تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

عند الله ، ولم يقل ما قال في الربا المحرم المحظور ؛ حيث قال : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) [البقرة : ٢٧٦] : ذكر المحق وهاهنا ذكر : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) ، أي : لا يزداد ولا يتضاعف.

لكن لو قيل : إنها في الربا المحظور كان جائزا محتملا ، ويكون قوله : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) كقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] : إنها إذا لم تربح خسرت ؛ ألا ترى أنه قال : (وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) [التوبة : ٦٩] ؛ دل أنها إذا لم تربح خسرت ؛ فعلى ذلك قوله : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) : إذا لم يرب عنده محقه وخسروا ، فهو ـ والله أعلم ـ لو لا صرف أهل التأويل التأويل إلى الهدايا والعطايا التي يبتغى بها الثواب في الدنيا والمكافأة فيها أكثر مما أعطوا ؛ وإلا جاز صرفه إلى الربا المعروف بين الناس في العقود وكذلك روي في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الهدية يبتغى بها وجه الرسول ، وقضاء الحاجة والصدقة يبتغى بها وجه الله والدار الآخرة» (١).

ثم بين ما الذي يربو عند الله ، وهو ما قال.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ).

ثم اختلف فيه : منهم من قال : هو ما يزكون من زكاة المال ؛ يريدون به وجه الله ؛ فهو الذي يقبله الله ويضاعف عليه.

ومنهم من قال : كل صدقة أعطاها ؛ أراد وجه الله ، لم يرد بها الثواب في الدنيا ـ فهي التي تتضاعف وتزداد عند الله.

(فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ).

وكان يجيء أن يقال : فأولئك هم المضعفون بنصب العين ؛ لأنه هو يضاعف (٢) لهم ، لكن الزجاج (٣) يقول : هو كما يقال : الموسر ـ هو الذي له يسار ، والمقوي ـ هو الذي له القوة ونحوه ؛ فعلى ذلك : المضعف هو الذي له الضعف.

وعندنا : هم المضعفون ؛ لأنهم هم الذين جعلوا الآحاد عشرات والأضعاف المضاعفة ، بتصدقهم ابتغاء وجه الله ؛ فهم المضعفون لأنفسهم ذلك.

ثم يجوز أن يستدل بهذه الآية على إباحة هذه المعاملات التي تجري فيما بين الناس ؛

__________________

(١) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (٢١٥) ، وأبو داود (٤٨١٣) ، والترمذي (٢٠٣٤) ، عن جابر بن عبد الله قال :

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من صنع إليه معروف فليجزه ، فإن لم يجد ما يجزه فليثن عليه ؛ فإنه إذا أثنى عليه فقد شكره ، وإن كتمه فقد كفره ، ومن تحلى بما لم يعط كأنما لبس ثوبي زور».

(٢) ينظر : اللباب (٥ / ٤١٧).

(٣) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٤ / ١٨٨).

٢٨١

لأنه أجاز الهدية والعطية على قصد الفضل والزيادة. وإن كان على شرط الزيادة لا يجوز ؛ فعلى ذلك المعاملة تجوز على قصد الزيادة ، والفضل ، وإن كان على قصد أولئك طلب الفضل لا محالة ، بل يكافئون مرة الأكثر ، ولا يكافئون بعضا ويحرمون بعضا ؛ فلا يكره ، وأما المعاملة فلا تكون إلا على قصد ذلك الفضل ؛ فلا يرضون منهم إلا حفظ المقصود فيها ، وأهل العطايا والهدايا قد يرضون بالثناء الحسن والشكر لهم ، وأهل المعاملة لا ، روي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أسدي إليه ؛ فليجازه وإلا فليشكره وليثن عليه» ، أو كلام نحو هذا.

والثاني : أن أهل المعاملة يشترطون قبل المعاملة الزيادة ، وإن كانوا يشترطون في عقد المعاملة ، ولا كذلك أهل العطايا والهدايا ؛ بل يتعرضون تعريضا ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ)(٤٥)

وقوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ).

ولم تكونوا شيئا ، وأنتم تعلمون ذلك.

(ثُمَّ رَزَقَكُمْ).

وأنتم تعلمون ذلك أن [لا يقدّر] الأرزاق لكم غيره.

(ثُمَّ يُمِيتُكُمْ).

وأنتم تعلمون ألا يملك أحد غيره ذلك ؛ فعلى ذلك يملك إحياءكم ولا يملك أحد ممن تعبدون دونه من الأصنام ذلك ؛ فكيف تعبدون دونه.

وقوله : (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : هؤلاء الذين تعبدون شركاؤكم فيما ذكر من الخلق والرزق فكيف تعبدون وتتخذون آلهة دونه؟!

والثاني : هل من شركائكم الذين أشركتموها في عبادة الله وألوهيته تملك ما ذكر ،

٢٨٢

يقول : لا تملك شيئا مما ذكر ، على علم منكم أنها لا تملك ذلك ، فيقول : فكيف تشركونها في ألوهيته؟ ثم نزه نفسه وبرأها عن جميع العيوب التي وصفه الملحدون ، فقال :

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

لأن حرف (سُبْحانَهُ) حرف تنزيه عن جميع العيوب ، والتعالي : هو وصف وتبرئة عن أن يغلبه شيء أو يقهره ؛ هو من العلو ، متعال عن أن يغلبه شيء أو يقهره.

وقوله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون قوله : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، وهو الشرك والكفر ، (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) من الأمور التي كانوا يتعاطون من قطع الطريق ، والسرق ، والظلم ، وأنواع أعمال السوء التي يتعاطونها ، ذلك هو سبب شركهم وكفرهم بالله ، وبذلك كان شركهم وكفرهم ذلك كان يغطي قلوبهم ؛ حتى لا تتجلى قلوبهم للإيمان ؛ كقوله : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين : ١٤] ، وكقوله : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ ...) الآية [التوبة : ٧٧] ونحوه ؛ فإن كان هذا فهو على حقيقة تقديم الأيدي والكسب.

