تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

لذلك ، (وَرَحْمَةً) أي : يرحم بعضهم بعضا ، ويتحنن إليه ، إذا نزل بواحد منهما ما يمنع قضاء الشهوة والحاجة.

والثاني : يودّ بعضهم بعضا ويرحم بالطبع والخلقة ؛ إذ كل ذي طبع يودّ شكله وجنسه إذا كان في حال السعة والرخاء والسرور ، ويرحمه إذا نزل به البلاء والشدة ؛ هذا معروف عند الناس أن يتراحم بعضهم على بعض في حال نزول البلاء والشدة ، وتوادهم في حال السعة والسرور.

وقال الحسن (١) : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً) أي : الجماع (وَرَحْمَةً) أي : الولد.

فكيفما كان فهو يخبر عن لطفه ومنته ؛ حيث جعل بين الزوج والزوجة المودة والرحمة على عدم القرابة والرحم ، وبعد ما بينهما ؛ فصارا لما ذكرنا في المودة والرحمة كالقريبين وذوي الرحمين وأقرب القريب ، وذلك على المعتزلة ؛ لأنه أخبر أنه (جَعَلَ) : بينهم مودة ورحمة ، وذلك فعل الزوجين في الظاهر ، ثم أضاف ذلك إلى نفسه ، وأخبر أنه (جَعَلَ) دل أن له صنعا في ذلك ؛ فيبطل قولهم : إن ليس لله صنع في فعل العباد ، ويبطل اللطف الذي ذكر أنه جعل بينهم (٢).

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) لما ذكرنا من آيات وحدانيته وربوبيته ، وآيات البعث والنشور ، أو آيات الرسالة والنبوة (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) لقوم ينتفعون ، وهم المؤمنون ، أو (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ويتدبرون ويعتبرون ، فيعرفون ، فأما من لا يتفكر ولا يتدبر فلا ينتفع به ، فهو ليس بآيات له ، والله أعلم.

وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ) : [آيات] وحدانيته وربوبيته وألوهيته ، وآيات بعثه.

وقوله : (خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في خلق السموات ورفعها في الهواء وإقرارها فيه آية ؛ لأنه غير موهوم مثله من فعل الخلق وقدرتهم ، وهكذا خلق الأرض وبسطها وإقرارها على الماء ، أو على الريح خارج عن فعل الخلق ومن قدرتهم ، غير موهوم ذلك في أوهامهم وعقولهم من غير الواحد العالم القادر بذاته ، فإذا كان ما ذكر غير موهوم في أوهامهم وعقولهم من غير الله فهم إنما أنكروا البعث لما لم يعاينوا ذلك ولا شاهدوا في أوهامهم ، فكيف أنكروا البعث وإن كان غير موهوم ذلك في أوهامهم ، بعد أن كان ذلك موهوما من الله ، مشاهدا ، معاينا لمثل هذا؟! والله أعلم بذكر هذا.

__________________

(١) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٩٧).

(٢) ثبت في حاشية أ : وعلى زعمهم : ما جعل الله ذلك ، بل هم بأنفسهم يفعلون ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ ...) إلخ. شرح.

٢٦١

وقوله : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) كأنه يقول : وفي خلق اختلاف ألسنتكم آياته أيضا ؛ لأن الألسن بحيث خلقة الألسن غير مختلفة ، ولكن إنما تختلف بحيث النطق والتكلم حتى لا يقع في التكلم بها والنطق والصوت تشابه بحال ، وخروجه عما يقدرون من الكلام ، وإن كانت بحيث خلقتها واحدة غير مختلفة.

وهذا على المعتزلة ؛ لقولهم : إن أقوال العباد غير مخلوقة ، لا صنع لله فيها ، فلو لم يكن له فيما يتكلمون وينطقون على اختلاف ذلك صنع ؛ فلا آية تكون له في ذلك ، فدل أنه صار آية له ؛ لما له صنع في ذلك ، وكذلك فيما تختلف الألوان بفعل يكون من الخلق وتتغير عند الغضب والسرور والفرح ، ثم أخبر أن ذلك آياته دل أنه خالق لأفعالهم وأقوالهم حتى كان آية له والله أعلم.

وأهل التأويل يقولون : (وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ) : عربيّ ، وعجميّ ، ونبطي ، وتركي ، ونحوه (وَأَلْوانِكُمْ) : أبيض ، وأحمر ، وأسود ، ونحوه ، وأصله ما ذكرنا أن في ذلك لآيات للعالمين ؛ جائز أن يكون آيات لمن انتفع به من العالمين ، أو آية لمن تفكر وتدبّر من العالمين ؛ لأنه إذا تفكر وتدبّر عرف وجه الآية في ذلك.

وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) لأن النوم يأخذهم من غير أن يعرفوا أنه من أين مأتاه ومأخذه ، ثم يأخذ منهم جميع منافع الأحياء : من السمع ، والنطق ، والفهم ، والرؤية ، وجميع ما تنتفع به قبل ذلك ، ثم يردّ ذلك إليهم من غير أن عرفوا بذلك فيعودون إلى ما كانوا من المنافع والأكساب ؛ ليعلم أن من قدر على مثل هذا يقدر على أخذ الروح ونفسه وردّه إليه ، فهو أخو الموت ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام : ٦٠] سمّى النوم : الوفاة ، وهو مثله ؛ لما ذكرنا أن جميع منافع الأحياء ترتفع وتزول بالنوم ثم ترد إليهم من غير أن يشعروا بذلك ، فمن قدر على هذا يقدر على الإحياء بعد الموت.

وقوله : (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) جهة الآية فيما ينتفعون من فضله هو خلقه تلك المكاسب والتجارات والحرف التي يبتغون بها الرزق ؛ أخبر أنه خلق ذلك منهم ؛ ففيه دلالة خلق أفعال العباد ؛ فهو على المعتزلة ؛ لإنكارهم خلق أفعالهم.

أو أن تكون جهة الآية فيه ما عرفهم تلك المكاسب والتجارات والحرف ، وعلمهم إياها وأحوجهم إليها ؛ ليصلوا إلى منافعهم ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) يحتمل قوله : (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي : ينتفعون بسمعهم ، أو لقوم يجيبون.

٢٦٢

والسمع يجوز أن يعبّر به عن الإجابة ؛ كقوله : «سمع الله لمن حمده» ؛ أي : أجاب الله لمن دعاه.

أو أن يكون قوله : (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي : يعقلون ، ويجوز العبارة [به] عنه ؛ كقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي : يعقلون ، ويقال : (لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) المواعظ فيقبلونها فينتفعون بها.

وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً).

