تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

(يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [الشورى : ٤٩].

وقوله : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) : لم تزل النبوة في ذرية إبراهيم من لدنه إلى هذا الوقت ، كان جميع أنبياء بني إسرائيل من ولد إسحاق ، ونبينا محمد ـ صلوات الله عليه ـ كان من ولد إسماعيل ، عليه‌السلام.

وقوله : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) : اختلف في الأجر الذي أخبر أنه آتاه إبراهيم في الدنيا : قال بعضهم : هو ما وهب له من الولد في الكبر.

وقال بعضهم : هو ما سخر له الألسن بأجمعها على الثناء الحسن عليه ؛ حيث نسب جميع أهل الأديان على اختلاف أديانهم ومذاهبهم أنهم على دينه وسنته وسيرته وتولى كل به.

وجائز أن يكون قوله : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) : ما أخبر أنه آتى جميع المؤمنين وأعطاهم ، وهو ما قال : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ) [النحل : ٣٠] ، وما ذكر من ثواب الدنيا ، فما من مؤمن إلا وقد آتاه الله في الدنيا أجرا وثوابا ، فذلك الذي أتى إبراهيم.

أو لا نفسر ما ذلك الأجر الذي ذكر أنه آتاه الله؟ والله أعلم.

وقوله : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) : هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : أنه لو لم يكرمه الله بالنبوة والرسالة لكان هو أيضا في الآخرة من الصالحين.

والثاني : ذكر الصلاح له لحقيقة صلاحه ، أي : يكون هو ممن حقق الصلاح ؛ وكذلك ما ذكر في موسى وهارون حيث قال : (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات : ١٢٢] أي : من عبادنا الذين حققوا الإيمان ، وغيرهم من المؤمنين لم يحققوا.

أو أن يكون ما ذكرنا ، أي : لو لم يكن الإكرام الذي أكرمه الله ـ وهو النبوة ـ لكان من المؤمنين أيضا ، وإلا ليس في ذكر الإيمان والصلاح لهم كبير منقبة وفضيلة عند الناس ؛ إذ يسمى بهذين كل مؤمن ومصلح ، والله أعلم.

وعن ابن عباس (١) في قوله : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) قال : عمله ما جزي في الآخرة.

وقتادة (٢) يقول : آتاه الله عاقبة وعملا صالحا وثناء حسنا ، وقال : فلست تلقى أحدا

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٧٧٣٧) و (٢٧٧٣٨) وابن أبي حاتم وابن المنذر بنحوه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٧٥).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٧٧٣٩).

٢٢١

من أهل الملل إلا يرضى بإبراهيم ، والله أعلم بذلك.

وقال بعضهم : ما ذكرنا : أنه أعطى الولد الطيب في كبر سنه.

قوله تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)(٣٥)

وقوله : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) : كأنه يقول ـ والله أعلم ـ : اذكر لوطا إذ قال لقومه.

ثم ذكره إياه يخرج على وجهين :

أحدهما : أن اذكر نبأ لوط وخبره ؛ ليكون لك آية على رسالتك ونبوتك ؛ إذ يعلمون أنك لم تشاهده ولا شهدت زمنه ، فأخبرت على ما في كتبهم ليعرفوا أنك إنما عرفت ذلك بالله.

والثاني : اذكره : أن كيف صبر على أذى قومه ، وكيف عامل قومه مع سوء صنيعهم من ارتكاب الفواحش والمناكير وسوء معاملتهم إياه ، فاصبر أنت على أذى قومك وسوء معاملتهم إياك.

هذا ـ والله أعلم ـ يشبه أن يكون معنى ذكر لوط إياه ، وعلى هذا يخرج قوله : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ) [العنكبوت : ١٦] أي : اذكر إبراهيم ونبأه : أن كيف عامل قومه؟ وما ذا قال لهم؟ وكيف صبر على أذاهم؟ فتعامل أنت قومك مثله ، واصبر على أذاهم كما صبر أولئك ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) : قال لهم : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) ، ثم لم يتهيأ لهم أن يعارضوا لقوله : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) ، بل قد كان سبقنا بذلك أحد ، فكان في ذلك وجهان :

أحدهما : أن يكون ذلك آية لرسالته ، وأنه إنما علم بالله : أنه لم يسبقهم بها أحد كما

٢٢٢

ذكر.

والثاني : أنهم يعبدون الأصنام ويرتكبون فواحش ، ويقولون : (بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [الشعراء : ٧٤] وإن الله أمرهم بذلك ، ليعلم أنهم كذبة في قولهم : إن آباءهم على ذلك ، حيث أخبر أنهم لم يسبقهم بها من أحد ، ولو كان آباؤهم على ذلك لذكروه وعارضوه ، فإذا لم يفعلوا ولم يشتغلوا بشيء من ذلك ، علم أنهم كذبة فيما يقولون ، والله أعلم.

وقوله : (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) : هو ما ذكرنا : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦٥].

وقوله : (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) : قال بعضهم (١) : أي : تعترضون الطريق لمن مر بكم لعملكم الخبيث ؛ لأنه ذكر أنهم إنما كانوا يعملون ذلك بالغرباء.

وقال بعضهم : (وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) أي : تقطعون السبيل على الناس ؛ من قطع الطريق.

(وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) أي : وتعملون في مجلسكم المنكر.

اختلف في هذا :

قال بعضهم (٢) : أي : تعملون في مجلسكم اللواطة أيضا.

وقال بعضهم (٣) : حذف بالحصى ورمي بالبندق وأمثاله.

لكنه يخبر عن سوء صنيعهم في كل حال وكل وقت ، يقول : إنكم تعملون بالفواحش والمناكير في كل حال : في الطريق ، وفي المجلس ، وفي المنزل ، ما سبقكم بذلك كله من أحد من العالمين ، والله أعلم.

ثم قال : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) ، وقال في موضع آخر : (إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [الأعراف : ٨٢] ، وقال في موضع آخر :

__________________

(١) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٧٤١) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٧٦).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٧٥٠) و (٢٧٧٥٤) ، والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٧٦).

(٣) ورد في معناه حديث عن أم هانئ ، قالت : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قوله : «وتأتون ..» الآية قال : كانوا يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم فهو المنكر الذي كانوا يأتون.

