تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

ولم يؤتوا أنفسهم شهواتهم وهواها ، والله أعلم.

ثم كان في قوم موسى خصال ثلاث لم تكن تلك ومثلها في غيرهم من الأمم.

أحدها : ما ذكر من صلابة [الذين] أوتوا العلم ، ويقينهم ، وطمأنينتهم فيما وعدوا في الآخرة من الثواب ، وصبرهم على أداء ما افترض الله عليهم ، وحبسوا أنفسهم عن مناهم وشهواتهم ، ولصلابتهم وقوتهم في الدّين ما وعظوا قارون ، حيث قالوا له : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ...) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وهو كان يومئذ ملكا ، ولما قالوا لأولئك الذين يريدون الحياة الدنيا : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً).

والثاني : ما ذكر سحرة فرعون حين أوعدهم بالقطع والصلب والقتل بإيمانهم الذي آمنوا فقالوا : (لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) [الشعراء : ٥٠] وقالوا : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) [طه : ٧٢] وأمثال ذلك مما لم يبالوا حلول ما أوعدهم وخوفهم من أنواع العذاب.

والثالث : ما ذكر من الذي كان يكتم إيمانه ؛ حيث قال : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ) [غافر : ٢٨] وإنما أظهر ذلك حين قال فرعون : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) [غافر : ٢٦] كأنه همّ أن يقتله ؛ ألا ترى أن ذلك الرجل المؤمن الذي كان يكتم إيمانه قال لهم : (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ) لم يبال هلاك نفسه بإظهاره الإيمان بعد أن أعان به الله موسى ، ونفع له بما قال ، واستقبل فرعون وقومه بما استقبل.

فهذه خصال لم تذكر عن قوم قط من سوى قوم موسى مثلها.

ولذلك وصفهم ونعتهم بفضل الهداية والعدالة ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [الأعراف : ١٥٩].

وهكذا الواجب على كل مؤمن إذا أريد منه أخذ الإيمان ، أو خاف على دينه أن يذهب به ، أو أن يدخل فيه النقصان ألّا يبدّل ذلك ، وإن خاف على نفسه تلفها وهلاكها وتعذيبها بأشدّ ما يكون من العذاب ؛ ألا ترى أن الله مدح أصحاب الأخدود بما احتملوا أشدّ العذاب وأسوأ القتل ، ولم يتركوا الإيمان ، ولم يعطوا أولئك الكفرة ما أرادوا منهم ، فهكذا الاختيار على كل مسلم أن يختار ما اختار أولئك.

وهكذا الواجب على كل من يأتي الأمراء والسلاطين ويحضر مجالسهم من العلماء أن يعظوهم ، ويأمروهم بكل ما يؤتى ، وينهوهم عن كل محذور ، ويدلوهم على كل خير وكل ما هو طاعة لله ، كما فعل قوم قارون بقارون ، وإلا لم يحضروا مجالسهم ولا أتوا

٢٠١

طائعين ، فلو فعلوا فإنهم يكونون شركاءهم.

وذكر عن بعض السلف أنه قال : في عيسى وقارون عبرة لمن اعتبر ؛ إن عيسى ـ صلوات الله عليه ـ زهد في الدنيا زهدا ، حتى لم يتخذ لنفسه مسكنا يسكنه ، ولا مقرّا يقر فيه ، ولا اتخذ لنفسه ما يتعيش به ، ولا اشتغل بشيء منها ، فرفعه الله إلى السماء ، فجعل عيشه ومقره فيها في كرامة الله وجواره.

وقارون كان يرغب في هذه الدنيا رغبة ، وجهد في طلبها طاقته ووسعه ، وركن إليها ركونا ، حتى خسفه الله في الأرض ، وأدخله فيها مع كنوزه وأتباعه ، فيكون فيها إلى يوم القيامة ؛ ففي ذلك عبرة وآية لكل راغب وزاهد ، فيرغب الزاهد في الزهد فيها ، وينزجر الراغب عن الرغبة فيها ، والله أعلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) بالبغي الذي بغى عليهم ؛ أعني : على موسى وأصحابه.

وقوله : (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) كأنه كان يفتخر بالمال والحواشي ، ويتقوى بذلك في دفع عذاب الله ونقمته ؛ لذلك قال : (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) ، أي : لم يغن في دفع عذاب الله عنه أتباعه وحواشيه ، وهو كظنّ أولئك : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] وكان ظنهم ذلك وقولهم إنما كان بوجهين :

أنهم ظنوا أن أموالهم وأتباعهم تدفع عنهم عذاب الله ونقمته كما تدفع نقمة بعضهم عن بعض فيما بينهم ؛ كقول ذلك الرجل : (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) [هود : ٤٣].

والثاني : ظنوا أنهم إنما أعطوا هذه الأموال والأتباع في هذه الدنيا لكرامة لهم عند الله ؛ فلا يعذبون أبدا.

وقوله : (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ) كانوا تمنّوا أن يعطوا مثل ما أعطي قارون (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ ... وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ)(١) قال بعض أهل الأدب : (وي) صلة ، وإنما هو (كأنّ) و (كأنّه) (٢).

وقال مقاتل : (وَيْكَأَنَّهُ) أي : لكنه ويكأنّ (٣).

قال بعضهم : قوله : (وَيْكَأَنَّ اللهَ) أي : اعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ،

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : معناه : لكن الله يبسط الرزق لمن يشاء. شرح.

(٢) ثبت في حاشية أ : أصل : (ويكأنّ) : وي. شرح.

(٣) ينظر : اللباب (١٥ / ٢٩٧).

٢٠٢

واعلموا أنه لا يفلح الكافرون ، لكن الله يبسط الرزق لمن يشاء ، ولكنه لا يفلح الكافرون.

وقال بعضهم : ألم تر أن الله يبسط الرزق ، وأ لم تر أنه لا يفلح كذا.

وقال الزجاج (١) : «وي» مقطوعة من (كأنّ) وهو حرف يفتتح به التندم ، ثم ابتدأ بقوله : كأنه لا يفلح الكافرون (٢).

ثم في الآية دلالة نقض قول المعتزلة في وجوب الأصلح على الله ؛ لأنهم ذكروا منّة الله في منعه إياهم ما تمنوا بالأمس مما أوتي قارون ، فلو كان ما أعطي قارون أصلح له في دينه لم يكن في منعه عن هؤلاء منة ؛ دل أن ما أعطى قارون لم يكن أصلح له ، بل المنع أصلح له ، وأن ليس على الله حفظ الأصلح للعباد في الدّين.