قيل فيه بوجهين :

أحدهما : يريكم البرق للخوف والطمع : تخافون سلطانه وقدرته أن يصيبكم ذلك البرق فيذهب بأبصاركم ، وطمعا ترجون رحمته بصرفه عنكم.

والثاني : (خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : يريكم البرق فتخافون وتطمعون ؛ يخاف المسافر قطع مسيره ومنعه عنه ، وتطمعون ، أي : يطمع المقيم رحمته ما يكثر به أنزاله ومعاشه.

والثاني : تخافون الصواعق ، وتطمعون المطر ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) هو ظاهر ، قد ذكرناه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يحتمل ما ذكرنا (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : ينتفعون بعقولهم ، أو (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) لو تدبروا وتفكروا ، والله أعلم.

وقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) : هو ما ذكرنا أنه قامتا على شيء غير موهوم ذلك في أوهام الخلق قيام شيء من أفعالهم على مثله ، وهو الهواء والماء والريح ، فكيف حملهم خروج شيء من أوهامهم على إنكاره وتكذيبه ، وهو البعث والإحياء بعد الموت ، فمن قدر على أحدهما قدر على الآخر.

وقوله : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) اختلف فيه :

قال بعضهم (١) : هو على التقديم [والتأخير] ، أي : ثم إذا دعاكم دعوة إذا أنتم تخرجون من الأرض ، والدعوة هو النفخة الآخرة.

وقال بعضهم : هو ما ذكر : الدعوة تكون من الأرض من صخرة بيت المقدس ، من هنالك يسمعون الدّعوة.

ثم اختلف في الدعوة ، والصيحة ، والنفخة ، والصور ، ونحو ما ذكر :

فمنهم من يقول : على حقيقة الدعوة ، والصيحة ، والنفخة ، والصور ، على ما ذكر.

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٧٩٣٣) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٩٧) ، وانظر : تفسير البغوي (٣ / ٤٨١).

٢٦٣

وقال بعضهم : لا ، ولكن ذلك إخبار عن سرعة نفاذ الأمر ، وعبارة عن خفة ذلك وهونه ؛ كقوله : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧] وقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [النحل : ٤٠] ليس أن كان منه (كاف) أو (نون) ، لكنه ذكر بأخف حروف يفهم منه المعنى فعلى ذلك ذكر الصيحة والنفخة والدعوة والصور ، والله أعلم.

وفي قوله : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) دلالة وإخبار أنه قادر على الإنشاء والإحياء بلا سبب ؛ لأنه أخبر أنه دعاكم دعوة ثم تخرجون ، والدعوة ليست هي سببا للإحياء والإنشاء بل أخبر أنه يخرجهم إخراجا ثبت أنه ما ذكرنا ، وقد ذكرنا في اختلاف الألسن لو لم يكن ما يسمع منهم وما ينطقون يخلق في الحقيقة فإذن آياته عبث ؛ لأن الحروف شهد خلقه ، ولا جسمه ، ولا سمعه ، وبما احتج ، فيكون بمعنى من يقول : لله آيات في الكلام احتج بها على عبادة الذين لم يطلعهم عليه ، فيكون بمعنى من يقول : لله آيات في الكلام احتج بها على عبادة الذين لم يطلعهم عليه ، ولا سبيل لهم إلى التطلع عليها ، وذلك بعيد من العقول ، فثبت أن الله قد خلق كل نطق على ما عليه يعرفه المتفكر بما يرى من عجز المتفوه به على التفوه به على التقطيع الذي يقدره في نفسه ، وعلى الحدّ الذي يجب أن يكون عليه دون أن يقع في ذلك تفاوت واختلاف فيعلم أن ذلك كان الآية على ما كان عليه ؛ بل بالله جل وعلا ، ولا قوة إلا بالله.

وما ذكر من اختلاف فإنا نجده يتغير بالعباد ؛ نحو ما يظهر عند شدّة السّرور بالشيء غير الذي يظهر عند شدة الغضب متولدا عن فعلهم وبه قول المعتزلة أو عامتهم أن المتولد هو فعل الخلق ، فعلى ذلك القول يكون اللون فعلا لهم بتخليق الله ، وأمّا النوم في اللون فوضع ، فالاعتبار إنما هو بابتغائهم من فضله ؛ أي : ذلك بما ركب فيهم من الحاجة وأنشأ لهم من الفاقة فيما ذكر من الأغذية بأن ابتغاءها فعلا للخلق ، وقد احتج الله ـ سبحانه وتعالى ـ على العباد ، فأخبر أنه من آياته ، ومحال أن يكون حجته ما يخلق غيره دون الذي يخلقه بل يدل خلق كل على منشئه من طريق الخلقة والتدبير ، فثبت أن الابتغاء مخلوق يخلقه ، والله الموفق.

قوله تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ

٢٦٤

النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(٣٢)

وقوله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) حرف «من» إنما يتكلم به ويعبّر عمّن له الملك والتدبير والتمييز ، وحرف «ما» عن ملك الأشياء نفسها ، فإذا كان من له الملك في الشيء والتدبير والأمر له فالأملاك أحق أن تكون له.

يخبر ـ والله أعلم ـ عن غناه وسلطانه وقدرته ، أي : من له ما ذكر في السموات والأرض لا يحتمل أن يمتحنهم ويأمرهم بأنواع العبادات والطاعة لحاجة نفسه ؛ إذ هو غني عن ذلك ، ولكنه إنما يمتحن ويأمرهم بأنواع العبادة وأنواع المحن لمنافع أنفسهم وحاجاتهم ومصالحهم ، فإذا كان له ما ذكر من الملك لا يحتمل أن يعجزه شيء أيضا.

وقوله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) قال بعضهم : القنوت : القيام ، والقانت : القائم ، فإن كان هذا فتأويله : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي : قائم بتدبيره وأمره في الوجود والعدم ، والابتداء والإعادة ، وفي كل حال : إن أوجد وجد ، وإن أعدم صار معدوما ، وإن أحياه حيي ، ونحوه ، في كل حال يقوم بتدبيره وأمره.

وقال بعضهم (١) : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي : مطيعون ، فإن كان على هذا ونحوه فهو في كل حال يقوم بتدبيره وأمره.

وقال بعضهم : (٢) (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي : مطيعون ، فإن كان على هذا فهو على طاعة الخلقة له ، والشهادة لله بالوحدانية والربوبية ، والتدبير له ، والعلم في ذلك ؛ لأن الله جعل في خلقة كل أحد ، وكل شيء ، وفي صورته ما يشهد له بالوحدانية والربوبية ، ويدل على تدبيره وعلمه وحكمته ، فكل له قانت ومطيع بالخلقة والصنعة.

