تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

وصف مرة بالهباء المنثور ، ومرة كالعهن المنفوش ، ومرة كثيبا مهيلا ، ومرة قال : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً) الآية [النمل : ٨٨] ، ونحوه من الأوصاف التي وصفها ، وذلك في أوقات مختلفة ، تكون في كل وقت على حال ووصف الذي وصف ؛ فعلى ذلك السماء لشدة هول ذلك اليوم وفزعه.

وقوله : (تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) أي : تنشق عن الغمام فتبقى بلا غمام ؛ كقوله : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) [التكوير : ١١].

وجائز أن يكون قوله : (بِالْغَمامِ) أي : يبقى الغمام فوق رءوس الخلائق يظلهم ، وهذا يدل أن قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) إنما معناه : بظلل من الغمام ؛ فإن كان على هذا فيرتفع الاشتباه ، والله أعلم.

وقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ) : يحتمل إضافة ملك ذلك اليوم إليه ، وإن كان الملك له في جميع الأيام في الدنيا والآخرة ـ وجوها (١) :

أحدها : لما أن ملك الآخرة ملك دائم باق بلا فناء له ، وملك الدنيا جعله فانيا لا دوام ولا بقاء [له].

والثاني : [لما] يقر له جميع الخلائق بالملك له في ذلك اليوم ، وإن لم يقر له البعض بملك الدنيا.

والثالث : لما لا ينازعه أحد في ملك ذلك اليوم ، وإن كان له منازع في الدنيا.

أو أن يكون المقصود بخلق هذا العالم في ذلك اليوم يظهر للخلق ، ويومئذ يعلم كل أن خلقهم في الدنيا لذلك اليوم كان ، لا للدنيا خاصة.

وقوله : (لِلرَّحْمنِ) : ذكر هنا الرحمن ، وقال في آية أخرى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] ؛ لتعلم العرب أن الرحمن المذكور في هذه الآية هو الله الذي لا إله إلا هو ذكر في تلك الآية ؛ لأن العرب تسمي وتعرف كل معبود : إلها ، ولا تعرف الرحمن معبودا ولا تسميه الرحمن ، فعرفهم أن الله والرحمن اللذين ذكرهما واحد.

وقوله : (وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) : ظاهر لا شك فيه فكذلك يكون.

وقوله : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ...) الآية : قال بعض أهل التأويل (٢) : نزلت الآية في عقبة بن أبي معيط ؛ كان يؤاخي رسول الله ويواده ، وكان رسول الله يجيبه إذا دعاه إلى طعامه ، فدعا يوما رسول الله إلى طعامه

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٥٢٠).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٦٣٥١) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٢٦) ، وعن ابن عباس والشعبي ومقسم بنحوه عند ابن جرير.

٢١

فقال : «لا حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» ، فشهد بذلك فطعم من طعامه ، فبلغ ذلك أبيّ بن خلف فأتاه فقال : صبوت يا عقبة [صدقت] محمدا وأجبته إلى ما دعاك؟!! فعيره على ذلك حتى رجع عقبة عن ذلك ، وارتد عن دينه ، وفي الحديث طول ؛ فنزلت الآية في شأنه وصنيعه وندامته وحسرته على ما فعل ، فقال : (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ...) إلى آخر ما ذكر.

وذكر أن عقبة وأبي بن خلف قتلا : أحدهما يوم بدر ، والآخر يوم أحد ، ولكن الآية في كل ظالم وكل كافر يكون على ما ذكر.

ثم يحتمل قوله : (يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) على التمثيل ، والكناية عن الندامة والحسرة ؛ لأن من اشتد به الندامة والحسرة والغيظ على شيء كاد أن يعض يديه غيظا منه على ذلك ؛ كما كنى بغل اليد عن ترك الإنفاق ، وبالبسط عن كثرة الإنفاق والمجاوزة فيه ؛ وكما كنى بالنبذ وراء الظهر عن ترك الانتفاع وقلة النظر فيه والاكتراث إليه ؛ كقوله : (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) [الأنفال : ٤٨] عن الرجوع ونحوه ، وقوله : (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٩] ، وقوله (فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها) ، وأمثال هذا على التمثيل والكناية عن الرجوع والثبات والأخذ والترك ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون عض الأيدي كناية عن شدة الندامة والغيظ على ما حل به.

ويشبه أن يكون على التحقيق : تحقيق عض اليد ، يجعل الله عقوبته بعض اليد ؛ كما جعل عقوبة أنفسهم بأنفسهم ؛ حيث جعل أنفسهم حطبا للنار يعذبون ويعاقبون ، والله أعلم.

وقوله : (يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) : السبيل الذي دعاه الرسول إليه.

(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) : يحتمل الإنسان ، ويحتمل الشيطان ، أي : لم أتخذ الشيطان خليلا ، ولم أطعه فيما دعا ، أو الإنسان الذي قلده فيما قلده.

وقوله : (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) : يحتمل قوله : (عَنِ الذِّكْرِ) أي : الشرف الذي يذكر به المرء ، أضلني عن ذلك الشرف ، أو أضلني عما يذكرني هذا ، أو أضلني عن الذكر ، أي : عن القرآن : وما فيه من الذكرى ، والله أعلم.

وقوله : (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) أي : تاركا له متبرئا منه ، يقول كما قال في آية أخرى حكاية عنه : (إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) [الحشر : ١٦] ، ويقول كما قال : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ...) الآية [إبراهيم : ٢٢] أو أن يكون كما ذكر : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ...) الآية [العنكبوت : ٢٥].

أو أن يكون ذلك الخذلان منه له في الدنيا يمنيه بأماني ويزين له أشياء ، ثم لا يوصله إليها.

٢٢

قوله تعالى : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٣٤)

وقوله : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) : قال بعضهم : المهجور : هو الذي لا ينتفع ولا يعمل به وقال أبو عوسجة والقتبي (١) : مهجورا أي : تركوه مهجورا ، أي : متروكا ، ويقال : مهجورا أي : كالهذيان ، والهجر الاسم يقال : فلان يهجر في منامه ، أي : يهذي ، وهو بالفارسية «بلايه كفتى».

وقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) ، أي : مثل الذي جعلنا لك من العدو من الكفرة جعلنا لكل نبي من قبلك عدوّا.

ثم العداوة تكون في الدين مرة ، ومرة في الأنفس وأحوالها.

فإن كان العدو عدوا في الدين ، فجميع الكفرة له أعداء لخلافهم له في الدين ، ويكون حرف (من) صلة ، أي : جعلنا لكل نبي المجرمين أعداء.

وإن كان على تحقيق (من) وإثباتها فالعداوة عداوة في الدين والإخوان ، وذلك راجع إلى الفراعنة وأضداد الرسل ، ما من رسول إلا وله فراعنة وأضداد ينازعونه ويقاتلونه ويهمون قتله.

ثم بشر رسوله بالحفظ له والنصر والظفر على أعدائه ، وهو قوله : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً).

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) : ذكر أهل التأويل (٢) أن أهل مكة كانوا يأتون رسول الله فيتبعونه ويسألونه ويقولون : يا محمد ، أتزعم أنك رسول من عند الله ، أفلا أتيتنا بالقرآن جملة واحدة ؛ كما أنزلت التوراة جملة واحدة على موسى ، والإنجيل على عيسى ، والزبور على داود (٣) فقال : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣١٣).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والضياء في المختارة عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٢٨ ، ١٢٩).

وعن قتادة أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم ، كما في المصدر السابق.

(٣) ينظر : اللباب (١٤ / ٥٢٧ ، ٥٢٨).

٢٣

فُؤادَكَ) : (١)

أي : بمثل الذي نثبت به فؤادك.

ثم يحتمل قوله : (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) وجهين :

أحدهما : أنزلناه متفرقا لنثبته في فؤادك تحفظه وتذكره ؛ لأن حفظ الشيء إذا كان سماعه بالتفاريق كان حفظه أهون ، وأيسر من حفظه إذا سمع جملة واحدة ، وخاصة إذا كان الكلام من أجناس وأنواع.

والثاني : (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) أي : لنثبت بما في القرآن من الحكمة والمعاني فؤادك.

ثم يحتمل قوله : (فُؤادَكَ) أنه يراد به : فؤاد من يسمع إليه ويسمعه ، فإن كان هذا فهو كقوله : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ ...) الآية [الإسراء : ١٠٦] ، على ما ذكرنا أنه يكون أسرع حفظا وأهون ثباتا من سماعه جملة.

وجائز أن يكون أراد فؤاده ؛ كقوله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٦ ، ١٧] ، وقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى. إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعلى : ٦] كان يعجل بحفظه إذا قرئ عليه ؛ خوفا أن يذهب ، فأخبره أن يثبت فؤاده وينزله بالتفاريق ؛ لكي يحفظه ويذكره.

ثم إن كان المراد تثبيته في الفؤاد : هو ما فيه من الحكمة والمعاني وقراءته على الناس على مكث كذلك فهو ـ والله أعلم ـ ينزله على قدر النوازل والحوائج ؛ ليكونوا أحفظ لتلك المعاني وأعرف بمواضعها ، وتقدير غيرها من النوازل بها من أن نزل جملة في دفعة واحدة ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ) أي : بصفة يشبهون بها على الخلق إلا جئناك بصفة هي أحق مما أتوا بها هم ، فترفع تلك الشبهة عنهم ، أعني : عن الخلق.

أو أن يقال : ولا يأتونك بصفة هي باطل إلا جئناك بحق ـ أي : بصفة هي حق ـ فتبطل تلك وتضمحل.

(وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أي : بيانا من الأول ؛ على التأويل الأول ، وعلى التأويل الثاني ظاهر لا شك أنه أحسن وأحق.

قال أبو عوسجة : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أي : أنزلنا بعضه بعد بعض ، وعلى أثر بعض ، لم ننزله في مرة واحدة ؛ وكذلك قال في قوله : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً).

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) ثم قوله : لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ، يحتمل وجهين : أحدهما : أي أنزلناه. شرح.

٢٤

وقال بعضهم (١) : قوله : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) أي : بيناه تبيانا.

وقال بعضهم في قوله : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) ، قال : لا يخاصمونك بشيء ولا يجادلونك إلا جئناك بالحق ـ يعني : القرآن ـ (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) ، يقول : جئناك بالقرآن بأحسن مما جاءوا به تفسيرا ، وهو قريب مما ذكرنا بدءا.

وفي حرف حفصة : إلا جئناك بأحق منه وأحسن تفسيرا ، وهو شبيه ببعض التأويلات التي ذكرناها.

وقوله : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً) : يشبه أن يكون ذكر هذا على مقابلة سبقت ، وإلا على الابتداء لا يستقيم ذكره ؛ فجائز أن يكون ذكره على مقابلة قوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا ...) الآية [الفرقان : ٢٤] ، هذا ذكر مقام أهل الجنة ، فذكر مقابل ذلك مكان أهل النار ، فقال : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي : شر مكانا في الآخرة ، وأضل سبيلا في الدنيا ، ويكون مقابل قوله : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم : ٧٣] ، فقال (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان : ٣٤] من الذين آمنوا ، بل مقامهم الجنة ـ أعني : المؤمنين ـ ومقام الكفرة النار ، فهم شر مكانا منهم.

وفي بعض الأخبار : أن رجلا قال : يا نبي الله ، كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال : «إن الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه» (٢).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً)(٤٠)

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي : التوراة ، (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) : ذكر هاهنا أنه كان وزيرا له ، وذكر في آية أخرى : (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) ، وفي آية أخرى : أنه كان نبيّا حيث قال : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) ، فكان ما ذكر ذلك كله نبيّا ورسولا ، وكان له وزيرا ، والوزير هو العون والعضد ، فإنه قال : (وَجَعَلْنا مَعَهُ

__________________

(١) قاله ابن زيد بنحوه أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٣٦٤) ، وعن السدي أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٢٨).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٦٣٧٠) و (٢٦٣٧١) و (٢٦٣٧٢) ، عن أنس بن مالك.

٢٥

أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) أي : عونا وعضدا ؛ كقوله : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) [طه : ٢٩ ـ ٣١] ؛ لأنه سأل ربه المعونة له والإشراك في أمره ، وقال : (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي) [القصص : ٣٤].