أخرجه ابن جرير (٢٧٧٤٣ ، ٢٧٧٤٥) ، والفريابي وأحمد وعبد بن حميد والترمذي وحسنه ، وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت وابن المنذر وابن أبي حاتم والشاشي في مسنده ، والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان ، وابن عساكر كما في الدر المنثور (٥ / ٢٧٦) ، وهو قول عكرمة والسدي.

٢٢٣

(لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) [الشعراء : ١٦٧] ، هذه الآيات في الظاهر بعضها مخالف لبعض ؛ لأنه يقول في بعضها : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) ، وفي بعضها : (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [الأعراف : ٨٢] ، وفي بعضها : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [النمل : ٥٦] ـ فهو يخرج على وجوه :

أحدها : أن يكون قوله : (إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] ، و (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) [النمل : ٥٦] إنما ذلك فيما بينهم يقول بعضهم لبعض : أخرجوهم ، وقوله : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) إنما قالوا ذلك للوط ، فإذا كان كذلك فليس في الظاهر فيه خلاف.

والثاني : فما كان جواب قومه في مشهد وفي وقت إلا كذا ، وقد كان منهم له أجوبة أخر سواها في غير ذلك المشهد وفي غير ذلك الوقت.

أو أن يكون قوله : فما كان آخر جواب قومه إلا أن قالوا : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) بنزول العذاب علينا ، إنما قالوا ذلك له استهزاء وتكذيبا.

ثم دعا لوط ربه فقال : (رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) فأجيب.

وقوله : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) : يحتمل البشرى : بشارة بالولد في كبر سنه وسن زوجته ما لم يطمع من أمثالهما الولد إذا بلغوا ذلك الوقت ، وهو ما ذكر : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) [هود : ٧١]. ويحتمل غيره.

(قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ).

وقال في آية أخرى : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ) [هود : ٧٠] ، ولم يذكروا فيه بم أرسلوا؟ وبين في هذا ، ثم قال إبراهيم : (إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ) ففي الآية الدليل من وجهين :

أحدهما : يخرج الخطاب على العموم والمراد منه الخصوص ؛ لأن الملائكة قالوا عامّا : (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) ، ولم يكن الأمر بإهلاك كل أهل القرية ، ثم استثنوا لوطا وأهله بعد ما قال إبراهيم : (إِنَّ فِيها لُوطاً) حيث قالوا : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ).

والثاني : فيه جواز تأخير البيان حيث لم يبينوا إلا بعد سؤال إبراهيم إياهم.

وفيه وجه آخر في امتحان الملائكة بمختلف الأشياء ؛ لأن هؤلاء أمروا بالبشارة ، وأمروا بإهلاك قوم لوط ؛ ليعلم أنهم يمتحنون بمختلف الأشياء ، والله أعلم.

وقوله : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) : روي عن أم هانئ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال في قوله : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) قال : «كانوا يحذفون أهل الأرض ويسخرون

٢٢٤

منهم» (١) ، فإن ثبت هذا كان تفسيرا له لا يحتاج إلى غيره.

والنادي : قال أبو عوسجة : المجلس ، وأندية جماعة ؛ وكذلك قال القتبي (٢).

قال أبو معاذ : الندي والنادي لغتان ، فجمع النادي : أندية ، وجمع الندي : ندى وندي (٣) ؛ كقراءة بعض الناس في سورة مريم : (أَحْسَنُ نَدِيًّا) [مريم : ٧٣] أي : مجالس ، وقراءة العامة : (نَدِيًّا) مجلسا ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) : ظاهر هذا أنه سيئ بالواقع من الفعل بهم ، لكن ساء ظنه أنهم يفعلون بهم لما يعلم من قومه الخبيث من العمل (٤).

(وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) هذه كلمة تتكلم بها العرب عند انقطاع جميع الحيل ، فلوط إنما قال ذلك لما لم ير لنفسه حيلة يدفع بها شرهم ، وما قصدوا بهم ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ) [هود : ٨٠].

(وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) هذا يدل على أنهم قد قصدوا هم لوطا بالهلاك ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى (لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) [هود : ٨١] دل هذا أنهم قد قصدوه بالهلاك حتى قالوا : (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) وأنهم إنما أرادوا بالإخراج بقولهم : (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) [الشعراء : ١٦٧] إخراج قتل ؛ إذ لو كان إخراجا من القرية لا بقتل ، لكان لا يكون له النجاة منهم والأمن ، والله أعلم.

وقوله : (إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) وفي بعض الآيات : (إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) [الحجر : ٦٠] والغبور فعلها ، ثم أخبر أنه قدر ذلك ؛ دل أن أفعال العباد مخلوقة لله مقدرة له ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) أي : عذابا ، والرجز : اسم كل عذاب فيه شدة ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود : ٧٧] أي : شديد.

ثم ذكر أنه ينزل من السماء ، فإن ثبت ما ذكر أن جبريل أدخل إحدى جناحيه تحت الأرض فرفع بها قريات لوط إلى السماء حتى سمع أهل السماء صياحهم وضجتهم ، ثم أرسلها ـ فهو نزول العذاب من السماء ، وأن قوله : (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [هود : ٨٢] أن السجيل لو كان مكانا منه ينزل فهو في السماء ؛ على ما يقول بعض الناس إنه مكان.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٣٨).

(٣) ينظر : اللباب (١٥ / ٣٤٤ ، ٣٤٥).

(٤) ثبت في حاشية أ : من العمل الخبيث ، وقد رآهم في حسن المنظر ؛ فكره حضورهم ؛ لكيلا تلحقهم من جهتهم سوء ، وضاق بهم. شرح.

٢٢٥

وقال بعضهم : هو اسم ذلك الحجر ، والله أعلم (١).

وقوله : (وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) آية بينة لمن عقل وعرف السبب الذي أهلك قريات لوط ؛ كقوله : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٧ ، ١٣٨] لما ذا أهلكوا؟ أي : تعقلون هذه الأنباء والقصص التي ذكرها الله ـ تعالى ـ في القرآن الكريم ، وكررها ، وأعادها مرة بعد مرة ؛ لأن الأنباء والقصص إنما تذكر للحجاج على الكفرة ، فتكرر وتعاد ؛ ليحتج بها عليهم ، وأمّا الأحكام فإنما هي لأهل الإسلام خاصّة ، فهم يطلبون ما عليهم من الأحكام ؛ فلا تقع الحاجة إلى التكرار والإعادة.