والثاني : أن يكون (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) هو القحط وقلة الأمطار والأنزال والضيق ، وقوله : (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) هو شركهم وكفرهم وتعاطيهم ما لا يحل ، أي : ذلك القحط والضيق وقلة الأنزال والشدائد لهم ؛ لشركهم وكفرهم وأعمالهم التي اختاروها ، ويكون ذكر كسب الأيدي على المجاز لا على الحقيقة ؛ ولكن لما باليد يكتسب وباليد يقدم ، ذكر اليد ؛ كقوله : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ١٠] ، ولعله لم يقدم شيئا ، لكنه ذكر أنه ظهر الشرك والكفر بحقيقة كسب الأيدى من أعمال السوء التي ذكرنا ، ذلك كان يمنعهم عن الإيمان وكشف الغطاء عن قلوبهم.

وفي التأويل الآخر : الفساد الذي ظهر هو القحط وقلة الأمطار والأنزال والضيق ؛ (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) : هو الشرك والكفر وتعاطي ما لا يحل ، لا على حقيقة كسب الأيدي ؛ ولكن لما ذكرنا.

ثم اختلف في قوله : (فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) : قال بعضهم (١) : البر : هو المفاوز التي لا ماء فيها ، والبحر : القرى والأمصار.

__________________

(١) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير (٢٧٩٩٨) و (٢٧٩٩٩) ، والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٠١).

٢٨٣

وقال بعضهم (١) : أما البر فأهل العمود ، والبحر : هم أهل القرى والريف.

وقال بعضهم (٢) : البر : قتل ابن آدم أخاه ، والبحر : (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩].

وجائز أن يكون لا على حقيقة إرادة البر والبحر ؛ ولكن على إرادة الأحوال نفسها ، على ما ذكرنا من القحط والضيق وقلة الأنزال ؛ بما كسبت أيدي الناس من الشرك والكفر.

(لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا).

وهو الشرك ، هذا أشبه.

وعن الحسن (٣) قال : (أفسدهم الله في بر الأرض وبحرها بأعمالهم الخبيثة ؛ لعلهم يرجع من كان بعدهم ويتعظون بهم).

وقتادة (٤) يقول : لعل راجعا يرجع ، لعل تائبا يتوب ، لعل مستغيثا يستغيث ، وأصله : لكي يلزمهم الرجوع والتوبة عما عملوا ، وينبههم عن ذلك كله.

وقال بعضهم : (٥) (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ، أي : أجدب البر وانقطعت مادة البحر ؛ بذنوب الناس.

قال أبو عوسجة : الربا من الربو مثل ما يصنع أصحاب الربا ، (لِيَرْبُوَا) ، أي : ليزيد ويكثر ؛ يقال : ربا ماله ، أي : كثر.

والقتبي (٦) يقول : أي : يزيدكم من أموال الناس من زكاة وصدقة.

وقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ).

قد ذكرنا في غير موضع : أنه ليس على حقيقة الأمر بالسير في الأرض ؛ ولكن كأنه يقول : لو سرتم في الأرض ونظرتم لرأيتم عاقبة من كان قبلكم من المشركين ، وهكذا في الرسل وما حل بهم ؛ فينبهكم ويمنعكم عن تكذيب الرسل والشرك بالله.

أو أن يكون هو على الأمر بالفكر والنظر والاعتبار ؛ كأنه يقول : تفكروا واعتبروا فيما سرتم في الأرض ، وانظروا إلى ما ذا صار عاقبة مكذبي الرسل من قبل ؛ فينزل بكم بالتكذيب ما نزل بأولئك؟ والله أعلم.

وقوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ).

__________________

(١) قاله ابن جرير (١٠ / ١٩١).

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٨٠٠٣) و (٢٨٠٠٦) ، والفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٠١) ، وهو قول ابن أبي نجيح وعطية.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٨٠٠٢) ، وابن أبي شيبة ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٠٢).

(٤) أخرجه ابن جرير (٢٨٠١٠) ، وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٠٢).

(٥) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير (٢٨٠٠١).

(٦) ينظر : تفسير غريب القرآن (٣٤٢).

٢٨٤

قد ذكرناه فيما تقدم في قوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) [الروم : ٣٠].

وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ).

قال بعض أهل التأويل (١) : لا يقدر أحد على رد ذلك اليوم من الله.

ثم هو يخرج على وجهين :

أحدهما : لا مرد له من الله ، أي : لا يردون من ذلك اليوم إلى ابتداء المحنة ؛ كقولهم : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) الآية [الأنعام : ٢٧] ، وقولهم : (أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر : ٣٧] ، ثم أخبر عنهم فقال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] ، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) ، أي : لا يردون إلى ما يسألون الرد.

والثاني : (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) ، أي : لا إقالة لهم من الله ولا عفو ولا توبة إذا أتاهم ذلك اليوم ؛ كقوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها ...) الآية [الأنعام : ١٥٨].

وقوله : (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ).

أي : يتفرقون ؛ كقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم : ١٤] ، هو يوم الافتراق ، ويوم الجمع ، ويوم الفصل على اختلاف الأحوال والأوقات ، والله أعلم.

وقوله : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ).

أي : من كفر فعليه كفره وعليه ضرر كفره ، ومن آمن وعمل صالحا ، فله ثواب إيمانه ، وله منفعة عمله ؛ لأنه ـ عزوجل ـ إنما امتحنهم بأنواع ما امتحن لمنافع أنفسهم ولحاجتهم ، لا لحاجة أو لمنفعة له ، وكذلك قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦] ، وقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) الآية [الإسراء : ٧] ، وهو ما ذكرنا أنه إنما أمرهم ونهاهم وامتحنهم ؛ لمنافع أنفسهم ولحاجتهم ، لا لحاجة أو لمنفعة لنفسه ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله : (يَمْهَدُونَ) ، قال بعضهم : يفترشون.