وقوله : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) في ظاهرها : أن كل من لا يريد العلوّ في هذه الدنيا ولا الفساد فيها يكون من أهل نعمة الله ، وكذلك ما ذكر من الدار الآخرة ، وجهنم هي من دار الآخرة أيضا ، لكن الآية تخرج على وجهين :

أحدهما : كأنها نزلت في رؤساء الكفرة وكبرائهم من الذين كانت همتهم في التكبر والتجبر على الرسل ، والفساد فيها ، في صرف الناس عن دين الله واتباع الرسل ، فقال ـ والله أعلم ـ : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) ـ أي : الجنة ـ ليست لهؤلاء ، ولكن لمن تواضع للرسل ، ودعا الناس إلى دين الله واتباع الرسل.

والثاني : تكون الآية في الذين كانوا يعملون بالخيرات والطاعات منهم في نحو صلة الأرحام والصدقة على الفقراء والإنفاق في ذلك ، فأخبر أنهم وإن كانوا يعملون بتلك الأعمال فإنما يعملون للدنيا والعلو فيها لا للآخرة ، فتلك الدار الآخرة ليست لهم ، إنما هي للذين يعملون ويريدون بها الدار الآخرة.

وقوله : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) : كأنه يقول : تلك الدار التي دعوا إليها ليست لمن ذكر ، وهي الدار التي قال الله فيها : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : ٢٥] ، فالدار الآخرة هي الدار التي دعوا إليها وهي الجنة ؛ الدار الآخرة على الإطلاق : الجنة ؛ كالكتاب المطلق كتاب الله ، والدين المطلق : دين الله ، ونحوه.

وقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أي : تلك الدار الآخرة للمتقين.

وقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) يخرج على وجوه :

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٤ / ١٥٧).

(٢) ثبت في حاشية أ : وقال أبو عوسجة : (ويكأنّ): (ويك) ، مثل قولك (ويلك) طرحت منه الألف والنون.

٢٠٣

أحدها : ما قال أهل التأويل على التقديم والتأخير : فله منها خير ، ومعناه : أن ما يكون له في الآخرة من الخير ؛ إنما يكون بتلك الحسنة التي جاء بها في الدنيا وهي التوحيد.

والثاني : قوله : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي : ما أعطوا في الآخرة من الخير والثواب خير مما يعطون في الدنيا بصبرهم ، وحبسهم أنفسهم عن شهواتها وأمانيها.

والثالث : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي : ثواب الله وما أكرموا به خير مما عملوا في الدنيا.

والرابع : أن توفيقه إياهم وإرشاده خير مما عملوا.

أو أن يكون ذكر الله وحمده خير مما ذكر ؛ كقوله : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : ٤٥].

وقوله : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) : قالوا جميعا : السيئة : هي الشرك ، (فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) [الأنعام : ١٦٠] هو التخليد في النار أبدا ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [البقرة : ٢٨١] : فيما يجزون بها بل ظلموا أنفسهم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)(٨٨)

وقوله : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) : اختلف في قوله : (فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) ؛ قال بعضهم : (فَرَضَ) أي : نزل عليك.

وقال بعضهم : فرض عليك العمل بالقرآن.

وقال بعضهم : فرض تبليغ ما أنزل عليك [من] القرآن والرسالة إلى الناس.

واختلف أيضا في قوله : (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) : قال بعضهم (١) : إلى مكة.

وقال بعضهم : المعاد : هو البعث والساعة.

وقال بعضهم (٢) : المعاد : الجنة ، ويقال (٣) : الموت ؛ وكله البعث ، والمعاد هو البعث في الظاهر.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٦٨١) و (٢٧٦٨٢) ، وعن مجاهد (٢٧٦٨٣ ـ ٢٧٦٨٧) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٦٦)

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٦٦٠) و (٢٧٦٦٢) ، وعن السدي (٢٧٦٦٤) ، وأبي صالح (٢٧٦٦٥) ، وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٦٦).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٦٧٤) و (٢٧٦٧٥) ، وعن سعيد بن جبير (٢٧٦٧٦) ، (٢٧٦٧٨) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٦٦).

٢٠٤

وجائز أن تسمّى مكة : معادا ؛ لما يعود الناس إليها مرة بعد مرة ، كما تسمى : مثابة ؛ لما يثوب الناس إليها مرة بعد مرة.

لكن من يقول بأن المعاد هو مكة يقول : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما أمر بالهجرة إلى المدينة فهاجر إليها اشتاق إلى بلده ومولده ومولد آبائه ، فنزل جبريل عليه بهذه الآية بشارة في العود إليها ظاهرا عليهم ، قاهرا ، فاتحا له مكة ؛ هذا تأويل من يقول بأن المعاد هو مكة.

وجائز أن يكون على غير هذا ، وهو يخرج على وجهين :

أحدهما : كأنه حزن على الفراق منهم إشفاقا على هلاكهم لإخراجهم الرسول من بين أظهرهم ؛ لأن الأمم السالفة إذا خرج من بينهم الرسل نزل بهم العذاب ؛ فخاف أنهم لما أخرجوا من بين أظهرهم وأبوا إجابته أن يهلكوا أو يعذبوا ؛ كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ، فبشر بهذا أن ترد إليها وستعود إليهم ، فيتبعونك ويؤمنون بك ، وهم لا يهلكون إهلاك استئصال وتعذيب كسائر الأمم.

والثاني : يذكر على الامتنان عليه ؛ يقول : إن الذي أنزل عليك القرآن وألقاه عليك بعد ما لم تكن ترجو إلقاءه عليك وإنزاله ، ولكن برحمته ومنته ألقاه إليك وأنزله عليك حيث قال : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) ؛ فعلى ذلك يردّك إلى مكة بعد ما لم تكن ترجو ردّك وعودك إليها.

وإن كان المعاد : هو البعث ؛ فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : على البشارة ؛ كأنه يقول : إن الذي فرض عليك القرآن يردّك ويبعثك بمن كذبك وبمن صدقك ، فينتقم من مكذبيك جزاء التكذيب ، ويجزي من يصدقك جزاء التصديق.

