تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

الذي كان منه في تلك الأهوال لم يعد إلى الكفر.

وقال بعضهم : (فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) : الوسط.

العدل ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ).

قيل (١) : الختار : الغدار.

وقال بعضهم (٢) : الختار : هو الذي بلغ في الغدر غايته ونهايته.

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) العلي يتوجه وجهين :

أحدهما : العلو : القهر والغلبة ؛ كقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) ، أي : غلب وقهر ، وقوله : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) ؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون قوله : (الْعَلِيُ) أي : القاهر الغالب.

والثاني : أن يكون العلو : الارتفاع ؛ فإن كان الارتفاع ، فهو يرتفع ويتعالى عن أن يحتمل [ما يحتمل] الخلق من التغير والزوال وغير ذلك مما يحتمل الخلق ، ارتفع وتعالى عن احتمال ما يحتمل الخلق.

والكبير ، أي : تكبر من أن يلحقه شيء مما يلحق الخلق ، والله أعلم.

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ).

يحتمل : (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) في الجهة التي له عليكم ، وأوفوا له ذلك.

أو اتقوا مخالفة ربكم ومعصيته.

أو اتقوا نقمة ربكم وعذابه.

لكنه يختلف الأمر بالاتقاء في المؤمن والكافر : يكون للكافر : اتقوا الشرك وعبادة غير الله ، وفي المؤمن : اتقوا مخالفة الله في جميع ما يأمركم وينهاكم ، واتقوا عبادة غير الله أو الشرك في حادث الوقت.

وقوله : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً).

يذكر هذا على الإياس وقطع طمع بعضهم عن بعض : بالوصلة التي كانت بينهم في الدنيا ، والمنافع التي كان ينفع بعضهم بعضا في الدنيا ، يخبر أن ذلك كله منقطع في الآخرة ؛ لهول ذلك اليوم ، واشتغال كل بنفسه ؛ حتى لا ينفع أحد صاحبه ، وخاصة ما ذكر

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨١٦٣) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٢٤) ، وهو قول مجاهد والحسن والضحاك وغيرهم.

(٢) قال البغوي في تفسيره (٣ / ٤٩٦) : الختر أسوأ الغدر.

٣٢١

من الولد لوالده والوالد لولده ، مما لا يحتمل قلب واحد منهما أن يلحق المكروه بالآخر ، ولا يصبر ألا يدفع ذلك عنه بكل ما به وسعه وطاقته ؛ للشفقة والمحبة التي جعلت فيهم.

ثم أخبر ألا ينفع أحدهما صاحبه ؛ لاشتغاله بنفسه ، وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كل نسب وسبب فهو منقطع ، إلا نسبي وسببي» (١) ، ونسبه : دينه الذي دعانا إليه وعلمناه ، وسببه : شفاعته يوم القيامة ، فذلك كله منقطع إلا هذين ؛ فإنه من تمسك بدينه فإنه يشفع [له] يوم القيامة فيما قصر وفرط ، فأما من لم يقبل دينه ، ولم يجبه إلى ما دعاه ـ فإنه ليس له واحد من هذين من الأسباب والأنساب ، منقطع ؛ كقوله : (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) [البقرة : ١٦١].

وقال بعضهم : قوله : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) ، قال : هذه الآية في الكفار ؛ فأما المؤمنون فينفع الوالد ولده والولد والده في الآخرة : يدفع إلى ابنه بفضل عمله ، وكذلك الولد إلى أبيه ؛ كقوله : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً) [النساء : ١١] ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ).

فيما ذكر من الإياس وقطع طمع بعضهم من بعض ، أو ما ذكر من قيام الساعة وكونها أنها تكون لا محالة ، أو في الثواب والعقاب.

وقوله : (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا).

هذا يحتمل وجهين على التحقيق والتمثيل.

أما التحقيق : ألا تشغلنكم الحياة الدنيا ولذاتها ، ولا تلهينكم عن ذكر الله وعن الآخرة ، ولا تغتروا بها ؛ فإنها لعب ولهو ، على ما ذكر أنها لعب ولهو على ما هي عندكم ؛ لأنها عندهم أنها إنما أنشئت وخلقت لها لا للآخرة ، فالدنيا ـ على ما هي عندهم ـ لعب ولهو ، وأما على ما هي عندنا هى حق ليس بباطل ؛ لأنها أنشئت للآخرة وبلغة إليها.

وأما التمثيل : أضاف التغرير إليها ؛ لأن ما كان منها من التزيين والتحسين في الظاهر وإظهار بهجتها وسرورها ولذاتها لو كان ممن له التمييز والعقل والفهم وحقيقة التزيين والتحسين كان تغريرا ؛ فعلى ذلك ما كان منها على الظاهر فهو تغرير على التمثيل.

__________________

(١) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (٨ / ٣٣٩) ، والحاكم (٣ / ١٤٢) ، من حديث عمر بن الخطاب ، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه فتعقبه قائلا : منقطع.

وله شاهد من حديث عبد الله بن الزبير أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (١٠ / ٢٠) ، وقاله الهيثمي : وفيه إبراهيم بن يزيد الخوزي وهو متروك.

٣٢٢

أو أن يكون ما ذكر : ألا تغتروا بالحياة الدنيا وما فيها من لذاتها ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ).

قيل (١) : الغرور : الشيطان ، لا يغرنكم ، ويقول : إن الله كريم رحيم جواد ولا يعذبكم.

أو يقول : إن الله غني قادر لا يأمركم بأمر ولا ينهاكم ؛ إذ إنما يأمر وينهى في الشاهد من كان محتاجا ، فأما الغني فلا يأمر ، أو نحوه ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ).

ذكر في بعض الأخبار عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله» (٢) ، وعدّ هذه الخمسة التي ذكرت في هذه الآية.

