تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

فليس أنهم لا ينهون ولا يمنعونهم عن ذلك إذا رأوا النهي ينجع فيهم ، وإذا رأوه لا ينجع فيهم ، فعند ذلك أعرضوا عنه ؛ وهو كقوله : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢].

وقوله : (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) : يقولون هذا لهم إذا لم ينجع النهي والموعظة ولم يقبلوا ذلك ، عند ذلك يقولون : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) ، أي : لكم جزاء أعمالكم ولنا جزاء أعمالنا ؛ وكذلك قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] لم يقل هذا لهم في ابتداء الدعاء ، ولكن بعد ما أيس عن إيمانهم وإجابتهم ؛ فعلى ذلك الأوّل.

وقوله : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) : هذا يشبه أن يخرج على وجهين :

أحدهما : على القول منهم بالسلام عليهم ، أي : كانوا لا يخاطبون الجهال ، ولا يخاطبونهم إلا بالسلام خاصة ، بهذا القدر يخالطونهم حسب.

والثاني : ليس على حقيقة قول : السلام عليهم ، ولكن على الصلح وترك المكافأة لهم ، وتركهم إياهم على ما هم عليه ؛ إذ السلام هو الصلح ، والله أعلم.

وقال بعضهم : ردوا عليهم معروفا (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) ، يعنون : لا نريد أن نكون من أهل الجهل والسفه.

وقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) : ذكر أهل التأويل أن هذا نزل في أبي طالب عم النبي ، وذلك أن أبا طالب قال : يا معشر بني هاشم ، أطيعوا محمدا وصدّقوه تفلحوا وترشدوا ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟!» قال : فقال : ما تريد يا ابن أخي؟ قال : «أريد منك كلمة واحدة في آخر يوم من الدنيا : أن تقول : لا إله إلا الله ؛ أشهد لك بها عند الله» قال : يا ابن أخي ، قد علمت أنك صادق ، ولكن أكره أن يقال : جزع عن الموت ، ولو لا أن يكون عليك وعلى بني أبيك وأخيك غضاضة ومسبة بعدي لقلتها ، ولأقررت بها عينك عند الفراق ؛ لما أرى من شدة وجدك ونصيحتك ، ولكن سوف أموت على ملة الأشياخ فلان وفلان ؛ فأنزل الله ذلك : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)(١) ، فهو على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الهدى البيان ،

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٤٥٦) ، كتاب التفسير : باب قوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٤٧٧٢) ، ومسلم (١ / ٥٤) ، كتاب الإيمان : باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت (٣٩ / ٢٤) ، وابن جرير (٢٧٥٢٢) و (٢٧٥٢٣) ، وابن أبي شيبة وأحمد والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي عن ابن المسيب عن أبيه بنحوه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٥٣).

وأخرجه مسلم (٤١ / ٢٥) ، وأحمد (٢ / ٤٣٤ ، ٤٤١) ، والترمذي (٥ / ٢٥٠) ، في التفسير باب : (من سورة القصص) (٣١٨٨) ، وابن جرير (٢٧٥١٨) ، (٢٧٥٢١) ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، عن أبي هريرة بنحوه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٥٣).

١٨١

ولو كان بيانا على ما يقولون لكان رسول الله يقدر أن يبين له وقد بين.

لكن الجبائي يحتج لهم فيتأول ويقول : إن رسول الله كان يحرص أن يدخله الجنة فيقول : إنك لا تهدي طريق الجنة له حتى يدخلها ، أو كلام يشبه هذا ، وذلك بعيد.

وقال جعفر بن حرب : هذا ليس في ابتداء الهداية ، ولكن في اللطائف التي تخرج مخرج الثواب لهم لما كان منهم من الاهتداء في البداء والأنف ؛ كقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً ...) الآية [محمد : ١٧] ، فيخبر أنك لا تملك الهداية اللطيفة التي تخرج مخرج الثواب أن تهديهم.

فيقال له : أخبرنا عن تلك الزيادة التي تخرج مخرج الثواب لهم لما كان منهم من الاهتداء في الابتداء تنفع لهم دون الابتداء.

فإن قالوا : نعم.

فيقال لهم : فذلك عليه أن يفعل بهم ؛ إذ من قولهم : إن عليه أن يعطي كل كافر ما ينفعه ويصلح له في دينه ، فكيف منع ذلك وهو ينفعهم؟!

والثاني : يقال لهم : إن تلك الزيادة التي تخرج مخرج الثواب لهم واللطائف على ما كان منهم في الابتداء يستوجبها أو لا يستوجبها ، فإن كان يستوجبها فلا معنى للمنع على قولهم ؛ لأنهم يقولون : إن على الله أن يعطي ذلك ، وإن كان لا يستوجبها ، فلا معنى لقوله : (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) على قولهم ؛ فيبطل الاحتجاج به على قولهم.

وعندنا زيادة الهداية وابتداؤها سواء ، وهو على ما أخبر رسوله أنه لا يهديه ، ولكن لو كان الهداية بيانا ـ على ما قالوا ـ لكان قد بين لهم ؛ فدل ذلك منه أن ثم هداية سوى البيان عند الله إذا أعطاها العبد يصير بها مؤمنا ، وهي التوفيق والعصمة والسداد ، وذلك لا يملك رسول الله إنشاء ذلك وابتداعه ، بل الله هو المالك بذلك.

قوله تعالى : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (٦١)

وقوله : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) : دل قولهم : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى

١٨٢

مَعَكَ) على أنهم عرفوا أن ما جاء به رسول الله ويدعوهم إليه هو الهدى ، حيث قالوا : (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ).