وقال بعضهم : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أي : خاضعون ، فهو يرجع إلى حال دون حال ، وهو حال الخوف والضرورة ، يخضع له كل كافر ومشرك في تلك الحال ، وهو ما أخبر عنهم من الخضوع له إذا ركبوا الفلك ؛ حيث قال : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [يونس : ٢٢] وقولهم : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) [يونس : ٢٢] ونحو ذلك من الأحوال التي كانوا يخضعون له ويطيعون ، والله أعلم.

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) لا يحتمل أن يخلقهم وينشئهم لحاجة نفسه ، أو لمصلحته ؛ لأنه غني بذاته ، أو يمتحنهم لمنفعة نفسه ، أو يأمره لذلك ، ولكن

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٩٣٦).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٩٣٥).

٢٦٥

إنما يبدئ ويعيد لحاجة أنفسهم.

أو يخبر أن من قدر على ابتداء الشيء يملك إعادته.

(وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) اختلف فيه :

قيل : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) هيّن ابتداؤه وإعادته ؛ كقوله : (وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) [التغابن : ٧] وقوله : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) [مريم : ٩] ، ويجوز العبارة بأفعل عن فعيل ؛ نحو ما يقال : الله أكبر ؛ أي : كبير ، وأعظم بمعنى : عظيم ، ونحوه كثير ؛ فعلى ذلك قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي : عليه هيّن ؛ إذ ليس شيء أصعب على الله من شيء ، أو شيء أهون عليه من شيء ؛ بل الأشياء كلها بمحل واحد داخل تحت قوله : (كُنْ) وإنما يقال : أهون وأيسر ، لمن كان فعله بسبب ، فيهون عليه إذا كثرت الأسباب ، ويصعب عليه ذلك إذا قلت وضعفت ، فأمّا الله ـ سبحانه وتعالى ـ فهو الفاعل للأشياء ، وصانعها ، والقادر عليها بسبب وبلا سبب ، فلا جائز أن يقال شيء أهون من شيء ، وإنما يجوز ذلك فيمن كان فعله لا يكون إلا بسبب.

وقال بعضهم (١) : قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) في عقولكم ، وتدبيركم ، وتقديركم ؛ أي : إعادة الشيء في عقولكم وتدبيركم أهون من ابتدائه ؛ لأن الخلق لا يملكون تصوير ما لم يسبق له المثال والتصور ابتداء ، وقد يملكون تصوير الأشياء وتمثيلها إذا سبق لهم مثال رأوه وشاهدوه ؛ فثبت أن إعادة الشيء في عقولكم وتدبيركم أهون من ابتدائه ، فإذا عاينتم وأقررتم : أنه قادر على ابتدائه فهو على إعادته أملك وأقدر ، ولا قوة إلا بالله.

وقال بعضهم (٢) : قوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) يعني : على ذلك الشيء ؛ أي : إعادة ذلك الشيء أهون على ذلك الشيء من ابتدائه ؛ لأنه في الابتداء ينقله ويحوّله من حال النطفة إلى حال العلقة ، ثم من حال العلقة إلى حال المضغة ، ثم [من] حال المضغة إلى حال التصوير والنسمة إلى ما ينتهي إليه ، حتى يصير خلقا وصورة ، فيخبر أن إعادته ليس على هذا التقدير والتحويل من حال إلى حال ، ولكن كما ذكر : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧] وقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) [القمر : ٥٠] وقوله : (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) [يس : ٢٩] ونفخة ودعوة وما ذكر ، فالإعادة لذلك الشيء أهون على ذلك الشيء من الابتداء.

وقوله : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له الصفات العالية ، ثم هو يخرج على وجوه :

__________________

(١) قاله الضحاك ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٩٧).

(٢) قاله مجاهد وعكرمة وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٧٩٤١) و (٢٧٩٤٢) و (٢٧٩٤٤) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٩٧).

٢٦٦

أحدها : أن كل موصوف بالعلو والرفعة من دونه فهو الموصوف به في الحقيقة ؛ على ما ذكرنا أن كل من حمد دونه ؛ فذلك الحمد له في الحقيقة راجع إليه ، ذلك كقوله : (لَهُ الْحَمْدُ ...) الآية [القصص : ٧٠].

والثاني : له الصفة العالية مما يخالف صفات الخلق وشبههم كقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] : لا تشبه صفاته صفات المخلوقين ، ولا اشتبهت صفات الخلق صفاته ، وهو ما قاله بعض أهل التأويل : الذي لا مثل له ولا شبه ، لا إله إلا هو ، واحد لا شريك له.

والثالث : وله الصفات العالية مما لا يضاد بعضها بعضا : عالم لا جهل فيه ، قادر لا عجز فيه ، عزيز لا ذل فيه ، وأمثال ذلك مما لا يدخل في ذلك نقصان أو عيب بوجه من الوجوه ، ليس كالخلق أنهم يوصفون بالعلم بجهة وبشيء وبالجهل بجهة أخرى وبشيء آخر وبالقدرة بجهة أخرى وبشيء آخر ، وبالعجز بجهة أخرى وبشيء آخر ، وبالعز بجهة أخرى وبشيء آخر ، وبالذل بجهة أخرى وبشيء آخر.

فالله ـ سبحانه وتعالى ـ موصوف بصفات لا يضاد بعضها بعضا ولا يدخل في ذلك نقصان بجهة من الجهات ، وفي حال من الأحوال ؛ لأنه بذاته موصوف بذلك لا بغيره ولا بسبب ، وأما غيره فإنما يوصفون بذلك بأسباب وباعتبار يكون لهم ؛ لذلك كان ما ذكر ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) : الذي لا يلحقه الذل والضرر بمخالفة خلقه إياه وعصيانهم له ، ليس كملوك الأرض إذا خالفهم أتباعهم وحواشيهم ورعيتهم يذلون ويلحقهم الضرر بإعراضهم عنهم ؛ لأن عزهم كان بهم ، فبإعراضهم عنهم ومخالفتهم إياهم يذلون ، فأما الله ـ سبحانه ـ [فهو] عزيز بذاته ، لا يلحقه الضرر والذل بمخالفة الخلق إياه.

أو أن يكون قوله : (الْعَزِيزُ) المنتقم عمن يخالف أمره ويعصيه أو يشرك غيره في ألوهيته وربوبيته.

والحكيم : هو الذى لا يلحقه الخطأ في التدبير.

يخبر ـ والله أعلم ـ : أني وإن خلقتهم وأنشأتهم على علم مني أنهم يخالفونني ويعصونني ، وأعنتهم بكل أنواع المعونة ، على علم مني بذلك منهم ؛ فإن فعله ليس بخارج عن الحكمة كما يكون في الشاهد أن من أعان عدوه بأنواع المعونة ، وهو يعلم أن معونته إياه تزيد له قوة في معاداته وعصيانه ومخالفته ـ هو موصوف بالسفه غير موصوف

٢٦٧

بالحكمة ؛ لأنه يسبق في إهلاك نسفه ، ويعينه على ذلك بمعونته إياه ، ومن يسعى في إهلاك نفسه ، فهو غير حكيم.