وكذلك روي أبو هريرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «خمس لا يعلمهن إلا الله ؛ [ثم تلا] قوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ)(٣) إلى آخر الآية». فإن ثبت هذا فهو ما ذكر ، ويرجع ذلك إلى معرفة حقيقة ما ذكر ؛ وإلا جائز أن يقال : إنه يعلم بعض هذه الأشياء بأعلام ؛ من نحو المطر أنه متى يمطر ، أو ما في الأرحام : أنه ولد وأنه ذكر أو أنثى ، وإن لم يعلم ماهية ما في الأرحام ؛ نحو ما يعلم المنجمة بذلك بالحساب وبأعلام ، يخرج ذلك على الصدق مما أخبروا ربما ؛ ألا ترى أن إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ قال : (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] لما نظر في النجوم ، أي : سأسقم. وروي أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ قال : إني ألقي إلى أن ذا بطن بنت خارجة جارية ، وكان كما ذكر ؛ فلا يحتمل أبو بكر يعلم ذلك لما ألقي إليه ، ورسول الله لا يعلم الساعة ؛ فإنه لا يطلع عليها أحد ، إلا أن يقال بأن رسول الله لم يؤذن له بالتكلم والقول بشيء إلا من جهة الوحي من السماء ، فأما الاشتغال بمثله فلا ؛ لأن الاشتغال بمثله تضييع لكثير مما امتحن ، وترك لبعض ما يؤمر وينهى ، أو لما يخرج ذلك مخرج التطير والتفاؤل واكتساب الرزق على غير الجهة التي جعل وأبيح لهم ؛ فكان المنع لذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٢٥) ، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك.

(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٢٢٠) ، كتاب الاستسقاء : باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله (١٠٣٩) ، وأحمد (٢ / ٢٤ ، ٥٨) ، وعبد بن حميد (٧٩١) ، والبغوي في شرح السنة (٢ / ٦٦١) ، وابن جرير (٢٨١٧٨).

(٣) أخرجه البخاري (٩ / ٤٦٦) كتاب التفسير : باب قوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (٤٧٧٧) ، ومسلم (١ / ٣٩) ، كتاب الإيمان : باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان (٥ / ٩) ، وابن جرير (٢٨١٨٢).

٣٢٣

ثم قوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) يحتمل قوله : (عِلْمُ السَّاعَةِ) أي : وقت الساعة ، كقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) [الأعراف : ١٨٧] ، وقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها. فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها. إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) [النازعات : ٤٢ ـ ٤٤] : أخبر أنه لا يجليها لوقتها ، وذكر لرسول الله : إنك (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) [النازعات : ٤٥] ، فأما ما سوى ذلك فليس إليك.

أو أن يكون قوله : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) ، أي : عنده علم بماهية الساعة وأهوالها ، ولم يذكر ماهيتها وحدها وقدرها ؛ فأخبر أنه يعلم هو ذلك.

وقوله : (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ).

سمى المطر : غيثا ، فيشبه أن يكون سماه : غيثا ؛ لما به يكون للناس غياث فيما به قوام أنفسهم ودنياهم ، وسماه في موضع : رحمة ، وفي موضع : مباركا ، فتسميته : رحمة ؛ لما به نجاة أنفسهم وأبدانهم وذلك صورة الرحمة ، وسماه : مباركا ؛ لما به ينمو ويزداد كل شيء ؛ إذ البركة هي اسم كل خير ينمو ويزاد بلا اكتساب.

وقوله : (وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ).

من انتقال النطفة إلى العلقة ، وانتقال العلقة إلى المضغة ، وتحوله من حال إلى حال أخرى ، وقدر زيادة ما فيه في كل وقت وفي كل ساعة ، ونحو ذلك لا يعلمه إلا الله. وأما العلم بأن فيه ولدا وأنه ذكر أو أنثى ـ فجائز أن يعلم ذلك غيره أيضا.

وقوله : (وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ).

جائز أن يكون كتم ذلك وأخفاه ؛ ليكونوا في كل حال على حذر وخوف وعلى يقظة ؛ إذ لو كان أطلعهم على ذلك ـ لكانوا آمنين إلى ذلك الوقت ؛ فيعملون بكل ما يريدون ويشاءون ؛ فيكون في ذلك ارتفاع المحنة ، فلبس ذلك عليهم ؛ ليكونوا أبدا في كل وقت وكل حال ـ على حذر وخوف ويقظة ، والله أعلم.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).

وذكر بعض أهل التأويل أن رجلا من أهل البادية يقال له : الوارث بن عمرو بن حارثة ابن محارب جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إن أرضنا أجدبت ، فمتى الغيث؟ وتركت امرأتي حبلى ؛ فما ذا تلد؟ وقد علمت أنى ولدت ؛ ففي أي أرض أموت؟ وقد علمت ما عملت اليوم ؛ فما ذا أعمل غدا؟ ومتى الساعة؟ فأنزل الله ـ تعالى ـ في مسألة المحاربي : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) : لا يعلمها غيره ، (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) : من ذكر أو أنثى ، (وَما تَدْرِي نَفْسٌ) برة أو فاجرة (ما ذا تَكْسِبُ غَداً) : من خير أو شر ، (وَما تَدْرِي

٣٢٤

نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) : في سهل أو جبل ، أو بر أو بحر (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) : بهذا الذي ذكر كله فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أين السائل عن الساعة؟» فقال المحاربي : هاهنا ؛ فقرأ النبي صلوات الله عليه هذه الآية (١).

قال أبو عوسجة : قوله (كَالظُّلَلِ) ، أي : ما استظللت به ، والظلة : السحاب.

قال القتبي : (٢) (كَالظُّلَلِ) : جمع ظلة ، يريد : أن بعضه فوق بعض ؛ فله سواد من كثرته ، والبحر ذو ظلال لأمواجه.

والختار : الغدار ، والختر : أقبح الغدر وأشده.

وقال أبو عوسجة : الختار : الكذاب الغدار ؛ يقال : ختر ، يختر ، خترا ؛ فهو خاتر.

وقوله : (وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي) ، أي : لا يغني ؛ تقول جزى يجزي ؛ فهو جاز ، أي : أغنى ، وأجزى يجزي مثله ، وأجزأني عن كذا وكذا ، أي : كفاني ، وكذلك قال القتبي (٣).

وقال : الغرور ـ بنصب الغين ـ : الشيطان ، والغرور ـ بضم الغين ـ : الباطل.

* * *

__________________

(١) أخرجه الفريابي وابن جرير (٢٨١٧٣) ، وابن أبي حاتم عن مجاهد مرسلا وأخرجه ابن المنذر عن قتادة مرسلا أيضا ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٢٥).

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٤٤ ، ٣٤٥).

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن (٣٤٥).