وقوله : (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) : يخرج قولهم هذا على وجهين :

أحدهما : أن نهلك ونفنى جوعا إذا خالفنا أهل الآفاق في الدين ؛ لأن أرزاقهم وما به قوام أبدانهم إنما يحمل ويمار من الآفاق ، فيقولون : إنا إذا اتبعنا الهدى معك وخالفنا في الدين أهل الآفاق ، منعونا الميرة فنهلك ونموت جوعا ؛ فذلك تخطفهم من الأرض.

والثاني : قالوا ذلك مخافة أن يغزوا ويؤسروا أو يقتلوا إذا خالفوا أهل الآفاق والأطراف في الدين واتبعوا الهدى مخافة الأسر والقتل ، فأجابهم الله وردّ عليهم اعتلالهم في الوجهين ، فقال : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) يقول ـ والله أعلم ـ : إنا جعلناهم في الحرم آمنين ، وما يمتار إليهم من أنواع الثمرات باللطف لا بموافقة الدين ؛ ألا ترى أنهم مع موافقة الدين كانوا يتخطفون الناس منهم ؛ حيث قال في آية أخرى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [القصص : ٥٧] أخبر أنهم مع موافقتهم في الدين يتخطفون ؛ دل أنه إنما جعل لهم الحرم مأمنا والميرة إليهم باللطف لا بالموافقة في الدين ؛ حتى لا يتعرض لأهل الحرم في الحرم ولا خارجة بشيء منه ، ولا يتعرض ـ أيضا ـ من دخل الحرم بشيء ؛ ليعلم أنه إنما كان كذلك باللطف من الله لا بالموافقة في الدين.

والثاني : أنه مع ما كانوا يعبدون الأصنام دون الله فيه لا يمنعهم الرزق ويؤمنهم فيه ، فلأن يفعل ذلك بهم عند عبادتهم لله وتركهم عبادة غيره أحق أن يرزقوا ويأمنوا فيه.

وقوله : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) : قال أهل التأويل : (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) أي : من كل جنس ونوع من الثمرات يجيء إليه.

وظاهره : أن يجيء إليه من [كل] شيء أرفعه وأنفعه وذلك ثمرته ؛ لأن ثمرة كل شيء أرفعه وأنفعه ، يقال : ثمرة الشيء كذا وثمرة هذا الكلام كذا ، أي : ما ينتفع من هذا : هذا ، والله أعلم.

وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أي : ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ما يحمل إليهم من الآفاق ، ويجيء إليهم من الثمرات والأطعمة إنما هو باللطف لا بموافقة الدين ؛ وكذلك لا يعلمون أن أمنهم فيه باللطف لا بموافقة الدين ، والله أعلم.

وقوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) : قال بعضهم : كفرت معيشتها.

١٨٣

وقال بعضهم : لم ترض معيشتها ، وفيه إضمار «في» ، أي : (بطرت في معيشتها) فانتصب لانتزاع حرف «في» ، وتأويله ـ والله أعلم ـ أي : كم أهلكنا قرية بطر أهلكها في معيشتها ، حتى صرفوا شكر ما أنعم عليهم ، وجعلوا عبادتهم لغير الذي جعل لهم السعة والرخاء ، فأنتم يا أهل مكة إذا بطرتم أشركتم في سعتكم وخصبكم تهلكون ؛ كما أهلك من كان قبلكم ، وهو كما قال : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ ...) الآية [الأنعام : ٤٤].

وقوله : (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) : من القريات ، قريات إذا أهلك أهلها أسكن غيرهم فيها نحو : قريات فرعون وغيره ، جعل مساكنهم لبني إسرائيل حيث قال : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ ...) الآية [الأعراف : ١٣٧] ، وقوله : (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) [غافر : ٥٣] ، ومن القريات ما جعلها خربة معطلة لم يسكن غيرهم فيها نحو قريات لوط وغيره.

وقوله : (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) أي : الباقين ، والوارث : هو الباقي في اللغة على ما ذكرنا آنفا في غير موضع.

وقوله : (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) يخرج على وجهين :

أحدهما : إخبار عن هلاك أهل الأرض وفنائهم ويبقى هو ؛ كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم : ٤٠] والثاني : إخبار عن هلاك أولئك وجعلها لغيرهم ، أي : للمتقين ؛ كقوله : (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] ، والله أعلم.

قال أبو عوسجة : (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) أي : نؤخذ ، وقوله : (يُجْبى إِلَيْهِ) من الجباية ، أي : يجمع ، يقال : جبيت أجبي جباية وجبيا ، وأجبى يجبي ، أي : حاز يحوز ، (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) أي : لم ترض بمعيشتها.

وقال القتبي (١) : أي : أشرت.

وقالا : (فِي أُمِّها رَسُولاً) أي : في أكثرها وأعظمها قدرا وهي مكة ، والنبي منهم والكتاب أنزل عليهم.

وقالا : و (أُمِّها) : كلمة لا يتكلم بها أحد يعنون بالكسر.

وقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) : جائز أن يكون تلك القرى التي أخبر أنه غير مهلكها حتى يبعث في أمها رسولا ـ :

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ، ص (٣٣٤).

١٨٤

القريات اللاتي هن حول مكة ، لا يهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا.

قيل : في أعظمها ـ وهي مكة ـ رسولا (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) ، فإن كان هذا ؛ فيكون الإهلاك لها الانتزاع من أيديهم ، وجعلها في أيدي أهل الإسلام على ما كان ؛ لأن الله كان يفتح على رسوله قرية فقرية وبلدة فبلدة ، حتى جعل الكل في أيدي المسلمين ، وهو ما قال : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ) [الرعد : ٣١] وهو وعد فتح مكة ، وذلك إهلاكهم.

والثاني : جائز أن يكون هذا في كل القرى وجميع الرسل : أنه كان لا يهلكها بالكفر نفسه ، حتى يبعث في أكبرها وأعظمها ـ وهي المصر ـ رسولا يتلو عليهم آياته ، وذلك يشبه قوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥].