والثاني : يذكره ويخاطبه ، وإنما يريد به قومه ، أي : سيبعثون وسيعودون إليها ، فيكون كالآيات التي يخاطب بها رسوله والمراد بها : قومه ؛ فهو يخرج على الوعيد لهم ، ألا ترى أنه قال : (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : ربي أعلم بمن جاء بالهدى فيجزيه جزاء الهدى ، ومن هو في ضلال مبين فيجزيه جزاء ضلاله.

ويخرج ذكر هذا عند دعاء أولئك الكفرة : أنهم على الحق والهدى ، وأن آباءهم كانوا على الحق والهدى ، وأنتم على ضلال ، فيقول : (رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) نحن أو أنتم؟! فهو على التحاكم إلى الله أن يحكم بينهم ، فيجزي كلا بما جاء به ، والله أعلم.

وقوله : (وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) فهو يخرج على

٢٠٥

وجهين : أحدهما : وما كنت ترجو ـ وإن كنت مطيعا أي : خاضعا ـ أن يلقى إليك الكتاب وينزل عليك وتصير رسولا ، أي : لم تكن تطمع ذلك ، ولكن الله بفضله ورحمته جعلك رسولا نبيّا.

والثاني : ما كنت ترجو أن تكون في قومك وقبيلتك رسالة فضلا أن ترجو وتطمع في نفسك ؛ لأنهم ليسوا من بني إسرائيل ولا من أهل الكتاب ، والرسالة من قبل كانت لا تكون إلا في بني إسرائيل ، ولكن الله جعل الرسالة في العرب ، وفي نفسك برحمته وفضله ، والله أعلم.

وقوله : (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) : هذا يخرج على وجوه :

أحدها : على النهي ، أي : لا تكن ظهيرا وإن كان لا يكون للعصمة التي عصمه الله ؛ لأن العصمة لا تمنع النهي والأمر ، بل منفعة العصمة إنما تكون عند النهي والأمر.

والثاني : على الأمن له والإياس أن يكون ظهيرا لهم ، كأنه يخاف لعله أن يكون ظهيرا لهم في وقت من الأوقات ، فأمنه الله عن ذلك فقال : لا تخف فإنك لا تكون ظهيرا لهم ، وهو ما ذكرنا في قوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [الحجر : ٨٨] وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] على رفع الحزن والحسرة بتركهم الإيمان ؛ فعلى ذلك الأول.

والثالث : أن الخطاب وإن كان له في الظاهر فالمراد منه غيره ، على ما ذكرنا في غير آي من القرآن : أنه خاطب به رسوله والمراد به غيره ؛ وكذلك بهذا.

وفي قوله : (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في هذا ما في الأول من الوجوه التي ذكرنا ؛ وكذلك : هذا في قوله : (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) : قال بعضهم (١) : قوله : (كُلُّ شَيْءٍ) يرجى منفعته وشفاعته من دون الله باطل ، إلا ما ابتغي منه وعمل له.

وقال بعضهم (٢) : كل شيء هالك وزائل إلا هو ؛ فإنه حي لا يموت دائم لا يزول.

وقال بعضهم : كل أمر وجهة يتوجه إليها ويعمل به هالك إلا الجهة والوجه الذي أمر هو بالتوجيه إليه والعمل به ، وهو قريب بالأول ، والله أعلم.

* * *

__________________

(١) هو قول ابن عباس ومجاهد وسفيان ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٦٧).

(٢) قاله ابن جرير (١٠ / ١١٩).

٢٠٦

سورة العنكبوت كلها مكية (١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(٦)

قوله ـ عزوجل ـ : (الم) : قد ذكرناه في غير موضع.

وقوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ).

قوله : (أَحَسِبَ) : هو وإن كان في الظاهر استفهاما فهو على الإيجاب لا الاستخبار ؛ إذ حقيقة الاستفهام والاستخبار إنما تكون ممن يجهل الأمور فيستخبر ويستفهم ليعرف ذلك ، فالله سبحانه يتعالى عن أن يخفى عليه شيء ، فهو على التقرير والإيجاب منه لذلك.

ثم يخرج قوله : (أَحَسِبَ النَّاسُ) على أحد وجهين ؛ [أحدهما] أي : قد حسب الناس. والثاني : أي : لا يحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا : آمنا.

وقوله : (أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) : ذكر الإيمان ولم يذكره بمن؟ بالله أو بغيره؟ وليس أحد من الخلائق إلا وهو يؤمن بأحد ويكفر بغيره ، وليس في الآية بيان الإيمان به أو بمن؟ إلا أن الله تعالى سخر الخلق على الفهم من الإيمان المطلق المرسل : الإيمان بالله وبرسله ، وسخرهم حتى فهموا من الكتاب المطلق : كتاب الله ، والدار الآخرة : الجنة ، وأمثال ذلك ما فهموا من الكتاب المطلق : كتاب الله ، وفهموا ما ذكرنا من الإيمان المطلق : الإيمان بالله وبرسله ، وفهموا أيضا من الدين المطلق : دين الله ؛ فيكون قوله : (أَنْ يَقُولُوا) آمنا بالله أو برسله.

وقوله : (وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) أي : لا يبتلون ، والفتنة : هي الابتلاء الذي فيه الشدة ، يمتحن الله عباده باختلاف الأحوال : مرة بالضيق والشدة ، ومرة بالسعة والرخاء وأنواع العبادات ؛ ليكون ذلك علما للخلق في صدق الإيمان به والكذب به والكذب فيه ، فيعرفوا صدق كل مخبر عن نفسه الإيمان بالله تعالى وكذبه ؛ إذ قد يجوز أن يكون فيما يخبر

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : يقول قتادة : عشر آيات من أولها مدنية وسائر الآيات مكية ، والله أعلم بالصواب.

٢٠٧

ويقول : آمنت ـ كاذبا ، فجعل الله تعالى للعلم في صدقهم وكذبهم أعمالا يظهر بها عنده صدقهم ما لو كان الابتلاء والامتحان بجهة لعله لا يظهر ذلك ، وهو ما أخبر عن المنافقين فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ ...) الآية [الحج : ١١] ، هذا يدل أن الفتنة هي المحنة التي فيها الشدة والبلاء ، و [هو] ما قال : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء : ٣٥] ، فإنما يظهر صدق الرجل في إيمانه بما يصيبه من الشدة ، فأما السعة والرخاء فهو ما يوافق طبعه وهوى نفسه ، فلا يظهر صدقه بما يوافق طبعه ، وإنما يظهر ذلك بما يخالف طبعه ويثقل عليه تحمل ذلك.