ثم الكفرة كانوا على أصناف ثلاثة ، منها : أهل العناد والمكابرة ، وأهل شك وحيرة ، وأهل استرشاد.

ومن كان همته الاسترشاد يؤمن بها بالبداهة ، وفي أوّل ما وقع في مسامعهم ؛ فلا تقع الحاجة إلى التكرار والإعادة.

وأمّا أهل العناد والمكابرة فإنها تكرر عليهم لعلها تنجع فيهم فيؤمنوا بها ، وهذه الآيات كانت آيات وحججا للتوحيد ، والبعث ، والرسالة ، وعلى ذلك جاءت الرسل بالدعاء إلى التوحيد ، وإلى الإقرار بالبعث والإيمان به ، وإلى الإيمان بالرسل ؛ فشعيب ـ عليه‌السلام ـ جمع هذه الخصال الثلاث في قوله : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [العنكبوت : ٣٦] دعاهم إلى التوحيد بقوله : (اعْبُدُوا اللهَ) وفيه نهي عن عبادة من دونه ، ودعاهم إلى الإيمان بالبعث بقوله : (وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) أي : خافوا عذاب ذلك اليوم ، ونهى عن جميع المعاصي بقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) قد ذكرنا هذا.

قوله تعالى : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : ويحتمل قوله : (حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) : أن السجيل لمكان في السماء ، ينزل منه الحجارة ، كذلك قال بعض الناس : فهو نزول العذاب من السماء. وإن كان السجيل هو الطين المطبوخ ، فيكون السجيل بيانا لنوع من الحجارة ، فهو اسم الحجر ، والحجر ينزل من السماء أيضا ، فيكون العذاب واقعا ، والله أعلم بالصواب. شرح.

٢٢٦

وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٠)

وقوله : (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً) أي : أرسلنا إلى مدين أخاهم شعيبا ، ومدين : قال بعضهم : اسم رجل نسبوا إليه.

وقال بعضهم : اسم موضع ، وقد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله : (وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) : أن الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ قد خوفوا الكفرة بعذاب ينزل بهم في الآخرة بتكذيبهم إياهم وعنادهم ، فلم ينجع ذلك فيهم ، ولم يرتدعوا عما هم فيه ، حتى أوعدوهم بعذاب ينزل بهم في الدنيا ، فلم ينجع ذلك ولم يمتنعوا عن ذلك ، حتى أوعدوهم بنزول ما قد شاهدوا وعاينوا من آثار من قد أهلكهم بتكذيبهم الرسل وردهم إجابتهم ، وهو ما قال : (وَعاداً وَثَمُودَ) أي : أهلكنا عادا وثمود (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي : قد تبين لكم من مساكنهم ما تعرفون أنهم إنما أهلكوا بالذي أنتم عليه ، وهو التكذيب ، والردّ بأخبار تصدّقونها ، وبآثار تشاهدونها ، وهو كما قال : (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ. وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) [الصافات : ١٣٨ ، ١٣٩] والله أعلم.

وقوله : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) أي : زين لهم الشيطان أعمالهم كما زين لكم ، وصدّهم عن السبيل كما صدكم.

(وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) اختلف فيه :

قال بعضهم : أي : وكانوا يحسبون أنهم على هدى وحق.

وقال بعضهم : (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي : كانوا عالمين بأن العذاب ينزل بهم بما شاهدوا وعاينوا من آثار من تقدمهم ، وعلمهم بأنهم إنما أهلكوا بالذي هم عليه ، لكنهم عاندوا.

وقال بعضهم : (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي : هالكين في الضلالة.

وقال بعضهم : (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي : كانوا بصراء علماء في أنفسهم ، يعرفون الحق من الباطل ، ليس كغيرهم من الأمم ؛ ألا ترى أنهم قد طلبوا من رسلهم الحجة ، والآية على ما يدعون إليه حيث قالوا : (يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ) [هود : ٥٣] وقال قوم صالح : (فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء : ١٥٤] ونحوه.

وقال قتادة : (١) (مُسْتَبْصِرِينَ) أي : معجبين بضلالتهم.

وقوله : (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) أي : أهلكنا قارون وفرعون وهامان بتكذيبهم

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٧٧٦٧) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٧٨).

٢٢٧

موسى ، فتهلكون أنتم يأهل مكة بتكذيبكم محمدا.

وقوله : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) أي : كذبوا بعد ما جاءهم موسى بالبينات على نبوته ورسالته كما جاءكم محمد.

وقوله : (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) جائز أن يكونوا استكبروا ، وأبوا أن يخضعوا لموسى.

أو (فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : سعوا في الأرض بالفساد تكبرا واستكبارا (وَما كانُوا سابِقِينَ) أي : فائتين من عذاب الله.

وقوله : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) أي : الحجارة ، وهم قوم لوط ، وقوم هود أهلكوا بالريح العاصف ؛ حيث قال : (وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ* ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) [الذاريات : ٤١ ، ٤٢].

قال أبو معاذ : الحاصب عند العرب : الريح التي فيها الزنانير ، وهي صغار من الحصى (١) (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) وهم قوم صالح وقوم شعيب وهؤلاء (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) قارون وأصحابه (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) قوم نوح وفرعون.

يذكر إهلاك هذه الأمم والجبابرة لأهل مكة ولغيرهم من الكفرة ، وقد تواترت عليهم بذلك الأخبار ، وظهرت الأعلام والآثار ليرتدعوا عما هم عليه ، ولئلا يعاملوا رسولهم كما عامل أولئك رسلهم فيعذبون كما عذب أولئك.

وقوله : (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) في تعذيبه إياهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث كذبوا الرسل ، وكابروا آيات الله وحججه وبراهينه وعاندوها ، والله أعلم.

قال أبو عوسجة : قوله : (سِيءَ) [هود : ٧٧] أي : اغتم من ذلك ؛ يقال : سئت بفلان أساء سوءا ؛ فأنا مسوء.

وقوله : (جاثِمِينَ) أي : لزقوا بالأرض.

(وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) أي : قد علموا ، والمستبصر : العالم.

وقوله : (أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) أي : صيح بهم فماتوا.

قوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ

__________________

(١) ينظر : غريب القرآن لابن قتيبة (٣٣٨).

٢٢٨

الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ)(٤٥)

والعنكبوت : هذه التي تغزل ، وهي دويبة كثيرة القوائم ، وعناكب : جمع.

وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) يشبه أن يكون ضرب مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء ببيت العنكبوت هم الرؤساء منهم والمتبوعون. يقول ـ والله أعلم ـ : مثل اتخاذكم أولئك أولياء من دون الله وما تأملون منهم كمثل بيت العنكبوت ، لا ينفع ولا يغني ما يؤمل من البيت من دفع الحرّ والبرد وغيره ، فعلى ذلك اتخاذكم واتباعكم هؤلاء أولياء من دون الله مثل ما ذكر ، لا ينفع ولا يغني ولا يدفع عنكم ما ينزل بكم ، وهو ما قال : (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ ...) الآية [العنكبوت : ٢٥] ، ظاهر ما ذكر من الأولياء أن يكون المتبوعون منهم.

وجائز أن تكون الأصنام التي اتخذوها آلهة ، ضرب مثل عبادتهم الأصنام واتخاذهم إياها آلهة ببيت العنكبوت ، وذلك أن العنكبوت اتخذت البيت رجاء أن تنتفع به كما ينتفع بالبيوت في دفع الحر والبرد ، والستر والحجاب ، فلما أن وقعت الحاجة إليه لم تنتفع ما كان تأمل منه في شيء مما كانت تأمل ، فعلى ذلك هؤلاء الذين اتخذوا الأصنام آلهة ومعبودا ؛ رجاء أن ينفعهم ذلك يوما ، فلما أن وقعت لهم الحاجة لم يجدوا ما كانوا يأملون من عبادتهم إياها واتخاذهم آلهة ؛ بل في بيت العنكبوت للعنكبوت شيء من المنفعة ، وليس لأولياء العبدة لتلك الأصنام شيء مما كانوا يأملون ، فهي دون بيت العنكبوت في المنفعة ، لكنه ـ والله أعلم ـ ضرب مثلها ببيت العنكبوت ؛ لما لا شيء أوهن وأضعف عند الخلق من بيتها ، وهو ما شبه أعمال الكفرة برماد اشتدت به الريح ، وبسراب بقيعة ؛ لما ليس شيء أضيع ولا أبعد في الوجود والقدرة عليه في الوهم مما ذكر ؛ فيشبه أعمالهم به ، فعلى ذلك تشبيه اتخاذ أولئك الأصنام آلهة وأولياء من دون الله ببيت العنكبوت ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) أي : أضعف وأبعد من المنفعة بيت العنكبوت ، فعلى ذلك عبادتهم الأصنام واتخاذهم إياها معبودا أوهن وأبعد مما يأملون (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) أي : إن كانوا يعلمون ضعفها وعجزها ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [هو] ـ والله أعلم ـ : أن الله لم يزل عالما بما يكون منهم من اتخاذهم الأصنام معبودا ، وأنه عن علم أنشأ لهم ذلك لا عن

٢٢٩

غفلة وسهو ، لكن أنشأهم لمنافع أنفسهم ولحاجة لهم لا لحاجة ومنفعة له في إنشائه إياها ، وهو ما قال : (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [العنكبوت : ٦] وقال هاهنا : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) العزيز : قيل : إنه المنيع.

وقيل : إنه الذي يذل كل شيء دونه.

لكن العزيز عندنا : هو الذي لا يعلو سلطانه شيء ، ولا يقهر ملكه شيء ، ويعلو سلطانه وإرادته على جميع الأشياء ويقهرها.

والحكيم : قيل : الذي له الحكم.

وقيل : هو المصيب.

وقيل : هو الذي يضع كل شيء موضعه.

والحكيم عندنا : هو الذي لا يلحقه الخطأ في التدبير ، والله أعلم.

وقوله : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) فإن قيل : ذكر أنه لا يعقلها إلا العالمون ، والعقل يسبق العلم بالشيء ؛ إذ بالعقل يعلم ما يعلم ، فكيف ذكر أنه لا يعقل إلا العالمون ، ولم يقل : وما يعلمها [إلا] العاقلون؟ فهو ـ والله أعلم ـ لوجوه :

أحدها : أن الأمثال إنما تضرب لتقريب ما يبعد عن الأوهام ، ولكشف ما استتر من الأشياء على الأفهام وتجليها عما خفيت فلا يعقل الأمثال أنها لما ذا ضربت؟ ـ إلا العالم.

والثاني : أن العقول تعرف أسباب الأشياء ودلائلها ، فإما أن تعرف حقائق الأشياء وأنفسها فلا ، من نحو المسالك والطرق إلى البلد التي تعرف مسالكها وطرقها التي بها يوصل إليها ، فأما أعينها فلا ، وكذا المراقي التي بها يعلو ويرتفع ، فأمّا عين العلوّ فلا ، وأما العلم فإنه يوصل إلى معرفة حقائق الأشياء وأنفسها وصورها ؛ لذلك كان ما ذكر.

والثالث : أن يكون قوله : (وَما يَعْقِلُها) أي : وما ينتفع بما ذكر إلا العالمون ، وهو كما قال : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] نفى عنهم هذه الحواس وإن كانت لهم أنفس تلك الحواس لما لم يستعملوها فيما جعلت وأنشئت ، ولم ينتفعوا بها ، فنفى عنهم تلك ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) أي : ما ينتفع بما يعقل إلا العالم ، فأما من لم ينتفع فلا يعقل ، والله أعلم.

وقوله : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) يحتمل قوله : (بِالْحَقِ) أي : لعاقبة ، وهو البعث ؛ لأنه لم يخلقهما لأنفسهما ، وكذلك لم يخلق الدنيا للدنيا ، ولكن إنما خلقها للآخرة ؛ إذ بالآخرة يصير خلقها حكمة وحقّا ؛ لأنه لو لم يكن خلقها لعاقبة كان خلقها

٢٣٠

عبثا باطلا ، وهو ما قال : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [ص : ٢٧] لا كافر يظن أنه خلقهما باطلا ، ولكن تركوا الإيمان بالبعث وأنكروا البعث ؛ كأنهم ظنوا أنه خلقهما باطلا ؛ إذ لو لا البعث كان خلقهما باطلا عبثا فإنما صار خلقهما حقّا وحكمة بالبعث ، فإذا أنكروا ما به صار خلقه إياهما حكمة وحقّا ـ فقد ظنوا الباطل بخلقهما ، فنسأل الله التوفيق والصواب.