فأما الله ـ سبحانه ـ حيث خلقهم وأنشأهم وأعانهم بكل أنواع المعونة على علم منه بما يكون من الخلاف له والعصيان والمعاداة غير خارج فعله عن الحكمة ؛ لما ذكرنا أنه لا يلحقه الضرر ولا النقصان بما علم ويكون منهم من الخلاف له والعصيان والمعاداة ، ولا قوة إلا بالله.

وقوله : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) قال بعضهم : ضرب لكم مثلا.

من مثل خلقكم ، يقول ـ والله أعلم ـ : يبين لكم مثلا من أنفسكم : ما لو تفكرتم وتأملتم ، لظهر لكم سفهكم بعبادتكم الأصنام دون الله ، أو تسميتكم الأصنام بالله.

ثم يخرج ضرب المثل بما ذكر على وجوه :

أحدها : قوله : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) ، أي : لم تسووا أنتم أنفسكم بالذي ملكت أيمانكم فيما رزقتم حتى تكونوا أنتم وهم سواء في ذلك ؛ فكيف زعمتم أن الله قد سوى نفسه وما ملك من خلقه في ملكه وألوهيته؟!

والثاني يقول : هل ترضون أن يكون ما ملكت أيمانكم شركاءكم فيما تملكون من الأموال؟! فإذا لم ترضوا به ، فكيف زعمتم أن الله يرضى أن يشرك مماليكه في ملكه وسلطانه؟!.

أو يقول : فإن لم ترضوا لأنفسكم إشراك ما ملكت أيمانكم في ملككم ، ولم تسووا مماليككم بأنفسكم في ذلك ، فكيف رضيتم ذلك لله ، وسويتم نفسه ومماليكه ، وعدلتم به من دونه؟! والله أعلم.

وقوله : (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ).

أي : تخافون مماليككم كما تخافون أحرارا أمثالكم.

وقال بعضهم : تخافون لائمتهم كما يخاف الرجل لائمة أبيه وأخيه وأقاربه.

وبعضهم (١) يقولون : تخافون عبيدكم أن يرثوكم بعد الموت ، كما تخافون أن يرثكم الأحرار من أوليائكم ، وهو قول مقاتل لكن الميراث ليس من الآية في شيء ، والأول أشبه.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٧٩٤٩).

٢٦٨

وفي قوله : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) دلالة أن العبد لا يكون له حقيقة الملك في الأشياء كالأحرار ؛ لأنه أخبر أنهم ليسوا هم بسواء في الشرك فيما رزق السادات وملكوا ، على العلم أنهم يشتركون جميعا في المنافع ؛ دل أنهم يملكون منافع الأشياء ويشتركون مع الأحرار فيها ، ولا يملكون حقيقة الإملاك ، وكذلك يدل قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ...) [النحل : ٧٥] أنه لما نفى عنه القدرة على شيء ـ والله أعلم ـ يكون تأويل قوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور : ٣٢] ، أي : يغنهم الله من فضله بالمنافع ، لا بحقيقة ملك الأشياء ، والله أعلم.

وقوله : (كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ).

أي نبينها.

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

أي : لقوم ينتفعون بعقولهم.

والثاني : قوله : (نُفَصِّلُ الْآياتِ) ، أي : نفرق واحدة بعد واحدة ، على ما ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع من قوله : (وَمِنْ آياتِهِ) كذا ، (وَمِنْ آياتِهِ) كذا ، والتفصيل يخرج على وجهين :

أحدهما : التبيين.

والثاني : التفريق في الذكر ، فصلت آياته : بينت ، وفصلت : فرقت واحدة بعد واحدة.

فإن قال لنا قائل في هذه الآيات التي ذكرت : ما يدل على إيجاب البعث؟ قيل : في هذه [الآيات] التي ذكرت دفع الشبه التي لها أنكروا البعث ؛ لأنهم رأوا البعث ممتنعا بالشبهة التي اعترضت لهم ؛ ففي هذه الآيات دفع تلك الشبهة التي لها رأوا البعث ممتنعا ، حيث أراهم بدء خلقهم وقيام السماء والأرض بالذي ذكر.

ثم إيجاب البعث يكون بالأخبار الصادقة ، وهي أخبار الرسل الذين ظهر صدقهم ، أو بما ذكرنا : أن خلق الخلق بلا عاقبة تجعل لهم للفناء خاصة خارج عن الحكمة ؛ لوجوه :

أحدها : ما ذكرنا أن بناء البناء في الشاهد للنقض والإفناء خاصة بلا منفعة تتأمل في العاقبة سفه خارج عن الحكمة ؛ فعلى ذلك خلق الخلق للفناء خاصة بلا عاقبة يكون خارجا عن الحكمة.

والثاني : أنه لو لم يجعل البعث ودارا أخرى ؛ ليفرق بين العدو والولي مع ما قد سوى بينهما في هذه الدار ، وفي الحكمة أن يفرق ولا يسوي بينهما ؛ فلو لم يكن دار أخرى فيها

٢٦٩

يفرق لكان ذلك خارجا عن الحكمة.

والثالث : في الحكمة أن يجزي المحسن لإحسانه والمسيء في إساءته ، وقد يكونان في هذه الدنيا ويخرجان منها لا يصيب المحسن جزاء إحسانه ، ولا المسيء جزاء إساءته ؛ فلا بد من دار أخرى ؛ ليجزى فيها كل بعمله ، وفيما ذكرنا إيجاب البعث ، والله أعلم.

وقوله : (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ).

يحتمل قوله : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، أي : ظلموا أنفسهم ؛ حيث لم يستعملوها فيما أمروا بالاستعمال فيه ؛ بل صرفوها إلى غير ما أمروا بالاستعمال فيه.

أو ظلموا حجج الله وآياته وبراهينه ؛ حيث لم يتبعوها ولم يضعوها موضعها حيث وضعت.

وقوله : (أَهْواءَهُمْ) في عبادتهم الأصنام ، وصرفها عن الله إلى من لا يستحق العبادة والشكر ؛ وذلك لهواهم ؛ لأنه ليس معهم حجة ولا برهان ؛ كقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) أي : حجة وبرهانا.

وقوله : (فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ).

أي : أأحد سوى الله يهدي من أضله الله؟ أي من يؤثر الضلال واختاره أضله الله ، لا يهديه سواه.

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ).

ينصرونهم في دفع عذاب الله عن أنفسهم.

