأمة أن أوائلهم ما قاسوا وما تحملوا من الشدائد والبلايا في أمر هذا الدين ، حتى بلغ هذا المبلغ ؛ فنجتهد نحن كما اجتهد أولئك في حفظ هذا الدين وفي أمره.

والثاني : أمرهم بالتأهب مع العدوّ حتى أمروا بالخندق والتحصن بأشياء ، ثم جاءهم الغوث من الله بغير الذي أمروا ؛ ليكونوا أبدا متأهبين مستعدين لذلك ، ولا يرجون النصر

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٤٥٦) ، وعبد الرزاق وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٦٨).

(٢) قاله عكرمة ، أخرجه الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٦٩) ، وهو قول ابن زيد وغيره.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٨٤٥٦) ، وعبد الرزاق وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٦٨).

(٤) سبل الهدى والرشاد (٥ / ٢٢٠ ـ ٢٢٣).

٣٧٣

والظفر من ذلك الوجه ، وذلك بفضل الله ونصره ، على ما أخبر عنهم : (وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً ...) الآية [التوبة : ٢٥].

والثالث : ألا يؤيسهم خروج أنفسهم من أيديهم ، وإحاطة العدو بهم ، وكونهم في أيديهم من روح الله ورحمته وغوثه إياهم ؛ لأن الخوف قد بلغ بهم المبلغ الذي ذكر ؛ حيث قال : (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ...) إلى قوله : (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً).

وفيه دلالة إثبات الرسالة لرسول الله ؛ لأنه وعد لهم النصر ، فكان على ما وعد ؛ ليعرفوا [صدقه] في كل ما يخبر ويعد.

(وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) ، أراد : من فتح ، أو نصر ، أو غيره ، (قَدِيرٌ أَ).

وقال القتبي (١) وأبو عوسجة : (قَضى نَحْبَهُ) ، أي : قتل ، وقضى أجله ، وأصل النحب : النذر ؛ كأن قوما نذروا : إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله ، فقتلوا.

وقوله : (مِنْ صَياصِيهِمْ) : حصونهم ، وأصل الصياصي : قرون البقر ؛ لأنها تمتنع بها ، وتدفع عن أنفسها ، فقيل للحصون : صياصي ؛ لأنها تمنع ، والواحدة : صيصية ، وصيصية الديك : عرفه ، والصيصية : خف صغير يحوك به الحائك ، ويجمع هذا كله : صياصي. والأحزاب : الفرق ، واحدها : حزب ، ويقال : حزبت القوم ، أي : جمعتهم ، وحزبتهم ، أي : فرقتهم ، وتحزب القوم : إذا اجتمعوا وصاروا حزبا حزبا ، وتقول : هؤلاء حزبي ، أي : أصحابي وشيعتي ، وتقول : حازبني محازبة ، أي : صاحبني مصاحبة.

وقوله : (بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) ، أي : أن يكونوا في البادية مع الأعراب ، رجل باد : قد نزل البادية ، (يَوَدُّوا) [الأحزاب : ٢٠] أن يكونوا في البادية مع الأعراب.

وقال بعضهم في قوله : (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) : هو ما يظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٤٩).

٣٧٤

بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً)(٣٤)

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها).

قال بعض أهل التأويل : إنهن جلسن ، فجعلن يخترن الأزواج في حياة رسول الله ، فنزلت الآية توبيخا لهن وتعييرا على ذلك.

لكن هذا بعيد محال : لا يحتمل أن يكون أزواجه يخترن الأزواج ، وهن تحته في حياته ؛ فذلك سوء الظن بهن.

وقال بعضهم : إنهن طلبن النفقة منه ؛ فنزل ما ذكر.

وقيل : إنهن تحدثن بشيء من الدنيا وركنّ إليها ؛ فنزل ما ذكر عتابا لهن وتعييرا ، ونحو ذلك قد قالوا.

وجائز أن يكون الله يمتحن رسوله وأزواجه بالتخيير واختيار الفراق منه ـ ابتداء امتحان من غير أن يكون منهن شيء مما ذكروا ولا سبب ؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : «لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتخيير أزواجه ؛ بدأ بي فقال : «يا عائشة ، إني ذاكر لك أمرا ، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك» ، قالت : وقد علم الله أن أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه ، قالت : ثم قال : «إن الله يقول : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها ...) إلى قوله : (أَجْراً عَظِيماً) ؛ فقلت : أفي هذا أستأمر أبويّ؟! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وفعل سائر أزواجه مثل ما فعلت» (١).

