تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

ذلك المؤمن فقال : (أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى) وعد لهم الجنات بالإيمان وعمل الصالحات ، فيقال : إن الوعد المطلق هو لمن آمن وعمل الصالحات ، فأما من آمن ولم يعمل من الصالحات شيئا ، لا نقول بأن له ذلك الوعد المطلق ، ولكن له الوعد الذي ذكرنا.

وفي الآية دلالة أن قد يعمل المؤمن غير الصالحات وهو مؤمن ؛ لأنه لو لم يكن منه غير عمل الصالحات لم يكن لشرط العمل الصالح له معنى ، دل أنه يكون من المؤمن غير العمل الصالح ، وذلك على المعتزلة والخوارج.

(وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) ، اختلف في العذاب الأدنى :

قال بعضهم : هو القتل يوم بدر.

ومنهم من يقول : هو الجوع في السنين التي كانت لهم فيها ، والضيق والشدة.

ومنهم من يقول : هو المصائب التي تصيبهم.

وأمثال ذلك كثير ، لكن ذلك العذاب ليس هو عذاب الكفر ؛ لأن عذاب الكفر يكون في الآخرة أبدا دائما لا زوال ولا انقطاع ، فأما عذاب الدنيا لهم عذاب عنادهم وما يكون منهم من الجنايات في حال كفرهم يعذبون في الدنيا ؛ ليذكرهم ذلك العذاب في الآخرة العذاب الدائم ليمنعهم عما به يعذبون في الدنيا عن عذاب الآخرة ، وكذلك ما أعطى لهم من اللذات والنعيم في الدنيا ـ وإن كان منقطعا ـ ليذكرهم ذلك النعيم وتلك اللذات لذات الآخرة ونعمها الدائمة ؛ ولذلك رغب الله خلقه إلى طلب الآخرة ، وأخبر أن لهم فيها من اللذات كذا في غير آي من القرآن ؛ حيث قال : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ ...) الآية [الزخرف : ٧١] ، ونحوه كثير.

والعذاب الأكبر هو عذاب الآخرة ، وهو عذاب الكفر والتكذيب.

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لكي يلزمهم حجة الرجوع عما هم فيه من التكذيب ؛ لئلا يقولوا : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [الأعراف : ١٧٢] والله أعلم.

وقوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) ، قوله : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ) أي : [هل] أحد أظلم ممن ذكر (بِآياتِ رَبِّهِ) ووقع له المعرفة والعلم أنها آيات ربه ، (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) بعد ما عرفها ، وعلم بها ـ ليس أحد أظلم من ذلك.

التذكير بآياته : ما ذكرنا أنهم يذكرون لتقع لهم بأنها آياته ، ثم يحتمل آيات وحدانيته وآيات الرسالة ، أو آيات البعث ، أو آيات القرآن ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) جرمهم هاهنا جرم كفر ، ينتقم منهم انتقام الكفر

٣٤١

والتكذيب.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٢٥)

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) اختلف فيه :

قال بعضهم : (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) أي : من أن تلقاه يوم القيامة.

وقال بعضهم : فلا تكن في مرية من لقاء موسى التوراة ؛ فإن الله ألقى الكتاب عليه ـ أي : التوراة ـ حقّا ، فلقيها عيانا.

وقال بعضهم : فلا تكن في مرية من لقائه ليلة أسري به ، قد روي مثل هذا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أسري وأعرج إلى السماء ، فقال له موسى كذا وكذا ـ أشياء ذكرت في أمر الصلوات وغيره ـ فلا ندري أيثبت ذلك أم لا ، أو إن ثبت كيف كان ذلك : أنه أوحى له فقال ما ذكر ، أو رأى ذلك في المنام ـ ورؤيا الأنبياء حق ـ أو كيف كان لأمر الله ، والله أعلم.

وقوله : (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) :

قال بعضهم : جعلنا موسى هدى لبني إسرائيل ؛ يجعل الهاء كناية عن موسى.

وقال بعضهم : (وَجَعَلْناهُ) ـ أي : الكتاب الذي آتى موسى ـ (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) ، ثم يحتمل قوله : (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وجهين :

أحدهما : البيان ، أي : جعلناه بيانا لهم يبين ما لهم وما عليهم وما لله عليهم.

والثاني : (هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي : دعاء لبني إسرائيل يدعون الخلق به إلى توحيد الله وألوهيته.

الهدى المضاف إلى الخلق يخرج على هذين الوجهين : على البيان ، والدعاء. والهدى المضاف إلى الله يخرج على وجوه : على البيان ، وعلى الدعاء ـ الذي ذكرنا أيضا ـ وعلى وجهين آخرين :

أحدهما : التوفيق والمعونة.

والثاني : على خلق فعل الاهتداء منهم.

على هذه الوجوه الأربعة يخرج إضافة الهدى إلى الله وإلى الخلق على الوجهين اللذين ذكرناهما.

فإن قيل : كيف خص موسى أنه جعله هدى لمن ذكر ، وذلك قد يكون في غيره ، وهو

٣٤٢

ما جعل في خلقة كل أحد شهادة وحدانيته وألوهيته قبل ذلك إنما يدرك بالنظر والتفكر ، وأما فيما ذكر يدرك بالبديهة ، والله أعلم.

وقوله : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا).

أي : قادة في الخير : يحتمل قوله : (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) أي : يدعون الناس بما أمرهم ، وهو التوحيد ، أو (يَهْدُونَ) ، أي : يبينون لهم بالذي أمرنا : ما لهم وما عليهم.

وقوله : (لَمَّا صَبَرُوا) :

قال بعضهم (١) : أي : بما صبروا على البلاء وتعذيب فرعون إياهم وأذاه إياهم ، أي : آمنوا ودعوا غيرهم إلى ذلك على الخوف ، كقوله : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ ...) الآية [يونس : ٨٣].

وقال بعضهم : (٢) (لَمَّا صَبَرُوا) على الطاعات. وقد قرئ : (لَمَّا صَبَرُوا) : بالتشديد ، ومعناه ـ والله أعلم ـ أي : بما يهدون ؛ لما كان منهم الصبر على ذلك ، أي : بالصبر الذي كان منهم هدوا أولئك.

وقوله : (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ).

أنها من الله ، وأنها آياته.