ثم قال بعضهم : نزلت الآية في قوم أظهروا الإيمان باللسان ، وأضمروا الخلاف والكذب. وقال بعضهم : نزلت في قوم آمنوا بالله وبرسوله حقيقة ، ثم عذبوا بأنواع العذاب ؛ فتركوا الإيمان وكفروا به ؛ وفيهم نزل : (فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ١٠] فكيفما كان ففيه أن من أقر بالإيمان وقبله ، يمتحن بأنواع المحن بموافقة الطبع ومخالفته ؛ ليظهر صدقه عند الناس فيعاملونه على ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا) : [ذكرنا] فيما تقدم أنه يعلم ظاهرا كائنا ما قد علمه غير كائن أنه يكون ، وليعلمه موجودا ما قد علمه غير موجود أنه يوجد ، والله أعلم.

وقوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ) : هذا أيضا يخرج على وجهين :

أحدهما : قد حسب الذين ... ما ذكر. والثاني : لا يحسب ؛ على النهي.

وقوله : (أَنْ يَسْبِقُونا) : لا أحد يقدر أن يسبق الله في عذابه ونقمته ، لكنهم إذا رأوا الكافر والمسلم في هذه الدنيا على السواء في نعيمها وسعتها ، ورأوا أيضا عند الموت أنه لم ينزل على الكافر عذاب كالمسلم ـ ظنوا أن لا بعث وما ينبئهم باطلا ذلك ظن الذين كفروا حملهم ذلك على إنكار البعث ؛ كقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ) [ص : ٢٧] حين خلقهما إذا لم يكن بعث باطلا ، وهم قد علموا أن خلقه إياهما ليس بباطل ، ولكن صير خلقهما إذا لم يكن بعث باطلا ، فإذا أنكروا البعث ظنوا أن لا عذاب ولا جزاء ، والله أعلم.

وقوله : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) : أضاف اللقاء إلى نفسه ، وكذلك ما ذكر من المصير إليه لقوله : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [التغابن : ٣] ، وقوله : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) [هود : ١٢٣] ، وقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١] ونحوه ، هذا كله لأن خلق الدنيا وخلق العالم فيها لا لها ، ولكن المقصود بخلقها وخلق العالم فيها الآخرة ، فإنما صار خلق هذه الأشياء فيها حكمة بالآخرة ؛ إذ لو لم يكن آخرة ، كان خلق ما ذكر في هذه الدنيا لعبا باطلا ؛ كقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون :

٢٠٨

١١٥] صير خلقهم لا للرجوع إليه لعبا باطلا.

وقوله : (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : بما يقولون ويظهرون ، والعليم بما يضمرون ويسرون ؛ لأن القصة قصة المنافقين.

أو السميع المجيب العليم بحوائجهم وأمورهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) ، وكذلك قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦] ، وقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] ، أي : فعليها.

ففي هذا : أن الله إنما امتحن الخلائق لا لحاجة له فيما امتحنهم من دفع مضرة أو جر نفع ، لكن إنما امتحنهم لحاجة أنفسهم في دفع المضار وجر المنافع ؛ وكذلك إنما أنشأ الدنيا وهذا العالم فيها لا لحاجة له في إنشاء ذلك ، ولكن لحوائج أنفسهم ، وكذلك ما أنشأ من الخلائق سوى البشر إنما أنشأ البشر وله سخر جميع ذلك ، وجعل البشر بحيث يقدر على استعمال جميع ذلك لمنافع أنفسهم وحاجتهم ، وهو ما ذكر في غير آي من القرآن حيث قال : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] ، وقوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] ونحو ذلك ؛ فعلى ذلك امتحن هذا العالم لحاجة أنفسهم في دفع مضار وجر نفع ؛ لذلك قال : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) أي : لحاجة نفسه ومنفعة نفسه ، لا لمنفعة أو لحاجة لله تعالى.

(إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) : هذا تفسير ما ذكر.

ثم المجاهدة تكون مرة مع الشيطان والجن ، ومرة مع أعدائه من الإنس ، ومرة مع هوى النفس ، ومرة في أمر الدنيا ، كل ذلك مجاهدة في الله ؛ قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ)(٩)

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) : كأن ما عملوا من الحسنات والصالحات يكفر بها سيئاتهم.

وقوله : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) هذا يحتمل وجوها :

أحدها : أن جزاءهم الذي يجزون بتلك الأعمال أحسن من أعمالهم التي عملوا ؛ لأن قدر ذلك الجزاء عندهم أعظم وأحسن من قدر [ما علموا] من أعمالهم ؛ إذ ليس لأعمالهم

٢٠٩

عندهم كبير قيمة وقدر ؛ إذ منهم من يحيي ليله بدرهم وبما يسد به حاجتهم في يوم أو ليلة.

والثاني : أن الأعمال التي يعملها المرء تكون على وجوه سيئات تكفر بالتوبة أو بما كان يعاقبون عليها ، وحسنات يجزون بها الثواب الجزيل ، وإباحات يعملون لحوائج أنفسهم مما لا يعاقبون عليه ولا يثابون ، فيقول ـ والله أعلم ـ : لنجزينهم أحسن الذي عملوا وهو الحسنات والخيرات عملوها لله.

أو أن يكون قوله : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) أن نكفر سيئاتهم بنوع من الحسنات ويثابون على أحسنها ، وهو ما قال : (لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً).

وقرئ أيضا : (حُسْناً) قال الزجاج (١) : قوله : (حُسْناً) أجمع وأقرب ؛ لأنه يرجع إلى حسن الشيء في نفسه ، وإلى حسنه عند ذلك الإنسان ؛ يقال : حسن كذا إذا كان في نفسه حسنا ، والإحسان : هو ما يحسن عند ذلك المعمول له ، أو كلام نحو هذا.

قال الشيخ ـ رضي الله عنه ـ : لكن الإحسان هو اسم ما حسن أيضا في نفسه ، يقال : ـ أحسن ، فإذا أحسن ، فقد حسن ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) : إن كان هذا الخطاب لأهل الإيمان فيكون تأويل الآية : (وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) أي : بأن له شريكا ، أي : تعلم بأن ليس له شريك فلا تشرك به ؛ وهو كقوله : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [يونس : ١٨] أي : يعلم بخلاف ما يقولون ؛ فعلى ذلك قوله يحتمل (ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) بأن له شريكا ، أي : لك العلم بخلافه : بأن ليس له شريك.