وقال أبو عوسجة والقتبي : فلأنفسهم يعملون ويوطئون ، وهو من المهاد ، والمهاد في الأصل : الفراش.

وقوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ).

هذا يدل أن الثواب والجزاء سبيل وجوبه الفضل في الحكمة ؛ لما سبق من الله إليهم نعم ما لم يتهيأ لهم القيام بشكر واحدة منها ، فضلا أن يقوموا للكل ؛ فإذا كان كذلك صار

__________________

(١) قاله البغوي في تفسيره (٣ / ٤٨٦).

٢٨٥

الثواب والجزاء وجوبه الفضل لا الاستحقاق والاستيجاب وأما العقوبات فوجوبها الاستحقاق ؛ إذ في الحكمة وجوبها ؛ لذلك افترقا.

وجائز أن يكون قوله : (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : يجزيهم في الآخرة بالخيرات التي عملوها في الدنيا ، وذلك من فضله به نالوا ذلك وبفضله ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ)(٥٤)

وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ).

إن في الرياح آيات في نفسها ، وفيها بشارات.

أما الآيات : فهي آيات سلطانه وتدبيره من وجوه :

أنه أنشأ هذه الرياح في الهواء وفي الأرض وفي الجبال وفي السماء ، تصيب الخلائق وتميتهم وتؤذيهم وتصرعهم وتضرهم ، من غير أن يروها أو يقع عليها البصر ، ومن غير أن يدركوها أو يدركوا كيفيتها ، أو ما يتهيأ ؛ ليعلم أن من الأجسام ما هي غير مدركة ولا أخذ البصر عليها.

وترى منها طيبة لينة ، وخبيثة وشديدة كاسرة عاصفة ، يعذب بها قوم ، وينصر بها قوم ؛ على ما ذكر في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نصرت بالصّبا ، وأهلك عاد بالدّبور» (١).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٥٢٠) ، كتاب الاستسقاء : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصرت بالصبا (١٠٣٥) ، ومسلم (٢ / ٦١٧) ، كتاب صلاة الاستسقاء : باب في جريح الصبا والدبور (١٧ / ٩٠٠) ، وأحمد (١ / ٢٢٨ ، ٣٢٤) ، وعبد بن حميد (٦٣٧) والبغوي في شرح السنة (٢ / ٦٤٣).

٢٨٦

ومن بشارتها : ما تلقح الأشجار والنخيل ، وتشق الأرض وينبت النبات منها ، وتجمع السحاب وتأتي بالمطر ، وتجري بهم السفن والفلك في البحار في الماء الراكد والفلك لو لا الريح ، فذلك كله من البشارة وأنواع المنافع التي جعل فيها ، يعلم كل بالأعلام والآثار أنها نافعة أو ضارة مهلكة ؛ ثم سماها : مبشرات ؛ ليعلم أن البشارة قد تكون بدون النطق والكلام : من نحو الكتاب والإشارة أو الرسالة ؛ إذ ليس للريح نطق ولا كلام ، ثم سماها : مبشرة ، والله أعلم.

وقوله : (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ).

هذا يدل أن هذه البشارة والمنافع التي جعل لهم كان من رحمته وفضلا ، لا استيجابا ولا استحقاقا ، وسمى ذلك كله : رحمة ؛ لأنه برحمته يكون ، والله أعلم.

وقوله : (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ).

قوله : (بِأَمْرِهِ) يحتمل بتدبيره ، أي : بتدبيره تجري السفن في البحار ، على ما ذكرنا.

أو أن يريد بأمره : تكوينه ، كقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ، وكقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠].

وقوله : (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ).

هذا يدل على أن ما يصل إليهم من المنافع إنما يصل من فضله ورحمته ، لا يصل إليهم بتلك الأسباب والمكاسب ؛ لئلا يروا ذلك من تلك الأسباب ، ولكن يرون ذلك من فضل الله ورحمته.

وقوله : (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

أي : لكي يلزمهم الشكر لله على ذلك كله ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا).

في هذه الآية يصبر رسول الله على أذى الكفرة ؛ حيث قال : (أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ).

وفيه أيضا بشارة للمؤمنين ، ونذارة لأولئك الكفرة.

أما النذارة لهم فقوله : (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) ، أخبر أن أولئك لما كذبوا الرسل ، وعاملوهم بما تعاملون أنتم يأهل مكة رسول الله ؛ فانتقمنا منهم جزاء معاملتهم ؛ فعلى ذلك ينتقم منكم كما انتقم من أولئك.

وأما البشارة للمؤمنين فقوله : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ، أخبر أن عاقبة الأمور تكون للمؤمنين.

٢٨٧

وفيه أن الرسل الذين كانوا من قبل كانوا من البشر ؛ فكيف تنكرون رسالة محمد إذ كان من البشر.

وفيه : [أنه] قد أتى قومه بالبينات كما أتى أولئك الرسل قومهم بالبينات.

وقوله : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

هو يخرج على وجهين :

أحدهما : أي : كان حقّا علينا جعل العاقبة للمؤمنين ، لا أن يكون عليه حقّا نصر المؤمنين في الدنيا ؛ ولكن جعل العاقبة للمؤمنين حقّا ؛ كقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨].

والثاني : كان حقّا علينا نصر المؤمنين بالحجج التي أعطاهم ، أي : كان حقا إعطاء الحجج لهم والنصر والمعونة بالحجج ، أي : إعطاء الحجج لهم.