أو (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ، أي : من مانعين يمنعونهم عن عذاب الله ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً).

قال بعضهم (١) : هذا الخطاب لرسول الله ؛ لأنه ذكر الآيات فيما تقدم ؛ حيث قال : (وَمِنْ آياتِهِ) كذا وكذا ، ثم ذكر الذين اتبعوا أهواءهم بغير علم ، ثم قال لرسول الله : أقم وجهك أنت للدين حنيفا.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : وعندنا أن الخطاب به وبمثله لكل أحد ؛ كقوله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) [الكافرون : ١] ، و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] ؛ كأنه يخاطب كل من انتهى إليه هذا أن قل : هو الله أحد ، و : يا أيها الكافرون ؛ فعلى ذلك قوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) هو لكل أحد.

ثم الإقامة تحتمل وجهين :

أحدهما : أقم : أي : داوم جهدك وقصدك.

__________________

(١) قاله ابن جرير (١٠ / ١٨٢).

٢٧٠

والثاني : أقم : أتمم.

(فَأَقِمْ) ما ذكرنا (لِلدِّينِ حَنِيفاً) : قال بعضهم : الحنيف : هو من حنف القوم وميله ، ومعناه : كن مائلا إلى الدين في كل حال وكل وقت.

وقال بعضهم : هو من الإخلاص والإسلام له.

وقوله : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها).

ثم فسر ذلك فقال : (فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) : هذا يحتمل وجوها :

(فِطْرَتَ اللهِ) ، أي : معرفة الله التي جبل الناس عليها أن يكون الله يجعل في كل صغير وطفل من المعرفة ما يعرف وحدانية ربه وربوبيته ؛ على ما جعل لهم من المعرفة ما فيه غذاؤهم وقوامهم من أخذ ثدي أمهاتهم في حال صغرهم وطفولتهم ؛ ولذلك يخرج قوله : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه» (١) ؛ على ما جعل في الجبال من معرفة التسبيح لربها والتحميد ، لكن أبواه يشبهان ذلك عليه ، ويصرفانه.

والثاني : فطرهم وجبلهم ما لو تركوا وعقولهم لكانوا على ما جبلوا وفطروا ؛ إذ فطر كل منهم وجعل في خلقة كل دلالة وحدانية الله وربوبيته.

وكذلك قوله : «كل مولود يولد على الفطرة» ، أي : على الخلقة التي تدل وتشهد على وحدانية الله وربوبيته ما لو تركوا وخلي بينهم وبين عقولهم لأدركوا.

والثالث : فطرهم على ما يحتملون الامتحان.

وقوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ).

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٤٩٣) كتاب : القدر ، باب : الله أعلم بما كانوا عاملين ، الحديث (٦٥٩٩) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٨) كتاب : القدر ، باب : معنى كل مولود يولد على الفطرة ، الحديث (٢٥ / ٢٦٥٨) ، وأبو داود (٥ / ٨٦) كتاب : السنة ، باب : في ذراري المشركين ، الحديث (٤٧١٤) ، والترمذي (٣ / ٣٠٣) كتاب : القدر ، باب : كل مولود يولد على الفطرة ، الحديث (٣٢٢٣) ، ومالك (١ / ٢٤١) كتاب : الجنائز ، باب : جامع الجنائز ، الحديث (٥٢) ، وأحمد (٢ / ٢٣٣) ، والحميدي (٢٢ / ٤٧٣) رقم (١١١٣) ، وعبد الرزاق (٢٠٠٨٧) ، وأبو يعلى (١١ / ١٩٧) ، رقم (٦٣٠٦) ، وابن حبان (١٢٨ ، ١٣٠) ، وأبو نعيم في الحلية (٩ / ٣٢٨) ، من حديث أبي هريرة ، أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه ، أو يمجسانه ، كما تنتج الإبل جمعاء ، هل تحس فيها من جدعاء؟ قالوا : يا رسول الله أرأيت الذي يموت وهو صغير؟ قال : الله أعلم بما كانوا عاملين».

ولفظ مسلم مصدر بلفظ : «كل إنسان تلده أمه على الفطرة ، وأبواه بعد يهودانه وينصرانه ويمجسانه ، فإن كانا مسلمين فمسلم ، كل إنسان تلده أمه ، يلكزه الشيطان في حضنيه إلا مريم وابنها».

وفى الباب عن جابر والأسود بن سريع وابن عباس وسمرة بن جندب.

٢٧١

قال عامة أهل التأويل (١) : لا تبديل لدين الله ، سماه : خلقا.

وعلى قول المعتزلة : له تبديل ؛ لأنهم يقولون بأن فعل العبد ليس بمخلوق ، ويحتالون في قوله (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ، أي : لا تبديل لما به يقع الدعاء إليه ، أو كلام نحو هذا.

فيقال : إن الدين هو ما يدين المرء وهو فعله ، مأخوذ من دان ، يدين ، ثم أخبر أنه خلق الله ؛ فدل أنه مخلوق.

وجائز أن يكون قوله : (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) ، أي : لما فيه دلالة وحدانية الله وشهادة ربوبيته ؛ كقوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الملك : ٣].

أو لا تفاوت فيما فيه دلالة الوحدانية والشهادة له ، والله أعلم.

وقوله : (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ).

أخبر أن ذلك الدين القيم بالحجج والبراهين ليس كدين أولئك الكفرة أتباع الهوى.

أو أن يكون الدين القيم ، أي : المستقيم على ما وصفه الله أنه الدين الحنيف.

وقوله : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ).

هو صلة قوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ، فهذا يدل على أن الخطاب بقوله : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ) للكل ؛ حيث قال : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ، أي : أقبلوا إليه وأنيبوا له.

ثم الإنابة تقع فيما يقع به الأمر ، كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : أنيبوا إلى الله بما يأمركم به.

(وَاتَّقُوهُ).

عما نهاكم عنه ، والتقوى من الإنابة كهي من البر ، كقوله ـ تعالى ـ : (أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا) [البقرة : ٢٢٤] بما يأمركم به ، وتتقوه عما نهاكم عنه.

وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ).

هو يحتمل وجوها.

(أَقِيمُوا) أي : الزموا وداوموا فعلها إلى آخر ما تنتهون إليه ، ليس على أن يقع الأمر بها مرة واحدة.

والثاني : (أَقِيمُوا) أي : أتموها بركوعها وسجودها والقراءة وغير ذلك.

والثالث : (أَقِيمُوا) ، أي : وفوا إقامتها بأسبابها التي جعلت لها.

وفي الصلاة أحوال ثلاث :

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٩٥٥) و (٢٧٩٥٩) ، والفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر عنه كما ، في الدر المنثور (٥ / ٢٩٨) ، وهو قول عكرمة وقتادة وسعيد بن جبير والضحاك ، وغيرهم.