وقال بعضهم : (٣) (لَمَّا صَبَرُوا) ، أي : لم يركنوا إلى الدنيا ، ولا اشتغلوا بها ، ولكن صبروا على أمره ؛ إذ كلفوا ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

إن أهل الأديان جميعا ، والمذاهب على اختلاف أديانهم ومذاهبهم اتفقوا أن الدين الذي جاء من الله واحد ، وأن الدين الذي أمر الله أن يدينوا به واحد ، لكن كلا منهم ادّعى أن الذي هو عليه دين الله ، وأن الأمر به من الله وقع على ما يدين هو به ، وغيره على باطل على غير دين الله الذي أمر بالديانة به ، وكذلك قالوا : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً ...) الآية [الأعراف : ٢٨] ، فأخبر أنه يفصل بينهم ويبيّن الدّين الذي أمر أن يدينوا به في الدنيا بيان الاحتجاج عليهم ؛ وإلا قد أبان لهم وأظهر الدّين الذي أمرهم أن يدينوا به بالحجج والآيات ، وعرفوا ذلك ، لكنهم كابروا وعاندوا ، وكتموا ذلك ولبسوا على الناس والأتباع ؛ فيبين ما كتموا في الدنيا ولبسوا في الآخرة ، فيظهر عنادهم ومكابرتهم ؛ احتجاجا عليهم ،

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٥٠٣).

(٢) انظر : تفسير ابن جرير (١٠ / ٢٥٠).

(٣) انظر : تفسير ابن جرير (١٠ / ٢٥٠).

٣٤٣

وإن كان الحق قد بان لهم وظهر في الدنيا ، هذا ـ والله أعلم ـ يشبه أن يكون تأويل الآية.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (٢٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (٢٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٨) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٢٩) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ)(٣٠)

وقوله : (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) يقول ـ والله أعلم ـ :

أو لم يبين لأهل مكة ، ولم يكفهم من الهداية والبيان ما أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم ، فيرون ما حل بهم ، ومن أهلك ومن نجا منهم ؛ فيقع الاعتبار لهم بمن ذكر من وجهين :

أحدهما : زعموا أن آباءهم على ما هم عليه ، وأنهم يقلدونهم في ذلك ، وأنهم أمروا بذلك ، فيخبر أنكم أولاد من نجا منهم ، لا أولاد من أهلكوا ؛ لأنهم استؤصلوا ؛ فلا يحتمل أن تكونوا أولاد من استؤصلوا ؛ فدل أنهم أولاد من نجا منهم ، وإنما نجا منهم المصدّق لا المكذب ، فيخبر أن كيف لا اتبعتم آباءكم الذين نجوا منهم وهم المصدقون ، دون الذين أهلكوا بالتكذيب والعناد؟!

والثاني : يعتبرون فيعلمون أن إهلاكهم واستئصالهم كان ؛ للتكذيب والعناد مع الرسل والخلاف لهم ؛ فيمنعهم ما حل بهم التكذيب والخلاف للرسل عن تكذيب رسول الله ومجادلتهم إياه.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ).

قال بعضهم : أفلا يبصرون ذلك حيث يمشون في مساكن أولئك ، ويمرّون فيها؟! [و] قال بعضهم : أفلا يسمعون ما يحدث لهم عن أولئك ، وما حل بهم ، وبم نزل ذلك بهم؟!

وقال بعضهم : (أَفَلا يَسْمَعُونَ) : أفلا يعقلون لما ذا أهلكوا أو استؤصلوا ؛ فيمتنعون عن ذلك؟!

وقال بعضهم : أفلا يستمعون الوعيد الذي أوعد لهم.

وقيل : أفلا يستمعون التوحيد ، والله أعلم.

وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً ...) إلى آخر ما ذكر.

٣٤٤

هذه الآية ذكرت في الاحتجاج عليهم لإنكارهم البعث ، والأولى ذكرت لإنكارهم نزول العذاب بالتكذيب والخلاف للرسل ، فيخبرهم أن من قدر على سوق الماء إلى الأرض الميتة اليابسة وإحيائها ، لقادر على إحيائكم بعد الموت ؛ إذ الأعجوبة والقدرة في إحياء الأرض الميتة اليابسة إن لم يكن أكثر فلا تكون دون ما أنكروا ؛ فكيف أنكرتم القدرة على إحياء الموتى ، وقد عاينتم ما هو أكثر أو مثله؟!.

والأرض الجرز : قال أبو عوسجة : هي التي لا نبت فيها ، وأرضون أجراز ، وأرض أجراز ، وكذلك قال القتبي (١) : الأرض الجرز : اليابسة : التي لا نبت فيها ، وجمعها أجراز ، ويقال : سنون أجراز : إذا كانت سني جدب.

وقال بعضهم : الأرض الجرز : التي تأكل نباتها ، أي : يحترق فيها ، يقال : امرأة جرزاء : إذا كانت أكولة ، أو كلام نحوه.

(تَأْكُلُ مِنْهُ) ، من الزرع الذي ذكر أنه يخرج من الأرض اليابسة بالماء.

(أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) ، قدرته في إخراج ما ذكر مما فيه غذاؤكم وغذاء ما سخر لكم من الأنعام.

أو يذكر نعمه ، يقول : أفلا تبصرون نعمه ؛ فكيف تكفرونه ، وتعبدون غيره ، وتصرفون الشكر إلى غيره؟! وذكر عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : «الأرض الجرز التي لا نبات فيها» (٢).

وقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

قال بعضهم (٣) : إن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يقولون ويتحدثون : إن لنا يوما أوشك أن نستريح فيه ونتنعم فيه ـ يعنون : يوم القيامة ـ فقال كفار مكة : متى هذا الفتح؟ وهو القضاء.

(إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : بأنه كائن ، فإن كان البعث والقيامة حقّا ـ صدّقنا يومئذ وآمنا ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ ، (قُلْ) يا محمد لهم : (يَوْمَ الْفَتْحِ) : يوم القضاء ، (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ). بالبعث ؛ لقولهم : لو كان البعث الذي يقولون حقّا صدقناه يومئذ.

(وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) :

يقول : لا ينظر بهم بالعذاب حين يعذبون.

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٤٧).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٨٣١٠) ، عن الضحاك وهو قول مجاهد أيضا.

(٣) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٨٣١٣) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٤٤).

٣٤٥

وقال بعضهم (١) : إن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يتذاكرون ـ وهم بمكة ـ فتح مكة لهم ؛ فكان ناس من أهل مكة إذا سمعوا ذلك منهم هزءوا بهم وسخروا ويقولون لهم : متى فتحكم الذي تزعمون؟ فنزل : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) يا أصحاب محمد ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أنها تفتح عليكم.