وإنما ذكر بعث الرسول في أمها ؛ لأنه إذا بعث الرسول في أعظمها ـ وهو المصر ـ ينتشر وينتهي إلى الآفاق والصغائر منها والقرى ؛ لما أنهم يدخلون المصر لحوائجهم ؛ فيتهيأ للرسول تلاوة الآيات عليهم والدعاء لهم ، وإذا كان في بعض القرى لا يتهيأ لهم ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) أي : معاندون مكابرون ، لا نهلكهم إهلاك تعذيب بنفس الكفر في الدنيا ، حتى يكون منهم العناد والمكابرة ، إنما يعذبون عذاب الكفر في الآخرة وهو عذاب الأبد.

وقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) : إنهم كانوا يتفاخرون بما أوتوا من السعة ومتاع الحياة الدنيا ، وأهل الزهد والتقوى آثروا الباقي الموعود في الآخرة على متاع الحياة الدنيا وزينتها ؛ ولذلك قال : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، فجواب هذا أن يقال : بل الموعود الحسن الملاقى بالذي له عاقبة خير من المتاع الفاني الذي ليست له عاقبة ، لكنه لم يذكر له جوابا ، فجوابه ما ذكرنا.

ثم كل استفهام كان من الله فهو على الإيجاب في الحقيقة ليس على الاستفهام.

وقوله : (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) أي : يحضرون في النار.

وقيل (١) : من المحضرين ، أي المعذبين ، وكلاهما واحد.

__________________

(١) قاله قتادة بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٢٧٥٤٢) ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٥٥).

١٨٥

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) (٦٧)

وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ).

قوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) الذين في زعمكم أنهم شركائي ، حيث أشركتموهم في العبادة وتسمية الألوهية ، وإلا لم يكن لله شريك فيقول : أين هؤلاء الذين زعمتم أنهم شركائي.

ثم قوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ) إنما يقال لهم لقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، فيقول : أين شفاعة من زعمتم أنهم شفعاؤكم عند الله ، وأين قربتكم وزلفاكم بعبادتكم إياها حيث زعمتم أن عبادتكم إياها تقربكم إلى الله زلفى؟ أين ذلك لكم منهم؟

وقوله : (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) : يحتمل قوله : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) الذي قال : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣].

وجائز أن يكون قوله : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) أي : وجب عليهم العذاب ؛ كقوله : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) [النمل : ٨٢] أي : وجب العذاب عليهم ؛ وكقوله : (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٨٥] أي : وجب العذاب عليهم بما ظلموا ونحوه.

ثم اختلفوا في الذين حق عليهم القول :

فمنهم من يقول : هم رؤساء الكفرة وأئمتهم الذين أضلوا أتباعهم ودعوهم إلى الضلال.

ومنهم من يقول : هم شياطين الجن.

وللفريقين جميعا في الكتاب ذكر :

قال في أئمتهم : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) [البقرة : ١٦٦] ، وقال : (قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا) [الأعراف : ٣٨] وأمثال هذا كثير.

وقال في شياطين الجن : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] ، وقال : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ...) الآية [الصافات : ٢٢] ، ونحوه كثير أيضا.

وقوله : (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) : يقولون : (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) يعتذرون : أنه لم يكن منا إليهم إلا الدعاء والإشارة إلى الغواية ؛ وهو كقول إبليس اللعين

١٨٦

وخطبته يومئذ حيث قال : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ...) الآية [إبراهيم : ٢٢] ؛ فعلى ذلك هؤلاء يقولون : لم يكن منا إليهم سوى الدعاء بلا برهان ولا حجة فاتبعونا ؛ فلا تلومونا ولوموا أنفسكم ؛ حيث تركتم إجابة الرسل ومعهم براهين وحجج ، وأجبتمونا بلا حجة ولا برهان ، فأغويناكم كما غوينا ، ولو كنا على الهدى لهديناكم ، كقولهم : (لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) [إبراهيم : ٢١].

وقوله : (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) : إنما يتبرءون أنا لم نأمرهم بالعبادة لنا ، وإلا كانوا عبدوهم.

ثم إن للمعتزلة أدنى تعلق بهذه الآية ؛ لأنهم يقولون : إنما أضافوا الغواية إلى أنفسهم حيث قالوا : (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) ؛ دل أن الله لا يغوي أحدا.

فيقال لهم : إنا لا نضيف ولا نجيز إضافة الغواية إلى الله فيما يخرج مخرج الذم له ، وإنما نضيف فيما يخرج مخرج المدح له والثناء عليه ، ثم قد أضاف إبليس الغواية إليه ، ولم ينكر عليه حيث قال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [الحجر : ٣٩] في غير موضع وقال : (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) [الرعد : ٢٧] ، ونحوه كثير في القرآن ، فما خرج مخرج المدح له والثناء عليه يضاف إليه ، وما خرج مخرج الذم له فلا ، وقد ذكرنا هذا في غير موضع ، والله أعلم.

وقوله : (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) يوم قال لإبليس : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥] ، ثم قالت الشياطين في الآخرة : (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) يعنون : كفار بني آدم ، هؤلاء الذين أضللناهم عن الهدى كما ضللنا تبرأنا إليك منهم يا رب (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) ، فتبرأت الشياطين ممن كان يعبدها ، فقالوا : لم نأمرهم بعبادتنا ، وقيل لكفار بني آدم : (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) يقول : سلوا الآلهة التي سميتموها : آلهة أهم آلهة؟ (فَدَعَوْهُمْ) أي : سألوهم ، فلم تجبهم الآلهة بأنها آلهة.

وقوله : (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) في الدنيا ، أي : معي شركاء على ما ذكرنا من قبل ، والله أعلم.