٣٢٥

سورة السجدة ، مكية إلا ثلاث آيات (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (٤) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٥) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٦) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (٧) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٨) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ)(٩)

قوله ـ عزوجل ـ : (الم).

قد ذكرنا تأويله في صدر الكتاب.

وقوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ).

الكتاب المطلق : كتاب الله ، والدين المطلق : دين الله ، والسبيل المطلق والطريق المطلق : سبيل الله وطريقه.

وقوله : (لا رَيْبَ فِيهِ).

أنه منزل من الله ؛ لأنه أنزل على أيدي الأمناء البررة : لم يغيروه ولا بدلوه ولا حرفوه.

أو يقول : (لا رَيْبَ فِيهِ) أنه ليس بمخترق ولا مخترع ولا مفتري من عند الرسول ؛ بل منزل من عند رب العالمين.

أو (لا رَيْبَ فِيهِ) : لا شك ؛ على ما يقول الناس لكل محكم من الأمر مبين ، والله أعلم.

(مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

العالم : هو اسم جنس من الخلق وجوهر منه ، و (الْعالَمِينَ) : جمعه ؛ فيدخل في ذلك الأولون والآخرون الذين يكونون إلى آخر ما يكونون ؛ ففيه أنه يوصف ـ جل وعلا ـ أنه رب لكل ما كان ويكون ، ومالك ما كان وما يكون ؛ كقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) [الفاتحة : ٤] : أخبر أنه مالكه ، وهو بعد ما لم يكن ، أعني : ذلك اليوم.

وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ).

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : منها ، فإنها نزلت بالمدينة ، وهو قوله (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ ...) إلى قوله : [(وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)].

٣٢٦

قوله : (أَمْ يَقُولُونَ) هو استفهام وشك في الظاهر ، لكنه من الله يخرج على تحقيق إلزام وإيجاب أو تحقيق نفي ، على ما لو كان ذلك من مستفهم ومسترشد : كيف يجاب له ويقال فيه؟ فإنما يقال للمستفهم : لا أو بلى ؛ فعلى ذلك هو من الله على تحقيق إثبات وإيجاب ، أو تحقيق نفي ؛ إذ لا يحتمل الاستفهام والسؤال ؛ كقوله : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) [النجم : ٢٤] ؛ كأنه قال : ليس للإنسان ما تمنى ؛ فعلى ذلك كأنه قال ـ هاهنا ـ : بل يقولون : (افْتَراهُ) ، ثم رد ما قالوا : إنه افتراه ؛ فقال :

(بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ).

يحتمل قوله : (هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) : ليس بمخترع ولا مخترق ولا مفتري من محمد ؛ بل منزل من عند الله ، على ما ذكرنا في قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).

أو هو الحق من ربك ، ليس بكلام البشر ولا في وسعهم إتيان مثله ؛ فهو الحق منه (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ ...) الآية [فصلت : ٤٢].

وقوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً).

أي : لتنذر بالكتاب الذي أنزل قوما.

(ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : على الجحد ، أي : لتنذر قوما لم يأتهم نذير ، وهم أهل الفترة الذين كانوا بين عيسى ومحمد ، عليهما الصلاة والسلام.

والثاني : لتنذر قوما : الذين قد أتاهم من نذير من قبلك ، وهم آباؤهم وأجدادهم الذين كانوا من قبله ، الذين قد أتاهم نذير من قبله ، والله أعلم.

وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).

هذا ـ أيضا ـ يحتمل وجهين :

أحدهما : لتنذر قوما ؛ لكي تلزمهم به حجة الاهتداء.

والثاني : لتنذر قوما ؛ على رجاء وطمع أن يهتدوا ، والله أعلم.

وقوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).

هذا ـ أيضا ـ قد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ).

وفي هذا ـ أيضا ـ قد ذكرنا فيما تقدم تأويلات كثيرة (١) ، لكنا نذكر فيه حرفا لم نذكره

__________________

(١) ينظر : اللباب (٥ / ٤٣٧).

٣٢٧

فيما تقدم من الذكر ؛ وكأنه أصوب وأقرب إلى الحق ، وهو أن ذلك حرف وكلام لم يجعل الله ـ تعالى ـ في العقول والأفهام سبيل الدرك له والمعرفة ـ أعني : لقوله (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ـ لأنه ذكر ذلك الحرف في موضع آخر ، وأمره أن يسأل به خبيرا ؛ حيث قال : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) [الفرقان : ٥٩] ، ولو كان ذلك الحرف مما لعقول البشر وأفهامهم سبيل الوصول إلى معرفته ودركه لأدركه عقل رسول رب العالمين وفهمه من غير أن يسأل به الخبير من كان : الله أو جبريل ، فإذا أمره بالسؤال عنه دل أنه بالعقل والفهم لا يدرك ولا يعرف ؛ ولكن بالسمع عن الله. ولم يذكر عن الرسول أنه فسر ذلك أو قال فيه أو سأله أحد عنه ، والله أعلم.

وقوله : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ).

يقول أهل التأويل : ما لكم من دونه من ولي ينفعكم في الآخرة ، ولا شفيع يدفع عنكم عذابه.

أو أن يكون قوله : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ) ، أي : رب وإله يلي أمركم سواه ، (وَلا شَفِيعٍ) : لا هو ولا غيره ، وأما للمؤمنين فإنه وليهم ؛ كقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) [محمد : ١١].

وقوله : (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ).

فيما ذكر من صنعه ؛ فتوحدونه ، والله أعلم.

وقوله : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ).

قال أهل التأويل : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، أي : هو يقضي القضاء وحده من السماء والأرض. وعندنا أنه يخرج على وجهين :

أحدهما : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، أي : هو يكون الأمر ويدبره.

أو هو يجعل الخلق بحيث يقبلون الأمر والنهي ويحتملون المحنة.

أو هو يخرج الأمر كله على الحكمة والتدبير.

والثاني : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، أي : يولي من يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ؛ نحو ما ولى ملك الموت قبض أرواح الخلق ، ونحو ما ولى بعض ملائكته أمر الأمطار والنبات وغير ذلك ؛ فجائز أن يكون الأول يولي ملائكته أمر ما بين السماء والأرض.