وإن كان الخطاب لأهل الكفر يقولون على الله ما ليس لهم به علم.

وقوله : (فَلا تُطِعْهُما) : أمر بالبرّ للوالدين والإحسان إليهما والطاعة لهما ما لم يكن في طاعتهما معصية الربّ ؛ ليعلم أن ليس يجب طاعتهما في كل شيء وفي كل ما كان عندهما إحسانا ، ولكن فيما كان في ذلك طاعة الخالق.

وقوله : (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : وعيد لتكونوا أبدا على حذر في أعمالكم لا تعملون بما فيه معصية الرب.

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) : كأنه قال : والذين آمنوا

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٤ / ١٦١).

٢١٠

وعملوا الصالحات ولهم سيئات ، لنكفرن عنهم تلك السيئات بأعمالهم الصالحات ، ثم لندخلنهم في الصالحين الذين لا سيئة لهم وهم الأنبياء ، إذ أكثر ما ذكر في الكتاب الصالحين إنما أريد بهم الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ وهو ما ذكرنا ـ والله أعلم ـ على تكفير السيئات عنهم على ما ذكر فيما تقدم ، وهو ما قال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) [العنكبوت : ٧].

أو أن يكون قوله : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) أي : لنجعلنهم من الصالحين.

فإن قيل : ما معنى قوله : (لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) وهم قد عملوا الصالحات؟ قيل : معناه ما ذكرنا بدءا : أنهم قد عملوا الصالحات إلا أن لهم سيئات يكفرها بالصالحات ، ثم ليجعلنهم في الصالحين الذين لا سيئة لهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ)(١٣)

وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) : قال بعض أهل التأويل (١) : ناس مؤمنون بألسنتهم ، فإذا أصابهم بلاء من الناس أو مصيبة في أنفسهم وأموالهم افتتنوا ، فجعلوا ذلك في الدنيا كعذاب الله في الآخرة.

ثم قال : (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) : وذلك علم المنافق.

ومنهم من يقول : نزلت الآية فيمن حقق الإيمان سرّا وعلانية ، إلا أنه عذب لأجل إيمانه بالله وبرسوله ؛ فترك الإيمان وكفر ؛ فعلى تأويل هذا يحتمل قوله : (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ...) إلى آخر ما ذكر على القطع من الأول والابتداء منه من صنيع المنافقين وخبرهم ، والله أعلم.

ويحتمل قوله : (جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) أي : جعل فتنة الناس وتعذيبهم إياه في إعطاء ما سألوه ـ وهو الكفر ـ كعذاب الله في إعطاء ما سأل من أهل الكفر وهو الإيمان ؛ لأن أهل الكفر إذا نزل بهم عذاب الله أو اشتد بهم خوف نزوله عليهم أعطوا الله ما سألهم من الإيمان والتوحيد ، وهو ما قال : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ

__________________

(١) قاله مجاهد والضحاك وابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٧٧٠٣) ، (٢٧٧٠٤) ، (٢٧٧٠٥).

٢١١

الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) [العنكبوت : ٦٥].

ويحتمل وجها آخر : وهو أن جعل فتنة الناس في ترك الإيمان كعذاب الله في ذلك ، أي : جعل العذاب الذي من الناس كأنه من الله جاء فترك الإيمان.

وقوله : (أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ) : فإن كانت الآية فيمن حقق الإيمان بالله سرا وعلانية ، فيخرج هذا على التعيير له في ترك الإيمان بما عذب به ؛ لأنه كان يقدر أن يظهر الكفر لهم باللسان ؛ فيدفع العذاب عن نفسه ، ويكون في الحقيقة في السر مؤمنا على ما ذكر : (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) [النحل : ١٠٦].

وإن كانت الآية في المنافقين ، فيقول : كيف أسررتم الكفر والخلاف له في القلب ، وأنتم تعلمون أن الله عالم بما في صدور العالمين؟! فيخبر رسوله بما أضمروا وأسرّوا من الخلاف ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) : قد ذكرنا تأويل هذا : أن يعلم كائنا ما قد علم أنه سيكون ، ويعلم موجودا ظاهرا ما قد علم أنه يوجد ويظهر.

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) : كأنهم قالوا ذلك لهم بعد ما عجزوا عن الطعن في الحجج والآيات ما يوجب شبهة فيما عند الناس ، وبعد ما انقطعوا عن اللجاج فيها والاحتجاج عليها ، فلما عجزوا عن ذلك كله فعند ذلك اشتغلوا بما ذكر وقالوا للمؤمنين ما ذكر.

(اتَّبِعُوا سَبِيلَنا) أي : ديننا ، (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) يقولون ـ والله أعلم ـ : اتبعوا سبيلنا فإنه صواب ، فإن أصابكم خطأ أو أخطأتم في الاتباع له فإنا نحمل خطاياكم.

وقال بعضهم : قالوا لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا ، وإن كان عليكم شيء فهو علينا ؛ وهو قريب من الأول.

أو أن يقولوا لهم : اتبعوا سبيلنا ؛ فإن الله أمرنا به ، فإن أخطأتم في ذلك فإنا نحمل خطاياكم أو نحوه ، فهذا القول منهم متناقض ؛ لأنهم ذكروا أنهم كانوا يخطئون في الاتباع لهم دينهم ، إلا أن يريدوا بذلك ما ذكرنا.

والثاني : إنما كانوا يضمنون ويحملون خطاياهم لا بإذن من له الطلب في الخطايا ، ولكن بإذن من عليه ذلك ، وذلك لا يصلح الضمان بإذن من عليه.

ثم أخبر أنهم لا يحملون ذلك حيث قال : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

يحتمل قوله : (إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) فيما يذكرون من حمل خطاياهم ، أي : لا يقدرون على

٢١٢

حملها.

أو كاذبون في الدعاء إلى اتباع سبيلهم.

أو كاذبون أن الله أمرهم بذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) : يحملون أوزارهم بضلال أنفسهم ، وأثقالا بإضلال غيرهم ودعائهم إليه ، كقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] ، وذكر في خبر أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما من داع دعا إلى هدى فاتبع عليه إلا كان له مثل أجور من اتبعه ، ولا ينقص من أجورهم شيء» (١).

وقوله : (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) : قال بعضهم : افتراؤهم : اتخاذهم الأصنام آلهة ؛ إذ يكون الافتراء في الفعل والقول جميعا.