وقوله : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) يحتمل شركاءكم في الخلقة ، أو شركاءكم في العبادة ادعوهم ؛ ليشفعوا لكم ويقربوكم إلى الله على ما زعمتم في الدنيا ، (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) ، أي : لم يشفعوا لهم ولم يستجيبوا لهم ؛ لما لم يجعل في وسعهم الإجابة لهم واجبا كائنا في الآخرة.

وقوله : (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) : تأويله ، أي : لو رأوا العذاب في الدنيا لكانوا يهتدون ، ولكن لم يروه ؛ هذا وجه.

١٨٧

ووجه آخر : أنهم لم يصدقوا بالعذاب في الدنيا ، ولو صدقوه لاهتدوا مخافة نزول العذاب بهم.

والثالث : لو أنهم كانوا مهتدين في الدنيا ما رأوا العذاب في الآخرة ، والله أعلم.

وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ. فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) اختلف فيه : قال قائلون : إنما يسألون عن إجابتهم الرسل ما ذا أجبتموهم؟ على علم منه أنهم ما ذا أجابوا هم ، (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) أي : الإجابة ، فلا يتهيأ لهم الإجابة لهول ذلك وفزعهم.

وقال بعضهم : إنما يسألون عن الحجة والعذر الذي به كانوا تركوا إجابة الرسل ، فيقول لهم : لأي حجة وعذر تركتم إجابتهم (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) ، أي : الحجج والعذر ، لما لم يكن لهم الحجة والعذر في تركهم إجابتهم.

(فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) : قال بعضهم (١) : لا يسأل بعضهم بعضا ، بل يتبرأ بعضهم من بعض ، ويكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا على ما ذكر في الكتاب.

وقال بعضهم : (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) بالحجة والبرهان ؛ لما لا حجة لهم ولا برهان ، أي : لا يسأل بعضهم بعضا عن الحجج ؛ لأن الله أدحض حججهم وكلل ألسنتهم.

وقال بعضهم (٢) : لا يتساءلون بالأنساب يومئذ كما كانوا يتساءلون في الدنيا ؛ كقوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) [المؤمنون : ١٠١] ، والله أعلم بذلك.

ثم إن بعض المعتزلة تكلموا فيه وقالوا : لو كان الأمر على ما قاله القدريون والجبريون في المشيئة والإرادة ، لكان يسهل لهم الاحتجاج ، ويهون لهم العذر ، فيقولون : يا ربنا أجبنا ما نفذ من مشيئتك وإرادتك ، وما مضى من قضائك وكتابتك علينا ؛ إذ كنت أنت قضيت وكتبت علينا وشئت وأردت ما كان منا من التكذيب لهم وترك الإجابة ، فلم يكن لنا تخلص مما شئت أنت وقضيت علينا.

إلى هذا الخيال يذهب جعفر بن حرب ، وهذا تعليم لأولئك الكفرة الحجاج بالباطل والكذب بين يدي رب العالمين للتكذيب الذي كان منهم.

ثم يقال : لو كان لهم ذلك الحجاج على زعمكم ، فلا يكون ذلك لهم بقولنا ، ولكن إنما يكون بكتاب الله وسنة رسوله وقول المسلمين أجمع حيث قالوا : (ما شاء الله كان

__________________

(١) قاله البغوي في تفسيره (٣ / ٤٥٢).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٥٥٣) ، (٢٧٥٥٤) ، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٥٧).

١٨٨

وما لم يشأ لم يكن) ، وبكتاب الله ما ذكر في غير آي من القرآن (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٤٢] وقوله : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [القصص : ٥٦] ، وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) [الأنعام : ٣٥] ، وقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ ...) الآية [يونس : ٩٩] ، وأمثاله مما لا يحصى من الآيات ، فلئن كان لهم ذلك إنما يكون بما ذكرنا لا بقولنا.

وأصله : أنه لا يكون لهم هذا النوع من الاحتجاج ؛ لأنهم وقت فعلهم لا يفعلون بأن الله شاء ذلك لهم أو قضى وكتب ذلك عليهم ، وهم يودون ويحبون وقت فعلهم أن يشاء الله ذلك منهم ويرضى ، فإذا كانوا وقت فعلهم لا يفعلون لذلك ، فكيف يكون لهم الحجاج على ما كانوا عليه يفعلون لا لذلك؟!

لكن هذا منهم تعليم الكذب لهم ليكذبوا بين يدي رب العالمين على ما ذكر.

وأصل قولنا في هذا : أنا نقول : إنه شاء من كل ما علم أنه يكون منه ويختار ، وكذلك قضى وكتب على كل ما علم أنه يكون منه ؛ إذ لا يجوز أن يشاء منه خلاف ما علم أنه يكون ؛ لأن فيه أحد وجهين :

إما الجهل بالعواقب.

وإما العجز فيه.

وذانك عن الله منفيان ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

وأصلهما : ما روي عن أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أنه قال : بيننا وبين القدرية حرفان :

أحدهما : أنا نقول لهم : إن الله علم ما يكون أنه يكون ، فإن قالوا : لا ، كفروا ؛ لأنهم جهلوا الله ، وإن قالوا : بلى ، فيقال لهم : وشاء أن يكون ما علم أنه يكون ، فإن قالوا : لا ، كفروا ؛ لأنهم يقولون : شاء أن يجهل ، وذلك كفر ، وإن قالوا : بلى شاء ذلك ، لزمهم قولنا في المشيئة والإرادة لله في ذلك.

قال أبو عوسجة والقتبي (١) : (فَعَمِيَتْ) بالتخفيف ، أي : خفيت ، و (فَعَمِيَتْ) بالتشديد ، أي : أخفيت.