٢٧٢

أحدها : الجواز.

والثاني : التمام والكمال.

والثالث : التزيين والتحسين.

ثم الجواز بحق الأركان ، والتمام : بحق الشعوب ، والتزيين بحق الحواشي.

ويجب على كل مصل خصال ثلاث : صدق النية ، وحق الإخلاص له ، وحق الخشوع.

وقوله : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

يحتمل : أي : لا تكونوا من المشركين غير الله في الصلاة والعبادة ، أي : لا تصلوا لغير الله ، ولا تعبدوا من دونه.

أو لا تكونوا من المشركين من دونه في تسمية الألوهية والإلهية ؛ لأنهم كانوا يسمون الأصنام التي يعبدونها : آلهة.

أو أن يكون صلة قوله : (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ، أي : كونوا منيبين إليه ، موحدين ، مقبلين على طاعته ، مخلصين ، ولا تكونوا من المشركين له غيره.

وقوله : (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً).

قال بعضهم : لا تكونوا من المشركين ، ولا تكونوا من الذين فارقوا دينهم.

ثم قوله : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) ، وقرئ : فارقوا ؛ فهو يحتمل وجهين :

أحدهما : فارقوا دينهم الذي جاءتهم الرسل.

أو فارقوا دينهم الذي فطروا عليه ، وهو ما جعل فيهم من شهادة التوحيد له والربوبية.

وقوله : (وَكانُوا شِيَعاً) يحتمل : صاروا شيعا ، أي : فرقا وأحزابا بعد ما كانوا على ما فطروا ، أو على ما جاءتهم الرسل.

أو كانوا شيعا ما يشيع ويتبع بعضهم بعضا ؛ لأن الشيعة هم الذين يرجعون إلى أصل واحد وأمر واحد ، والله أعلم.

وقوله : (فَرَّقُوا دِينَهُمْ) ، أي : قطعوا دينهم ، وجعلوه قطعا وفرقا وأديانا ، من نحو اليهودية ، والمجوسية ، والنصرانية وغيرها.

(كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).

يقول ـ والله أعلم ـ : كل أهل دين وملة بما عندهم من الدين راضون به ، فرحون.

وجائز أن يكون قوله : (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : في الذي فطرتم عليه ، وهو ما

٢٧٣

جعل في خلقة كل واحد شهادة الوحدانية لله والدلالة ، يقول : لا تكونوا من المشركين في ذلك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ)(٣٩)

وقوله : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ).

قال قائلون : منيبين : مخلصين ؛ كقوله : (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [يونس : ٢٢].

وقال قائلون : مطيعين.

وقال قائلون : موحدين.

وأصل الإنابة : الرجوع ، أي : راجعين إليه عما كانوا فيه من الشرك ؛ فالإنابة هي التوحيد ، وإن كان الإنابة الإخلاص ، فهو رجوع عن الإشراك في العبادة ، وإن كان عن العصيان فهو الطاعة ، وأصله : الرجوع عما كانوا فيه ؛ ففيه وجوه من الاحتجاج على أولئك ، وتنبيه وعظة للمؤمنين.

أما الاحتجاج عليهم : فإنه معلوم ؛ لأنهم كانوا لا يركبون السفن والبحار مع المؤمنين ، ولكن كانوا يركبون بأنفسهم ، ثم أخبر عما أخلصوا له والدعاء له والتضرع ، دل أنه بالله عرف ذلك ؛ فذلك يدل على رسالته.

والثاني : فيه دلالة أنهم قد عرفوا وحدانية الله وألوهيته ؛ حيث فزعوا عند الشدائد والبلايا إلى الله ، وأخلصوا له الدين ، ثبت أنهم قد عرفوا سفه أنفسهم في عبادتهم الأصنام وتركهم عبادة الله ، تعالى.

والثالث : تصديقا لقوله (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] ؛ لأنهم كانوا يسألون الرد إلى الدنيا ليؤمنوا به ؛ كقولهم : (يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا) [الأنعام : ٢٧] ، فأخبر أنهم يعودون إلى ما كانوا ؛ كما عادوا إذا كشف عنهم الضر.

وأما العظة والتنبيه للمؤمنين : فهو أن يكونوا في الأحوال كلها على حال واحد في حال

٢٧٤

الرخاء والشدة ، ذاكرين له شاكرين ؛ لأنهم في حال الشدة والبلايا أكثر ذكرا له وإنابة من حال السعة والرخاء ، فينبههم ليكونوا في كل حال ذاكرين له منيبين إليه راجعين.

وفيه دلالة : شدة سفه أولئك الكفرة ؛ حيث أنابوا إليه وأخلصوا له الدين عند ما يصيبهم الشدة والبلاء ، ويعرضون عنه ويشركون في ألوهيته عند السعة. وفي طباع الخلق في الشاهد خلاف ذلك : أن من ضيق على آخر أمره وشدده فهو يعرض عنه ويبغضه ، ومن أنعم عليه من ملوك الأرض وأحسن ـ أطاعه وأحبه ؛ فهم لشدة سفههم عكس طباعهم ، وخالفوا طباع الناس جميعا ، والله أعلم.

وقوله : (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً).

أي : السعة والرخاء.

(إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ).

فإن قيل : ما فائدة ذكر هذه الآيات وأمثالها ، وهم كانوا لا يؤمنون بها ، ولا ينظرون فيها.

قيل : قد يحتج عليهم بما لا يقرون ولا ينظرون فيه.

أو أن ينظر في ذلك فريق منهم ويعرفونه ، والله أعلم.

وقوله : (لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا).

اختلف فيه :

قال بعضهم : هو على التقديم والتأخير ؛ يقول : إذا أذاقهم منه رحمة ؛ لئلا يكفروا ، وإنما أذاقهم رحمة لئلا يكفروا ، لكنهم كفروا ، إلى هذا ذهب مقاتل.

وعندنا ما ذكرنا : هو أذاقهم منه رحمة ؛ ليكون منهم ما قد علم أنهم يختارون ، ويكون منهم ، وهو الكفر ، ولا جائز أن يذيقهم الرحمة ؛ لئلا يكفروا ، ويعلم منهم أنهم يختارون الكفر ويكون منهم ذلك ؛ فدل أنه ما ذكرنا.

ثم في الآية دلالة نقض قول المعتزلة في قولهم : إن على الله الأصلح للعباد لهم في الدين ، وقولهم : إذا علم من أحد منهم الإيمان في وقت من الأوقات ليس له أن يخترمه ؛ ولكن عليه أن يبقيه إلى ذلك الوقت ؛ لأنه لو اخترمه قبل ذلك الوقت لكان هو المانع إيمانه.