فإن كان الأول فليس ذكر السماء والأرض حدّا ولا تقديرا ؛ يدبر ما سوى ذلك ، لكن ذكر هذا ؛ لما إلى ذلك ينتهي تدبير البشر وعلمهم ، وأما ما سوى ذلك فلا.

وإن كان الثاني فهو على التحديد ، والله أعلم.

٣٢٨

وقوله : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ).

قال بعض أهل التأويل (١) : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ، يقول : يصعد الملك إليه في يوم واحد من أيام الدنيا ، كان مقدار ذلك اليوم ، (أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ، أنتم ؛ لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام ؛ فينزل مسيرة خمسمائة عام ، ويصعد خمسمائة عام ، وذلك مقدار مسيرة ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا.

وذكر في موضع آخر : (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤] ؛ فجائز أن يكون ذلك وصف يوم القيامة ؛ فيخرج ذلك لا على التحديد والتقدير ؛ ولكن على التعظيم لذلك اليوم ، والوصف له بما يعظم في قلوب الخلق ، وهو ما وصفه بالعظمة ؛ كقوله : (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) [المطففين : ٥].

أو أن يكون التحديدان والتقديران كانا حقيقة ؛ لاختلاف أحواله وأوقاته ، على اختلاف الأمور ، يكون ألف سنة [كما] ذكر [في] حال ووقت لأمر ، وخمسين ألف سنة بحال أخرى لأمور أخر ؛ على ما سمى ذلك اليوم مرة : يوم الجمع ، ومرة : يوم التفريق ، ويوم الفصل ، ويوم الحساب ، ويوم البعث ، ونحوه ، ومعلوم أن ذلك اليوم من أوله إلى آخره ليس بيوم الجمع ، ولا بيوم الافتراق ، ولا يوم الحساب ولا يوم البعث ؛ ولكن [سماه] بجميع ذلك كله ؛ لاختلاف الأحوال والأوقات لأمور مختلفة ؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون الأول كذلك ، والله أعلم.

ويكون قوله : (ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ، أي : يصير إليه ذلك ؛ كقوله : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [المائدة : ١٨] ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٤٥] ، (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) [هود : ١٢٣] ، ونحوه.

[وقوله : (يَعْرُجُ إِلَيْهِ) ، أي : يصعد في قول القتبي وأبي عوسجة (٢) ، ويعرج : أي : احتبس](٣).

وقوله : (ذلِكَ).

أي : هذا الذي صنع ما ذكر من هذه الأشياء.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

يحتمل هذا وجوها :

عالم ما غاب عن الخلق والشهادة : وعالم ما يشهدون ويعلنون.

أو عالم ما يكون ويحدث ، والشهادة : ما قد كان ومضى.

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨١٨٨) و (٢٨١٩٢) ، وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٣٠) ، وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك.

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٤٦).

(٣) ما بين المعقوفين جاء في أ : قبل : وقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ....).

٣٢٩

أو عالم ما يغيب بعض من بعض ، والشهادة ما يشهدون ويظهرون.

أو عالم ما يغيب عن الخلق كيفية لمنافع الأشياء الظاهرة وماهيتها ، نحو ما غاب عنهم المعنى المضر المودع في الطعام والشراب والأغذية جميعا ، الذي به حياة أنفسهم وقوامهم ، وكذلك السمع والبصر والفهم والعقل : لا يدرك المعنى الذي به يسمع ويبصر ويفهم ويدرك وما به تحيا أنفسهم به ، والله أعلم.

وقوله : (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

العزيز في هذا الموضع : المنتقم من أعدائه ، الرحيم على أوليائه.

أو العزيز : الذي لا يعجزه شيء ، الرحيم : الذي له رحمة يسع الخلائق في رحمته.

أو العزيز : الذي به يعز من عز ، والرحيم : الذي برحمته يرحم من يرحم.

ومنهم من يقول في قوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) ، وقوله : (فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) [المعارج : ٤] قال : من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى منتهى أمره فوق السموات ، مقدار ذلك خمسون ألف سنة ، ويوم كان مقداره ألف سنة : ذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد ، فذلك مقداره ألف سنة.

لكن قوله : من منتهى أمره من أسفل الأرضين إلى أمره فوق السموات كذا ـ فاسد ؛ لأنه لا يجوز أن يكون لأمره أو لملكه نهاية أو حد ، والوجه فيه ما ذكرنا.

وقوله : (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ).

بالجزم والتحريك جميعا ، كلاهما لغتان.

ثم يحتمل قوله : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) أي : علم كل شيء خلقه : أن كيف يخلق من غير أن يعلمه أحد أو أعانه عليه أحد. وفي الشاهد لا يقدر أحد ، ولا يمكن له صنع شيء إلا بمعلم يعلمه ذلك أو بمعين يعين على ذلك ، يخبر عن جهلهم وسفههم بتقديرهم قدرة الله وقوته بقوى أنفسهم وقدرتهم في إنكارهم البعث ؛ لخروجه عن تقدير الخلق وامتناعه عن وسعهم ، يقول : لا تقدروا قدرة الله بقدرة أنفسكم وقواكم ، كما لم تقدروا علمه بعلمكم ؛ إذ يعلم هو بذاته بلا معلم ، وأنتم لا تعلمون إلا بعلم ؛ فعلى ذلك هو قادر بذاته لا يعجزه شيء وأنتم لا تقدرون إلا بغير أو بسبب.

ويحتمل هذا الوجه وجها آخر ، وهو أن قوله : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ، أي : أعلم كل شيء من خلقه : ما به مصالحهم وفسادهم ، وما يؤتى وما يتقى.

والثاني : (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ، أي : أحكم كل شيء خلقه وأتقنه.

٣٣٠

ثم يخرج هذا على وجهين :

أحدهما : أتقن وأحكم فيما به من المصالح والمعاني ، وفي كل شيء من التسوية والتفرد وفي الجمع والتصوير.

والثاني : أحسن ، أي : أتقن وأحكم كل شيء خلقه في الشهادة على وحدانية الله وألوهيته ، أي : جعل في كل أثر وحدانيته يشهد على وحدانيته وربوبيته.

وقال بعضهم : (١) (أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) لم يخلق الإنسان في خلق البهائم وصورتها ولا البهائم في خلق الإنسان.

وقتادة يقول (٢) : كل شيء من خلقه حسن على ما خلق وعلم كيف يخلقه ، وهو قريب مما ذكرنا بدءا.