وقوله : (فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي : فأما من تاب ، أي : رجع عما كان فيه من الشرك والكفر ، وآمن بالذي دعاهم الرسل وأجابهم ، وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه.

(فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) : يحتمل رجوع (فَعَسى) إلى ذلك الرجل الذي نعته ، يقول : على رجاء القبول والفلاح يفعل ما يفعل من التوبة والعمل الصالح.

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٣٤).

١٨٩

أو أن يقال ما قال أهل التأويل : إن (فَعَسى) من الله واجب ، وهو ما ذكرنا أن كل استفهام كان من الله فهو على اللزوم والوجوب ؛ فعلى ذلك حرف (عسى) ، و (لعل) ، وإن كان حرف شك في الظاهر ، فهو من الله على الوجوب واليقين.

قال أبو معاذ : الفلاح في كلام العرب البقاء ، ويقال : النجاة ، وقد ذكرناه في غير موضع.

قوله تعالى : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٧٠)

وقوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) : يقول ـ والله أعلم ـ : وربك يختار للرسالة من يشاء ويجتبيه لها ، فيجعلهم رسلا.

(ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) : يقول : لم يكن لهم أن يختاروا هم ، ولكن الله يختار ويصطفي من يشاء ردّا لقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ ...) الآية [الزخرف : ٣١] ، إلى هذا ذهب بعضهم.

وجائز أن يكون هذا في كل أمر ، أي : وربك يختار ما يشاء ويأمر ، وما كان لهم الخيرة من أمره أي : التخلص والنجاة من أمره ؛ كقوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) [الأحزاب : ٣٦] أي : أمر الله ورسوله أمرا ، (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب : ٣٦].

والقضاء هاهنا أمر ، لكنه يحتمل وجهين :

أحدهما : على الوقف على قوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) ، والابتداء من قوله : (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) من أمرهم ، فإن كان على هذا فيكون (ما) هاهنا (ما) جحد ، أي : لم يكن لهم الخيرة من أمرهم.

والثاني : على الصلة : ليس على الحجاج ، فيكون تأويله : وربك يخلق ما يشاء ويختار الذي لهم الخيرة أن يكون ، الوقف على هذا على قوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) ، ثم يقول (وَيَخْتارُ) الذي لهم (الْخِيَرَةُ).

قال أبو معاذ : قرئ (الْخِيَرَةُ) بجزم الياء وبتحريكها (الْخِيَرَةُ).

ثم قوله : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) على المعتزلة من وجهين :

أحدهما : ما أجمعوا عليه أن الله قد شاء جميع ما يفعله العباد من الخيرات والطاعات ، فإذا شاء ذلك دل أنه خلقها لهم ، أخبر أنه يخلق ما يشاء وقد شاء الخيرات ؛ فدلّ ذلك على خلق أفعال العباد.

١٩٠

لكنهم يقولون : قوله : (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) إذا خلقه ؛ وكذلك يقولون في قوله : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ٢٨٤] : إن خلقه أو كلام نحو هذا.

فلئن جاز لهم هذا من الزيادة جاز لكل أحد مثله ، فذلك بعيد.

وعلى قولهم أكثر الأشياء ليست بمخلوقة لله ، وهو على أكثر الأشياء غير قدير ؛ لأن أفعال الخلق لا شك أنها أكثر من أنفسهم ، فأخبر أنه على كل شيء قدير ، وأنه يخلق ما يشاء ، وأن هذا منه خرج مخرج الامتداح له والثناء له بما له من السلطان والقدرة على الخلق كلهم ، فلو كان على ما يقوله المعتزلة لم يكن هذا مدحا له ولا ثناء بالسلطان والقدرة ؛ إذ هو على قولهم على أكثر الأشياء ليس بقادر على ما ذكرنا.

ثم نزه نفسه وبرأها عما قالوا فيه وأشركوا غيره في ألوهيته وربوبيته وفي عبادته فقال : (سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، وقال : (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) هذا يخرج على الوعيد لهم والتنبيه ؛ ليكونوا على حذر فيما يسرون وما يعلنون ، والله أعلم.

وقوله : (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ).

قوله : (وَلَهُ الْحُكْمُ) كقوله : (وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) ، وقد ذكرنا أن قوله : (وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) من أمرهم أنه يخرج على وجهين :

أحدهما : له الاختيار في أمرهم ؛ لا لهم الاختيار في أمرهم ، ولا يملكون هم ما يختار لهم دفعه.

والثاني : هو يختار لهم الخيرة في أمرهم ؛ لأنه هو العالم بمصالح أمورهم وما يرجع إلى الأوفق والأنفع وهم لا يعرفون ذلك ، فعلى ذلك قوله : (لَهُ الْحُكْمُ) في الدنيا والآخرة لأن أنفس الخلائق له دونهم ، فله الحكم في أمورهم وأفعالهم ؛ كما له الحكم في أحوالهم ؛ لأنه لا يلحقه الخطأ في حكمه ؛ إذ هو عالم بذاته ، ولا تلحقه التهمة أيضا في دفع مضرة أو جر نفع ؛ لأنه غني بذاته فله الحكم في الدارين جميعا ، والله الموفق.

وقوله : (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) : هذا يخرج على وجوه :

أحدها : ما قاله أهل التأويل (١) : إن أولياءه يحمدونه في الدنيا والآخرة في الجنة حيث قالوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ...) الآية [فاطر : ٣٤] يقولونه إذا دخلوا الجنة.

والثاني : وقال بعضهم (فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) يقول : في السموات والأرض ، وتصديقه

__________________

(١) قاله البغوي في تفسيره (٣ / ٤٥٣).

١٩١

قول الله : (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الروم : ١٨] ، وقوله : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [الجمعة : ١] ، وقوله : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) [الإسراء : ٤٤].