لكن هذا بعيد ؛ لأنه يقول على أثره : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) ، ولو كان فتح مكة ، لكان ينفعهم إيمانهم ، ولهم نظرة وإنظار ؛ دل أنه يبعد صرفه إلى فتح مكة ، والأول أشبه أن يكون ؛ لما ذكر من ترك قبول الإيمان والإنظار ، وفي الدنيا يقبل ذلك كله ؛ فظهر أن الأول أشبه : كان السؤال عن الساعة أو عن المحاكمة ، إلا أن يثبت ما ذكر في الخبر : أنه لما فتح مكة أقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ذلك اليوم وانهزم المشركون ؛ فخرجوا من مكة ، وأقام من أقام بها ؛ فأمنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأدلج خالد بن الوليد تلك الليلة دلجة في سبعمائة رجل ومعه أبو قتادة الأنصاري ، فأسروا في أسفل مكة حتى سقطوا من وراء الحرم ، فوجدوا الذين كانوا يهزءون بأصحاب محمد ، ويقولون : متى فتحكم هذا؟ فوق جبل قد تحصنوا فيه ، فلما رأوا خالد بن الوليد قالوا : هذا خالد بن الوليد وإحنته ، وقد كان بينه وبينهم في الجاهلية إحنة ، فقال لهم خالد بن الوليد : ما لكم؟ قالوا : قد أسلمنا ، قال : إن كنتم قد أسلمتم فانزلوا ، فنظر بعضهم إلى بعض ، فقال رجل منهم : أطيعوني ولا تنزلوا إليه ؛ فو الله لئن نزلتم إليه ليهلكنكم ، إنه لخالد بن الوليد وإحنته ، قالوا : والله ما علينا سبيل ؛ لقد أسلمنا ، ثم نزلوا ووضع عليهم خالد بن الوليد السلاح ، واعتزل أبو قتادة ، فقال : معاذ الله أن أعين على شيء مما هاهنا ، فبلغ ذلك النبي ؛ فبعث إليهم على بن أبي طالب بالدية من غنائم خيبر ، فوداهم إليه بالدية حتى بعث إليهم بردعة الخيل حين راعوهم ، ومساقي الكلاب كانوا كسروها فوداهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كل شيء لهم ، فذلك قوله : (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

(فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) يا محمد إلى مدة لهم ، (وَانْتَظِرْ) ، بهم العذاب ، أي : القتل وهلاكهم (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) هلاككم.

وقال بعضهم : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) : إلى ذلك اليوم ، (وَانْتَظِرْ) : بهم فتح مكة ، (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) : هلاكك.

أو أن يكون قوله : (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) ، أي : لا تكافئهم لأذاهم إياك ، (وَانْتَظِرْ) : مكافأتنا إياهم ، (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) : ذلك ، والله أعلم بالصواب.

__________________

(١) قاله الطيبي كما في تفسير البغوي (٣ / ٥٠٤).

٣٤٦

ذكر أن سورة الأحزاب نزلت بالمدينة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً)(٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ)(١).

جائز أن يكون ظاهر الخطاب وإن كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فهو للناس عاما ؛ ألا ترى أنه قال على أثره : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) خاطب به الجماعة ، وقد خاطب رسوله في غير آي من القرآن ، والمراد به غيره ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون هذا كذلك.

ويشبه أن يكون المراد بالخطاب ـ أيضا ـ خاصة ، لكن إن كان ما خاطب به مما يشترك فيه غيره ـ دخل في ذلك الخطاب وفي ذلك النهي ، وإن كان مما يتفرد به من نحو : تبليغ الرسالة إليهم ، وما تضمنته الرسل ، وإن خاف على نفسه القتل والهلاك فإن عليه ذلك لا محالة ، كقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) الآية [المائدة : ٦٧].

وأما أهل التأويل فمما اختلفوا فيه :

قال بعضهم : نزلت الآية ، وذلك أن نفرا من أهل مكة ـ أبو سفيان بن حرب ، وعكرمة ابن أبي جهل ، وأبو الأعور السلمي ، وهؤلاء ـ قدموا المدينة ، فدخلوا على عبد الله بن أبي رئيس المنافقين بعد قتلى أحد ، وقد أعطاهم النبي الأمان على أن يكلموه ، فقالوا للنبي وعنده عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ : ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزى ومنات ، وندعك وربك ؛ فشق ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية : (اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ)(٢) ، وفيهم نزل : (وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) [الأحزاب : ٤٨].

وفي بعض الروايات : قالوا ذلك ـ وعنده عمر بن الخطاب ـ فقال : يا رسول الله ، ائذن لي في قتلهم ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني قد أعطيتهم الأمان» ، فإن كان على هذا فالنهي : عن نقض العهد والأمان.

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : الاتقاء عن الشرك ، وطاعة الكفرة وأهل النفاق فيه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) ، في أن يشرك فيه غيره ، (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) : في ذلك. شرح.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٣ / ٥٠٥).

٣٤٧

وإن كان على الأول : فالنهي عن اتباع ما طلبوا منه من رفض آلهتهم والعبادة لها.

وبعضهم يقولون : إن أهل مكة نحو : شيبة بن ربيعة وهؤلاء قالوا له : إنا نعطيك يا محمد كذا كذا من المال ، ونزوجك كذا كذا امرأة كثيرة المال ؛ فارفضنا وآلهتنا ؛ وإلا قتلك المنافقون : فلان وفلان ، عدّوا نفرا ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ الآية (١) في ذلك بالنهي عن اتباع ما طلبوا منه ودعوه إليه ، وأمره بالتوكل على الله في ترك الاتباع لهم.

وأصله ما ذكرنا : أن النهي ـ وإن كان له خاصة ـ فيما ذكر فهو ـ وإن كان معصوما ـ فالعصمة لا تمنع الأمر والنهي ؛ بل العصمة إنما تنفع إذا كان ثمة نهي وأمر ؛ إذ لو لا النهي والأمر لكان لا معنى للعصمة ولا منفعة لها ، والله أعلم.

وقوله : (اتَّقِ اللهَ) : في ترك تبليغ الرسالة إليهم ، (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) في اتباع ما دعوك إليه وطلبوا منك ، أو في غيره.

(إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً).

(عَلِيماً) بما كان ويكون منهم ، أي : على علم بما يكون منهم من التكذيب والردّ عليك بعثك ، لا على جهل ، (حَكِيماً) : في ذلك ، أي : بعثه إياك إليهم ، على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد ، لا يخرجه عن الحكمة ، ليس كملوك الأرض : إذا أرسل بعضهم إلى بعض رسالات وهدايا ، على علم من المرسل أن المبعوث إليه يرد الرسالة والهدية يكون سفها ؛ لأنهم يبعثون ويرسلون لحاجة أنفسهم ، أعني : أنفس المرسلين ، فإذا أرسلوا على علم منهم بالردّ والتكذيب كان ذلك سفها خارجا عن الحكمة.