وجائز أن يكون افتراؤهم ما ذكروا من حمل خطئهم أو ما قالوا : إن الله أمرهم بذلك ، أو تسميتهم الأصنام التي عبدوها آلهة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥) وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(١٨)

وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) : يذكر هذا النبأ لوجهين :

أحدهما : يصبر رسوله على أذى قومه ؛ لأنه ذكر أن نوحا لبث في قومه ألف عام غير خمسين عاما ، كان يدعوهم إلى توحيد الله ، فلم يجبه إلا نفر من أهله ؛ فلم يمنعه من الدعاء إلى دين الله ما أوعدوه من المواعيد حيث قالوا : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) [الشعراء : ١١٦] ونحو ذلك من المواعيد ، فذلك لم يمنعه عن الدعاء ؛ ولذلك قال : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) [الأحقاف : ٣٥].

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٠٦٠) ، كتاب العلم ، باب : من سن سنة حسنة (١٦ / ١٦٧٤) ، والترمذي (٥ / ٤٢) ، كتاب العلم ، باب : ما جاء فيمن دعا إلى هدى (٢٦٧٤) ، وأبو داود (٤ / ٢٠١) ، كتاب السنة ، باب : لزوم السنة (٤٦٠٩) ، وابن ماجه (١ / ٧٥) ، المقدمة ، باب : من سن سنة حسنة أو سيئة (٢٠٦).

٢١٣

والثاني : ينقض على المتقشفة مذهبهم ؛ لأنهم يقولون : إن الموعظة إنما لا تنجع في الموعوظين لتفريط الواعظ وترك استعمال نفسه ذلك ، فيقال : إن نوحا قد دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما ، فلم يجبه إلا نفر ؛ فلا يحتمل أن يكون منه تقصير أو تفريط ؛ فدل أنها لا تنجع ربما لشقاوة الموعوظ.

وقوله : (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ) : قال بعضهم (١) : هو المطر الشديد.

وجائز أن يكون الطوفان كل بلاء فيه الهلاك.

والطوفان هو ما أرسل عليهم من الماء فأغرقهم ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَنْجَيْناهُ) أي : نوحا ، (وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) أي : من دخل السفينة ، (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) قال بعضهم : جعلها آية : هو أن هلكت كل سفينة كانت ، وهي باقية اليوم على ما هي عليه.

وقال بعضهم : (وَجَعَلْناها آيَةً) لمن بعدهم ، فتمنعهم عن تكذيب الرسل والعناد معهم.

قال الزجاج : الاستثناء يخرج على تأكيد ما تقدم من الكلام ؛ كذكر الكل على أثر ما تقدم من الكلام ، أو كلام نحوه.

وقلنا نحن : إن كان ما تقدم من الذكر كافيا تامّا ، فيخرج الثنيا على أثره مخرج التأكيد لما تقدم ؛ نحو قوله : (إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. إِلَّا آلَ لُوطٍ) [الحجر : ٥٨ ، ٥٩] ، قوله : (إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ) كاف تام مفهوم ألّا يدخل فيه آل لوط حيث ذكر المجرم ؛ إذ آله غير مجرمين ، فهو كاف مفهوم لا يحتاج إلى ذكر آل لوط ، لكنه ذكر على التأكيد له.

وكذلك قوله : (مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ) و (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) [النساء : ٢٤ ، ٢٥] ؛ إذا قال : محصنين : يفهم أنهن غير مسافحات ولا متخذات أخدان ، لكنه ذكر على التأكيد.

وإذا كان ما تقدم من الكلام محتملا مرسلا ، فيخرج ذكر الثنيا مخرج تحصيل المراد منه على إضمار حرف «من» فيه ؛ كقوله : (أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) كأنه قال : فلبث فيهم من ألف سنة تسعمائة وخمسين ؛ وكذلك قول الناس لفلان : عليّ عشرة دراهم إلا كذا ، كأنه قال : لفلان علي من عشرة دراهم كذا ، فهو على التحصيل يخرج ذكره.

وقال بعضهم : الطوفان كل ماء طاف فاش من سبيل أو غيره ؛ وكذلك الموت الجارف يسمى الطوفان وماء الطوفان ، وهو ما ذكر في سورة الأعراف.

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٧٧١٣) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٢٧٣).

٢١٤

وقال بعضهم (١) : هو الغرق ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) : هو نسق على قوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) ، وأرسلنا إبراهيم أيضا إلى قومه.

أو أن يكون نسقا على قوله : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) ، وأنجينا إبراهيم أيضا حين ألقي في النار.

أو يقال : اذكر إبراهيم إذ قال لقومه : اعبدوا الله.

وقوله : (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ) : يحتمل في حق الاعتقاد ، أي : وحدوا الله.

وقوله : (وَاتَّقُوهُ) : الشرك.

ويحتمل قوله : (اعْبُدُوا اللهَ) في حق المعاملة ، أي : إليه اصرفوا العبادة ، (وَاتَّقُوهُ) أي : اتقوا عبادة من تعبدون من الأوثان ؛ يكون قوله : اتقوا في موضع النهي ، أي : اعبدوا الله ووحدوه ولا تعبدوا غيره ؛ يكون فيه نهي عن مخالفة ما تقدم من الأمر : افعلوا كذا ، واتقوا ما يضاده ويخالفه ، والله أعلم.

وقوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) أي : عبادة الله خير لكم.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يحتمل قوله : (إِنْ) إذا كنتم تعلمون : أن ذلك خير لكم ، وجائز ذكر (إن) مكان (إذ) في اللغة.

أو يكون صلة قوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

وقوله : (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) أي : تخلقون كذبا في تسميتكم الأوثان آلهة معبودين ، أي : ليسوا بآلهة ولا معبودين.

أو يقال : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) ، أي : كذبا في صرف عبادتكم إليها واستحقاق العبادة ، أي : لا يستحقون العبادة ، إنما المستحق للعبادة دون من تعبدون.

وقال بعضهم (٢) : أي : جعلتم كذبا من الآلهة لا حقّا ؛ وهو قريب مما ذكرنا.

ثم بيّن سفههم في صرف العبادة إلى الأصنام وعجزها عمن يعبدها حيث قال : (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) : يقول ـ والله أعلم ـ : إن في الشاهد لا يخدم أحد أحدا إلا لما يأمل من النفع له بالخدمة ، أو لسابقة إحسان كان منه إليه ، فالأصنام التي تعبدونها لا يملكون أن يرزقوكم ولا ينفعوكم ، ولا كان منها إليكم سابقة صنع ، فكيف تعبدونها؟!