والثالث : (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) : وهو أن جعل الدنيا مشتركة بين الأعداء والأولياء في نعيمها غير مفترقة ولا مختلفة ، وأما الآخرة فقد فرق فيها بين الأولياء والأعداء ؛ جعل للأولياء النعمة الدائمة وللأعداء العذاب الدائم ، فله الحمد على ذلك.

والرابع : (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) لما جعل الدنيا دار محنة والآخرة دار الجزاء لم يجعلها دار المحنة.

أو أن يكون قوله : (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) أي : له الحمد من الخلق في كل حال وكل وقت ؛ كقوله : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] ، أنهم يحمدونه في بدء كل أمر وختمه ، أو أن يكون له الحمد.

قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٧٣)

وقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) : أو إن جعل النهار سرمدا ، أي : دائما لا ليل فيه ... إلى آخر ما ذكر من قوله : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) و (أَفَلا تُبْصِرُونَ) يخرج ذكره لوجهين :

أحدهما : في تسفيههم في صرف العبادة والشكر إلى الأصنام التي كانوا يعبدونها على علم منهم أنها لا تملك شيئا مما ذكر ، من جعل الليل نهارا وجعل النهار ليلا ، وتركهم عبادة من يعرفون أنه يملك ذلك كله ؛ وكذلك ما ذكر في آية أخرى حيث قال : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ...) الآية [الزمر : ٣٨] ، يقول ـ والله أعلم ـ : فإذا لا يملك ما تعبدون من دون الله دفع ضر أراده الله فيه وجعله رحمة ، ولا دفع رحمة أرادها الله وجعله ضرّا ، فكيف تعبدونها وتتركون عبادة من يملك جعل هذا هذا ودفع هذا بهذا؟ فعلى ذلك يقول ـ والله أعلم ـ : كيف تعبدون من لا يملك جعل الزمان كله ليلا دائما لا نهار فيه ، وجعل النهار نهارا كله دائما لا ليل فيه ، وتتركون عبادة من يملك ذلك كله يجعل وقت الراحة والقرار.

والثاني : يذكرهم عظيم نعمه ومننه حيث أنشأ هذا العالم محتاجا إلى ما به قوام أنفسهم وأبدانهم في دينهم ودنياهم ، ثم جعل ذلك كله على التعاون والتظاهر بعضهم بعضا ما لو

١٩٢

جعل ذلك على غير ذلك لا يقوم أنفسهم وأبدانهم بذلك ؛ حيث جعل الليل وقتا للراحة والسكون ، والنهار وقتا للتقلب والتعيش ، ولو كان ذلك كله وقتا للراحة لا يقوم أنفسهم أبدا للتعيش والكسب ، ولو كان كله وقتا للتقلب والكسب لا راحة فيه لا تقوم أيضا أنفسهم بذلك ، لكنه ـ من رحمته وفضله ـ جعل لهم وقتا للراحة ، ثم جعله للكل لا لبعض دون بعض ؛ وكذلك ما جعله وقتا للتقلب إنما جعله كذلك للكل لا لبعض دون بعض ؛ ليقوم لهم أسباب العيش ، وما به قوام أنفسهم وأبدانهم ، ولو كان ذلك كله وقتا لأحدهما لم تقم أنفسهم ، ولا بقي هذا العالم إلى الوقت الذي كتب له البقاء إلى ذلك الوقت وهو ما ذكر : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ).

وقوله : (أَفَلا تَسْمَعُونَ) ، و (أَفَلا تُبْصِرُونَ) إنما هو سمع عقل وقلب وبصر عقل ؛ كأنه يقول : أفلا تسمعون هذا بالعقل وأ فلا تبصرون بالعقل ، والله أعلم ؛ كقوله : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ ...) الآية [الحج : ٤٦].

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(٧٥)

وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) : قد ذكرناه.

وهذه الآيات التي يكررها ويعيدها مرة بعد مرة من قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) [القصص : ٦٥] ، وقوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) ، وقوله : (وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) [القصص : ٦٤] ، وأمثال ذلك مما يكثر على علم منه أنهم لا يصدقونها ، ولا يقبلونها ولا يستمعون إليها وإن كررت وأعيدت غير مرة ؛ فهو ـ والله أعلم ـ يخرج على وجهين :

أحدهما : لزوم الحجة لما مكنوا من الاستماع والسماع ، وإن كانوا لا يستمعون إليها.

والثاني : يكون فيه عظة للمؤمنين من وجوه :

أحدها : ليشكروا على ما عصموا من عبادة غير الله ، ووفقوا [إلى] عبادة الله المستحق لها ؛ ليعرفوا عظيم نعمة الله عليهم.

والثاني : ليحذروا عاقبتهم في الرجوع إلى ما هو عليه أولئك الكفرة ، على ما حذر الرسل والأنبياء وأولو العصمة عاقبتهم في الرجوع إلى ذلك ؛ كقول إبراهيم : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] ، وأمثاله كثير.

والثالث : خوف المعاملة لئلا يعاملوا هم في العمل كما عامل أولئك في الاعتقاد ؛ لأن المؤمنين وإن خالفوا هم أولئك الكفرة في الاعتقاد في إشراك غيره في العبادة فربما

١٩٣

يوافقونهم في العمل ، فكررت هذه الأنباء والآيات عليهم وأعيدت مرة بعد مرة ، وإن كان أولئك لا يستمعون إليها للوجوه التي ذكرنا (١).

والرابع : كررت غير مرة لما لعلهم لا يقبلون في وقت ويقبلون في وقت ، فيقولون : لو كررت وأعيدت لقبلنا ، فكررت وأعيدت لئلا يقولوا بأنها لو أعيدت وكررت لقبلناها ، والله أعلم.