فيقال : إن أولئك الكفرة لما أخلصوا دينهم لله في حال الشدة وخوف الهلاك لم يبقهم الله على ذلك الإخلاص والحال التي كانوا يخلصون الأمر له والدين ، بل وسع عليهم ، وحولهم من تلك الحال ، حتى عادوا إلى ما كانوا ؛ دل أن ليس على الله حفظ الأصلح

٢٧٥

للخلق في الدين. وقد أمر نبيه بمقاتلة الكفرة مطلقا ، ولعلهم يسلمون في وقت لو تركوا أو بعض منهم ؛ دل أن ليس ذلك عليه.

وقوله : (فَتَمَتَّعُوا) هو في الظاهر أمر ، ولكنه يخرج على الوعيد ؛ كقوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] ، وقد ذكر في آية أخرى : (وَلِيَتَمَتَّعُوا) [العنكبوت : ٦٦] ؛ فهو ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ).

قال بعضهم : (أَمْ أَنْزَلْنا) : بل أنزلنا عليهم سلطانا وحججا ، فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ، أي : يبين ، ويعلمهم أن الذي هم عليه شرك ليس بتوحيد ؛ لأنهم كانوا يقولون : إنا على التوحيد ، وإنما نعبد هذه الأصنام (لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ونحوه ؛ فيقول : بل أنزلنا عليهم ما يبين ويعلم أن ذلك شرك وليس بتوحيد.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن قوله : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) ، أي : ما أنزلنا عليهم سلطانا فيأمرهم بما كانوا به يشركون أو يأذن لهم بذلك ؛ كقوله : (أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى) [النجم : ٢٤] ؛ فعلى ذلك قوله : (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) أي : لم ننزل عليهم سلطانا يأمرهم بما كانوا به يشركون ، أو كانوا يدعون بذلك أمر الله ؛ كقولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] ، ففيه وجهان على أولئك الكفرة :

أحدهما : ما ذكرنا أنهم كانوا يدعون بذلك الأمر من الله ، فيخبر أنهم كذبة في قولهم بأن الله أمرهم بذلك ؛ بل لم يأمرهم بذلك ، ولا أنزل عليهم الكتاب أو السلطان في إباحة ذلك.

والثاني : يذكر سفههم في عبادتهم الأصنام ؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام ، ويسمونها : آلهة ، بلا سلطان ولا حجة كانوا يطلبون على ذلك ، ثم كانوا يطلبون من الرسول آيات تقهرهم وتضطرهم على رسالته وما يوعدهم ، بعد ما آتاهم من الآية ما أعلمهم وأنبأهم أنه رسول ؛ فالعبادة أعظم وأكبر للمعبود من الرسالة ؛ فإذا لم تطلبوا لأنفسكم الحجة والآية القاهرة في إباحة ما تعبدون من دون الله فكيف تطلبون من الرسول الآية القاهرة في إثبات الرسالة؟!

وقال بعضهم : (١) (أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) : كتابا فيه عذر لهم ، فهو يشهد بما كانوا به يشركون.

وقوله : (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ

__________________

(١) قاله قتادة بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٢٧٩٧٥) ، وعبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٠٠).

٢٧٦

يَقْنَطُونَ).

إذا أريد أن يسوي بين هذه الآية والآية التي قبلها ، وهو قوله : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ...) إلى آخره ، ويجمع بينهما يكون قوله : (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) : من الأصنام التي يعبدونها ؛ لأنه يقول في هذه الآية : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) ، وفي الأولى يقول : (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ؛ فوجه الجمع بينهما ما ذكرنا : أن يكون القنوط من الأصنام ، والله أعلم ؛ كقوله : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧].

أو أن يكون قوله : (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) : عند ما امتد بهم الضرّ والشدة ؛ حينئذ ييئسون من رحمة الله ، والأول في ابتداء ما أصابهم من الضر فزعوا إليه وأنابوا له.

أو أن يكون إحدى الآيتين في قوم ، والأخرى في قوم آخرين ؛ لأنهم كانوا فرقا وأحزابا في الكفر والشرك : منهم من كان يشرك في الأحوال كلها : في حال الضيق والسعة ، ومنهم من كان يشرك في حال الضيق ، ويؤمن في حال السعة ، كقوله : (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ) [هود : ٩ ، ١٠] ، وكقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) [الحج : ١١].

ومنهم من كان يخلص الدين في حال الضر والشدة ، ويعاند ويتمرد في حال السعة والرخاء ؛ كقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥] ونحوه ؛ فكانوا فرقا وأحزابا على ما ذكرنا ؛ فجائز أن يكون إحدى الآيتين في فريق وقوم ، والآية الأخرى في قوم آخرين.

أو ما ذكرنا من اختلاف الأحوال : يقنطون عند ما امتد بهم الضر والشدة ، وينيبون إليه عند ما لم يمتد بهم ذلك ولم يتطاول.

أو ما ذكرنا من القنوط من الأصنام والإنابة إلى الله ؛ كقوله : (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧].

وإلا الآيتان في الظاهر متناقضتان ، ولكن الوجه فيه ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

يحتمل قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) على الكافرين ؛ كقوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣].

ثم وجه الآيات لهم على كفار مكة من وجوه في إثبات الرسالة ، وفي البعث ، [و] في

٢٧٧

إظهار سفههم في عبادة الأصنام وإشراكهم إياها في عبادة الله ؛ لأن أهل مكة كانوا ينكرون الرسالة والبعث ، ويرون عبادة غير الله ؛ فالاحتجاج عليهم بهذه الآية على الوجوه التي ذكرنا.

فأما الاحتجاج في إثبات الرسالة فهو من وجوه ثلاثة :

أحدها : أنهم كانوا ينكرون الرسالة ؛ لأنه بشر ، ولا يرون للبشر بعضهم على بعض فضلا ؛ كقوله : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [المؤمنون : ٣٣] ؛ فيريهم الفضل لبعضهم على بعض في الرزق : موسعا على بعض مضيقا مقترا على بعض ؛ فإن ثبت عندهم ، وظهر الفضل لبعض على بعض فيما ذكرنا يجوز الفضل على بعض في الرسالة.

والثاني : ذكر مقابلا لقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ؛ يخبر أن الأمر ليس إليهم ؛ إنما ذلك إلى الله تعالى ، يختار من يشاء لما يشاء من الرسالة والنبوة وغيرهما ، كما يختار التوسيع على من يشاء والتضييق والتقتير على من يشاء ، وإن كانوا جميعا يتمنون السعة ويحبونها ، ويهربون من الضيق والتقتير ، ولكن الأمر في ذلك إلى الله تعالى كله.