__________________

(١) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٧١٤).

(٢) قاله ابن عباس بنحوه أخرجه ابن جرير (٢٧٧١٧).

٢١٥

وقوله : (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) أي : اعبدوا الله الذي يرزقكم وينفعكم ويملك ذلك لكم ، واتركوا عبادة من لا يملك ذلك.

(وَاعْبُدُوهُ) : يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما فيما تقدم : التوحيد ، والعبادة.

وقوله : (وَاشْكُرُوا لَهُ) أي : اشكروا له فيما أنعم عليكم.

(إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).

وقوله : (وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ) : هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : وإن يكذبوك فيما تخبر من نبأ إبراهيم ، فقد كذب أمم من قبلك رسلهم فيما أخبروا عن إبراهيم بعد انتساب كل فريق منهم إليه ، وادعائه نحلته ومذهبه.

والثاني : وإن يكذبوك فيما تبلغ إليهم من الرسالة ، فقد كذب أمم من قبلك رسلهم في تبليغ الرسالة ، وما على الرسول إلا البلاغ المبين ، يبين لهم أنها رسالة ربهم بالحجج والبراهين والآيات ، والله أعلم.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢٣)

وقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) : إنهم قد رأوا أن كيف أنشأ الله الخلق في الابتداء ، وإن عجزوا عن الأسباب التي خلقهم ، ولا احتمل وسعهم ذلك ، فعلى ذلك يعيدهم على ما أبدأهم ، وإن عجز وسعهم عن احتمال ذلك وإدراكه ؛ إذ الأعجوبة في الإعادة ليست بأكثر من الأعجوبة في البداية ، بل الأعجوبة في ابتداء الإنشاء أكثر من الإعادة ؛ لما الإعادة عندكم أيسر وأهون من الابتداء ، فمن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر.

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) : الابتداء والإعادة جميعا لا يعجزه شيء ؛ إذ هو قادر بذاته.

وقوله : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) : كأن الأمر بالسير في الأرض والنظر ليس هو سيرا بالأقدام فيها ، ولكن أمر بإرسال الفكر فيها من الخلائق ، والنظر في بدء ما فيها من الخلق متقنا محكما بالتدبير والعلم والحكمة بلا أسباب ؛ ليعلموا أن التقدير في ابتداء الإنشاء والإعادة بالخارج عن احتمال وسعهم وقوامهم ـ خطأ ، وأنه الذي قدر على إنشاء الخلق وابتدائه بلا سبب ولا شيء ، وإن لم يحتمل وسعهم وبنيتهم وقواهم

٢١٦

ذلك ؛ فعلى ذلك الإعادة والنشأة الأخرى ، وإن كانت خارجة عن احتمال وسعهم وقواهم ـ قادر عليها.

أو أن يقال : انظروا واعتبروا أن بدء الخلق والنشأة من الحكم العالم الذاتي بلا إعادة ورجوع ليس بحكمة في العقل والحكمة جميعا ؛ لأن في الحكمة والعقل : التفريق بين الولي والعدو ، وبين الشاكر والكافر ، وبين المطيع والعاصي ؛ إذ قد سوى بينهم في الدنيا وأشركهم فيها ، حتى جعل للكافر ما للشاكر ، و [كذلك] الولي والعدو والمطيع والعاصي ؛ فلا بد من الإعادة في دار يفرق بينهم ليخرج بدء إنشائهم وخلقه الخلق على الحكمة والتدبير والعلم لا على السفه والعبث ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) : في النشأة الأولى والآخرة جميعا لا يعجزه شيء ؛ إذ هو قادر بذاته.

وقوله : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ) : يحتمل هذا في الدنيا : يعذب من يشاء في الدنيا ، أي : يمتحنه ويبتليه بالشدة والضيق ، ويرحم من يشاء ، أي : يمتحنه بالسعة والرخاء ؛ فيكون التعذيب كناية عن الشدة والضيق ، والرحمة : كناية عن السعة والرخاء ؛ وهو كقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء : ٣٥] ؛ فعلى ذلك قوله : (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ) أي : ترجعون.

ويحتمل التعذيب في الآخرة والرحمة فيها ، أي : يعذب من يشاء في الآخرة من كان في الدنيا أهلا له مستوجبا ، ويرحم من يشاء من كان في الدنيا أهلا لها مطيعا لها.

وقوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) أي : ما أنتم بمعجزين الله في السماء ، وعلى قول المعتزلة : يكونون معجزين الله في الأرض على ظاهر مذهبهم ؛ لأنهم يقولون : إن الله قد أراد إبقاء الأخيار وأهل الصلاح ، ثم يجيء كافر فيقتلهم قبل أجلهم الذي أراد الله إبقاءهم إلى وقت.

وكذلك يقولون : أراد الله أن يرزقهم الحلال ، وأراد أن يكون أولادهم من رشد ونكاح ، لكنهم يطلبون الرزق من حرام ويزنون ، فيخلق أولادهم من زنى شاء أو أبى ، لا يقدر التخلص عما يريدون هم ، فأي إعجاز يكون أشد من هذا ، فنعوذ بالله من السرف في القول.

وقوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) هم يعلمون ـ أعني : الكفرة ـ أنهم لا يعجزون الله ولا يقدرون على إعجازه ، لكنه يذكر ؛ لأنهم كانوا يعملون عمل من هو معجز فائت عن عذاب الله ونقمته ؛ وهو كقوله : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ)

٢١٧

[سبأ : ٣٨] ، هم يعلمون أنهم لا يقدرون أن يسعوا في آياته معاجزين ، لكنهم يسعون في دفع آياته والإنكار لها سعي معاجز لها لا سعي خاضع قابل ؛ فعلى ذلك الأول.

وقوله : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) أي : ما لكم من دون الله مما طمعتم من النصر لكم والشفاعة وليس لكم ذلك ؛ لأنهم عبدوا تلك الأصنام لما طمعوا شفاعتها عند الله لهم والزلفى حيث قال : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا) [مريم : ٨١ ، ٨٢] ، وقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ونحوه فيقول : ما لكم مما طمعتم بعبادتكم تلك الأصنام من ولي ولا نصير.

وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ).