وقوله : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) : قيل (٢) : شهيدها رسولها ؛ كقوله : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ...) الآية [النساء : ٤١] ، وقوله : (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) [النحل : ٨٩] ونحوه ، سمي : شهيدا ؛ لأنه شهد على ما عملوا ، وحضر ما كان منهم ـ والله أعلم ـ من التكذيب والقبول والرد.

(فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ) : في تسميتكم الأصنام : آلهة ، أو في استحقاقها العبادة ، أو في زعمكم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ونحو ذلك ، يقول : هاتوا برهانكم وحجتكم على ما زعمتم.

وقوله : (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) : هذا أيضا يحتمل وجوها :

أحدها : علموا أن الألوهية والربوبية لله.

أو علموا أن الشفاعة لله لا للأصنام التي عبدوها ليكونوا شفعاء لهم عند الله ؛ كقوله : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) [الزمر : ٤٤].

أو أن يكون : أن الحق الذي عليهم وهي العبادة لله.

أو أن يكون ما جاء به الرسل من الحق إنما جاءوا به من عند الله.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : ضل عنهم ما كانوا يأملون من عبادتهم تلك الأصنام من الشفاعة والزلفى.

قوله تعالى : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : ذكر الله ـ سبحانه وتعالى ـ المعاملة مع الكفرة في الآخرة بما خالفوا الله تعالى من طريق الاعتقاد ، وتركوا الإيمان ؛ ليكون زاجرا للمؤمنين على المخالفة في أوامره ونواهيه ؛ لئلا يعاملوا في العمل السيئ كما يعامل الكفرة في الاعتقاد السيئ. قوله : لأن المؤمنين ... إلخ. شرح.

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٥٦٠) و (٢٧٥٦١) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٥٨).

١٩٤

اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤)

وقوله : (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ) : كأنه قال ـ والله أعلم ـ يخوّف أهل مكة ، ويوعدهم ببغيهم على الله وعلى رسوله بعذاب ينزل بهم ؛ كما نزل بقارون ببغيه على موسى وقومه ، أي : لم تنفعه قرابته من موسى ولا صلته به ؛ لما ذكر أنه كان ابن عمه وكان ختنه : زوج أخته مريم ؛ فعلى ذلك يقول ـ والله أعلم ـ : لا تنفعكم القرابة التي بينكم وبين رسول الله ولا اتصالكم ـ به من عذاب الله ومقته في الدنيا ، إذا بغيتم عليه وتركتم اتباعه ؛ كما لم تنفع القرابة التي بين قارون وموسى من عذاب الله ومقته في الدنيا إذا بغى عليه ، وكما لم تنفع أبوة أبي إبراهيم لأبي إبراهيم إذا بغى عليه وترك اتباعه ، حيث تبرأ إبراهيم منه وحيث قال : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) الآية [مريم : ٤٥] ، وحيث لم تنفع لامرأة نوح ولوط الزوجية التي كانت بينهما وبين نوح ولوط من نزول العذاب ومقته بهما إذا تركتا اتباعهما وبغتا عليهما ؛ فعلى ذلك يأهل مكة لا ينفعكم من عذاب الله ومقته قرابتكم برسول الله ـ صلوات الله عليه ـ ووصلتكم به ، والله أعلم.

وقوله : (فَبَغى عَلَيْهِمْ) : اختلف أهل التأويل في بغيه عليهم :

قال بعضهم (١) : هو أن موسى طلب منه زكاة ما آتاه الله من المال ، فمنعه وأبى أن يعطيه.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٥٩).

١٩٥

وقال بعضهم (١) : بغيه عليهم هو أن أعطى امرأة جعلا لتقذفه بنفسها ، فأراد أن يفضحه على رءوس الأخيار والملأ وأن يرجموه ، فدفع الله عنه وبرأه منه.

وقال بعضهم (٢) : إنما بغى عليه بكثرة ماله وولده ، هذا يشبه أن يكون كأنه افتخر بكثرة ماله في دفع عذاب الله ونقمته ؛ كقول أهل مكة : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً ...) الآية [سبأ : ٣٥].

وقال بعضهم : بغى عليه لأن النبوة جعلت في موسى والحبورة في هارون ، ولم يجعل لقارون شيء ، فاعتزل عن موسى واتبعه ناس كثير ، فاعتدى عليه ونحو هذا كثير مما قالوه (٣).

والأشبه أن يكون بغيه الذي ذكر عليه كبغي فرعون وهامان عليه ؛ حيث قال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ* إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ) [غافر : ٢٣ ، ٢٤] ؛ وكقوله : (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ ...) الآية [العنكبوت : ٣٩] ، فكان منه ما كان من فرعون وهامان من التكذيب والرد لرسالته ، وتسميته : ساحرا كذابا ، فذلك هو البغي عليه.

أو لا يفسر البغي عليه ؛ لأنه ذكر البغي ولم يبين ما ذلك البغي ، والله أعلم بذلك.

وقال قائلون (٤) : بغيه عليهم : هو أن زاد في ثيابهم شبرا ، فذلك أيضا لا نعلمه فهو مثل الأول.

وقوله : (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) : قال بعضهم : مفاتحه : خزائنه.

وقال بعضهم : جمع مفتاح وهو في الأصل مفاتيح.

وذكر أن كنوزه كانت كذا كذا ألفا ، وأن مفاتيحه كان يحملها كذا كذا بغلا ، وأنها من جلود كذا أو من كذا قدر كذا ، فذلك أيضا لا نعلمه ولا نفسره ولا نذكره إلا قدر ما ذكر في الكتاب ؛ إذ ذكر في الكتاب الكنوز والمفاتح ، وذكر أن العصبة تنوء بها وذلك للكثرة

__________________

(١) هو قول ابن عباس ذكره في سياق كلامه السابق.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٥٧٤).