ويحتمل قوله : إنه خلقهما ؛ لتدلا على الحق ؛ لأنهما تدلان على وحدانية الله وربوبيته وتعاليه عن الأشباه والشركاء وجميع الآفات.

أو أن يكون بالحق الذي لله عليهم.

أو بالحق الذي لبعضهم على بعض ، والله أعلم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) صير آية لمن أقر بها وآمن ؛ إذ هو المنتفع بها ، فأمّا من أنكر وجحد وكذبها فهو آية عليه لا له ، والله أعلم.

وقوله : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ) جائز أن يكون قوله : اتل ما أوحي إليك من الكتاب ، وأقم به الصلاة أي : بالكتاب الذي أوحي إليك.

ويحتمل : اتل ما أوحي إليك من الكتاب عليهم ، وأقم بهم الصلاة ؛ فالخطاب وإن كان لرسول الله فهو لكل أحد ؛ على ما ذكرنا في سائر المخاطبات ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ، هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : على الامتنان.

والثاني : على الإلزام.

فأما وجه الامتنان : فهو أن جعل لكم الصلاة لتمنعكم عن الفحشاء والمنكر ما لو لم يجعلها لكم لا شيء يمنعكم عن الفحشاء والمنكر ؛ فيمنّ عليهم بجعل الصلاة لهم ؛ لما تمنعهم عما ذكر.

وأما وجه الإلزام : فإنه يخرج على وجهين :

أحدهما : أن الصلاة لو كان موهوما منها النطق والنهي ، لكانت تنهى عن الفحشاء والمنكر ؛ على ما أضاف التغرير والتزيين إلى الحياة الدنيا ؛ أي : لو كان هذا الذي كان من الدنيا ، كان ممن له التغرير ـ كان ذلك تغريرا ؛ فعلى ذلك الصلاة لو كان منها حقيقة الأمر والنهي لكانت تنهى عن الفحشاء والمنكر.

والثاني : أضيف النهي إلى الصلاة ؛ لما بها يعرف ذلك ، فقد تضاف الأشياء إلى الأسباب وإن لم يكن منها حقيقة ما أضيف إليها ؛ نحو ما يضاف الأمر والنهي إلى الكتاب

٢٣١

والسنة ونحوه ؛ يقال : أمرنا الكتاب بكذا ، والسنة بكذا ، ونهانا عن كذا ، وإن لم يكن منهما أمر حقيقة ولا نهي ؛ لما بهما يعرف الأمر والنهي ، وهما سببا ذلك ؛ فعلى ذلك جائز إضافة النهي إلى الصلاة أن يكون على هذا السبيل.

وقوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) اختلف فيه :

قال بعضهم (١) : ذكر الله أكبر في العبادات من أنفس تلك العبادات.

ووجه هذا ـ والله أعلم ـ :

أن العبادات إنما تكون بجوارح تغلب وتقهر وتستعمل ؛ فلا تعرف تلك أنها لله إلا بتأويل.

وأمّا ذكر الله إنما يكون باللسان والقلب ، وهما لا يغلبان ، ولا يستعملان ولا يقهران ، فهو يعرف أن ذلك لله حقيقة ، فهو أكبر.

وقال بعضهم : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) من سائر الأذكار التي ليست لله ؛ فهذا ليس فيه كبير حكمة ؛ لأن ذلك يعرفه كل أحد.

وقال بعضهم : ذكر الله أكبر في النهي عن الفحشاء والمنكر من الصلاة.

وقال بعضهم (٢) : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه ؛ لأن ذكره إياكم رحمة ومغفرة ، وذلك مما لا يعدله ولا يوازيه شيء ، وأما العبد فإنه يذكر ربه بأدنى شيء.

وقال بعضهم : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) : أي : ما وفق الله العبد من ذكره إياه وطاعته له أكبر من نفس ذلك الذكر ونفس تلك العبادة.

وذكر في حرف ابن مسعود وأبيّ وحفصة : إن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر.

وعن الحسن يحدث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا ، ولم يزدد بها عند الله إلا مقتا» (٣).

وعن سلمان الفارسي قال : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه (٤).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : لهذا وجهان :

__________________

(١) قاله أبو مالك ، أخرجه ابن جرير (٢٧٨١٤) وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٨٠).

(٢) قاله عكرمة ومجاهد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٧٧٩٥) و (٢٧٧٩٨) ، وهو قول ابن عباس ، كما سيأتي.

(٣) أخرجه عبد بن حميد وابن جرير (٢٧٧٨٥) ، والبيهقي في الشعب ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٧٩).

(٤) أخرجه ابن جرير (٢٧٨٠٠) و (٢٧٨٠٢).

٢٣٢

أحدهما : يقول : ذكر الله أكبر مما سواه من أعمال البر.

والآخر (١) : يقول : ذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه.

والضحاك يقول : العبد يذكر الله عند ما أحل له وحرم عليه ، فيأخذ بما أحل ويجتنب ما حرم عليه.

وقتادة يقول : لا شيء أكبر من ذكر الله (٢).

وأصله ما ذكرنا من الوجوه التي تقدم ذكرها.

وقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) قال بعضهم : تنهى وتمنع ما دام فيها لا يعمل بالفحشاء والمنكر.

والثاني : أن الصلاة تأمر بالمعروف وتنهى عن الفحشاء والمنكر ؛ أي : لو كانت لها النطق والأمر والنهي لكانت تنهى عما ذكر.

والوجه فيه ما ذكرنا بدءا ، والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) وعيد ؛ ليكونوا أبدا على حذر ويقظة.

قوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ)(٤٩)

وقوله : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) الآية تخرج على وجوه ثلاثة :

أحدها : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) إلا الذين ظلموا منهم فلا تجادلوهم بالتي هي أحسن ولا غيره ، وهم الذين لا يقبلون الحجة ، ولا يؤمنون إذا لزمتهم الحجة ، وهم أهل عناد ومكابرة ، والأوّلون يقبلون الحجة ، ويؤمنون بها.