وقال الزجاج (١) : الوزير هو الذي يلجأ إليه في النوائب ويعتصم بأمره ؛ وهو واحد.

وقوله : (فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) أي : أهلكناهم إهلاكا.

وقوله : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) : جائز أن يكون قوله : (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) نوحا خاصة ؛ لأنه ذكر قوم نوح ، فإن كان ذلك ، ففيه دلالة جواز تسمية الواحد باسم الجماعة.

وجائز أن يكون نوح دعاهم إلى الإيمان وتصديق الرسل ، فكذبوه وكذبوا الرسل جميعا ، والله أعلم.

وقوله : (أَغْرَقْناهُمْ) : لم يغرقهم على أثر تكذيبهم إياه ، ولكن إنما أغرقهم بعد ما دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاما.

وقوله : (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) : يحتمل قوله : (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) أي : آية للمكذبين والمصدقين ، لما بين حكمه في المكذبين منهم : الإهلاك والاستئصال ، وفي المصدقين منهم : النجاة والخلاص منه ، فذلك آية لكل مكذب ومصدق ؛ لما إليه يئول عاقبة أمرهم : عاقبة المكذبين : الإهلاك ، وعاقبة المصدقين : النجاة.

فإن قيل : إنهم جميعا قد هلكوا المصدقون منهم والمكذبون ، قيل : أهلك المكذبون منهم إهلاك عقوبة وتعذيب ، والمصدقون هلاكهم بانقضاء آجالهم لا هلاك عقوبة.

ثم ذكر : (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) فمعنى جعل أنفسهم آية ما ذكرنا.

وقال في آية أخرى : (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) أي : السفينة.

قال بعضهم : جعل السفينة آية ؛ لأن من طبع السفن أنها إذا امتدت الأوقات وطال الزمان أنها تفسد وتتلاشى ، وهي بعد باقية كما هي ـ أعني : سفينة نوح ـ لكن ذلك لا يعلم أنه كما ذكر أو لا ، فالوجه فيه ما ذكرنا.

وقوله : (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً) : هكذا جزاء كل ظالم ـ ظلم كفر وشرك ـ أن يعد له العذاب الأليم.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٤ / ٦٧).

٢٦

وقوله : (وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً) : أخبر أنه أهلك هؤلاء كلهم بالتكذيب : عادا وهم قوم هود ، وثمودا وهم قوم صالح ، وأصحاب الرس : قال بعضهم (١) : سموا أصحاب الرس ؛ لأنهم رسوا نبيهم في بئر ، أي : رسوه فيها.

وقال بعضهم (٢) : الرس : هو اسم لبئر كانوا نزولا عليها ، فبعث إليها شعيبا فكذبوه ، فسموا بذلك ونسبوا إلى تلك البئر.

وعن ابن عباس : أنه سأل كعبا عن أصحاب الرس فقال : إنكم معاشر العرب تدعون البئر : رسا ، والقبر : رسا ، وتدعون الخد : رسا ، فخدوا خدودا في الأرض فأوقدوا فيها النيران للرسولين اللذين ذكر الله في يس : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ)(٣) [يس : ١٤] ، والله أعلم.

وقوله : (وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) أي : ذكرنا لأهل مكة أمثال من تقدم منهم من الأمم من المكذبين والمصدقين ، وما حل بهم وما إليه آل عاقبة أمورهم بالتكذيب ، حيث قال : (وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) أي : أهلكنا إهلاكا.

وقال بعضهم : (تَبَّرْنا) أي : كسرنا بالنبطية ، يقول أحدهم للشيء إذا أراد أن يكسره : أتبره.

وقوله : (وَلَقَدْ أَتَوْا) : يعني والله أعلم : أهل مكة ، (عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) : وهي الحجارة ، يعني ـ والله أعلم ـ : قريات لوط ، أي : يمر عليهم أهل مكة في تجارتهم ويأتونها ؛ وهو كما قال في الصافات : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ ...) الآية [الصافات : ١٣٧].

(أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) : ما حلّ بهم بالتكذيب فيعتبروا ، (بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) أي : بعثا بعد الموت وإحياء ، أي : إنما كذبوا الرسل ؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث ولا يخافون نشورا.

قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ

__________________

(١) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير (٢٦٣٧٨) ، والفريابي وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ١٢٩).

(٢) قاله ابن عباس ومجاهد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٦٣٧٩) و (٢٦٣٨٠) وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٢٩).

(٣) أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٢٩).

٢٧

يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(٤٤)

وقوله : (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) : كانوا إذا رأوه هزءوا به ، إذا خلا بعضهم إلى بعض يقولون فيما بينهم : أبعث الله بشرا رسولا ، هكذا كانت عادة الكفرة يهزءون به إذا حضروه ، وإذا غابوا عنه قالوا ما ذكر.

وقوله : (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) : في قوله : (كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا) دلالة أنه إنما أراد أن يضلهم عن عبادتهم الأصنام بالحجج والآيات ؛ إذ ليس في وسع النبي صرفهم ومنعهم عن ذلك إلا من وجه لزوم الآيات والحجج ، إلا أنهم رفضوا تلك الآيات والحجج ، وكابروها وثبتوا على عبادة الأصنام والأوثان ، وإلا علموا ـ من جهة الآيات والحجج التي أقامها عليهم ـ أنه على الحق ، وأنهم على باطل.

ثم قوله : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً) أي : يعلمون حين لا يقدرون على الجحود والإنكار إذا أنزل بهم العذاب ، ووقع : من أضل سبيلا هم أو المؤمنون؟ لأنهم وإن علموا بالآيات والحجج أنه على الحق ، وأنهم على باطل ، وعلموا الموعود من العذاب فأخبر أنهم يعلمون عند وقوعه بهم علما لا يقدرون على جحوده ولا إنكاره ؛ كقوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ) وهذه الآية ، وقوله : (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) ، وقوله : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) ، وأمثال ذلك إذا عاينوا الموعود في الدنيا يقرون به لا يقدرون على الجحود ؛ فكذلك قوله : (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) علما لا يقدرون على الإنكار والجحود (حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

وقوله : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) : قال بعضهم (١) : إنهم كانوا يعبدون أشياء حجرا أو غيره ، فإذا رأوا أحسن منه في رأي العين والمنظر ، تركوا عبادة ذاك ، وعبدوا ما هو أحسن منه.