ثم من قرأه : (خَلَقَهُ) : بالجزم يكون معناه ـ والله أعلم ـ أي : أحسن خلق كل شيء ومن قرأه (خَلَقَهُ) بالتحريك ، أي : أحسن كل شيء منه وخلقه.

ثم للمعتزلة في هذه الآية أدنى تعلق يقولون : أخبر أنه أحسن كل شيء خلقه ، والكفر وشتم رب العالمين ونحوه ـ كله قبيح وسفه ؛ دل أنه لم يخلقه ، وأنه ليس بخالق لذلك.

يقال لهم : إخوانكم الزنادقة يعارضونكم ويقولون : إن الخنزير والنجاسات ، وجميع السباع الضارة والمؤذية ، وجميع الخبائث كلها قبيحة ، الله ليس بخالق لها ؛ فبم تدعون قولهم وسؤالهم في ذلك؟

فإن زعمتم في الأول في الكفر والشتم وجميع فعل الشرور : أنه ليس بخلق له ؛ لأنه قبيح ضارّ مؤذ ـ يلزمكم مذهب الزنادقة فيما يقولون ويذكرون في إثبات خالق سواه ؛ لأنه قبيح ضار مؤذ.

ويقال لهم : إن الله ـ جل وعلا ـ سمى إبليس : باطلا ؛ فهو إذن لم يخلقه ؛ لأنه أخبر أنه لم يخلق السموات والأرض وما بينهما باطلا.

ثم يقال لهم : إنا نقول : إنه خلق فعل الكفر من الكفرة قبيحا ، وخلق فعل الكفر والشتم من الشرير والشاتم قبيحا ، خلق فعل الشر على ما هو وعلى ما عرفه ؛ فلا عيب يلحقه في جعل ما هو قبيح قبيحا ؛ كمن يعلم الكفر ليعلمه قبيحا على ما هو ، وكذلك جميع الشرور ؛ فعلى ذلك ليس في خلق ما هو قبيح في نفسه قبيحا ـ عيب ؛ على ما لم

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٨٢٠٦) ، والفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٣٢).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٨٢٠٥).

٣٣١

يكن في تكلف معرفة القبيح ليعرفه قبيحا على ما هو حقيقة ـ عيب ، هذا إذا كان التأويل على ما يذهبون هم إليه. فأما إذا كان ما ذكرنا في قوله : (أَحْسَنَ) ، أي : علم أو أعلم ، فليس يدخل في ذلك شيء مما ذكروا ، والله أعلم.

وقوله : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ).

قال عامتهم (١) : يعني : آدم.

وقوله : (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ).

أي : نسل آدم.

[(نَسْلَهُ) : أي : ولده.

وقال : السلالة : الخالص من كل شيء](٢).

(ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ).

أي : آدم.

وقال بعضهم : لا ؛ ولكن ذلك نعت ولده وذريته ؛ لأن الأعجوبة في خلق ولده في الأرحام في ثلاث ظلمات من النطفة إن لم تكن أكثر من خلق آدم من طين لا تكون أقل ؛ لأن صنع الأشياء الظاهرة البادية وتسويتها في الشاهد أيسر وأدون من صنعها وتسويتها إذا كانت غائبة مستكنة.

وظاهره : أن يكون قوله : (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) : آدم ، (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) : ذريته ؛ لأن النسل هو الولد والذرية.

وقوله : (مِنْ سُلالَةٍ) : قال بعضهم : السلالة : هو الصفوة من الماء ، والخالص من كل شيء.

وقال بعضهم : السلالة : هي من السل : سل السيف ، أي : أخرجه ونزعه ؛ فعلى ذلك قوله : (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ) ، أي : استخرج من الظهر وسل منه ونزع.

والمهين : هو الضعيف ؛ يقال منه : مهن يمهن مهانة ، فهو مهين ، وهو قول أبي عوسجة والقتبي.

وقوله : (ثُمَّ سَوَّاهُ).

أي : جمعه وقومه وركب بعضه ببعض.

(وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ).

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (١٠ / ٢٣٤) ، والبغوي (٣ / ٤٩٨).

(٢) ما بين المعقوفين جاء في أ : قبل : وقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ....).

٣٣٢

وهو من الريح ، وبالنفخ يتفرق في الجسد ؛ لذلك ذكر ، والله أعلم.

وقوله : (ثُمَّ سَوَّاهُ) يحتمل ما ذكرنا من تركيب الجوارح والأعضاء.

أو سواه وجعله بحيث يحتمل المحنة والأمر والنهي.

(وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) ، أي : جعل فيه الروح ، وذكر النفخ لما ذكرنا على تحقيق النفخ فيه ، والله أعلم.

وقوله : (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ).

ذكر ـ جل وعلا ـ جميع ما يوصل إلى العلوم الغائبة والحاضرة جميعا ، ويدرك ويوجد السبيل إليها وهو السمع والبصر والقلب في الإنسان ؛ لأنه بالسمع يوصل إلى ما غاب عنهم من العلم : يسمعون ما عند غيرهم ، وكذلك بالبصر يرى ويبصر ما عند غيره ، وبالقلب يفهم ويحفظ ويميز بين ما يؤتى ويتقى ، يبين أنه قد أعطاهم ما به يدركون ويصلون إلى ما غاب عنهم ويفهمون ويميزون ، وهو ما ذكر من الحواس.

ثم قال : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).

قال أهل التأويل (١) قوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ، أي : لا تشكرون قط ؛ لأنهم يقولون : إنما خاطب به أهل مكة.

أو أن يقال : إنهم يشكرون قليلا ، لكنهم يفسدون وينقضون ما يشكرون بكفرانهم من بعد.

وأما أهل الإسلام وإن كان شكرهم لما ذكر من هذه الحواس قليلا فإنهم قد اعتقدوا ـ في أصل العقد ـ الشكر له في جميع نعمه ، والكافر اعتقد الكفران له ؛ وإلا يجئ أن يكون قوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) للمؤمنين ولهم يقال ذلك لا للكفرة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (١٠) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١١) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (١٢) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٣) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(١٤)

وقوله : (وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ).

هذا القول منهم في الظاهر يخرج على الاستفهام والسؤال : أإنا نبعث ونخلق خلقا

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٤٩٨).