وفي بعض الأخبار أنها قالت : بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة ؛ فدل قولها (٢) : «لما أمر رسول الله بتخيير أزواجه» : أن ذلك من الله ابتداء امتحان ، من غير أن كان منهن ما ذكروا من الركون إلى الدنيا والتحدث بما ذكر.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٤٧٣) ، كتاب التفسير : باب (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا ...) الآية ، (٤٧٨٥) ، ومسلم (٢ / ١١٠٣) ، كتاب الطلاق : باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية (٢٢ / ١٤٧٥).

(٢) أخرجه مسلم (٢ / ١١٠٤ ، ١١٠٥) ، كتاب الطلاق : باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقا إلا بالنية (٢٩ / ١٤٧٨) ، وأحمد (٣ / ٣٢٨) ، والنسائي وابن مردويه كما في الدر المنثور (٥ / ٣٧٠).

٣٧٥

وفيه وجوه من الدلالة :

أحدها : إباحة طلب الدنيا وزينتها من وجه يحل ويجمل ، حيث قال : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) ؛ لأنه لو لم يكن يحل ذلك لهن ، وكن منهيات عن ذلك ، لكان رسول الله لا يفارقهن ؛ حتى لا يخترن المنهي من الأمر ، وقد كان يملك حبسهن في ملكه ؛ حتى لا يخترن ما ذكره من المنهي ؛ دل ذلك ـ والله أعلم ـ أن ذلك كان على وجه يحل ويجمل.

وفيه أن رسول الله لم يكن عنده ما ذكر من الدنيا والزينة وما يستمتع بها ؛ إذ لو كان عنده ذلك ، لم يحتمل أن يخيرهن بالفراق منه لما ذكر وعنده ذلك ، ولا هن يخترن الفراق منه وعنده ذلك ؛ دل أنه لم يكن عنده ما ذكر ، ويبطل قول من يقول : إنه كان عنده الدنيا ويفضل الغناء على الفقر بذلك.

وفيه دلالة : أن أزواجه كن يحللن لغيره في حياته إذا فارقنه ؛ لأنهن إذا لم يحللن لغيره لم يكن لقوله : (فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) معنى ؛ لأنهن إذا لم يحللن لغيره ، وعندهن ما ذكر من الدنيا ، يحملهن ذلك على الفجور ؛ فدل أنهن كن يحللن لغيره في حياته إذا فارقهن ، وإنما لم يحللن لغيره إذا مات ؛ فيكون له حكم الحياة كأنه حيّ في حق أزواجه.

ويخرج قوله : (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) : في الآخرة لا تحل لغيره ؛ فتكون زوجته في الجنة.

ثمّ اختلف الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فيمن خير امرأته فاختارت :

قال بعضهم : إذا خيرها فهو تطليقة رجعية ، وإذا اختارت فهي بائنة ، وهو قول عليّ.

وقال بعضهم : إذا اختارت نفسها فهي ثلاث ، وإذا اختارت زوجها فلا شيء.

وقال بعضهم : إذا اختارت زوجها ، فهي تطليقة رجعية ، وإن اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة.

وعندنا : أن التخيير نفسه لا يكون طلاقا ، فإن اختارت زوجها ، لا شيء ، وإذا اختارت نفسها ؛ فهى بائن.

أما قولنا : إذا اختارت زوجها لا شيء ؛ لما روي عن عائشة قالت : «خيرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاخترناه» (١) فلم يعد ذلك طلاقا.

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ٤٦١) ، كتاب الطلاق : باب من خير أزواجه (٥٢٦٢) ، (٥٢٦٣).

٣٧٦

وأما قوله : إذا اختارت نفسها فيكون بائنا ؛ لأنه خيرها بين أن تختار نفسها لنفسها وبين أن تختار نفسها لزوجها ؛ فإن اختارت نفسها [لنفسها] فهي بائن ؛ لأنا لو جعلناه رجعيّا لم يكن اختيارها نفسها لنفسها ، ولكن لزوجها ؛ إذ لزوجها أن يراجعها شاءت أو أبت ، وكان التخيير بين النفسين ، على ما ذكرنا.

وأما قول من يقول بأن نفس التخيير طلاق فهو باطل ؛ لما ذكرنا من تخيير رسول الله أزواجه ؛ فلم يكن ذلك طلاقا.

وأما من قال بالثلاث إذا اختارت نفسها فهو كذلك عندنا إذا ذكر في التخيير الثلاث.

وأما قول من قال بالرجعي ، فهو إذا صرح بالتطليق ؛ فهو كذلك ، والله أعلم.

وقوله : (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) : الإرادة هاهنا : إرادة الاختيار والإيثار حياة الدنيا وزينتها ، لا ميل القلب والرضاء به ، وكذلك قوله : (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ).