وقال بعضهم (١) : نصره إياهم : أنه أنجاهم مع الرسل ، وأهلك أولئك ، والله أعلم.

وقوله : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً).

كأنه يخبر عن قدرته وسلطانه ؛ حيث أنشأ الرياح بحيث يجمع السحاب ويفرقه ، ويبسطه ويجعله قطعا : يمطر في مكان ، ولا يمطر في مكان ، يقول ـ والله أعلم ـ : إن من قدر أن يسلط الرياح في جمع السحاب ، وتفريقه ـ يملك تسليط الرياح على تعذيبكم ، ويقول : إن المعبود المستحق للعبادة هو الذي يرسل الرياح لما ذكر والأمطار ، لا الأصنام التي تعبدون ؛ إذ تعلمون أنها لا تملك شيئا مما ذكر.

أو يذكر نعمه التي عليهم ؛ ليتأدى بها شكرها ، أو يطمعهم إيمان بعض منهم بعد ما كانوا آيسين عن إيمانهم ، كما أطمعهم المطر والسعة بعد ما قحطوا وكانوا آيسين عنه ؛ ألا ترى أنه قال : (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ).

قال أبو عوسجة : (فَتُثِيرُ سَحاباً) ، أي : ترفعه.

وقال أبو عبيدة (٢) : تجمعه ؛ كما يستثير الرجل العلم فيجمعه.

وقوله : (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً).

قال بعضهم (٣) : قطعا قطعا.

وقال بعضهم : يضم بعضه إلى بعض ، ويحمل بعضه على بعض.

وقوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ).

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٤٨٦).

(٢) وقاله أيضا قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٠٢٢) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٠٣).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٨٠٢٣) و (٢٨٠٢٤).

٢٨٨

أي : المطر يخرج من خلال السحاب ، أي : من بين السحاب ، ويقرأ (خِلالِهِ) ، ومعناه : نقبه.

وقوله : (لَمُبْلِسِينَ) آيسين ، والإبلاس : الإياس ؛ ولذلك سمى إبليس : إبليس لأنه أويس من رحمة الله.

وقوله : (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ).

يحتمل أن يكون قوله : (إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) ، أي : المطر ، أراد بالرحمة : المطر ، سمى المطر : رحمة ؛ لأنه يكون برحمته (١).

أو أن يكون الآثار هو المطر نفسه ، جعله من آثار رحمته وأعلامه.

ثم الأمر بالنظر والاعتبار بآثار رحمته يحتمل وجوها :

أحدها : أمرهم بالنظر إلى ذلك ؛ ليعلموا أنه رحيم ؛ كي يرغبوا فيما رغبهم ويرجوا فيما أطمعهم ودعاهم إليه ؛ إذ قد ظهر آثار رحمته ؛ فكل رحيم يرغب فيما رغب وأطمع.

أو أن يكون الأمر بالنظر إلى آثار رحمته ؛ إذ ذلك راجع إلى منافع أبدانهم وأنفسهم وما به قوامهم ؛ ليتأدى بذلك شكره ، وفي ذلك يقع الحاجة إلى من يعرفهم تلك النعم ويعرف شكرها ؛ فيكون في ذلك الترغيب في قبول الرسالة وإثباتها.

أو أن يكون سمى المطر : رحمة ؛ لما يرجع ذلك إلى منافع أبدانهم وما به قوام أنفسهم ؛ ليعرفوا الرحمة هي راجعة إلى منافع دينهم وآخرتهم ، وهو رسول الله ؛ إذ سماه في غير موضع : رحمة بقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧].

أو أن يأمر بالنظر إلى ذلك المطر ، وأنه كيف يحيي هذه الأرضين الموات ، وينبت فيها من ألوان النبات؟! وهذه الأشجار اليابسة كيف تخضر بعد يبوستها بهذه الأمطار؟! ليعرفوا أن من ملك هذا ، وقدر على ذلك ، وهو خارج عن وسعهم وتقديرهم لقادر على إحياء الموتى وبعثهم بعد الممات ، وإن كان خارجا عن تقديرهم ووسعهم ، وهو على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.

وقوله : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا).

يعني به : الزرع والنبات الذي أخرج من الأرض بالمطر.

قال بعضهم (٢) : رأوه يابسا إذا أصابته الريح الباردة.

(لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ).

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٥ / ٤٣٦).

(٢) قاله البغوي (٣ / ٤٨٧).

٢٨٩

أي : لأقاموا على كفرهم إذا أصابهم ما ذكر ، وهو كقوله : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) [الشورى : ٤٨] ؛ فعلى ذلك قوله : (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) أي : يقنطون من رحمته ، والله أعلم.

وقوله : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ).

جائز أن يكون (لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) ، يريد بالموتى : أنفسهم ، (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) الصم : أنفسهم أيضا ، يقول : لا تسمع الكفار والضلال إذا ولوا مدبرين.

أو أن يكون قوله : (لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) كناية عن الكفار ، وكذلك الصم والعمي ، وقد سمى الله الكفار : موتى وصما وعميا في غير موضع من القرآن.

ثم في قوله : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) حكمة ، وهو ألا يقدر أن يسمع الأصم الدعاء إذا ولى مدبرا ، ولكن يقدر أن يفهم الأصم إذا أقبل ، وأما إذا أدبر فلا يقدر أن يسمعه ، وكذلك الحكمة في قوله :

(وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ).

أي : لا تقدر أن تهدي العمي عن ضلالتهم ، وهو الذي يعمى عن ضلالته ويظن أنه على الهدى وغيره على الضلال ، فأما من كان مقرّا بالضلال فإنك تقدر أن تهديه ، يخبر عن شدة سفههم وتعنتهم وعماهم في ضلالتهم ، والله أعلم.

وقوله : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا).