٣٣٣

جديدا؟ وعلى الإيجاب والتحقيق : إنا نبعث لا محالة ؛ فلا يلحقهم بذلك لائمة ولا تعيير لو كان على ظاهر المخرج منهم ، لكنهم إنما قالوا ذلك ؛ استهزاء وإنكارا للبعث ؛ دليله ما قال على أثره : (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) ؛ وإلا ظاهر ذلك القول منهم على أحد الوجهين اللذين ذكرناهما : استفهاما ، أو إيجابا ، وهو ما أخبر عن المنافقين ؛ حيث قال : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) [المنافقون : ١] : هذا القول منهم حق وصدق ، لكنهم لما أضمروا خلاف ذلك لم ينفع ذلك لهم ؛ حيث قال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) ؛ فعلى ذلك القول منهم في الظاهر ما ذكرنا ، لكنهم إنما قالوا ذلك ؛ استهزاء وإنكارا للبعث وجحودا.

وقوله : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ).

هذا الحرف في الظاهر ليس هو بصلة للأول ؛ لأنه إنما يقال عن سؤال سابق في توفي الخلق وقبض أرواحهم : أنه من؟ فيقال عند ذلك : يتوفاكم ذلك ملك الموت.

وجائز أن يكون على الصلة بالأول ؛ لأنهم أنكروا البعث وإحياءه إياهم من التراب ؛ لما لا يرون لله القدرة على ذلك ؛ فيذكر أنه مكن وأقدر عبدا من عبيده على قبض أرواح جميع الخلائق من المشرق إلى المغرب ، من غير أن يعلمه أحد أن كيف يقبض؟ وكيف يمكن له ذلك؟ فيخبر أن من قدر على هذا يقدر على إحياء الخلق بعد ما صاروا ترابا ورمادا بل قادر على ما شاء ، كيف شاء ، متى شاء ، لا يعجزه شيء ، ولا يخفى عليه شيء.

ثم قوله : (يَتَوَفَّاكُمْ) يحتمل من توفى العدد : يجعلهم وفاء لعدّها ؛ كقوله : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم : ٨٤].

وجائز أن يكون التوفي من الاستيفاء ووفاء التمام ، أي : يستوفى الروح كله ؛ حتى لا يبقى في الجسد منه شيء.

ثم في الآية دلالة خلق أفعال العباد ؛ لأنه أخبر أن ملك الموت يتوفاهم ويميتهم ، وقد أخبر أنه خلق الموت والحياة ؛ فدل أن جميع ما يفعل العباد هو خلق.

وقال القتبي : (١) (ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) ، أي : بطلنا وصرنا ترابا.

وقال غيره : هلكنا.

وقال أبو عوسجة : (ضَلَلْنا) بالضاد : إذا صرنا في القبور وبلينا فيها. ويقال : ضللنا بالكسر من الضلال ، ويقال : ضللت شيء كذا وكذا : إذا لم تدر أين ذهب؟ ويقال :

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٤٦).

٣٣٤

ضللنا ـ بالضاد ـ : وهو من ضل اللحم ، أي : أنتن.

وقوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

يقول ـ والله أعلم ـ : لو ترى ـ يا محمد ـ ما نزل بالمجرمين يومئذ من العذاب ، وما هم فيه من الحال الشديدة والهوان ؛ بالتكذيب الذي كان منهم وإساءتهم إليك ـ لرحمتهم ولم تتكلف مكافأة إساءتهم وتكذيبهم ؛ لعظم ما نزل [بهم] من العذاب والشدائد.

(ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ؛ ندامة وحسرة وحزنا على ما كان منهم ، على مثل هذا يخرج التأويل ؛ وإلا ليس في ظاهر الآية جواب قوله : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ؛ فجوابه ما ذكرنا ، أو نحوه ، والله أعلم.

وقوله : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا).

هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : قوله : (أَبْصَرْنا) : بالحجج والبراهين عيانا بعد ما كنا أبصرناها في الأولى بالدلالة ، (وَسَمِعْنا) ، أي : قبلنا وأجبنا ؛ (فَارْجِعْنا) إلى الأولى أو المحنة ، (نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ).

والثاني : ربنا أبصرنا صدق الرسل ، وأيقنا بما وعدنا في الدنيا وسمعنا سماع إيقان وعيان ، فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها).

أي : لو شئنا لآتينا كل نفس ما عندنا من اللطف : الذي لو كان منهم الاختيار لذلك لاهتدوا ، لكن لم نعطهم ذلك اللطف ؛ لما لم نعلم منهم كون ذلك الاختيار.

وعلى قول المعتزلة : شاء أن يعطي كل نفس ما به اهتدت ، وقد أعطاها لكنها لم تهتد ؛ فقولهم مخالف للآية ؛ لأنهم يقولون : شاء أن تهتدي كل نفس ، وآتى كل نفس ما به تهتدي ، لكنها لم تهتد ، ولكنهم يقولون : المشيئة ـ هاهنا ـ مشيئة الجبر والقسر.

فيقال لهم : زعمتم أنه قد شاء أن يهتدوا ، وآتاهم ما به يهتدون فلم يهتدوا ولم تنفذ مشيئته ؛ فأنى يقدر ويملك أن يشاء مشيئة تقهرهم وتجبرهم حتى يهتدوا؟! وكيف يؤمن على ذلك؟! فذلك بعيد على قولكم ؛ فيقال لهم ـ أيضا ـ : إن الإيمان والتوحيد في حال القهر والقسر لا يكون إيمانا ؛ لأن القهر والجبر يرفع الفعل عن فاعله ويحوله عنه ، فكيف تأويلكم على هذا؟!

وقوله : (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ).

أي : لكن وجب القول مني بما علمت أنه يكون منهم ويحدث ما يستوجبون به جهنم ،

٣٣٥

وهو ما علم أنهم يختارون الردّ والتكذيب.

وقوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

في هذه الآية دلالة : أنه عصم ملائكته عن عمد ما يستوجبون به جهنم بعد قوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩] : خص الإنسان والجن فيما يملأ بهما جهنم.

فإن قيل : إنه قال في آية أخرى : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) [المدثر : ٣١].