والثالث : وسع على بعض وضيق على بعض ؛ فالجهة التي وسع على بعض غير الجهة التي ضيق على بعض ؛ فلا بد من رسول يخبر عن ذلك ، ويعلم ما على هذا وما على هذا ، وما جهة التفريق بينهم والتفضيل في الرزق ، والله أعلم.

وأما الاحتجاج عليهم في البعث بها فمن وجوه أيضا :

أحدها : أنه جمع في هذه الدنيا بين العدو والولي ، وسوى بينهما في التوسيع والتضييق ؛ إذ وسع على العدو والولي جميعا ، وضيق على الولي ووسع على العدو ، وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما لا الجمع والتسوية ، وقد سوى بينهما في هذه الدنيا وجمع ؛ فلا بد من دار أخرى فيها يفرق بينهما ؛ فيلزمهم البعث ، والله الموفق.

والثاني : أنه وسع الرزق على من هو في تقديرهم وعقولهم لا يوجب التوسيع عليه ، وهو السفيه الجاهل الذي في تقدير كل ذي عقل ولب أن يكون محروما مضيقا ، وضيق على من هو في تقدير كل أحد وعقله أن يكون موسعا عليه مرزوقا ، وهو العاقل العارف بجميع أسباب السعة والغناء ، وفي التقدير على خلاف هذا ؛ فلا بد من مكان فيه يظهر التفضيل للعقول والمعارف ، والرغبة فيها ، والرغبة عن أضدادها ، ومن هو أهل التوسيع ومن هو أهل الحرمان ؛ إذ قد اشتركوا في هذه.

والثالث : أن يعتبروا وينظروا بأن من قدر على توسيع الرزق وبسطه وتضييق الرزق

٢٧٨

وحرمانه ، بالأسباب الخارجة عن تقديرهم وتدبيرهم وبغير أسباب لقادر على إحياء الأشياء الخارجة عن تقدير قدرتهم وتدبيرهم ، والله أعلم.

وأما وجه الاحتجاج عليهم بعبادتهم غير الله ، فهو أن في ذلك تناقض ، وذلك أنهم قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، وكانت لا تشفع لهم في الدنيا ، ولا تقربهم الزلفى فيها في التوسيع والبسط ودفع الضيق ، وفي الآخرة لا يحتمل ؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون ، فهو متناقض وسفه وسرف في القول.

وهذه الآية وغيرها من الآيات تنقض على المعتزلة ؛ لأنهم لا يجعلون لله في مكاسب الخلق وحرفهم وتجاراتهم وجميع أسبابهم التي بها يرتزقون ويتعيشون صنعا ، وإنما يجعلون ذلك في الخارج من الأرض وغيرها ، فالناس في ذلك ، وتضيق إذا لم يكن له في تلك الأسباب والمكاسب صنع ؛ فدل أن له في ذلك صنعا حتى يقع منه البسط والتوسيع والتضييق والتقتير ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يحتمل وجهين :

أحدهما : ما ذكرنا : يكون للمؤمنين في ذلك آيات على الكفار.

والثاني : لقوم ينتفعون بإيمانهم ، والمؤمنون هم المنتفعون بها ، فأما من كفر بها فلا ينتفع.

وجائز أن يكون في ذلك العبرة من وجه آخر لقوم يؤمنون ، وهو ألا يعلقوا قلوبهم في الرزق بالأسباب التي يكتسبون بها ولكن يرون الرزق من الله أنه يرزق بأسباب وبغير أسباب. أو يذكر هذا لهم على أن من رفع الحاجة إلى آخر ، فلم يقضها : أن يرى حرمانها من الله ، لا من ذلك الرجل.

وقوله : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ).

يحتمل قوله : (حَقَّهُ) أي : حاجته ، لا على حق كان له ، كقوله : (ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ)(١) [هود : ٧٩] ، أي : من حاجة ؛ إذ معلوم أنه لم يكن لهم في بناته حق ، ولكن أرادوا بالحق الحاجة ، فعلى ذلك الأول ، وكذلك قوله : (وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) :

أي : سد المسكين حاجته ومسكنته ، وكذلك ابن السبيل.

ويحتمل قوله : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) : الحق الذي كان لهم ، لكن لم يبين ذلك الحق

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : لا يراد به حق كان لهم عليه ، كقولهم : (ما لنا ...) شرح.

٢٧٩

في هذه الآية ، وبين في آية أخرى ؛ كقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة : ١٨٠] ، وما ذكر من المواريث قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ...) الآية [النساء : ١١] ، ونحو ذلك من الحقوق. وحق المسكين وابن السبيل : ما ذكر من الصدقات والزكاة ، والله أعلم.

وقوله : (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ).

يحتمل قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ) ، أي : الإيتاء للأقربين والمساكين والفقراء خير من الأبعدين والأغنياء وغيرهم.

أو أن يكون قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ) ، أي : ذلك الإيتاء إذا أريد به وجه الله ـ خير مما لا يراد به.

وقوله : (وَابْنَ السَّبِيلِ).

اختلف فيه : قال بعضهم : هو المنقطع عن ماله يعان حتى يصل إلى ماله.

وقيل : الضيف ينزل فيحسن إليه إلى أن يرجع ويرتحل.

وجائز أن يكون قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) ، أي : آت من ليست له عندك نعمة ؛ فيكون ذلك ليس مكافأة لتلك النعمة ، ولكن على إرادة وجه الله ، والله أعلم.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

قد ذكرنا أن الفلاح هو البقاء ، وقيل : النجاة.

قال أبو عوسجة : القيم المستقيم ، (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) ، أي : تائبين ، (يَقْنَطُونَ) : ييئسون.

وقوله : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ).

قال عامة أهل التأويل (١) : هذا في العطايا التي يعطي بعضهم بعضا ويهدون ؛ ليصيبوا أكثر مما أعطوا وأهدوا مجازاة ومكافأة لذلك ؛ كأنه يقول : وما آتيتم من عطية وهدية ؛ ليربو في أموال الناس لتزدادوا من أموال الناس ، ولتلتمسوا الفضل من أموالهم ، يقولون : هذا ربا حلال لا وزر فيه ولا أجر ؛ فهو مباح للناس عامة لا بأس به.

وأما قوله : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) [المدثر : ٦] فهو للنبي خاصة ، يقول : لا تعطه لتعطى أكثر منه ؛ ابتغاء الثواب في الدنيا ، ولكن أعط ابتغاء ثواب الآخرة.

ويستدلون بإباحة ذلك بقوله : (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) ، يقول : لا يزداد ولا يتضاعف ذلك

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٩٧٧) ، وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وإبراهيم وطاوس وقتادة وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٣٠٠ ، ٣٠١).

٢٨٠