قوله : (كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) : يحتمل آيات الله : الآيات التي جاءت بها الرسل في إثبات الرسالة لهم ، ويحتمل آياته : الآيات التي جعلها لوحدانيته وألوهيته ولقائه ، أي : كفروا بالبعث ، وقد ذكرنا فيما تقدم وجه تسمية البعث : لقاءه.

وقال الحسن : آيات الله : دين الله ، وكذلك يقول : كل آية في القرآن : الدين.

وقوله : (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) : قال بعض أهل التأويل : (مِنْ رَحْمَتِي) أي : من جنتي وتأويل هذا ؛ لأنهم قد كفروا بالبعث ، فإذا كفروا به زعموا أن لا ثواب ولا جزاء.

وجائز أن يكون قوله : (مِنْ رَحْمَتِي) أي : من رسلي وكتبي ؛ لأن الله سمى رسله وكتبه : رحمة في غير آي من القرآن ، أيسوا منهم ، حيث كذبوهم وكفروا بهم ، أيسوا أن يرسل الرسل أو ينزل الكتب.

ويحتمل قوله : (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) أولئك عليهم الإياس من رحمتي لما كفروا بآياته ورسله ، (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

قوله تعالى : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ)(٢٧)

وقوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ).

قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) إلا كذا : ليس في جميع الأوقات وجميع المشاهد ، ولكن جائز أن يكون هذا : ما كان جواب قومه في مشهد إلا كذا.

٢١٨

أو أن يكون : فما كان جواب قومه إلا أن قالوا : اقتلوه أو حرقوه.

وإلا لم يحتمل ألا يكون منهم إلا ما ذكر من الجواب قد كان جوابات وأجوبة سواء.

لكن يحتمل ما ذكرنا : أن ما كان جواب قومه في مشهد إلا أن قالوا : اقتلوه أو حرقوه.

أو ما كان آخر جواب قومه إلا قالوا : اقتلوه أو حرقوه ، وهو ما ذكرنا في قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ٢٩] لا يحتمل أنه لم يكن منهم إلا هذا ولكن ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) : حين ألقوه فيها ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) : ذكر الآيات في ذلك ، فجائز أن يكون ما ذكر في هذه السورة من أولها إلى آخرها ـ لآيات لمن ذكر.

وجائز أن يكون فيما ذكر هنا خاصة ، لكن ليس من شيء إلا وفيه آيات من وجوه : آية الوحدانية ، وآية الألوهية ، وآية علمه وحكمته وتدبيره وبعثه ؛ فهو آيات.

وقوله : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ذكر الآيات للمؤمنين يحتمل وجهين :

أحدهما : ذكر الآيات لهم ؛ لأنهم هم المنتفعون بها دون من كفر.

والثاني : الآيات لهم على المكذبين بها والكافرين ، أي : حجة لهم عليهم ؛ كقوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣] ، والله أعلم.

وقوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا) كذا هو صلة قصة إبراهيم وإليه يرجع ، وهو ما تقدم من دعائه إياهم حيث قال : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ ...) الآية [العنكبوت : ١٦].

وقوله : (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) يقول ـ والله أعلم ـ : ما اتخذتم من دون الله معبودات سميتموها : آلهة ، فهي ليست بآلهة ولا معبود ، إنما هي أوثان (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، يقول ـ والله أعلم : هذه الأصنام معبودات واجتماعكم عليها إنما هي مودة حياة الدنيا ، لا مودة لها عاقبة أو تدوم ، بل تصير في العاقبة عداوة وبغضا ، وهو ما ذكر. (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ، قال بعضهم : يتبرأ بعضهم من بعض ، ويكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا ؛ كقوله : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف : ٦٧].

وقال بعضهم : يتبرأ المتبوع من الأتباع ؛ كقوله : (رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ) [الأعراف : ٣٨] ، وقوله : (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) [مريم : ٨٢] ونحوه.

ثم أخبر : أن مأوى الكل النار ، وما لهم من ناصر ينصرهم من عذاب الله ، أو يدفع

٢١٩

عنهم العذاب.

ثم اختلف في قوله : (وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ).

قال بعضهم : هذا قول إبراهيم لقومه ؛ كقوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) [الصافات : ٩٥] ؛ وكقوله : (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) [الشعراء : ٩٣]. وقال بعضهم : هذا قول الرسول لقومه الذين عبدوا الأصنام ، والله أعلم.

وقوله : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ).

قوله : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) يحتمل وجهين :

أحدهما : قوله : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) أي : أظهر له لوط الإيمان من بين غيرهم ، وقد كان لوط مؤمنا من قبل ليس أنه أحدث له الإيمان في ذلك الوقت ، ولم يكن مؤمنا قبل ذلك ، ولكن ما ذكرنا أنه أظهر له الإيمان من بين غيرهم.

والثاني : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ) فيما دعاه إليه وهو الهجرة ، أي : فيما أخبر أنه أمر بالهجرة فاستصحبه فيها.

وقوله : (مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) : قال أهل التأويل (١) : هذا قول إبراهيم كقوله : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩].

وجائز أن يكون قوله : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) قول لوط.

ثم لم يفهم من قوله : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) ، وقوله : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) [الصافات : ٩٩] انتقاله أو المكان أو شيء مما يوجب التشبيه مما يفهم من الخلق ، فكيف يفهم من قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ) [البقرة : ٢١٠] ، وقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢] و (اسْتَوى) [البقرة : ٢٩] وأمثاله ـ ما يفهم من مجيء الخلق وإتيانهم واستوائهم؟ إذ لا فرق بين مجيء آخر إليه وبين مجيئه إلى آخر ؛ هذا في الشاهد سواء ، فكيف فهم في الغائب في أحدهما ما لم يفهم من الآخر ، وهما سيان في الشاهد؟! فدل أنه لا يجوز أن يفهم منه شيء من ذلك ما يفهم من الخلق ؛ إذ أخبر أنه (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١].

وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُ) يعنى : لإبراهيم ، (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) : ذكر أنه وهب له إسحاق ويعقوب ؛ ليعلم أن الولد هبة الله ، وكذلك ولد الولد ؛ لأن يعقوب كان ولد ولده ، حيث قال : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] فكلهم هبة الله إياه ، قال :

__________________

(١) قاله ابن عباس وابن زيد والضحاك ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٧٧٢٩) و (٢٧٧٣١) و (٢٧٧٣٣) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٧٥).

٢٢٠