أي : ما تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ، هذا يدل على أن قوله : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) ، وقوله : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) هي المواعظ لا نفس الهدى ؛ حيث قال : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).

ثم يحتمل قوله : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] ، أي : إنما ينتفع بإنذارك من اتبع الهدى.

أو أن الذي يقبل النذارة من اتبع الهدى ، فأما من لم يتبع الهدى فلا ينتفع ؛ فعلى ذلك يحتمل قوله : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) ، أي : ما ينتفع أو لا يسمع المواعظ إلا من يؤمن بذلك ، والله أعلم.

وقوله : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) ، أي : من النطفة ، وهو ما قال في آية أخرى :

٢٩٠

(أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [المرسلات : ٢٠] ، أي : ضعيف.

ثم قوله : (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) ، أي : إنسانا يقوى على أمور وعلى أشياء.

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) أي : شيخا فانيا ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) [النحل : ٧٠].

وجائز أن يكون قوله : (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) ، أي : أطفالا على الخلقة التي أنتم عليها اليوم ، ضعفاء لا تقوون على أشياء وأمور ، ولا يقوى شيء منكم على شيء ، ثم جعلكم من بعد ذلك الضعف أقوياء تقوون على أشياء وأمور ، ثم يجعلكم من بعد تلك القوة والقدرة ضعفاء شيوخا لا تقدرون على شيء ، على ما يكون ؛ يحتمل هذين الوجهين.

ثم فيه وجهان من الدلالة :

أحدهما : على البعث ؛ والثاني : على القدرة على إنشاء الخلق والأشياء لا من أصول.

أما الدلالة على البعث ؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث وإنشاء الشيء لا من أصل ؛ لخروج ذلك عن قواهم وتقديرهم ، ؛ فيخبر أن النطفة تصير علقة ، وليس فيها من العلقة ولا من آثارها شيء ، وكذلك العلقة تصير مضغة ، وليس فيها من آثار المضغة شيء ، وكذلك المضغة تصير إنسانا فيه عظم وجلد وشعر ولحم ، وليس شيء من ذلك فيها ؛ فمن قدر على ما ذكر لقادر على خلق الشيء لا من أصل ، وقادر على البعث ؛ إذ كل ما ذكر أقروا به ، وهو خارج عن قواهم وعن تقديرهم ؛ فلزمهم الإقرار بالبعث والإنشاء لا عن أصل وألا يقدروا قدرتهم وقواهم بقدرة الله وقوته ، على ما شاهدوا أشياء خارجة عن قواهم وعن تقديرهم ، بقوته وقدرته.

والثاني : أن ما ذكر من تحويل النطفة إلى العلقة ، والعلقة إلى المضغة ، والمضغة إلى الصورة والإنسان ـ لم يخلقهم ولم ينقلهم ؛ ليكون كما ذكر بلا عاقبة تكون لهم ولا بعث ؛ فلو لم يكن بعث لكان ما ذكر من تحويل حال إلى حال عبثا باطلا ، على ما ذكر ، وكذلك فيما أحدث في الأطفال من القوة والقدرة ، بعد ما كانوا ضعفاء لا يقوون ولا يقدرون على شيء أنه إنما أحدث ذلك فيهم ؛ ليمتحنوا ، ويجعل لهم [ما] يثابون ويعاقبون ، إذ لو لم يكن بعث ولا عاقبة لكان فعل ذلك عبثا باطلا.

وفيه القدرة على إنشاء الشيء وإحداثه لا من شيء ؛ إذ كان التركيب موجودا على التمام ولا قوة بهم ، ثم حدث القوة ولا أصل لها ولا أثر من آثارها ؛ دل أن تقدير قوى الخلق وقدرتهم ، بقوى الله وقدرته محال ، والله الموفق.

وقوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ).

٢٩١

بأحوالهم ، والقدير على إنشاء الأشياء لا من أشياء ، وعلى البعث بعد الموت ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ)(٦٠)

وقوله : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ).

قال بعض أهل التأويل (١) : يقسم المجرمون : إنهم لم يلبثوا في قبورهم غير ساعة ، وكذلك يقولون : في قوله : (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ. قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ...) الآية [المؤمنون : ١١٢ ، ١١٣].

لكن الأشبه أن يكون قوله : (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) : الدنيا في المحنة ، لا في القبور ، استقصروا مقامهم في الدنيا ؛ تكذيبا لما ادعى عليهم من الزلل والمعاصي أنواع الكفر ؛ يقولون : إنا لبثنا في الدنيا وقتا لا يكون منا في مثل ذلك الوقت وتلك المدة الزلل والمعاصي ؛ ألا ترى أنهم قد كذبوا في إنكارهم طول المقام فيها ؛ حيث قال : (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) ، أي : كذلك كانوا يكذبون في الدنيا أن لا بعث ولا حياة بعد الموت ولا حساب ، ولو لا هذا التكذيب لهم على أثر قولهم : (ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) ، وإلا كان الظاهر أنهم قد استقصروا المقام في الدنيا ؛ لطول المقام في الآخرة وشدة العذاب في ذلك وهوله ، لكنه ـ والله أعلم ـ ما ذكرنا أنهم يقسمون : إنهم ما لبثوا غير ساعة في الدنيا ؛ إنكارا وجحودا لما ادعى عليهم من الزلل والمعاصي ، يقولون : إنا لم نلبث في الدنيا إلا ساعة ، فكيف عملنا فيها هذا الزلل وأنواع الشرك والكفر ؛ فأخبر أنهم (كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ ،) أي : كذلك كانوا يكذبون في الدنيا ويقسمون ؛ حيث قال : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨] فذلك القسم منهم أنهم ما لبثوا غير ساعة كذب وإنكار للمقام ، كما كذبوا وأنكروا الشرك ؛ حيث قالوا (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣].