وقال بعضهم (٢) : كلما هوت أنفسهم شيئا عبدوه ، وكلما اشتهوا شيئا أتوه ، لا يحجزهم عن ذلك ورع ولا تقوى لله.

ويحتمل وجهين آخرين سوى [ما] ذكر هؤلاء :

أحدهما : تركوا عبادة الإله الذي قامت الحجج والآيات بألوهيته وربوبيته ، ولزموا

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه عنه ، وعن أبي رجاء العطاردي أخرجه ابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٣٢).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، وعن الحسن أخرجه ابن المنذر وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٣٢).

٢٨

عبادة من لم يقم له الآيات والحجج بذلك بهواهم.

والثاني : أنهم عبدوا ما عبدوا من الأصنام بلا أمر كان لهم بالعبادة ؛ لا بدّ من أمر يؤتمر بها ، بل عبدوا بهواهم ، أو كلام نحو هذا.

وقوله : (أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) أي : لست أنت بوكيل ولا مسلط عليهم ولا حافظ ، أي : لا تسأل أنت عن أعمالهم ولا تحاسب عليها ، بل هم المسئولون عنها ، وهم محاسبون عليها ؛ كقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢] ؛ وكقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ ...) الآية [النور : ٥٤] ، والله أعلم.

وقوله : (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ) : قوله : (أَمْ تَحْسَبُ) وإن كان في الظاهر استفهاما ، فهو في الحقيقة على الإيجاب ، وهكذا كل استفهام من الله يخرج على الإيجاب أو على النهي ؛ كأنه قال : قد حسبت أكثرهم يسمعون أو يعقلون ، أي : لا ينتفعون بما يعقلون.

(إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) : قال بعضهم : كالأنعام لأن همتهم ليست إلا كهمة الأنعام ، وهو الأكل والشرب ، ليست لهم همة سواه ، ليس للأنعام همة العاقبة ، فعلى ذلك الكفرة فهم كالأنعام من هذه الجهة.

وقوله : (بَلْ هُمْ أَضَلُ) : قال قائلون : قوله : (أَضَلُ) لأن الأنعام تعرف ربها وخالقها وتذكره ، وهم لا يعرفون ربهم ولا يذكرونه.

أو هم أضل لأنهم ينسبون إلى الله ما لا يليق به من الولد والشريك ، ويشركون غيره في العبادة والأنعام لا ، فهم أضل.

وقال بعضهم : هم أضل ؛ لأن الأنعام إذا هديت الطريق اهتدت ، وهم يهدون ويدعون إلى الطريق فلا يهتدون ولا يجيبون فهم أضل.

أو أن يقال : هم أضل لأنهم يضلون ويضلون غيرهم ويمنعونهم عن الهدى ، والأنعام لا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً)(٤٩)

وقوله : (أَلَمْ تَرَ) : قد ذكرنا في غير موضع أن حرف (أَلَمْ تَرَ) هو حرف تعجب واستفهام ، لكن في الحقيقة على الإيجاب ، أي : قد رأيت.

٢٩

وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) أي : إلى تدبير ربك ولطفه أن كيف مد الظل ، وهو لا يؤذي ولا يضر ولا يحس ، ولا يشعر به أحد بكونه فيه ولا يثقل ولا يخف ، ولا يستر ولا يكشف عن وجوه الأشياء ، إنما النور هو الكاشف عن وجوه الأشياء ، والظلمة هي الساترة لذلك ، ونحو ذلك ما يكثر ذكره مما يحيط بالخلائق كلها ؛ ليعلم أن من المحسوسات التي يقع عليها الحواس ما لا يدرك حقيقة من نحو الظل الذي ذكرنا هو ما لا يدرك حقيقة ، ومن نحو السمع والبصر والعقل والنطق باللسان ، ونحو ذلك من المحسوسات ؛ ليعلم أن الذي سبيل معرفته الاستدلال وهو منشئ هذه الأشياء ـ أحق ألا يدرك ولا يحاط بتدبيره ولطفه ؛ [و] ليعلم أن من بلغ تدبيره ولطفه هذا المبلغ لا يحتمل أن يعجزه شيء أو يخفى عليه شيء ؛ يخبر عن قدرته وتدبيره ولطفه ؛ ليعلم أنه قادر ومدبر بذاته لطيف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) أي : دائبا لا يذهب أبدا ، ولا تصيبه الشمس ولا يزول.

وقال بعضهم : (ساكِناً) أي : مستقرا دائما لا تنسخه الشمس كظل الجنة.

وقوله : (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) : قال بعضهم : أي : تتلوه وتتبعه حتى تأتي على كله.

وقال بعضهم : قوله : (جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) يقول : حيثما تكون الشمس يكون الظل ، وأصله : أنه بالشمس يعرف الظل أنه ظل ، ولو لا الشمس ما عرف الظل ، فهو دليل معرفته وكونه أنه ظل.

وقوله : (ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) : قال بعضهم (١) : هيّنا خفيّا ، وأصله : أنه يقبض بالشمس الظل وينسخه شيئا فشيئا ، حتى تأتي على كله.

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) قيل (٢) : سكنا يسكن فيه الخلائق.

وقيل (٣) : لباسا ، أي : سترا.

(وَالنَّوْمَ سُباتاً) قال بعضهم (٤) : أي : راحة ، يقال : سبت الرجل يسبت سباتا فهو مسبوت.

وقال بعضهم : أصل السبت : التمدد.

وقال بعضهم : سبت الرجل إذا نعس. وقيل : رجل مسبوت : لا يعقل كأنه مسبت.

__________________

(١) قاله مجاهد وابن جريج ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٦٤٠٩) و (٢٦٤١٠).

(٢) قاله ابن جرير (٩ / ٣٩٦).

(٣) قاله ابن جرير (٩ / ٣٩٦).

(٤) قاله ابن جرير (٩ / ٣٩٦).