فأما الله ـ سبحانه ـ إنما يرسل الرسل ويبعثهم لمنفعة أنفسهم وحاجتهم ، فعلمه بالرد والتكذيب لا يخرجه عن الحكمة.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ).

هذا يحتمل الخصوص له على ما ذكرنا ، ويحتمل العموم على ما ذكرنا في آية أخرى : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) يدل على ذلك قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) : خاطب به الكل ـ والله أعلم ـ وهو ما ذكرنا أنه على علم بما يكون منهم من التكذيب والردّ.

وقوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ).

أي : اعتمد على الله في تبليغ الرسالة ، ولا تخف أذاهم.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس كما في الدر المنثور (٥ / ٣٤٧).

٣٤٨

(وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

أي : حافظا يحفظك ويمنعهم عنك ، كقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧].

قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً)(٦)

وقوله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).

يقول بعض أهل التأويل (١) كذلك : إنها نزلت في رجل يقال [له] : أبو معمر ، وكان من أحفظ الناس وأوعاهم ؛ فقالوا : إن له قلبين : قلب يسمع ، وقلب يحفظ ويعي ؛ فنزل : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ).

ويقول بعضهم كذلك : إنها نزلت في أبي معمر ، وكان يسمى : ذا قلبين ؛ لحفظه الحديث ، حتى إذا كان يوم بدر ، وهزم المشركون ـ وفيهم أبو معمر ـ يلقاه أبو سفيان بن حرب ، وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله ؛ فقال : يا أبا معمر ، ما فعل الناس؟ قال : انهزموا ، فقال : ما بال نعلك في يدك والأخرى في رجلك؟ فقال : ما شعرت إلا أنهما جميعا في رجلي ؛ فعرفوا يومئذ أن لو كان له قلبان ما نسي نعله في يده (٢). ونحوه قد قيل ، ولكن لا ندري ما سبب نزول هذا.

وروي عن ابن عباس : أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال : كان نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصلي يوما ، فخطر خطرة ـ أي : وقع في قلبه ـ فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترى أن له قلبين : قلبا معكم ، وقلبا معهم ؛ فأنزلت هذه الآية (٣).

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٣١٩) ، وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٤٧) ، وهو قول مجاهد وقتادة والحسن وغيرهم.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٣ / ٥٠٥ ، ٥٠٦).

(٣) أخرجه الترمذي (٣١٩٩) ، وأحمد (١ / ٢٦٧) ، وابن خزيمة (٨٦٥) ، وابن جرير (٢٨٣١٨) ، وزاد السيوطي في الدر (٥ / ٣٤٧) : ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة.

٣٤٩

وهذا يشبه أن يكون سبب نزول الآية ، أو أن يكون نزولها في المنافقين ، وذلك أنهم كانوا يصلون مع النبي والمؤمنين ، ويرون الموافقة لهم من أنفسهم ، ويقولون : (نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ١] ، ثم يرجعون إلى أولئك فيقولون : (إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] ونحوه ؛ فذكر هذا : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) ، أي : دينين في جوفه : الإيمان والنفاق ، أو (قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) : قلبا لهذا ، وقلبا للآخر.

أو نزلت في المشركين الذين يقرون بالوحدانية لله ، وأنّه هو الخالق ؛ كقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥] ، ويعبدون الأصنام مع هذا ؛ فيقول ـ والله أعلم ـ : لم يجعل لرجل قلبين في جوفه : قلبا للشرك ، وقلبا للإيمان والتوحيد ؛ ولكن جعل قلبا واحدا لأحد هذين ، أي : قلبا لقبول الشرك ، وقلبا لقبول الإيمان.

وبعضهم يقول : هو على التمثيل ، أي : كما لم يجعل لرجل واحد قلبين ؛ فكذلك لا يكون المظاهر من امرأته : لا تكون امرأته أمه في الحرمة ، ولا يكون دعيّ الرجل ابنه ، يقول : نزلت في النبي وزيد بن حارثة ، كان النبي تبناه ، [و] كانوا يسمونه زيد بن محمد ، فجاء النهي عن ذلك ؛ فقال : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ، إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل (١).

وبعضهم يقول : تأويل قوله : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ).

أي : لم يجعل للرجل نسبين ينسب إليهما.

وأصله عندنا : أن قوله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) : ما ذكرنا ، ولم يجعل أزواجكم اللائي تستمتعون بهن بالتشبيه بالأمهات كالأمهات ، أي : لم يحل لكم ذلك ولم يبح ولم يشرع. (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ، أي : لم يجعل سبب ذلك ولم يشرع ، وإن كان قد يكون في النسب الفاسد ، نحو الجارية بين اثنين إذا ولدت فادعياه جميعا ، ونحو النكاح الفاسد ، والملك الفاسد ، لم يجعل كذا ، أي : لم يحل ولم يشرع ؛ كقوله : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) [المائدة : ١٠٣] ، أي : لم يشرع ولم يحل ذلك ، وإن كان يكون لو فعلوا ؛ فعلى ذلك قوله : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) ، أي : لم يشرع ذلك السبب ، ولم يحل ذلك في الإسلام ما كان في الجاهلية ، لا أنه لا يكون ذلك فيما لم يشرع في الفاسد من السبب ، على ما ذكرنا : أن النسب ثبت في النكاح الفاسد ، وإن لم يشرع.

والحسن يقول في قوله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) قال : كان الرجل

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٨٣٢٥) ، والفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٤٨) ، وهو قول ابن زيد أيضا.

٣٥٠

يقول : إن نفسا تأمرني بكذا ونفسا تأمرني بكذا ؛ فنزل ذلك (١).

والحكمة فيما لم يجعل لواحد قلبين ، وجعل له سمعين وبصرين ؛ لأن الإدراك بالسمع والبصر إنما يكون بالمشاهدة ، فيخرج ذلك مخرج معاونة بعضهم بعضا ، وما يدرك بالقلب إنما يدرك بالاجتهاد ، وقد يختلف القلبان فيما يجتهدان في شيء ، فيناقض أحدهما صاحبه ؛ إذ يجوز أن يرى أحدهما خلاف ما يراه الآخر ، وأما السمعان والبصران لا يكون كذلك.

وقوله : (ما جَعَلَ اللهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) : جائز أن يكون سبب ذلك ما ذكر من ادعاء مسيلمة الكذاب الرسالة لنفسه وتواطؤ أصحابه على ذلك ، يقول ـ والله أعلم ـ : ما جعل الله أن يرسل رجلين رسولا إلى خلقه مختلفي الدينين متضادّي الشرائع ، يدعو كل واحد إلى دين غير الآخر ، وإلى شريعة يضادّ بعضها بعضا : محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومسيلمة الكذاب.