قيل : هم أصحاب النار في تعذيب غيرهم ، وليسوا هم بأصحابها فيما ينتهي إليهم العذاب ، ولله أن يجعل ويمتحن من يشاء على تعذيب من شاء ، والله أعلم.

وقوله : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا).

النسيان الذي ذكر منهم ليس هو نسيان غفلة وسهو ؛ لأنه لا كلفة تلزم في حال السهو والغفلة. ثم هو يخرج على وجوه :

أحدها : تضييع وترك تصديق الرسل بما أوعدوهم به ، وتكذيبهم ورد الحجج والآيات لذلك.

والثاني : (نَسِيتُمْ) ، أي : جعلتم ذلك كالمنسي المتروك الذي لا يكترث إليه.

والثالث : (إِنَّا نَسِيناكُمْ) ، أي : نجزيكم جزاء نسيانكم وترككم ، أي : يجعلكم كالمنسي عن رحمته وفضله لا يكترث ولا يعبأ بكم ؛ كما جعلتم أنتم آياته وحججه وما دعاكم إليه كالمنسي المتروك الذي لا يكترث إليه.

والرابع : وتضييعكم ، ويجوز تسمية الجزاء باسم أصله وأوله ، وإن لم يكن الثاني في الحقيقة سيئة ولا اعتداء ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.

وقوله : (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

أي : ذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون وتعتقدون المذهب للخلود والأبد ؛ لأن كل ذي مذهب ودين إنما يعتقد المذهب ويختاره للأبد ؛ فعلى ذلك جعل تعذيبهم في النار للأبد ، وأما من يرتكب المآثم والزلات من المؤمنين ، فإنما يرتكب عند شدة الحاجة وغلبة الشهوة في وقت ارتكابه لا للأبد ؛ لذلك افترقا.

قوله تعالى : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (١٨) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٩)

٣٣٦

وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢١) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ)(٢٢)

وقوله : (إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً).

يخرج قوله : (إِنَّما يُؤْمِنُ) ، أي : يحقق الإيمان بالله وبآياته (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً) لله حقيقة.

ثم يحتمل (خَرُّوا سُجَّداً) حقيقة السجود عند تلاوة الآيات التي فيها ذكر السجود.

والثاني : يكون ذكر خرور الوجه والسجود كناية عن الخضوع لها ، والانقياد والاستسلام والقبول لها ؛ فأحدهما على حقيقة السجود عند تذكير الآيات لهم والتلاوة عليهم ، والثاني : على الكناية على القبول لها والاستسلام ، وإلا ليس من ذي مذهب من أهل الكفر من عبدة الأصنام وغيرهم إلا وهو يدعي الإيمان بالله وبآياته ، ويزعم أن الذي هو عليه هو الإيمان به والمؤتمر بأمره ؛ ألا ترى أنه كيف أخبر عنهم ؛ حيث قال : (وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] : كانوا يدعون في جميع ما يعملون أن الله ـ تعالى ـ أمرهم بذلك ، وأنهم مؤمنون به مؤتمرون بأمره ؛ فأخبر أنه إنما يحقق الإيمان بالله وبالآيات الذين إذا ذكروا بها خروا سجدا لا أولئك الذين يدعون ذلك وليسوا هم كذلك.

وقوله : (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ).

التسبيح : هو تنزيه الربّ وتبرئة له عن جميع ما قالت الملاحدة فيه ونسبوه إليه ، مما لا يليق به. يقول : (وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ، أي : ذكروه بمحاسنه ومحامده وبرءوه ونزهوه عن جميع ما وصفه أولئك ونسبوه إليه ، هذا ـ والله أعلم ـ هو التسبيح بحمده.

وقوله : (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).

لا أحد يخطر بباله أن يستكبر على الله أو على أمره ، ولكن كانوا يستكبرون على رسله ؛ لما لا يرونهم أهلا لذلك ، أو أن يكونوا يستكبرون على ما يدعون إليه ولا يجيبون لذلك.

وقوله : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ).

روي عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنها نزلت في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لكن اختلفت عنه الروايات :

ذكر في بعضها : أنها نزلت في نفر من عمال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانوا يعملون

٣٣٧

بالنهار ، فإذا جن عليهم الليل اضطجعوا بين المغرب والعشاء ، فناموا ؛ فلما نزل هذا اجتنبوا عن ذلك.

وذكر عنه : أنهم كانوا يصلون بين المغرب والعشاء ؛ فنزلت الآية فيهم (١).

فإن كان هذا فنزول الآية لذلك يخرج مخرج المدح لهم والثناء الحسن.

وإن كان الأول فهو على النهي والتوبيخ لذلك.

ثم اختلف أهل التأويل في تأويلها : قال بعضهم (٢) : هو التيقظ والصلاة فيما بين المغرب والعشاء الآخرة.

ومنهم من يقول : هو التجافي عن المضاجع لصلاة العشاء والفجر يصليهما.

ومنهم من يقول (٣) : تتجافى جنوبهم بذكر الله : كلما استيقظوا ذكروا الله : إما صلاة ، وإما قياما ، وإما قعودا ، لا يزالون يذكرون الله.

ومنهم من يقول : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) : قيام الليل والصلاة فيه ، وهذا أشبه التأويلات ؛ لأنه قال : (عَنِ الْمَضاجِعِ) ، والتجافي عن المضاجع إنما يكون في الوقت الذي يضطجع فيه ، وفيه يقع الامتداح والثناء الحسن ؛ لأنه وقت الغفلة والنوم فيه ، وأمّا سائر الأوقات فليس كذلك ، والله أعلم.

وقوله : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً).

يحتمل قوله : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) ، أي : يعبدون ربهم ، ويحتمل حقيقة الدعاء.

ثم قوله : (خَوْفاً وَطَمَعاً) ، قال بعضهم : خوفا من عذاب الله ، وطمعا في رحمته.

أو أن يكون قوله : (خَوْفاً) ، أي : يخافون التقصير في العبادة ، (وَطَمَعاً) ، أي : يطمعون إحسانه ، وإحسانه في العفو والتجاوز ، وهكذا عمل المؤمن من بين الخوف والطمع يخاف التقصير فيه ، ويطمع إحسانه.

روى الحسن عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال ربكم ـ عزوجل ـ : وعزتي وجلالي ، لا أجمع على عبدي خوفين ، ولا أجمع أمنين فإذا خافني في الدنيا أمنته يوم القيامة ، وإذا أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة» (٤) ، ثم قرأ قوله : (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً ...) الآية.