٣٠

(وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) : فمن جعل السبات : النوم ، جعل قوله : و (النَّهارَ نُشُوراً) أي : حياة يحيون فيه.

ومن يقول : السبات : راحة ، يجعل النهار نشورا : ينشر فيه للمعاش والكسب وابتغاء الرزق.

وقال بعضهم : يذكر نعمه ومننه على عباده ؛ لتأدي شكره.

وقال أبو معاذ : قال مقاتل : (مَدَّ الظِّلَ) يعني : الفيء من أول وقت صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. وأخطأ ؛ لا يسمى ذلك الظل : فيئا.

وقال الكسائي : العرب تقول : الظل من حين تصبح إلى انتصاف النهار ، فإذا زالت الشمس عن كبد السماء فما خرج من ظل فذلك الفيء ويقال للفيء : الظل ، ولا يقال للظل : فيء قبل الزوال.

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً) : قال بعضهم (١) : (نَشْراً) أي : حياة.

وقال بعضهم : (نَشْراً) للسحاب : تنشره ، أي : تبسطه.

وعلى التأويل الأول ننشرها ، أي : نحييها.

وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أي : بين يدي المطر ، سمي المطر : رحمة ؛ لما برحمته يكون ؛ وكذلك ما سمى الجنة : رحمة ؛ لأنها برحمة ما يدخل من دخل فيها.

وقوله : (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) : هذا يدل أنه لا يفهم باليد : اليد المعروفة التي هي الجارحة ، حيث ذكر للمطر ذلك ولا يعرف ـ أعني : اليد ـ ليعلم أنه لا يفهم من قوله : بيد الله ، بين يدي الله ـ ذلك ، وبالله العصمة.

وقرأ بعضهم : بشرا بالباء ، وهو من البشارة ؛ كقوله : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) [الروم : ٤٦] أي : تبشرهم بالرحمة والسعة ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) أي : ما يطهر به الأنجاس والأقذار الظاهر منها والباطن ؛ وكذا الطهور أنه يطهر حيثما أصابه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) : قال بعضهم : الأناسي : جمع إنسي.

وقال بعضهم : هي جمع إنسان ، وأصله بالنون (أناسين) ، لكن أبدلت النون ياء.

وقال أبو عوسجة والقتبي : أناسيّ مشددة ، يعني : أناس ، وأناسي جماعة الإنسان على

__________________

(١) هي قراءة مسروق ، أخرجه الفريابي وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٣٤).

٣١

ما ذكرنا.

ويحتمل قوله : (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) ، أي : نسقيه من الماء الطّهور والمنزل من السماء كثيرا من الأنعام ، وكثيرا من الإناس ، وكثيرا ما يسقى من المياه المنتزعة من الأرض (١).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً)(٥٢)

وقوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) ، أي : صرفنا المطر والسحاب بينهم يمطر في مكان ، ويسوق السحاب إلى مكان ولا يسوق إلى مكان آخر ؛ كقوله : (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ...) الآية [البقرة : ١٤٦] ؛ وكقوله : (فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) الآية [فاطر : ٩].

يذكرهم في هذه الآيات من قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) إلى قوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ) ليذكروا تدبيره وقدرته وحكمته ونعمه ؛ أما تدبيره : حيث ترى السحاب في موضع ولا تراه في موضع ، وتراه منبسطا في الآفاق ثم يمطر في موضع آخر ، ولا يرسل في مكان ويرسل في مكان آخر ؛ ليعلم أنه عن تدبير كان هكذا لا بالطبع ؛ لأنه لو كان بالطبع كان ذلك لكان لا جائز أن يمطر في مكان ويترك في مكان آخر ، دل أنه بالتدبير كان ما كان وبالأمر.

وأما قدرته : فما ذكر من إحياء الأرض الميتة بعد موتها ، وإماتتها بعد حياتها مما يعلم كل أحد حياتها وموتها ، ويقر بذلك ، فمن قدر على هذا قادر على إحياء الموتى بعد الموت ، ولا يعجزه شيء.

وأما حكمته : أن ما خلق مما ذكر وأنشأه لم ينشئه عبثا ، يمهلهم لا يأمرهم ولا ينهاهم ، ولا يمتحنهم بشيء ، ولا يجعل لهم عاقبة يثابون ويعاقبون ، ولا يستأدي بهم شكر ما أنعم عليهم من أنواع النعم مما يعجز عقولهم عن إدراكه ، ويقصر أفهامهم عن تقدير مثله ؛ ليعلم أنه قادر بذاته لا يعجزه شيء.

ثم قال : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) قال الكسائي : الكفور برفع الكاف : الكفر ، والكفور ـ بفتح الكاف ـ : الكافر ، والشّكور ـ بضم الشين ـ : الشكر ، والشّكور ـ بفتح الشين ـ : الشاكر وهو المؤمن ؛ فيكون تأويله : فأبى أكثر الناس إلا كفرا بالله وتكذيبا لنعمه ؛ بصرفهم العبادة إلى غيره ولتفاؤلهم وتطيرهم أن هذا من نوء كذا ، والله أعلم.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٥٤٦).

٣٢

وقوله : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) : هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : لو شئنا لرفعنا عنك ، يعني : ما حملنا عليك من المؤن من مئونة التبليغ والقيام بذلك ، وحملنا غيرك ؛ فيكون عليك أيسر وأهون من القيام بالكل.

والثاني : لو شئنا لجعلنا غيرك ـ أيضا ـ أهلا للرسالة وموضعا لها في زمانك وحينك ، فبعثناه في بعض القرى والمدن ، لكنا لم نجعل غيرك أهلا لها ، وخصصناك لها من بين غيرك من الناس ؛ فهو على الامتنان يخرج والاختصاص له.

ثم لا يخلو ذلك من أن يكون فيهم من يصلح للرسالة ، ويصلح أن يكون أهلا لها وموضعا ، فلم يرسل ، أو كان لم يكن فيهم من يصلح لذلك ؛ فيكون تأويله : لو شئنا لجعلنا فيه من يصلح للرسالة ، ويصلح أن يكون أهلا لها وموضعا ، فأي الوجهين كان ، فهو ينقض على المعتزلة قولهم ؛ لأنه إن كان فيهم من يصلح لها وأرسل كان أصلح له فلم يرسل ، فقد ترك ما هو أصلح له وأخير ، أو أن يكون لا يصلح فيهم أحد لذلك ، لكنه يملك أن يصلحه ويجعله أهلا لها ، فهو أصلح له وأخير ثم لم يفعل ؛ دل أن له ألا يفعل الأصلح والأخير في الدين.