وقوله : (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) : يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : على النهي الذي ذكرنا ، أي : لا تشبهوا أزواجكم بظهور الأمهات ، ولا تحرموهن على أنفسكم كحرمة الأمهات ؛ ولذلك قال : (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) [المجادلة : ٢].

والثاني : أن لم يجعل الله لكم أزواجكم حراما أبدا كالأمهات ، وإن جعلتم أنتم ؛ ولكن جعلهن لكم بحيث تصلون إليهن بالاستمتاع على ما تصلون إليهن وتستمتعون بهن ، بعد هذا القول ؛ يذكر هذا على المنة والنعمة ؛ ليتأدى به شكره ؛ لما أبقى لهم الاستمتاع بهن بعد هذا ، ولم يجعلهن لهم كالأمهات ، على ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله : (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) ، أي : ما جعل أدعياءكم أبناءكم في الحقوق إلى الآباء ، وهو ما ذكر في بعض القصة : أنه إذا ادعى الرجل منهم ورثة منهم مع أولاده ـ وهو شيء كانوا يفعلونه في الجاهلية ـ دعي إليه ونسب ، يقول ـ والله أعلم ـ : ما جعل ما كنتم تدعون الأبناء في الجاهلية للعون والنصرة أبناءكم في الإسلام فيما جعلوا.

والثاني : ما جعل أدعياءكم أبناءكم في حق النسبة ، كما ذكر أنهم كانوا يقولون لزيد بن حارثة : زيد بن محمد.

(ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٨٣٢٢) ، وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٤٧).

٣٥١

إنما هو قول تقولونه بألسنتكم فيما بينكم.

(وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) :

إنهم ليسوا بأبنائكم.

أو أن قوله : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) ، تأويله : (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) : أعدل عند الله ، أي : انسبوهم إليهم إن علمتموهم.

(فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ).

قال بعض أهل التأويل (١) : فانسبوهم إلى أبيهم من أسماء مواليكم أو إخوانكم أو ابن عمكم ، مثل عبد الله وعبيد الله ، وعبد الرحمن ، وأشباه ذلك الأسماء وأسماء مواليكم.

أو أن يقول : قوله : (فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) ، أي : سموهم : إخوانا ، وذلك أعظم في القلوب وآخذ من التسمية بالآباء والنسبة إليهم ؛ وذلك أن الحاجة إلى معرفة الآباء والنسبة إليهم إنما تكون عند الكتابة والشهادة وعند الغيبة ، فأما عند الحضرة فلا.

وقوله : (وَمَوالِيكُمْ) ، قال بعضهم : نزل هذا في شأن زيد بن حارثة ، وهو كان مولى رسول الله ، وكانوا يسمونه : زيد بن محمد ؛ فنهوا عن ذلك ، فيقول : فإن لم تعلموا آباءهم فانسبوهم إلى مواليهم.

وجائز أن يكون قوله : (وَمَوالِيكُمْ) من الولاية ، كقوله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) ، وقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠].

وقوله : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ).

يقول ـ والله أعلم ـ : ليس عليكم جناح بالنسبة إلى غير الآباء إذا كنتم مخطئين غير عارفين للآباء ؛ إنما الجناح والحرج عليكم إذا كنتم عامدين لذلك عارفين لهم آباء ؛ كأنه أباح التبني والتآخي فيما بينهم ، ولم يبح النسبة إلى غير الآباء وإيجاب الحقوق فيما بينهم.

وكذلك روي في بعض الخبر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يؤاخي بين الرجلين ، وإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله ، فكان الزبير أخا عبد الله بن مسعود ، فمكثوا بذلك ما شاء الله أن يمكثوا ، حتى نزلت الآية.

وقال بعضهم (٢) : (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) ، يقول : إذا دعوت الرجل

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٣٣١) ، وهو قول ابن جريج ومقاتل ومجاهد.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٣٣٣) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٥٠).

٣٥٢

لغير أبيه ، وأنت ترى أنه كذلك.

(وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).

يقول : لا تدعوه لغير أبيه متعمدا ، فأما الخطأ فإن الله يقول : لا يؤاخذكم به ، ولكن ما أردتم به العمد ، وهو مثل الأول.

وذكر أن عمر ـ رضي الله عنه ـ سمع رجلا يقول : اللهم اغفر لي خطاي ؛ فقال له عمر : «استغفر الله العمد ؛ فأمّا الخطأ فقد تجوز لك عنه» ، وكان يقول : «ما أخاف عليكم الخطأ ؛ ولكن أخاف عليكم العمد ، وما أخاف عليكم العائلة ؛ ولكن أخاف عليكم التكاثر ، وما أخاف عليكم أن تزدروا أعمالكم ؛ ولكن أخاف عليكم أن تستكثروها». وذكر أن ثلاثا لا يملك عليها ابن آدم : الخطأ والنسيان والاستكراه ، وكذلك روي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه قال ذلك.

وقال بعضهم : الخطأ ـ هاهنا ـ هو ما جرى على اللسان من غير قصد ، والعمد ما يجري على قصد ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

لما فعلوا.

وقوله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ).

قال بعضهم (١) : النبي أولى بهم من بعضهم ببعض ؛ كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] ، أي : لا يقتل بعضكم بعضا ؛ إذ لا أحد يقتل نفسه ، (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] ، أي : يسلم بعضكم على بعض ، ليس أنه يسلم الرجل على نفسه ؛ ولكن ما ذكرنا ؛ فعلى ذلك قوله : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) ، أي : بعضهم من بعض.

ثم يحتمل هو أولى بهم من أنفسهم من الطاعة له والاحترام له والتعظيم ، أي : هو أولى أن يعظم ويحترم ويطاع من غيره.

أو أن يكون أولى بهم في الرحمة والشفقة لهم ، أي : أرحم بهم وأشفق من أنفسهم ، وهو على ما وصفه من الرحمة والرأفة ؛ حيث قال : (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] وليس أحد من الناس يعز عليه ما يفعله من المآثم.

أو أن يجوز أولى بهم : ، أي : أحبّ إليهم من أنفسهم وأولادهم ، محبة الاختيار والإيثار ، ليست محبّة الميل : ميل القلب ؛ لأن ميل القلب يكون بالطبع.

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٥٠٧).

٣٥٣

وذكر في الخبر أن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس بمؤمن حتى أكون أنا أحبّ إليه من نفسه وولده وأهله» (١) أو كلام نحو هذا.

أو أن يكون (أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥] في الآخرة بالشفاعة لهم ، يشفع فينجون من النار به لا بأعمالهم ، والله أعلم. وذكر في بعض الحروف : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم : وهو حرف أبي وابن مسعود وابن عباس (٢) ، رضي الله عنهم.