__________________

(١) قاله أنس بن مالك ، أخرجه ابن جرير (٢٨٢٢٢ ـ ٢٨٢٢٧) وابن أبي شيبة وأبو داود ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٣٦).

(٢) وهو قول أنس بن مالك ، انظر : التخريج السابق.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٢٣٦).

(٤) أخرجه عبد الله بن المبارك في الزهد ص (٥١).

٣٣٨

وقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ).

يحتمل الزكاة المفروضة.

ويحتمل ينفقون صدقة التطوع.

وجائز أن يكون قوله : ومما رزقناهم من الأسباب السليمة ينفقون ، أي : يعملون ، والله أعلم.

وقوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ).

ذكر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال ربكم : أعددت لعبادي الصالحين : ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر» (١) هذا علم النفس أنها لا تعلم إلا مثال ما أحست وعاينت وشاهدت ، فأما العقل فإنه جائز أن يعلم ويخطر ما لم ير ويحس ولم ير له مثالا ، والله أعلم.

وعلى قول المعتزلة : يدعون ربهم أمنا وإياسا لا على الخوف والطمع على ما ذكر ؛ لأنهم لا يخلو إما أن يكونوا أصحاب الصغائر ، أو أصحاب الكبائر ؛ فإن كانوا أصحاب الصغائر فهم آمنون على قولهم ؛ لأنه لا يسع له أن يعذب على الصغيرة على قولهم ، أو أصحاب الكبائر فهم آيسون من رحمته ؛ إذ لا يسع [له] أن يغفر [الكبائر] على قولهم ؛ فقولهم مخالف لظاهر الآية.

قال أبو عوسجة : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ) ، أي : لا يضعونها بالأرض ؛ يقال : تجافى جنبي : إذا لم يضطجع لم ينم ، وجافيت جنبي ، أي : لم ألزقه بالأرض.

وقال القتبي : (٢) (تَتَجافى) ، أي : ترتفع عن الأرض. ونزلا من النزل ، والنزل : ما يجعل للرجل يأكله وينفقه.

وقوله : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ).

إن أهل التأويل يقولون : نزلت الآية في شأن علي بن أبي طالب ، والوليد بن عقبة بن أبي معيط : كان بينه وبين علي ـ رضي الله عنه ـ كلام وتنازع ، حتى قال له علي : إنك فاسق وأنا مؤمن ، فنزلت الآية فيهم ، لكن الآية في جميع المؤمنين والفاسقين ، يخبر أن ليس بينهم استواء.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٦ / ٤٦٥) ، كتاب بدء الخلق : باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (٣٢٤٤) ، ومسلم (٤ / ٢١٧٤) ، كتاب الجنة وصفة نعيمها (٢ / ٢٨٢٤) ، والترمذي (٥ / ٢٥٦) ، في التفسير باب : (ومن سورة السجدة) (٣١٩٧) ، وابن ماجه (٥ / ٦٩١ ، ٦٩٢) ، كتاب الزهد : باب صفة الجنة (٤٣٢٨) ، وابن جرير (٢٨٢٥٣) ، و (٢٨٢٥٤).

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٤٦).

٣٣٩

ثم جائز أن يكون ذكر هذا ونزل ؛ لقول كان من أولئك الكفرة الفسقة للمؤمنين : إن منزلتنا ومنزلتكم وقدرنا في الآخرة عند الله ـ سواء ؛ فنزلت الآية لذلك أنهما ليسا بسواء ؛ فبيّن منزلة المؤمن عند الله وقدره ، وما ذكر من الثواب له والكرامة ، ومنزلة الفاسق ما ذكر من الخلود في النار أبدا ، كقوله : (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ) [العنكبوت : ١ ، ٢] ، وكقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ ...) الآية [الجاثية : ٢١].

أو يذكر ذلك على الابتداء : إنكم تعرفون في عقولكم أن ليس المؤمن المصدق في الشاهد في المنزلة والقدر عنده كالخارج عن أمره وكالمكذب له ، فكيف تطمعون الاستواء عند الله وأنتم الفسقة الخارجون عن أمر الله ، وأولئك هم الصادقون له؟! والله أعلم بذلك.

ثم الخوارج والمعتزلة يقولون : لو كان الفاسق مؤمنا على ما تقولون لم يكن لما ذكر معنى ؛ فدل أن الفاسق لا يكون مؤمنا ؛ حيث ذكر أنهما لا يستويان وأن المؤمن مأواه في الجنة والخلود له فيها ، والفاسق مقامه في النار ، خالدين فيها على ما ذكر ، فلو كان على ما تقولون لكانا يستويان ، أو كلام نحو هذا.

فيقال لهم : إنا وأنتم نتفق أن هذا الفاسق المذكور في الآية ليس بمؤمن ، وأنه لا يستوي [هو و] المؤمن ؛ لأنه ذكر الفسق مقابل الإيمان ، دليله آخر الآية ؛ حيث قال : (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ذكر التكذيب ، والتكذيب هو مقابل الإيمان والتصديق ، وكل فسق كان مذكورا مقابل الإيمان فهو كفر وتكذيب ؛ فهو لا يكون مؤمنا ، ولكن هاتوا فاسقا ذكر لا مقابل الإيمان ، ولكن مقابل غيره من العصيان والمساوي ، ويكون له هذا الوعيد الذي ذكر في هذا ؛ ألا يرى أن السؤال المذكور مقابل الإيمان كفر ، كقوله : (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) [غافر : ٥٨]؟! فعلى ذلك الفسق المذكور مقابل الإيمان كفر لا يقع فيه استواء بحال ، وأما الفسق المذكور لا مقابل الإيمان فجائز أن يقع فيهما استواء ، وهو أن يغفر له ذنبه ويكفر عنه سيئته ، ويدخل الجنة ؛ حيث قال : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ، وقال في آية أخرى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ...) [النساء : ٣١] ، وقال في آية أخرى : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) الآية [الأحقاف : ١٦].

هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء تجاوز عنه ، وأصحاب الحديث يقولون : إن جميع الطاعات إيمان بهذه الآية ؛ لأنه قال : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً) ، ثم فسر

٣٤٠