وقوله : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) : فيه وجهان : أحدهما : أنه لا يجوز للرسل النبذ والامتناع عن التبليغ إليهم والقيام بمجاهدتهم ، وإن خافوا على أنفسهم الهلاك ؛ حيث قال : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) ، ولم يكن معهم يومئذ إلا قليل ممن اتبعه ؛ إذ كان ذلك بمكة ؛ لأن سورة الفرقان فيها نزلت.

والثاني : فيه دلالة إثبات رسالته ؛ لأنه أمر بالخلاف لهم ، والقيام بمجاهدتهم بالحجج والآيات ، وهم يعلمون ألا يكون في وسع واحد القيام لذلك لأمثالهم ، وكانت همتهم القتل والإهلاك لمن خالفهم ؛ فعلموا أنه إنما قام لذلك بالله لا بنفسه ؛ إذ لا يملك واحد القيام لذلك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا

٣٣

وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً)(٦٢)

[وقوله] : (وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ).

قال بعضهم (١) : مرج ، أي : خلع ماء المالح على ماء العذب.

وقال بعضهم : (مَرَجَ) : أرسل البحرين أحدهما عذب والآخر أجاج.

وقال بعضهم : (٢) (مَرَجَ) أي : أفاض أحدهما على الآخر.

قال أبو معاذ : العرب تقول : مرجت الدابة إذا خلعتها وتركتها تذهب حيث شاءت ، ومرج الوالي الناس من السجون إذا أرسلهم ، فإذا رعيت دابة في المروج ، قلت : أمرجت دابتي أمرجها إمراجا ، وإنما سمي المرج : مرجا ؛ لأنه متروك للسباع غير معمور ، والممرج الذي يرعى دابته في المرج والدابة الممروجة.

وقال أبو عوسجة : مرج البحرين مرجهما ، أي : خلطهما فهو مارج ، وقال : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) أي : مختلط ، ويقال : مرجت عن كل شيء إذا خلطت ، والله أعلم.

ثم اختلف في البحرين ؛ قال بعضهم (٣) : أحدهما بحر الأرض ، والآخر بحر السماء ، وجعل بينهما برزخا ، أي : حاجزا عن أن يختلط أحدهما بالآخر.

وقال بعضهم : أحدهما بحر السماء ، والآخر بحر تحت الأرض ، وجعل بينهما برزخا وهو الأرض.

وقال بعضهم : بحران على وجه الأرض : أحدهما بحر الروم والآخر بحر الهند.

وقال بعضهم : أحدهما بحر الشام ، والآخر بحر العراق : أحدهما مالح أجاج ، والآخر عذب ، وكان الأجاج هو الذي بلغ في الملوحة غايته ، والفرات هو الذي بلغ في العذوبة غايته ؛ ذكر منته وفضله ولطفه ؛ حيث لم يخلط أحدهما بالآخر ، بل حفظ كلّا على ما هو عليه إلى أن تقوم الساعة ، فعند ذلك يصير الكل واحدا ؛ كقوله : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ).

ثم إن كان أحدهما بحر السماء والآخر بحر الأرض ، وإن كانا بحرين في الهواء ، فالحاجز بينهما ليس إلا اللطف ؛ وكذلك إن كان الثالث ليعلم أن من قدر على حفظ هذا من هذا بلا حجاب ولا حاجز باللطف ، لقادر على إحياء الموتى وبعثهم ، ولا يعجزه

__________________

(١) قاله ابن عباس والضحاك ، وأخرجه ابن جرير عنهما (٢٦٤٢١) و (٢٦٤٢٤) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٣٥).

(٢) قاله مجاهد : أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٤٢٢) و (٢٦٤٢٣) وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٣٥).

(٣) قاله الحسن ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٣٥).

٣٤

شيء ، وله الحول والقوة.

وقال أبو عوسجة : ماء أجاج : شديد الملوحة ، ويقال : أجّ الماء يؤجّ أجّا فهو أجاج ، ويقال : عاج ، أي : ماء روي به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) أي : من النطفة ؛ يخبر عن فضله ومنته وقدرته ولطفه.

أما لطفه وقدرته : فحيث خلق البشر من النطفة ، ولو اجتمع جميع حكماء البشر على أن يعرفوا أو يدركوا البشر من النطفة أو يدركوا كيفيته ـ لم يقدروا على ذلك ؛ دل أنه قادر بذاته لطيف لا يعجزه شيء.

وأمّا فضله ومنته : فما أخبر أنه جعل لهم نسبا وصهرا ؛ أمّا النسب فيه يتعارفون ويتواصلون ما لو لا ذلك ما تعارفوا ولا تواصلوا ، وأما الصهر فلما به يتزاوجون ويوادون ويتوالدون ؛ كقوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً) [النحل : ٧٢] ، وقال : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١] يذكر فضله ومنته ؛ ليتأدى به شكره ؛ ليعلم أن خلق مثل هذا لا يخرج عبثا باطلا بلا محنة ولا عاقبة ، وكأن النسب : ما لا يجري بينهم التناكح والتزاوج ، والصهر : ما يحل ويجري بينهم التناكح والتزاوج.

وفي حرف حفصة : وهو الذي خلق من الماء نسبا وصهرا. قال أبو معاذ : الصهر الفتى وآله ، والختن : أبو المرأة ، والختنة : أم المرأة ، والأختان : آل المرأة وأهلها ، والأصهار ، آل الفتى وأهله.