__________________

(١) قاله مقاتل والكلبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٤٨٨).

٢٩٢

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ).

اختلف فيه :

قال بعضهم (١) : هو على التقديم والتأخير ؛ كأنه : قال الذين أوتوا العلم في كتاب الله ، أي : أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان به : لقد لبثتم إلى يوم البعث فهذا يوم البعث.

وقال بعضهم : قال الذين أوتوا العلم والإيمان : لقد لبثتم في علم الله في الدنيا إلى يوم البعث ، فهذا يوم البعث.

وبعضهم يقول : وقال الذين أوتوا العلم والإيمان : لقد لبثتم فيما كتب الله لكم من الآجال إلى انقضاء آجالكم وفنائها.

وقوله : (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الذي كنتم تنكرونه وتكذبونه.

(وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : على حقيقة نفي العلم عنهم ، لكنهم لا يعذرون لجهلهم بذلك ؛ لما أعطوا أسباب العلم لو تفكروا وتأملوا لعلموا.

والثاني : على نفي الانتفاع بعلمهم ؛ على ما نفي عنهم حواس كانت لهم ؛ لما لم ينتفعوا بها ؛ فعلى ذلك جائز نفي العلم عنهم بذلك لما لم ينتفعوا بما علموا ، والله أعلم.

وقوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ).

ليس على أن يكون لهم عذر فلا ينفعهم ذلك ، ولكن لا عذر لهم البتة.

أو أن يكون معذرتهم ما ذكروا : (ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ) فذلك معذرتهم ؛ فلا ينفعهم ذلك ؛ لأنهم كذبة في ذلك.

وقوله : (وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ).

الاستعتاب : هو الاسترجاع عما كانوا فيه ، فهم لا يطلب منهم الرجوع عما كانوا عليه في ذلك الوقت ، والعتاب في الشاهد : أن يعاتب ؛ ليترك ما هو عليه ويرجع عما كان منه فيما مضى ، وذلك لا ينفع للكفرة في ذلك اليوم ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا).

أي : رأوا ذلك الزرع والنبات مصفرا ، أي : يابسا ؛ لما أصابه من الريح والبرد.

(لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ).

__________________

(١) نسبه ابن جرير لابن جريج بدون إسناد (١٠ / ١٩٩).

٢٩٣

قيل : لأقاموا ، وقيل (١) : لصاروا ، وقيل : لمالوا ، وكله يرجع إلى معنى واحد ، وهو ما تقدم ذكره من القنوط ، أي : يقنطون وييئسون من رحمته ، ويكفرون رب هذه النعم.

وفي حرف ابن مسعود : إنك لا تسمع الموتى إنك لا تبعث الموتى.

وقوله : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).

جائز أن يكون ما ذكر من ضرب المثل للكفار خاصة ، يقول : قد بينا لهم ما يعظهم ويزجرهم عما هم فيه ، ويدعوهم إلى الإيمان والتوحيد ، لكنهم اعتقدوا العناد والمكابرة.

وقوله : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ).

أي : لو جئتهم بالآية التي سألوك ـ أيضا ـ فلا يصدقوك ولا يقبلوا الهدى ، ويقولون ما ذكر :

(لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ).

ويشبه أن يكون ما ذكر من ضرب المثل للفريقين جميعا للمؤمن والكافر ، ويكون التأويل ـ والله أعلم ـ : ولقد ضربنا وبينا للناس لأفعالهم وأحوالهم من القبيح والحسن مثلا وشبها ما يعرفون به قبح كل قبيح ، وحسن كل حسن ، وما بين لهم الحق من الباطل ، والعدل من الجور ؛ لأن أولئك الكفرة لم يعتبروا ولم يتأملوا ، ثم رجع إلى وصف أولئك الكفرة ، فقال : (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ) ، أي : بزيادة في البيان والوضوح ، (لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ) ، والله أعلم.

وقوله : (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).

قد ذكرنا في غير موضع أن قوله : (لا يَعْلَمُونَ) يخرج على وجهين :

أحدهما : لم يعلموا ؛ لما لم يتأملوا ولم ينظروا في أسباب العلم لكي يعلموا ، ولا عذر لهم في جهلهم ذلك ؛ لما أعطوا أسباب العلم ، لكنهم لم يستعملوها فمنهم جاء ذلك ؛ فلم يعذروا.

والثاني : نفى عنهم العلم على وجوده لهم وكونه ؛ لما لم ينتفعوا بما علموا ، على ما ذكرنا من نفي الحواس عنهم ، مع وجود تلك الحواس وكونها لهم ؛ لما لم ينتفعوا بها ولم يستعملوها فيما جعلت تلك وأنشئت لها ؛ فعلى ذلك العلم ، والله أعلم.

وقوله : (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ).

قال بعضهم : فاصبر على تكذيبهم إياك بالعذاب الذي وعدت لهم ؛ إن وعد الله حق

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٤٨٧).

٢٩٤

في العذاب بأنه نازل بهم.

وجائز أن يكون قوله : (فَاصْبِرْ) ، أي : اصبر على أذاهم الذي يؤذونك ؛ إن وعد الله حق في النصر لك والمعونة.

وقوله : (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ).

كأنه يقول : لا يحملنك أذاهم إياك حتى تدعو عليهم بالعذاب والهلاك.

وقال بعضهم : (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ) ، أي : لا يستفزوك ، ويقول : لا يستجهلنك (١) ، وأصله ما ذكرنا : ألا يحملنك أولئك الكفرة على الخفة والعجلة والجهل ؛ حتى تدعو عليهم بإنزال العذاب والهلاك لهم ، وهو ـ والله أعلم ـ كأنه من الاستخفاف.

* * *

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٤٨٨).