والثاني : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ؛ فقوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ليس على الثنيا من الأوّل ، ولكن على الابتداء ؛ كأنه قال : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) قولوا : (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا ...) إلى آخر ما ذكر ؛ أي : قولوا لهم هذا ، ولا

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٧٧٨٩ ـ ٢٧٧٩٤) ، و (٢٧٧٩٧) و (٢٧٧٩٩) و (٢٧٨٠٥) ، والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الإيمان من طرق عنه.

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٧٨١٠) ، وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٨١).

٢٣٣

تجادلوهم ؛ فإنكم وإن جادلتم إياهم فلا يؤمنون ، وهو كقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي) [البقرة : ١٥٠] قوله : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ) ليس على الثنيا من الأول ، ولكن ابتداء نهي ؛ أي : لا تخشوهم واخشوني ، فعلى ذلك يحتمل الأول مثله.

والثالث : جائز أن يكون قوله : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ ...) إلى آخر ما ذكر : هي المجادلة الحسنة التي أمروا بها ؛ لأن تلك مما يقبلها العقل والطبع ، وبها جاءت الكتب والرسل ؛ فلا سبيل إلى ردّ ذلك.

وقال بعضهم : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : جادلوا الذين يصدّقون منهم ولا يكتمون نعت محمد وما في كتبهم من الحق ، فأمّا الذين تعلمون أنهم يكتمون ولا يصدّقون فلا تجادلوهم ، وهو كقوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣] والأوّل كقوله : (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ ...) الآية [آل عمران : ٦٤] ، والمجادلة الحسنة هي التي جاء بها الكتاب ويوجبها العقل.

ثم فيه دلالة جواز المناظرة والمجادلة مع الكفرة في الدين ، وكذلك ـ قوله تعالى ـ : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ليس كما يقول بعض الناس : إنه لا يجوز معهم المناظرة ، وذلك لجهلهم بحجج الإسلام وبراهينه ؛ [على] ما ينهون عن المجادلة والمناظرة معهم.

وقال بعضهم (١) : من لا عهد معهم فجادلهم بالسيوف ، ومن كان معه عهد وكتاب فجادلهم بالحجج.

وقال بعضهم (٢) : هو منسوخ بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) الآية [التوبة : ٢٩].

ومنهم من يقول : من أدّى إليكم الجزية فلا تغلظوا له القول وقولا لهم قولا حسنا ، ومن لم يؤدّ فاغلظوا لهم وجادلوهم بالسيوف ، والله أعلم.

وقوله : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) أي : كما أخبرناك في الكتاب ، فقل لهم ، أو جادلهم.

وقوله : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) يخرج على وجهين :

أحدهما : الذين آتيناهم الكتاب فيتلونه حق تلاوته ، فهم يؤمنون به ؛ على ما ذكرنا في آية أخرى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [البقرة : ١٢١] فتكون

__________________

(١) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٨٢٠).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٧٨٢٢).

٢٣٤

هذه الآية تعريفا للأولى ، وأمّا من لم يتله حق تلاوته فلا يؤمنون به.

والثاني : فالذين آتيناهم الكتاب وانتفعوا به ؛ أي : يؤمنون بالذى أوتوا من الكتاب.

(وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) يحتمل قوله : (وَمِنْ هؤُلاءِ) أي : من أهل مكة من يؤمن به ، وقد آمن كثير منهم.

وجائز أن يكون ذلك إلى قوم كانوا بحضرته ، فقال : (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) ، والله أعلم.

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ) قال قتادة : لا يكون الجحد إلا بعد معرفة أن اليهود والنصارى عرفوه كما عرفوا أبناءهم ، لكنهم جحدوه ، وكل من أنكر شيئا فقد جحده ؛ عرفه أو لم يعرفه.

وقوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) تأويله ـ والله أعلم ـ : أي : ما كنت تتلو من قبله ـ أي : من قبل هذا الكتاب ـ من كتاب ، ولو كنت تتلو لارتاب المبطلون فيقولون : إن ما أنبأتهم من الأنباء المتقدمة أو كلام الحكمة إنما تلقفت وأخذت من تلك الكتب المتقدمة أو كتب الحكماء ، ولو كنت تخطه بيمينك يقولون : إن ذلك من تأليفك ووصفك ؛ لأن القرآن حجة عليهم من وجهين :

أحدهما : ما ذكر فيه من الأنباء المتقدمة المترجمة بغير لسان المتقدم ما علموا بأجمعهم أن رسول الله ـ صلوات الله عليه ـ كان لا يعرفها بمترجم ولا شهدها هو ، ثم أنبأهم على ما كان ، فعلموا أنه بالله عرفها.

والثاني : هو آية معجزة نظما ووصفا ما يعملون أنه ليس من نظم البشر ولا وصفه ، فيقول : ما كنت تتلو من قبله كتابا فيه تلك الأنباء والحكمة ولا تخطه بيمينك ؛ فيقولون : هو من تأليفك أو من نظمك ، فلو كنت كذلك إذن لارتاب المبطلون بما ذكرنا على عناد منهم ومكابرة ، ولا يرتاب المحقون ، وإن كان كما ذكر ؛ لما عرفوا صدقه بأشياء وبآيات كانت فيه.

وقال بعضهم في قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) يقول : قبل القرآن (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) أي : لا تكتبه بيدك ، ولو كنت تقرأ كتابا من قبله أو كنت تكتب بيدك إذن لارتاب المبطلون ؛ يقول : لا تهموك ؛ هذا قد ذكرناه ، ولكن نقول في قوله : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بل هو اليقين أنك لا تقرؤه ، أو لا تكتبه عند الذين أوتوا العلم ، وهم مؤمنو أهل الكتاب من نحو عبد الله بن سلام وأصحابه.

وقوله : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يحتمل القرآن ؛ إذ فيه آيات

٢٣٥

وحدانية الله وحججه ، وآيات البعث وحججه وآياته.