وقال أبو عوسجة : (وَصِهْراً) من المصاهرة ، وكلهم أصهار من الجانبين جميعا ، والمعروف عندنا : أنه إنما يسمى قرابة الزوج : أختانا ، وقرابة المرأة أصهارا ، وذلك لسان فهو على ما تعارفوه بينهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) أي : يعبدون من دون الله ما يعلمون أنه لا ينفعهم في الآخرة إن عبدوه ، ولا يضرهم في الدنيا إن تركوا عبادته ؛ يذكر سفههم بعبادتهم من يعلمون أنه لا ينفع ولا يضر ، وتركهم العبادة لمن ينفعهم إن عبدوه ويضرهم إن تركوا عبادته ؛ وهو كما ذكر : (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ...) الآية [الروم : ٣٨] ، وأمثال ما ذكر في غير آي من القرآن سفه أولئك بعبادتهم للأصنام ، وتركهم عبادة الله تعالى.

وقوله : (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أي : تأويله ـ والله أعلم ـ : وكان الكافر للكافر ولوليه ظهيرا على من أطاع ربه ، يكون بعضهم ببعض عونا وظهيرا على أولياء الله ، وإلا لا يكون الكافر على الله ظهيرا ، ولكن على أوليائه ، ويكون ذكر الرب على إرادة وليه ومن

٣٥

أطاعه ؛ كقوله : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] ؛ وكقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) [البقرة : ٩] ، ونحو ذلك مما يراد به : أولياؤه لا نفسه.

وقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) : مبشرا لمن أطاعه ، ونذيرا لمن عصاه.

والبشارة : هي الإعلام لما يلحق من السرور والفرح في العاقبة بالأعمال الصالحة.

والنذارة : هي الإعلام لما يلحق من المكروه والمحذور في العاقبة بالأعمال السيئة القبيحة.

وقوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي : ما أسألكم على الدين الذي أدعوكم إليه من أجر ؛ كقوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [القلم : ٤٦] ، أي : لا أسألكم أجرا على ذلك حتى يمنعكم ثقل الغرم عن إجابتي ؛ فعلى ذلك قوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) كان فيه إضمار ، أي : لا أسألكم عليه أجرا إلا من شاء ، ولكن إنما أسألكم أن تتخذوا إلى ربه سبيلا.

أو أن يقول : قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) أي : ولكن من أراد أن يتخذ إلى ربه سبيلا أطاعني وأجابني.

ويحتمل قوله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ) على تبليغ الرسالة إليكم ، وما أدعوكم إليه (مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) فيبرني.

أو أن يكون قوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) فيوادني ؛ كقوله : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى).

وقوله : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) أي : توكل على الله ، والتوكل : هو الاعتماد عليه بكل أمر.

وقوله : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) أي : نزه ربك وبرئه عن الآفات كلها والعيوب ، بثناء تثني عليه وهو التسبيح بحمده.

وقال أهل التأويل : أي صل بأمر ربك ، لكن التأويل ما ذكرنا.

وقوله : (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) أي : كفى به علما بذنوب عباده ، أي : لا أحد أعلم بها منه.

وقوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) : قد ذكرنا هذا.

وقوله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) : قال قائلون : قوله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) لما يسأل عنه محمد ، وذلك أن بعض كفار مكة قالوا : يا محمد ، إن كنت تعلم الشعر فنحن لك ، فقال النبي : «أفشعر هذا؟! إن هذا كلام الرحمن» ، فقالوا : أجل لعمر الله إنه لكلام الرحمن

٣٦

الذي باليمامة هو يعلمك ، فقال النبي : «الرحمن هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما من عنده يأتيني ذلك» ، فقالوا : أيزعم أن الله واحد وهو يقول : الله يعلمني ، الرحمن يعلمني ، ألستم تعلمون أن هذين إلهان ، أو كلام نحو هذا (١).

وجائز أن يكون قولهم : (وَمَا الرَّحْمنُ) لما لا يعرفون الرحمن وعرفوا الله فأنكروا ذلك لما لم يكونوا يسمعون ذلك ، فعرفهم بقوله : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ...) الآية [الإسراء : ١١٠].

أو أن يكونوا يعرفون كل معبود : إلها ؛ وكذلك يسمون الأصنام التي عبدوها : آلهة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعاهم إلى عبادة الرحمن ؛ فظنوا أنه غيره ، فقالوا : فلئن جاز أن يعبد غير الله ، فنحن نعبد الأصنام فلم تمنعنا عن ذلك؟! فأخبر : [أن] الرحمن والإله واحد ليس هو غير ؛ حيث قال : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً ...) إلى آخر ما ذكر ، يقول الله : محال أن يكون الرحمن غير الإله ، بل الرحمن هو الذي جعل في السماء بروجا ، وقد كانوا يعلمون أن الذي جعل في السماء البروج وهي النجوم ، وجعل فيها السراج وهي الشمس والقمر ـ هو الله ، فأخبر أن الرحمن هو ذلك لا غير.

وفي قول بعضهم : إن قوله : (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) الآية من المكتوم ، وفي الآية دلالة أنه ليس من المكتوم ، ولكنه مما يعلم ويفسر ؛ حيث قال : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) ، ولو كان مما لا يعلم لكان لا يأمره أن يسأل به خبيرا ، أو إن أمره بالسؤال لكان لا يحتمل ألّا يخبره ؛ دل ذلك أنه ليس من المكتوم ، ولكنه مما يعلم ، لكن لا يعلمه إلا الخبير ، وهو العالم.

ثم يحتمل : الله أو جبريل أو من يعلمه ، والله أعلم.

وقوله : (فَسْئَلْ بِهِ) : قال بعضهم : بالله.

وقال بعضهم : بالذي سبق ذكره (٢) من قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ).

وقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) قد ذكرناه.

(أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) بالياء والتاء جميعا.

وقوله تعالى : (وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي : زادهم دعاؤه إلى عبادة الرحمن نفورا عن رسول الله.

وقال بعضهم : في قوله : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) يقول : ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك لا شك فيه ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله عطاء بنحوه ، أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٣٨).

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ٥٥٧ ، ٥٥٨).

٣٧

وقوله : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) : قوله : (تَبارَكَ) قد ذكرنا أن بعضهم يقولون : هو من البركة.

وقال بعضهم : من التعالي.

(جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) : هو ما ذكرنا أنه خرج جوابا لقولهم : (وَمَا الرَّحْمنُ) ؛ وكذلك قوله : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) أي : جعل أحدهما خلف الآخر ، إذا ذهب هذا جاء هذا.

(لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي : يذكر الليل والنهار لمن أراد أن يتذكر لمواعظه أو يشكر لنعمه ؛ لأنهما يذكران قدرته وسلطانه ، حيث يقهران الجبابرة والفراعنة ويغلبانهم حيث يظلانهم ويأتيانهم شاءوا ، أو كرهوا لا يقدرون دفعهما عن أنفسهم.

وفيهما دلالة الإحياء والبعث بعد الفناء والهلاك ؛ حيث ذهب بهذا أتى بآخر بعد أن لم يبق من أثره شيء ، فمن قدر على هذا قدر على البعث والإحياء بعد الموت وذهاب أثره.

ويذكران أيضا نعمه وآلاءه ؛ لأنه جعل النهار متقلبا لمعاشهم ومطلبا لرزقهم ، وما به قوام أنفسهم ، وجعل الليل مستراحا لأبدانهم وسكونهم لا قوام للأبدان بأحد دون الآخر ؛ ألا ترى أنه كيف ذكر نعمه فيهما ؛ حيث قال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) الآية [القصص : ٧١] ، وقال : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) الآية [القصص : ٧٢] ، يذكرهم عظيم نعمه فيهما أعني في الليل والنهار ؛ ليتأدى بذلك شكره ؛ فعلى ذلك هذا ما ذكرنا قوله : (جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) النعمة التي جعل لهم.

قال بعضهم : قوله : (خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) أي يكون كل واحد منهما خلفا للآخر فيما يفوت فيه من التذكر والتشكر ، أي : ما فات في أحدهما من التذكر والتشكر يقضى في الآخر.

وقال الحسن قريبا مما ذكرنا ، وقال : من فاته شيء بالليل أدركه بالنهار ، ومن فاته شيء بالنهار أدركه بالليل.

وعلى مثل ذلك روي عن عمر : أن رجلا قال له : يا أمير المؤمنين ، إني لم أدرك الصلاة الليلة ، فقال عمر : «أدرك ما فاتك من ليلك في نهارك ، وما فاتك من نهارك في ليلك» ، ثم قرأ : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً).

وقال بعضهم (خِلْفَةً) من الاختلاف ، أي : يخالف أحدهما الآخر.

ثم يحتمل الاختلاف وجهين :

٣٨

أحدهما : مجيء أحدهما وذهاب الآخر على ما ذكرنا ؛ كقوله : (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ).

والثاني : هو اختلاف اللون من السوار والبياض : أحدهما أسود ، والآخر أبيض ، والله أعلم.

وقوله : (جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) : قال بعضهم : البروج هي النجوم العظام ، والواحد : برج ، وهو قول ابن الأعرابي.

وقال بعضهم : البروج : القصور في السماء ، فيها تنزل الشمس في كل ليلة ، وروي مثل قول عمر عن سلمان أن رجلا قال له : إني لا أستطيع قيام الليل. قال : «إن كنت لا تستطيع قيام الليل ، فلا تعجزه بالنهار».

وذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول : «أصيبوا من الليل ولو ركعتين ولو أربعا».

وذكر لنا أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «والذي نفسي بيده ، إن في كل ليلة ساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله فيها خيرا إلا أعطي له في هذا الليل والنهار ؛ فإنهما مطيتان تقحمان الناس إلى آجالهم ، تقربان كل بعيد ، وتبليان كل جديد ، وتجيئان كل موعود ، حتى يؤدى ذلك إلى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ، ثم يكون مصيرهم إلى الجنة وإلى النار ؛ لتجزى كل نفس بما كسبت».

قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)(٧٧)

وقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) وصف ـ عزوجل ـ هؤلاء

٣٩

الصفوة والإخلاص من عباده أنهم يمشون على الأرض هونا ـ إلى آخر ما ذكر ، وإلا كانوا كلهم عباد الرحمن.

وصف أهل الصفوة منهم والإخلاص والتقى.

وقوله : (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) :

قال بعضهم : حلماء أنقياء بغير مرح ولا بطر.

وقال بعضهم : (هَوْناً) أي : متواضعين ، لا خيلاء ، ولا كبرياء ، ولا مرحا.

وعن الحسن قال : هم المؤمنون قوم ذلل ، ذلت ـ والله الأسماع والأبصار والجوارح حتى يحسبهم الجاهل مرضى ، والله ما بالقوم من مرض ، وإنهم لأصحة القلوب ، ولكن دخلهم من الخوف ما لم يدخل غيرهم.

وفي بعض الأخبار مرفوعا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «المؤمنون هينون لينون كالجمل الدنف ؛ إن قيد انقاد ، وإن أنيخ على صخرة استناخ».

وأصله : أنهم يمشون هونا من غير أن يتأذى بهم أحد ، أو يلحق بأحد منهم ضرر (١) ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) :

قال بعضهم : إذا خاطبهم الجاهلون ، وشافههم السفهاء ، لا يجاهلون أهل الجهل والسفه ، ولكن قالوا : السلام عليكم.

وقال بعضهم : وإذا سمعوا الشتم والأذى قالوا : سلاما ، أي سدادا وصوابا من القول ، وردّا مصروفا أعرضوا عن سفههم وجهلهم بهم ، ولم يكافئوهم ؛ كقوله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ ...) الآية [القصص : ٥٥] ، يخبر ـ عزوجل ـ عن صحبتهم أهل السفه والجهل وحسن معاشرتهم إياهم ، ورفقهم ، فكيف يعاملون أهل الخير والعقل منهم ويصاحبون ، فهذه معاملتهم الخلائق على الوصف الذي وصفه ، ثم أخبر عن صنيعهم لله وركونهم إليه ، فقال (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً).

عن الحسن قال : لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله الذين يبيتون الليل وأيديهم على ركبهم» ، ثم قال : «من صلى ركعتين بعد العشاء ، فقد بات لله تعالى ساجدا قائما».

وقال الحسن : كانوا يبيتون لله على أقدامهم ويفترشون وجوههم سجدا لربهم تجيء دموعهم على خدودهم ، فرقا من ربهم ، وقال : لأمر ما سهر ليلهم ، ولأمر ما خشع له

__________________

(١) زاد في أ : أو معنى.

٤٠