٢٩٥

سورة لقمان كلها مكية إلا آيتين (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (٢) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (٣) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(٩)

قوله ـ عزوجل ـ : (الم).

قد ذكرنا تأويله في غير موضع فيما تقدم وما ذكر فيه.

[و] قوله : (تِلْكَ آياتُ).

قال بعضهم : (تِلْكَ) إشارة إلى ما بشر به الرسل المتقدمة أقوامهم من بشارات ، يقول : تلك البشارة هي آيات.

(الْكِتابِ).

أي : هذا القرآن.

وقال بعضهم : تلك الآيات التي في السماء هذا الكتاب.

ومنهم من قال : تلك الآيات التي أنزلت متفرقة ، فجمعت ؛ فصارت قرآنا ، والله أعلم.

وقوله : (الْكِتابِ الْحَكِيمِ).

سمى الكتاب : حكيما كريما مجيدا ونحوه ؛ فيحتمل تسميته : حكيما وجوها (٢) :

أحدها : لإحكامه وإتقانه ، أي : محكم متقن لا يبدّل ولا يغير ، وهو كما وضعه ـ عزوجل ـ (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢].

والثاني : سماه : حكيما ؛ لأن من تمسك به ، وعمل بما فيه يصير حكيما مجيدا كريما.

والثالث : سماه حكيما ؛ لأنه منزل من عند حكيم ؛ كقوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢].

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : فإنهما نزلتا بالمدينة ، إحداهما قوله ... ، والأخرى قوله : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ ...) الآية.

(٢) ينظر : اللباب (١٥ / ٤٣٦).

٢٩٦

وقوله : (هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ).

قوله : (هُدىً) ، أي : توفيقا وعصمة ومعونة للمحسنين ، وكذلك هو رحمة لهم في دفع العذاب عنهم.

وأما ما يقول أهل التأويل : (هُدىً) ، أي : بيانا للمحسنين فهو بيان للكل ليس لبعض دون بعض ؛ فلا يحتمل الهدى البيان في هذا الموضع ؛ ولكن ما ذكرنا من المعونة والتوفيق والعصمة. والمحسن ـ هاهنا ـ جائز أن يكون المؤمن (١) ؛ كقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) : الصبار : هو المؤمن ، والشكور : هو المؤمن ، سمى المؤمن : صبارا مرة وشكورا مرة ومحسنا مرة ؛ لأنه يعتقد بالإيمان كل ما ذكر من الصبر والشكر والإحسان وكل خير ، والله أعلم.

وقوله : (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ...) الآية.

قد ذكرنا تأويله فيما تقدم في غير موضع.

وقوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ).

تأويل الهدى ما ذكرنا في هذا الموضع من التوفيق والعصمة والمعونة.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

قد ذكرناه أيضا.

وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ).

اختلف في قوله : (مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ).

قال بعضهم (٢) : ليس على حقيقة الاشتراء نفسه ؛ ولكن على الإيثار والاختيار ؛ لأن الاشتراء هو مبادلة أخذ وإعطاء ، ولكن آثروا واختاروا الضلال مع قبحه عندهم على الهدى مع حسنه ؛ فعلى ذلك آثروا لهو الحديث واختاروه على الحق وحكمة الحديث ، واختاروا الفاني على الباقي ؛ فسماه : شراء لذلك.

وقال بعضهم : هو على حقيقة الاشتراء. لكنهم اختلفوا : فمنهم من يقول (٣) : إنه على

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : لكنه هذا الكتاب هو بيان للكل ، ليس لبعض دون بعض ، وقد خص المحسنين بالذكر ، وهو بيان للمحسن والمسيء ، والكافر والمؤمن ؛ دل أن المراد بالهدى في هذا الموضع هو المعونة والتوفيق والعصمة ؛ إذ المختص به هو المسلم.

والمحسن ـ والله أعلم ـ يحتمل أن يكون المحسن هاهنا هو المؤمن. شرح.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٨٠٣٨) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٠٦).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٨٠٤٢ ـ ٢٨٠٤٦) و (٢٨٠٤٨ ـ ٢٨٠٥٠) ، من طرق عنه ، وهو قول ابن مسعود ومجاهد وعكرمة وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٣٠٧ ، ٣٠٨).

٢٩٧

اشتراء المغنية والمغني كانوا يشترونهم ؛ ليتلهوا بهم ويلعبوا.

ومنهم من قال (١) : كان أحدهم يشتري ويكتب عن لهو الحديث وباطله من حديث الأعاجم ، فيحدث بها قريشا ، ويقول : إن محمدا يحدثكم بأحاديث عاد وثمود ، وأنا أحدثكم بأحاديث فارس والروم ؛ فذلك اشتراؤه لهو الحديث وإضلاله الناس عن سبيل الله فأعرضوا عن القرآن والإيمان بمحمد (٢).

(وَيَتَّخِذَها هُزُواً).

وكان إذا سمع شيئا من القرآن اتخذها هزوا ، هكذا عادة الكفرة وأهل النفاق : كانوا يستهزءون بالقرآن وبرسول الله وأصحابه.

ثم أوعدهم الوعيد الشديد ؛ حيث قال : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

وابن مسعود وابن عباس (٣) ـ رضي الله عنهما ـ يقولان في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) : هو شراء المغنية والغناء ، وقد روي مرفوعا عن أبي القاسم ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا تبيعوا المغنيات ولا تشتروهن ، ولا تعلموهن ولا خير في التجارة فيهن ، وثمنهن حرام».

وفي مثله أنزلت هذه الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ...)(٤) الآية ، فإن ثبت هذا فهو تفسير لهو الحديث الذي ذكر في الآية.

وقوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً).

أي : أعرض متعظما متجبرا.

(كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) :

يحتمل قوله : (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) ، و (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) على التقرير.