ويحتمل قوله : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من أول ما نشأ إلى آخر أمره آية ؛ لما ذكر من النور في وجه أبيه ما دام في صلبه ، ثم في وجه أمه ؛ إذا وقع في رحمها ، ثم من ضياء الليلة التي ولد فيها ، ثم من ظل السحاب الذي أظله وقت ما خرج من وطنه ، وأمثال ذلك كثير ما لا يقدر إحصاؤه ، والله أعلم.

فذلك كله يدل على رسالته ونبوته ، لا يرتاب فيه إلا المبطل المعاند المكابر.

وقوله : (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) جائز أن يكون قوله : (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : أوتوا منافع العلم ، أي : هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا منافع العلم ، فأمّا من لم يؤت منافع العلم فلا.

وقوله : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) يحتمل : الظلم : ظلم الآيات ، لم يضعوها في موضعها.

ويحتمل : الظالمون : الكافرون.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٥٥)

وقوله : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) وفي بعض القراءات : آية من ربه على الوحدان ؛ فكأنهم سألوه مرة آية ؛ كقوله : (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) [الشعراء : ٤] وإنما ينزل إذا شاء بعد السؤال ، ومرة سألوه آيات ؛ كقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) [الفرقان : ٧ ، ٨] ، وكقولهم : (أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً ...) الآية [الإسراء : ٩١] ، ونحوها من الآيات التي سألوها ، فمرّة سألوه آيات ، ومرة سألوه آية ، فقول من قال : أختار قراءة (آياتٌ) على قراءة آية) محال إذا ثبت أنه قراءة ، فأخبر ـ عزوجل ـ على ما كان منهم ، والله أعلم.

وقوله : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) أي : من عنده تجيء الآيات ؛ فكأنهم سألوه آيات

٢٣٦

قاهرة تقهرهم وتضطرهم على القبول والإقبال إليه الآيات يكون في ذلك وجه الاختيار ، لكن سؤال عناد ومكابرة ، لا سؤال استرشاد واستهداء فقال : إن الله قد عفا عن هذه الأمة عن إنزال ما به هلاكهم على أثر سؤال العناد والمكابرة ، وإن كان في غيرها من الأمم السالفة ينزل عليهم الهلاك والعذاب على إثر سؤال العناد ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : وإنما أنا نذير من الله مبين : أن الله أمرني بذلك وأرسلني إليكم.

والثاني : (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : ليس عليّ إلا الإنذار لكم أبين النذارة ، فأمّا غير ذلك فليس عليّ ؛ كقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ...) الآية [الأنعام : ٥٢] ، ونحوه.

وقوله : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) هذا يدل أنهم إنما سألوا سؤال عناد واستهزاء ، لا سؤال استرشاد ؛ حيث قال : إن فيما أنزل عليهم من الكتاب كفاية لمن كانت همته الاسترشاد والإنصاف ، فأما من كانت همته العناد والمكابرة فلا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً) أي : فيما أنزل من الكتاب عليك لرحمة ، أي : رشد (وَذِكْرى) : عظة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

وقوله : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) هذا يقال لوجهين :

أحدهما : عند الإياس من قبول الحجج والآيات يقول : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) أي : حاكما (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) أينا على الحق؟ وأينا على الضلال نحن أو أنتم؟!.

والثاني : (كَفى بِاللهِ شَهِيداً) : عالما في تبليغ ما أمرت بتبليغه إليكم وإتيان ما آتيتكم به من الآيات والحجج (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

وقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) كأن استعجالهم وسؤالهم الآيات على علم منهم أنّه لا ينزل ولا يأتيهم ـ يخرج مخرج الاستهزاء بالرسل والتمويه والتلبيس على الأتباع والضعفاء ؛ لأنهم يعلمون أن الله لا يعذب ولا يهلك هذه الأمة إهلاك استئصال وانتقام كما أهلك الأمم المتقدمة بالعناد والاستهزاء بالرسل ؛ إذ قد أمهلهم إلى وقت ، فإن علموا ذلك من الإمهال والتأخير سألوا الرسول العذاب الذي أوعدهم والآيات القاهرة ، ووعدوا الإيمان لو جاءهم ، وأقسموا على ذلك بقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ ...) الآية [الأنعام : ١٠٩] ؛ تمويها وتلبيسا على أتباعهم وضعفائهم يرونهم أنهم على حق في

٢٣٧

الإيمان فيما يدعوهم الرسول ، وأنه لو أتى بآية وحجة يؤمنون به ويتبعونه ، وهم فيما يسألون من الآيات والعذاب عالمون أنهم معاندون كذبة متمردون ملبسون مموهون على الأتباع والسفلة ؛ لما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً ...) الآية.

فإن قال لنا ملحد : إنه حيث أخّر عنهم العذاب وأمهلهم علم منهم أنهم يستعجلون ، أو لم يعلم ذلك ، فإن قلت : على غير علم منهم فقد أثبت الجهل له ، وإن قلت : على علم منهم ذلك فكيف أمهل ذلك وقد علم ما يكون منهم؟

قيل : إمهاله العذاب عنهم وضرب الأجل رحمة منه لهم وفضل ؛ كأنه قال : ولو لا رحمته التي جعل لهم على نفسه لجاءهم العذاب كما جاء الأمم الخالية عند سؤالهم الرسل العذاب والآيات بالعناد والاستهزاء ، وهو كقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) حيث لم يستأصلهم كما استأصل أولئك.

وقوله : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) يحتمل قوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ) أي : عذاب جهنم محيط يومئذ بالكافرين ، أو النار محيطة بالكافرين.

وجائز أن يكون : أي : يستعجلونك بالعذاب ، وإن أعمال أهل جهنم وأسبابها التي توجب لهم جهنم محيطة بهم ؛ كقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة : ١٧٥] أي : ما أصبرهم على الأعمال والأسباب التي توجب لهم النار ، وإلا لا أحد يصبر على النار ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) أي : أسباب جهنم وأعمالهم التي توجب لهم جهنم والنار محيطة بهم ، والله أعلم.

وقوله : (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) كقوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) ـ ظاهر.

قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٦٠)

وقوله : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) في الآية بشارة ونذارة :

أمّا البشارة فقوله : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) وعد لهم السعة في المكان المنتقل إليه والمتحول كما كان لهم في مقامهم.

والنذارة والتحذير : هو قوله : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) فلا تقيموا في أرضكم.