هو إرادة الاختيار والإيثار ، وهو ما يراد ويختار فعلا ، لا ميل القلب والرضاء به ؛ لأن كل ممكن فيه الشهوة مجعول فيه هذه الحاجة يميل قلبه ، ويركن إلى ما يتمتع بحياة الدنيا ولذاتها ، ويرضاه ويحبه ؛ فدل أنه أراد إرادة الفعل والاختيار لا إرادة القلب ورضاه.

ثم فيه ما ذكرنا من حلهن لغير رسول الله إذا اخترن الفراق منه ؛ لما ذكر أنه يمتعهن ومعلوم أنهن لا يكتسبن بأنفسهن حتى يتمتعن بذلك ، ولم يكن عندهن ما يستمتعن ؛ فدل أنه إنما يمتعهن بأموال أزواجهن ؛ فدل على حلهن لغيره في حياته إذا فارقنه والله أعلم.

وقوله : (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ).

معلوم أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها لا يحتمل ألا يردن الله ، لكن إضافة ذلك إلى الله لاختيارهن المقام عند رسوله ؛ فيدل ذلك أن كل ما أضيف إلى الله ورسوله كان المراد به رسوله ؛ نحو ما قال : (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] ، وقوله : (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) [الأنفال : ١] ، وأمثال ذلك.

ثم الزهد في الدنيا يكون بوجهين :

أحدهما : ترك المكاسب التي توسع الدنيا ، ويكون بها السعة في الدنيا ، ويؤثرها لغيرها على نفسه ، واختيار حال الضيق من غير تحريم ما أحل وطيب له.

والثاني : بذل ما عنده لغيره وإيثاره على نفسه وجعله أولى به منه ، لا في تحريم المحللات والطيبات.

وقوله : (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً).

٣٧٧

يحتمل قوله : (أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) ، أي : إذا اخترن المقام عند رسول الله يصرن محسنات بذلك ؛ فأعدّ لهن ما ذكر ؛ فيكون ذلك الاختيار منهن : الإحسان ؛ فاستوجبن ما ذكر : ويحتمل : (وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، ودمتن على ذلك واكتسبتن الأعمال الصالحات والإحسان حتى ختمتن على ذلك ، فأعد لكن ذلك لا بنفس اختيار مقامكن معه ، والله أعلم.

وقوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ).

قال بعضهم (١) : الفاحشة المبينة هي النشوز البيّن.

وقال بعضهم (٢) : لا ، بل الفاحشة المبينة هي الزنا الظاهر ، ويقال : مبينة بشهادة أربعة عدول ، ومبينة بالكسر ، أي : مبينة ظاهرة.

(يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) : الجلد والرجم في الدنيا ، ولكن كيف يعرف ضعف الرجم في الدنيا من لا يعرف حدّ رجم واحد إذا كان ذلك في عذاب الدنيا ، وإن كان ذلك في عذاب الآخرة ؛ فكيف ذكر فاحشة مبينة ، وذلك عند الله ظاهر بين؟

وقال بعضهم : (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) في الدنيا والآخرة : أما في الدنيا فمثلي حدود النساء ، وأما في الآخرة فضعفي ما يعذب سائر النساء ، فجائز أن يكون هذا صلة قوله : (إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها) إذا اخترن الدنيا ؛ فمتى أتين بفاحشة ضوعف لهن من العذاب ما ذكر وإذا اخترن المقام عند رسول الله والدار الآخرة آتاهن الأجر مرتين.

أو أن يكون إذا اخترن المقام عند رسول الله والدار الآخرة ، ثم أتين بفاحشة ضوعف لهن ما ذكر من العذاب ؛ لئلا يحسبن أنهن إذا اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم ارتكبن ما ذكر لم يعاقبن ، فذكر : أنهن إذا اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم ارتكبن ما ذكر عوقبن ضعف ما عوقب به غيرهن ، وإذا أطعن الله ورسوله ، ضوعف لهن الأجر مرتين ، والله أعلم.

والأشبه أن يكون ما ذكر من ضعف العذاب في الآخرة على ما يقول بعض أهل التأويل ؛ ألا ترى أنه ذكر لهن الأجر كفلين ، ومعلوم أن ذلك في الآخرة ؛ فعلى ذلك العذاب.

وأما قوله : (مُبَيِّنَةٍ) : عند الخلق ، وإن كانت عند الله مبينة ظاهرة ، وذلك جائز في

__________________

(١) قاله ابن عباس كما في تفسير البغوي (٣ / ٥٢٧).

(٢) انظر : تفسير ابن جرير (١٠ / ٢٩١).

٣٧٨

اللغة.

وقوله : (وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : عذابهن على الله يسيرا هينا لا يثقل عليه ولا يشتد لمكان رسول الله ؛ بل على الله يسير هين.