ويحتمل : على نفي الحقيقة.

فإن كان على التقرير فهو على ترك الاستماع.

وإن كان على حقيقة النفي فقد ذكر في كثير من الآي ذلك كقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] ، وذلك يحتمل وجهين ـ والله أعلم ـ ثم أوعده العذاب الشديد ؛ حيث

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه البيهقي في الشعب عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٠٦).

(٢) ينظر : اللباب (١٥ / ٤٣٧ ، ٤٣٨).

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه أحمد (٥ / ٢٥٢) ، والترمذي (١٢٨٢) ، وابن ماجه (٢١٦٨) ، وابن جرير (٢٨٠٣٥ ـ ٢٨٠٣٧) ، وسعيد بن منصور وابن أبي الدنيا في ذم الملاهي ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه كما في الدر المنثور (٥ / ٣٠٧).

٢٩٨

قال : (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ).

قوله : (آمَنُوا) بجميع ما أمروا بالإيمان به ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بما تعبدوا من العمل بالطاعات والصالحات.

(لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ).

كل الجنان التي وعد للمؤمنين نعيم يتنعمون فيها خالدين فيها (١).

(وَعْدَ اللهِ حَقًّا).

أي : ما وعد للمؤمنين من جنات النعيم هو حق كائن لا محالة ، (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

قوله تعالى : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١١)

وقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها).

قال بعضهم : خلق السموات بعمد لا ترونها.

وقيل (٢) : لعل لها عمدا لكن لا ترونها.

وقال بعضهم (٣) : خلقها بلا عمد ، لكن الأعجوبة فيما خلقها بعمد لا ترونها (٤) ليست بدون الأعجوبة في خلقها بلا عمد ؛ لأن رفع مثلها بعمد لا ترى أعظم في اللطف والقدرة من رفعها بلا عمد ؛ إذ العمد لو كانت مقدار الريشة أو الشعرة ترى ، فرفعها مع ثقلها وعظمها وغلظها على عمد لا ترى هو ألطف من ذلك وأعظم في الأعجوبة مما ذكرنا ، فأيهما كان ففيه دلالة ألا يجوز تقدير قوى الخلق بقوى الله ـ تعالى ـ ولا قدرة الخلق بقدرته ، ولا سلطان الخلق بسلطانه ؛ بل هو القادر على الأشياء كلها بما شاء وكيف شاء ، لا يعجزه شيء.

وقوله : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ).

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : أضاف الجنات إلى النعيم ، فإن النعيم ضد البؤس ، والجنات موضع التنعم ، يتنعمون فيها. شرح.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٨٠٧٠) و (٢٨٠٧٢) وهو قول مجاهد وعكرمة.

(٣) قاله الحسن وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٨٠٧٤).

(٤) ثبت في حاشية أ : وقوله (ترونها) ، فالهاء كناية عن السموات ، أي : ترون السموات بلا عمد ، ثم الأعجوبة في خلقها بعمد لا ترونها. شرح. م.

٢٩٩

وقال في آية أخرى : (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) [الرعد : ٣] ، والرواسي : هن الثوابت ، أي : أثبت الأرض بالجبال ؛ كقوله : (وَالْجِبالَ أَرْساها) [النازعات : ٣٢] ، أي : أثبتها.

وقوله : (أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) ، أي : لئلا تميد بكم ، ذكر الميد ـ وهو الميل والاضطراب ـ وليس من طبع الأرض الميل والاضطراب ؛ وإنما طبعها التسرب والتسفل والانحدار ؛ فلا يدرى أن كيف حالها في الابتداء؟ وما في سريتها مما يحملها على الاضطراب والميد ؛ حتى أثبتها وأرساها بالجبال ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ).

قال بعضهم : بث : خلق ، وقيل (١) : بث : فرق ، وفيه أنه جعل الأرض مكانا ومعدنا لكل أنواع الدواب الممتحن وغير الممتحن ، والمميز وغير المميز ، والسماء لم تجعل إلا لنوع من الخلق أهل العبادة.

وقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ).

أي : أنبتنا فيها من كل لون يتلذذ به الناظر إليه ، كريم ينال منه كل ما أراده وتمناه ؛ إذ الكريم هو ما يطمع منه نيل كل ما عنده وأريد منه.

وقال بعضهم (٢) : الكريم : الحسن ، أي : أنبتنا فيها من كل لون حسن ما يستحسنه الناظر ويتلذذ به ، على ما ذكر في آية أخرى : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) [ق : ٧] : ما يبهج ويسر به كل ناظر إليه ، والله أعلم.

وقوله : (هذا خَلْقُ اللهِ).

يقول : ما ذكر من خلق السموات والأرض وما بث من الدواب ، وما أنبت من كل زوج كريم.

وقوله : (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ).

يذكر سفههم ، يقول : إنكم تعلمون أن ما ذكر من السموات والأرض ، وجميع ما فيهما ـ هو كله خلق الله ، وأنه هو خالق ذلك كله ، وأن الأصنام التي تعبدونها من دونه لم تخلق شيئا من ذلك ، ولا تملك خلق شيء ؛ فكيف تعبدونها من دونه ، وسميتموها : آلهة ، وصرفتم العبادة والألوهية عن الذي خلقكم وخلق السموات والأرض وما فيهما؟! وإنما يستحق الألوهية والربوبية لخلقه ما ذكر ؛ فالأصنام : إذا لم يكن منها خلق ؛ فكيف سميتموها : آلهة وعبدتموها دون الله؟! هذا ـ والله أعلم ـ تأويل قوله : (فَأَرُونِي ما ذا

__________________

(١) قاله ابن جرير (١٠ / ٢٠٧).

(٢) قاله قتادة أخرجه ، ابن جرير (٢٨٠٧٦) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣١٠).

٣٠٠