قوله : وهو أب لهم في الرحمة والشفقة ، أو فيما يلزم من الطاعة والتعظيم والاحترام ونحوه.

وقوله : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ).

قال أهل التأويل : (٣) (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) : في الحرمة ؛ أي : لا يحل لهم أن يتزوجوهن أبدا كالأمهات ، ولكن يجب أن يكون ذلك بعد وفاته ، فأمّا في حياته إذا طلقهن فيجب أن يحللن لغيره ؛ لأنه قال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا ...) الآية [الأحزاب : ٢٨] ، ولو لم يحللن لغيره ، لم يكن لما ذكر لهن من التمتيع والتسريح معنى ، وهذه الحرمة يجب أن تكون بعد الموت ، وهو ما قال : (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) : إنما شرط هذا بعده ؛ ليكن أزواجه في الآخرة.

أو أن يكون قوله : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) ، أي : حرمة أزواجه من بعده ومنزلتهن كمنزلة أمهاتهم ؛ يستوجبن ذلك لحرمة رسول الله ومنزلته قبلهم.

وأما الباطنية فإنهم يقولون : في قوله : (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) دلالة أنه ليس يريد به أزواج النبي ؛ ألا ترى أنه يحل للناس نكاح أولادهن ، ولو كن أمهات لم تحل ؛ لأنهم يصيرون إخوة وأخوات ؛ فإذا حلّ ذلك دل أنه ما ذكرنا ، هذا قولهم.

لكن الجواب لذلك ما ذكرنا : أنه جائز أنه سمّاهن : أمهات ، أي : منزلتهن وحرمتهن كمنزلة الأمهات ؛ لحرمة رسول الله ومنزلته ؛ وذلك جائز لأنه ذكر الشهداء أحياء عنده ، وإن كانوا في الحقيقة موتى ؛ لفضل الكرامة لهم والمنزلة عند الله ، فعلى ذلك ذكر

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ٧٤ ، ٧٥) ، كتاب الإيمان : باب حب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الإيمان (١٥) ، ومسلم (١ / ٦٧) ، كتاب الإيمان : باب وجوب محبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦٩ / ٤٤) ، والنسائي (٨ / ١١٤) ، كتاب الإيمان : باب علامة الإيمان ، وابن ماجه (١ / ٩١) ، في المقدمة باب في الإيمان (٦٧).

(٢) أخرج قراءته : الفريابي وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سننه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٥١) ، وهي قراءة عمر بن الخطاب ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم.

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٣٥١).

٣٥٤

الأمهات لأزواجه ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ).

قال بعضهم : (فِي كِتابِ اللهِ) : في حكم الله ؛ كقوله : (كِتابَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ، أي : حكم الله عليكم.

وقال بعضهم : (فِي كِتابِ اللهِ) : فيما أنزل من الكتاب ، وهو الذي ذكر ، وكذلك : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ...) [البقرة : ١٨٠] إلى آخر ما ذكر : المكتوب عليهم : الذي ذكر على أثره.

ثم اختلف في تأويل قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) :

قال بعضهم (١) : إن المواريث في بدء الأمر لم تكن تجري إلا فيما بين المؤمنين المهاجرين من القرابات والأرحام ، فإن كان مؤمنا لم يهاجر لم يرث ابنه ولا أباه ولا أخاه المهاجر ولا سائر قراباته إذا مات أحدهما ، إلا أن يكونا مؤمنين مهاجرين ؛ فعند ذلك يتوارثون ؛ فعلى ذلك التأويل يكون تأويل قوله : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ) : الذين لم يهاجروا من المؤمنين أن توصوا لهم شيئا ، فيقول قائل هذا التأويل : إن هذا نسخ بالآية التي ذكر في سورة الأنفال ، وهو قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ...) الآية [٧٥] ، ولم يذكر فيها الهجرة إذا كانوا مسلمين.

وأمّا الكافر فإنه لا يرث المسلم ، وعلى ذلك روي في الخبر أنه قال : «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (٢) ، وقال : «لا يتوارث أهل ملتين» (٣).

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٨٣٤٢) ، وهو قول ابن زيد أيضا.

(٢) أخرجه مالك (٢ / ٥١٩) كتاب : الفرائض ، باب : ميراث أهل الملل ، حديث (١٠) ، والبخاري (١٢ / ٥٠) كتاب : الفرائض ، باب : لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ، حديث (٦٧٦٤) ، ومسلم (٣ / ١٢٣٣) كتاب : الفرائض ، حديث (١ / ١٦١٤) ، وأبو داود (٣ / ٣٢٦) كتاب : الفرائض ، باب : هل يرث المسلم الكافر حديث (٢٩٠٩) ، والترمذي (٤ / ٤٢٣) كتاب : الفرائض ، باب : إبطال الميراث بين المسلم والكافر ، حديث (٢١٠٧) ، وابن ماجه (٢ / ٩١١) كتاب : الفرائض ، باب : ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك ، حديث (٢٧٢٩) ، والنسائي في الكبرى (٤ / ٨٠) كتاب : الفرائض ، باب : في الموارثة بين المسلمين والمشركين ، حديث (٦٣٧١) ، والدارمى (٢ / ٣٧٠) كتاب : الفرائض ، باب : ميراث أهل الشرك وأهل الإسلام ، وأحمد (٥ / ٢٠٠) ، وأبو داود الطيالسى (١ / ٢٨٣ ـ منحة) رقم (١٤٣٥) ، والحميدي (١ / ٢٤٨) رقم (٥٤١) ، وسعيد ابن منصور في سننه (١ / ١٨٤) رقم (١٣٥ ـ ١٣٦) ، وعبد الرزاق (٦ / ١٤) رقم (٩٨٥١ ، ٩٨٥٢) ، والشافعى في مسنده (٢ / ١٩٠) كتاب : الفرائض ، حديث (٦٧٦) ، ومحمد بن نصر المروزى في السنة (ص ١٠٤) رقم (٣٨٦) ، وابن الجارود في المنتقى رقم (٩٥٣) ، وابن خزيمة في صحيحه (٤ / ٣٢٢ ـ ٣٢٣) رقم (٢٩٨٥) ، وابن حبان (٦٠٠١ ـ الإحسان) ، والطبرانى في الكبير (١ / ١٢٧) ـ

٣٥٥

__________________

ـ رقم (٣٩١) ، وفي الأوسط رقم (٥١٠) ، والدارقطني (٤ / ٦٩) كتاب : الفرائض ، حديث (٧) ، والحاكم (٢ / ٢٤٠) ، والبيهقي (٦ / ٢١٧) كتاب : الفرائض ، باب : لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ، وأبو نعيم في الحلية (٣ / ١٤٤ ـ ١٤٥) ، والبغوي في شرح السنة (٤ / ٤٧٨) ، وابن النجار في ذيل تاريخ بغداد (٢ / ٢٢٦) ، وابن عبد البر في التمهيد (٩ / ١٦٠) كلهم من طريق الزهري عن علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم».