والثاني : أن إتيانكن الفاحشة ومعصيتكن على الله يسير ، أي : لا يلحقه ضرر ولا تبعة ، ليس كمعصية خواص الملك له في الدنيا : يلحقه الضرر والذل إذا عصوه وأعرضوا عنه ، فأمّا الله ـ سبحانه ـ عزيز بذاته غني لا يضره عصيان عبده ؛ بل ضرّوا أنفسهم.

وقوله : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) ، أي : من يطع منكن لله ورسوله ، (وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ).

في الآية دلالة بيان فضيلة أزواج رسول الله ؛ لمكان رسول الله وعظيم قدره ، حيث خاطبهن من بين غيرهن من النساء كما خاطب مريم بقوله : (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) [آل عمران : ٤٣].

ثم يحتج الشافعي بقوله : (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) لتأويله في قوله : الطلاق مرتان بقوله ، يقول : قوله : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) [البقرة : ٢٢٩] أي : تطليقتان في دفعة واحدة من غير إحداث التطليق والفعل فيما بينهما ؛ ويستدل على ذلك بقوله : (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) ، أي : أجرين من غير إحداث فعل فيما بينهما ولكن بفعل واحد ، وقوله : (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [الحديد : ٢٨] ، أي : أجرين.

لكن عندنا يجوز الإيتاء بمعنى الإيجاب ، أي : يوجب لها الأجر مرتين ؛ نحو قوله : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) [آل عمران : ١٤٨] ، أي : أوجب لهم ثواب الدنيا وثواب الآخرة ؛ فعلى ذلك ما ذكر ونحوه كثير ، والله أعلم.

وقوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ).

قال بعض أهل الأدب : (أحد) أجمع في الكلام من (واحد) ؛ لأنه يرجع إلى واحد وإلى جماعة ، وقوله : (واحد) إنما يرجع إلى الفرد خاصّة ، وإنما يخاطب به الواحد.

وقوله : (إِنِ اتَّقَيْتُنَ).

يحتمل قوله : (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) اختيار الدنيا وزينتها ، واتقيتن أيضا نقض اختيار رسول الله والدار الآخرة.

وجائز أن يكون على الابتداء : إن اتقيتن مخالفة الله ومخالفة رسوله.

٣٧٩

وقوله : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَ) ؛ فإنكن معشر أزواج رسول الله تنظرن إلى الوحي ، وتصحبن رسول الله بالليل والنهار ، وترين أفعاله وصنيعه ؛ فإنكن أحق الناس بالتقوى وترك الميل إلى الدنيا والركون إليها ممن لا ينظر إليه ولا يصحبه إلا في الأوقات مرة.

أو أن يكون قوله : (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) في الفضيلة على غيرهن من النساء ؛ لأنهن يكن أزواج رسول الله في الآخرة ، ويرتفعن إلى درجات رسول الله ويكن معه ؛ فإنكن لستن كغيركن من النساء في الفضيلة والدرجة إن اتقيتن ما ذكرنا : من مخالفة رسول الله واختيار الحياة الدنيا وزينتها ، والميل إليها والركون فيها ، والله أعلم.

وقوله : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) ، قيل (١) : فلا تلنّ في القول.

(فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) :

قال بعضهم (٢) : أي : فجور وزنا.

(وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) ، أي : خشنا شديدا.

وقال بعضهم (٣) : (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) ، أي : نفاق ، وهذا أولى ؛ لأن أصحاب رسول الله لا يحتمل أن يكون أحد منهم يطمع في أزواج رسول الله نكاحا بحال أو رغبة فيهن ، بعد علمنا منهم أنهم إذا علموا من رسول الله رغبة في أزواجهم طلقوهن ؛ ليتزوجهن رسول الله ؛ فلا يحتمل بعد ما عرف منهم هذا أن يطمع أحد منهم ويرغب في أزواجه نكاحا ، فضلا أن يرغب فجورا ، ولكن إن كان ذلك فهو من أهل النفاق.

وجائز أن يرغبوا فيهن نكاحا ؛ لأنهن أعظم الناس نسبا وحسبا ، وأكرمهم جمالا وحسنا ؛ فجائز وقوع الرغبة فيهن من أهل النفاق ؛ لما ذكرنا ، وأما من أهل الإيمان فلا يحتمل ذلك ؛ لما ذكرنا ، ويدل على ذلك قوله : (وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) ؛ دل هذا أنهن بحيث يرغب فيهن ويطمع.

وقال بعضهم : (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) ، يقول : فلا ترمين بقول يقارب الفاحشة ، فيطمع الذي في قلبه مرض.

(وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً).

يعني : قولا حسنا يعرف ، لا يقارب الفاحشة.

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (١٠ / ٢٩٣) ، والبغوي (٣ / ٥٢٧).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه الطستي عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٧٣) ، وهو قول عكرمة.

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٤٧٥).

٣٨٠