٢٣٨

ثم الأمر بالخروج والهجرة عن أرضهم إلى أخرى يخرج على وجهين :

أحدهما : لما لا يقدرون على إظهار دين الله ؛ خوفا على أنفسهم من أولئك الكفرة ، فأمروا بالخروج والهجرة عنها إلى أرض يقدرون على إظهاره والقيام به.

والثاني : أن كانوا يقدرون على إظهار دينهم ، لكنهم لا يقدرون القيام على تغيير المناكير عليهم والأمر بالمعروف ، فأمروا بالخروج منها إلى أرض ليس بها مناكير ، أو إن كانت بها فيقدرون على تغييرها والأمر بالمعروف فيها ، فبمثل هذا جائز أن يؤمر الناس بالتحول من أرض إلى أخرى إذا لم يقدروا على تغيير المنكر ودفعه وليس كالرسل ؛ لأن سائر الناس إذا كثر سماعهم المنكر يخفّ ذلك على قلوبهم وتميل إليه القلوب وتسكن وتطمئن ، فيؤمرون بالخروج عنها والتحول إلى أخرى ؛ لئلا تميل ولا تسكن إليه قلوبهم.

وأما الرسل وإن كثر سماعهم المنكر فإن قلوبهم لا تميل ولا تلين ولا تسكن إليه أبدا ؛ بل يزداد لهم شدة وصلابة في ذلك وبعدا عن قلوبهم ؛ لذلك اختلف أمر الرسل وغيرهم.

أو أن يكون لا يؤمرون بالخروج ولا يؤذن لهم ؛ لما هم إنما بعثوا إلى أهل الكفر والمنكر ليدعوهم إلى دين الله ؛ فلا يحتمل أن يؤذن لهم بالخروج والهجرة إلى أخرى وهم إليهم بعثوا ؛ ليدعوهم إلى دين الله ، فقوله : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) هو ما ذكرنا : أمروا بالهجرة ليسلم لهم دينهم ، ولا يمنعهم عن ذلك خوف ضيق العيش في غيره ؛ لما يعتزلون عن أموالهم ، وحرفهم ، وأهل قرابتهم ومعونتهم ؛ لما وعد ـ عزوجل ـ التوسيع عليهم لو خرجوا وهربوا ؛ إشفاقا على دينهم ، وكذلك روي عن الحسن عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من فر بدينه من أرض إلى أرض أخرى وإن كانت شبرا ، وجبت له الجنة ، ويبعث مع أبيه إبراهيم ونبيه محمد» (١) أو نحوه من الكلام.

وعلى مثل ذلك جاءت الآثار عن السلف في تأويل الآية : إذا دعيتم إلى المعاصي فاهربوا في الأرض ، فإن أرض الله واسعة.

وقال بعضهم (٢) : إذا عمل بالمعاصي في أرض فاهربوا إلى أخرى ؛ فإن أرضي واسعة ، وهو ما ذكروا : أمروا بالهجرة ؛ ليسلم لهم دينهم ، ووعد لهم السعة والحسنة في الدنيا ، وفي الآخرة أعظم منها ، وهي ما قال : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [النحل : ٤١] وقال في هذه الآية : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي : إن أرضي واسعة ، فإن منعتم عن عبادتي في

__________________

(١) ذكره الزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف (٣ / ٥٠) ، وقال : رواه الثعلبي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرسلا.

(٢) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير (٢٧٨٤٤) و (٢٧٨٤٦) ، والفريابي والبيهقي في الشعب ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٨٥) ، وهو قول مجاهد وعطاء وابن زيد.

٢٣٩

أرض فاخرجوا منها إلى أخرى فاعبدوني ولا تعبدوا غيري ؛ فإن أرضي واسعة ؛ فلا عذر لكم بالمقام في أرض تمنعون فيها عن عبادتي وإظهار ديني ، إلا المستضعفين الذين استثناهم في آية أخرى ؛ حيث قال : (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) [النساء : ٩٨] عذرهم بما فيهم من الضعف لترك الخروج والمقام بين أظهرهم ، وكتمان الإيمان والعبادة له سرّا ، وإن لم يقدروا على إظهاره ، فأما من كانت له حيلة الخروج فلم يعذره.

وقوله : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) ذكر هذا ـ والله أعلم ـ على إثر ما ذكر ؛ لئلا يمنعهم عن الخروج والهجرة خوف ضيق العيش ؛ يقول ـ والله أعلم ـ : كل نفس تذوق الموت إذا استوفت رزقها لا محالة ، ولا تذوق قبل استيفائها رزقها ؛ فلا يمنعكم خوف ضيق العيش فإنها تذوق ذلك لا محالة ، خرجت أو لم تخرج إذا استوفت رزقها ، وهو ما قال : (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [آل عمران : ١٥٤] أي : لو كان المكتوب عليه القتل يبرز لا محالة حتى يقتل ؛ فعلى ذلك المكتوب عليه الموت يذوقه لا محالة ، [خرج] أو أقام ، والله أعلم (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ).

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي : لنهيئنهم (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) يقال : بوأ : أنزل وهيأ ، و «لنثوينهم» من الثواء ، وهو الإقامة.

وقال القتبي (١) : هو من ثويت بالمقام : إذا أقمت به ، وبالباء (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) : أي : لننزلنهم.

وقال أبو عوسجة : أي : لننزلنهم منها منزلا يقيمون فيه ، والثواء : الإقامة.

وقال أبو معاذ : بوأها : هيأها ، والمثوى : المنزل ، والثاوي : المضيف (خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) أي : ثوابهم وجزاؤهم.

وقوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) يحتمل قوله : (الَّذِينَ صَبَرُوا) أي : خرجوا ، وهاجروا ، وصبروا على الهجرة ، وعلى ربهم توكلوا في الخروج والرزق ، والذين صبروا على الطاعات وأداء الفرائض.

أو أن يكون الصبر كناية وعبارة عن الإيمان ؛ أي : الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون وبه يثقون ويفوضون ؛ كقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) أي : لكل مؤمن.

ومحمد بن إسحاق يقول : أنزلت الآية بمكة في ضعفاء مسلمي مكة ؛ يقول : إن كنتم

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن (٣٣٨).

٢٤٠