وقال الترمذى : حديث حسن صحيح.

وزاد الحاكم في أوله : «لا يتوارث أهل ملتين ، ولا يرث ...» وقد اختلف في اسم عمرو بن عثمان هل هو عمرو بن عثمان أم عمر بن عثمان؟

فالجماعة روته عن الزهرى فقالوا : عمرو بن عثمان.

وخالفهم مالك في الموطأ وتبعه ابن عبد البر فقالا : عمر بن عثمان.

قال ابن عبد البر في التمهيد (٩ / ١٦١ ـ ١٦٢) : ومالك يقول فيه : عن ابن شهاب عن على بن حسين عن عمر بن عثمان عن أسامة ، وقد وافقه الشافعي ويحيى بن سعيد القطان عن ذلك فقال : هو عمر وأبي أن يرجع ، وقال : قد كان لعثمان ابن يقال له : عمر ، وهذه داره ، ومالك لا يكاد يقاس به غيره حفظا وإتقانا ، لكن الغلط لا يسلم منه أحد ، وأهل الحديث يأبون أن يكون في هذا الإسناد إلا عمرو بالواو ، وقال علي بن المديني : عن سفيان بن عيينة أنه قيل له : إن مالكا يقول في حديث : «لا يرث المسلم الكافر» : عمر بن عثمان ، فقال سفيان : لقد سمعته من الزهرى كذا وكذا مرة ، وتفقدته منه فما قال إلا عمرو بن عثمان. ا ه.

وقال ابن أبى حاتم في العلل (٢ / ٥٠) رقم (١٦٣٥) : سئل أبو زرعة عن حديث مالك عن الزهرى عن علي بن حسين عن عمر بن عثمان عن أسامة بن زيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يرث المسلم الكافر» ، قال أبو زرعة : الرواة يقولون : عمرو ، ومالك يقول : عمر بن عثمان ، قال أبو محمد ـ أي ابن أبي حاتم ـ : أما الرواة الذين قالوا : عمرو بن عثمان فسفيان بن عيينة ويونس بن يزيد عن الزهرى.

(٣) أخرجه أحمد (٢ / ١٧٨) ، وأبو داود (٣ / ٣٢٨) كتاب : الفرائض ، باب : هل يرث المسلم الكافر ، حديث (٢٩١١) ، وابن ماجه (٢ / ٩١٢) كتاب : الفرائض ، باب : ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك ، حديث (٢٧٣١) ، وسعيد بن منصور في سننه رقم (١٣٧) ، وابن الجارود في المنتقى رقم (٩٦٧) ، والدارقطني (٤ / ٧٥) كتاب : الفرائض ، حديث (٢٥) ، وابن عدي في الكامل (٥ / ٨٢) ، والبيهقي (٦ / ٢١٨) كتاب : الفرائض ، باب : لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ، والبغوي في شرح السنة (٤ / ٤٧٩) ، والخطيب في تاريخ بغداد (٥ / ٢٩٠) ، وابن عبد البر في التمهيد (٩ / ١٧٢) كلهم من طريق عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يتوارث أهل ملتين شتى».

والحديث صححه ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (٢ / ٣٥) ، فقال : رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والدارقطني من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وإسناد أبي داود والدارقطنى إسناد صحيح. ا ه.

قال الألباني في إرواء الغليل (٦ / ١٢١) : وهذا سند حسن. ا ه ، وللحديث شاهد من حديث جابر :

أخرجه الترمذي (٤ / ٤٢٤) كتاب : الفرائض ، باب : لا يتوارث أهل ملتين ، حديث (٢١٠٨) ـ

٣٥٦

وقال بعضهم : تأويل قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) من الأقربين منهم ، أي : أولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين الأقرب فالأقرب منهم ، (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) من الأبعدين في المواريث أي : الأقرب منهم بعضهم أولى ببعض من الأبعدين.

(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً).

على هذا التأويل يكون قوله : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ) : الأبعدين (مَعْرُوفاً) : وصية أو شيئا ، فذلك معروف فصارت المواريث للقرابات الأدنى فالأدنى من المؤمنين دون الأبعدين ؛ فيكون الآية التي في الأنفال وهذه سواء على هذا التأويل ، بل يكون الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى أولى بالمواريث من غيرهم.

وبعضهم يقول : إن الآية نزلت ناسخة لما كان منهم من التوارث بالمؤاخاة ؛ لأن النبي كان يؤاخي بين رجلين ، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته ، حتى نسخ ذلك بالآية التي ذكر ؛ فعلى ذلك يكون قوله : (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) هو أن يصنعوا إلى الذين آخى بينهم النبي معروفا.

ثم اختلف في أولي الأرحام المذكورين في الآية :

قال بعضهم : هم الذين ذكرهم في قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ...) [النساء : ١١] إلى آخر ما ذكر.

وقال بعضهم : ليسوا هم ؛ وإنما الذي ذكر في ذلك هم الذين بيّن لهم حدّ مواريثهم ، فأمّا غيرهم فإنما هم في قوله : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) فإنما يرث الأقرب فالأقرب منهم ، وكذلك يقول أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ : إن أولي الأرحام إنما يرث الأقرب فالأقرب منهم ، ليس كالعصبات ؛ لأن الابنة لا شك أنها أقرب من ابن العم ، ثم يكون النصف للابنة والبقية لابن العم.

وقوله : (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً).

قال بعضهم (١) : في اللوح المحفوظ بأن المؤمنين بعضهم أولى ببعض في المواريث

__________________

ـ من طريق ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يتوارث أهل ملتين» ، وقال الترمذي : هذا حديث لا نعرفه من حديث جابر إلا من حديث ابن أبي ليلى.

وضعفه ابن الملقن في «الخلاصة» (٢ / ١٣٥) ، فقال : رواه الترمذي من رواية جابر بإسناد ضعيف.

(١) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٥٠٨).

٣٥٧

من الذين كانوا يتوارثون.

وقال بعضهم : (فِي الْكِتابِ) ، أي : في التوراة مكتوبا : أن يصنع بنو إسرائيل إلى بني لؤي بن يعقوب معروفا ؛ ليعود الغني على الفقير ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً)(٨)

وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً).

قال بعضهم : خصّ هؤلاء ؛ لأن أهل الشرع من الرسل هم هؤلاء ؛ كقوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ...) الآية [الشورى : ١٣] ، لكنه قد ذكر في آية أخرى ما يدل أن غير هؤلاء كان لهم أيضا شرع ؛ كقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ...) الآية [النساء : ١٦٣].

وجائز أن يكون تخصيص هؤلاء بأخذ الميثاق ؛ لأنهم هم أولو العزم من الرسل ؛ حيث قال : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) أو يكون لا على تخصيص لمن ذكر ؛ ولكن على إرادة الكل ، والله أعلم.

ثم اختلف في أخذ الميثاق :

قال بعضهم : أخذ ميثاقهم على أن يبشر بعضهم ببعض : يبشر نوح بإبراهيم ، وإبراهيم بموسى ، وموسى بعيسى ، وعيسى بمحمد ، عليهم الصلاة والسلام.

وقال بعضهم (١) : أخذ ميثاقهم ؛ ليصدّق بعضهم بعضا ، وأن يدعوا إلى عبادة الله ، وأن ينصحوا لقومهم.

وجائز أن يكون ما ذكر من أخذ الميثاق منهم لما ذكر على أثره : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) : أخذ منهم الميثاق في تبليغ الرسالة إلى قومهم ؛ ليسألهم عن صدقهم أنهم قد بلغوا.

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً).

لأن تبليغ الرسالة إلى الفراعنة منهم وأعداء الله صعب شديد ، مخاطرة ، فيه هلاك النفس وفوات الروح ، وهو ما قال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ...) الآية [المائدة : ٦٧].

وقوله : (لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ).

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٣٥٢) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٢).

٣٥٨

الصدق أكثره إنما ينفع في الإنباء والإخبار ، كقوله : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر : ٣٣] : وهو ما أخبرهم وأنبأهم من القرآن وغيره.

وقال في آية أخرى : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] صدقا في نبئه ، وعدلا في حكمه ، ثم صدقه في النبأ ، وعدله في الحكم ، سمّي القرآن : مرة صدقا ، ومرة عدلا ، ومرة حقّا ، فالحق يجمع الأمرين : النبأ والحكم جميعا ، والصدق يكون في النبأ خاصة ، والحكم في العدل.

ثم يحتمل سؤاله الصادقين ، وهم الرسل ، عن صدقهم وجهين :

أحدهما : يسألهم عن تبليغ ما أمرهم بالتبليغ إلى قومهم ، وعن إنباء ما ولاهم الإنباء أن نبئوا أولئك : هل بلغتم وهل أنبأتم أولئك؟

والثاني : يسألهم عن إجابة أولئك لهم : هل أجابوكم إلى ما دعوتم؟ لأن منهم من أجابهم وصدقهم ، ومنهم من لم يجب ولم يصدّق ؛ فيخرج السؤال عمن أجاب على التقرير ، ومن لم يجب على التنبيه والتوبيخ ، وهو يسأل الفريقين جميعا : الرسل عن التبليغ ، والمرسل إليهم : عن الإجابة ؛ كقوله : (فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٦] والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً)(١١)

اشكروا ما أنعم الله عليكم وأحسنوا صحبة نعمه في النصر لكم والدفع عنكم ، ثم الأمر في تذكير ما أنعم عليهم وجوه من الحكمة والدلالة :

أحدها : تذكير لنا في مقاساة أولئك السلف من أصحابه في الدين ، وعظيم ما امتحنوا في أمر الدين ، حتى بلغوا الدين إلينا ؛ لكيلا نضيعه نحن ، بل يلزمنا أن نحفظه ونتمسك به ، ونتحمل فيه ، كما تحمل أولئك.

والثاني : فيه آية لهم وذلك أنهم كانوا جميعا هم وأعداؤهم ، فجاءتهم الريح والملائكة فأهلكتهم دون المؤمنين ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نصرت بالصّبا ، وأهلك عاد بالدّبور» (١) ، وذلك آية عظيمة.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٥٢٠) ، كتاب الاستسقاء : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٠٣٥) ، ومسلم (٢ / ٦١٧) ، كتاب صلاة الاستسقاء : باب في ريح الصبا والدبور (١٧ / ٩٠٠).

٣٥٩

والثالث : يذكرهم ما أتاهم من الغوث عند إياسهم من أنفسهم وشرفهم على الهلاك وخروج أنفسهم من أيديهم ؛ لأن العدو قد أحاطوا بهم ؛ حيث قال : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) ، وبلغ أمرهم وحالهم ما ذكر ، حيث قال : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ ...) الآية.

أو أن يذكر لما كان منهم من العهد والميثاق ألا يولّوا الأدبار ، ولا يهربوا كقوله : (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ ...) الآية [الأحزاب : ١٥] : يذكرهم عظيم نعمه التي كانت عليهم في النصر لهم على عدوّهم والدفع عنهم ، وحالهم ما ذكر في الآية ، وذلك كان يوم الخندق تحزبوا المؤمنين في ثلاثة أمكنة يقاتلونهم من كل وجه شهرا ، فبعث الله عليهم بالليل ريحا باردة ، وبعث الملائكة فغلبتهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً).

يذكر أنه لا عن غفلة وسهو ترككم هنالك حتى أحاط بكم العدو ؛ ولكن أراد أن يمتحنكم محنة عظيمة.

أو يقول : إنه بصير عليم فيجزيكم جزاء عملكم وصبركم على ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ).

قال بعضهم : من فوق الوادي ومن أسفل منه.

وقيل : أحاطوا بهم من النواحي جميعا.

وجائز أن يكون ذلك كناية عن الخوف ، أي : أحاطوا بهم حتى خافوا على أنفسهم الهلاك ؛ وعلى ذلك يخرج قوله : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : هذا وصف المنافقين (زاغَتِ الْأَبْصارُ) ، أي : شخصت (١) ، (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) ؛ لشدة خوفهم ، كقوله : (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) [الأحزاب : ١٩] ، وأمثال هذا قد وصفهم في غير آي من القرآن ما وصف هاهنا ، وهذا يشبه أن يكون.

وقال بعضهم : هذا وصف حال المؤمنين : شخصت الأبصار ، وبلغت القلوب الحناجر ؛ لمّا اشتد بهم الخوف ؛ لما أحاطوا بهم من فوق ومن أسفل.

ثم جائز أن يكون ذلك على التمثيل ، أي : كادت أن تكون هكذا.

وجائز أن يكون على التحقيق ، وهي أن تزول عن أمكنتها ، وبلغت ما ذكر ، والله

__________________

(١) وقاله قتادة أيضا ، أخرجه ابن جرير (٢٨٣٧١) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٧).

٣٦٠