(٣) ثبت في حاشية أ : كأنه أعد [هارون] ليعلم التوراة وأحكامها وموسى ـ عليه‌السلام ـ للدعوة ، وإقامة أمور الرعية ـ وإن كانت النبوة والرسالة عملهما ـ ولم يجعل لقارون شيء ، وهو من قرابتهما ، فاعتزل. شرح.

(٤) قاله شهر بن حوشب أخرجه ابن جرير (٢٧٥٧٣) ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٦٠).

١٩٦

ما ذكر ، ولكن لا نعلم قدره وعدده ما هو؟ ولا كم هو؟ وكذلك العصبة أيضا لا نعلمه كم عدده؟ إلا أن أهل التأويل يقول بعضهم (١) : من عشرة إلى أربعين ، ويقول بعضهم : من عشرة إلى خمس وسبعين ، وبعضهم (٢) : من عشرة إلى خمس عشرة ونحوه ، لا نفسره ولا نذكر عدده سوى أنه اسم جماعة يتعصب بعضهم بعضا يرجعون جميعا إلى أمر واحد ، وكذلك الشيعة هي جماعة يتشيع بعضهم بعضا ويتبع بعضهم بعضا ؛ ولذلك قال إخوة يوسف لأبيهم : (لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) [يوسف : ١٤] أي : يتعصب بعضنا بعضا لا ندعه يأكله ، ولئن لم نفعل ولم نحفظه (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ).

وقوله : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) : اختلف فيه : قال بعضهم (٣) : لتثقل بالعصبة تلك المفاتيح.

وقال القتبي (٤) : (لَتَنُوأُ) أي : تميل بها العصبة إذا حملتها من ثقلها.

وقال أبو عوسجة : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) ، أي : لتعجز العصبة عن حملها.

وقال بعضهم : تنوء : تثقل ، والعصبة : جماعة.

وقوله : (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ) : قال بعضهم (٥) : لا تبطر ولا تأشر ؛ إن الله لا يحب البطرين الأشرين.

وجائز أن يكون قوله : (لا تَفْرَحْ) أي : لا تفتخر على الناس بما آتاك الله من المال ولا تتكبر عليهم ، و (لا تَفْرَحْ) لا تسكن إليها ، ولا تركن إلى ذلك ، إن الله لا يحب من ذكر.

وقوله : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) : كان كثرة ما آتاه الله من المال أنسته الآخرة ، وشغلته عنها وعن العمل لها ، حتى حمله ذلك على الجحود والإنكار ، فقالوا : وابتغ الدار الآخرة بما آتاك الله.

(وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) أي : لا تنس من مالك نصيبك في الدنيا ولكن قدم لآخرتك.

__________________

(١) قاله أبو صالح وقتادة والضحاك وغيرهم ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٧٥٨٤) ، و (٢٧٥٨٥) ، و (٢٧٥٨٦) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٦٠).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٥٩١) و (٢٧٥٩٢) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٦٠).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٧٥٨٢) و (٢٧٥٨٣) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٢٦٠).

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٣٤).

(٥) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٥٩٥) و (٢٧٦٠٠) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٦١).

١٩٧

قال الحسن (١) في قوله : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا ...) إلى آخره قال : أمر أن يأخذ من ماله قدر عيشه ، ويقدم ما سوى ذلك لآخرته ، وكذلك قال في قوله : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) أي : قدم الفضل وأمسك ما يبلغك.

(وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) : قال : يكفيك ما أحل الله لك من الدنيا ؛ فإن فيه غناء وكفاية.

وأصله : ما روي عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لك من الدنيا ما أكلت ولبست وأفنيت وما قدمت» (٢) جعل المقدم من الدنيا له ، وأمّا ما خلفه فهو لغيره.

وهكذا أمر الدنيا لم تخلق الدنيا لتبقى لأهلها أو يبقى أهلها فيها ، ولكن إنما خلقت لتفنى هي أو يفنى أهلها ، وخلقت الآخرة للبقاء ، فنصيبه من الدنيا ما قدم وأنفق في طاعة الله وفي سبيله ليس ما خلفه في هذه الدنيا.

وقوله : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) يحتمل قوله : (وَأَحْسِنْ) إلى نفسك في العمل للآخرة كما أحسن الله إليك ، وأحسن إلى الخلق كما أحسن الله إليك.

وقوله : (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) : هذا يدل أنه كان ينفق ماله إلا أنه كان ينفق في الصدّ عن سبيل الله ؛ حيث قال : (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) ، ولو كان في ترك الإنفاق لم يكن في ذلك بغي الفساد في الأرض.

ثم الواجب على من حضر الملوك وشهد مجالسهم من أهل العلم أن يخوفوا الملوك ، ويواعدوهم بما أوعد قوم موسى قارون وخوفوه ، ويأمروهم بالصلاح في أنفسهم وفي رعيتهم ، كما أمر أولئك قارون ، وينهوهم كما نهاه أولئك ، فإن أجابوهم وإلا امتنعوا عنهم وكفوا أنفسهم عن الاختلاف إليهم ، فإن لم يفعلوا فهم شركاؤهم في جميع ما يفعلون ، والله أعلم.

وقوله : (قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) : اختلف فيه :

قال بعضهم : إن قارون كان أخبر الناس بالتوراة وأعلمهم بها وسمي : قارون لذلك ، وذكر أنه سمي : المنور ؛ لحسن صوته بالتوراة. وقال بعضهم : سميّ : منورا لذكائه ، والله أعلم.

وقال بعضهم (٣) : قوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) : وهو الكمياء ، ذكر أنه يعالج

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٧٦١٤) ، والفريابي وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم بنحوه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٦١).

(٢) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٧٣) كتاب الزهد والرقائق (٣ / ٢٩٥٨).

(٣) قاله سعيد بن المسيب كما في تفسير البغوي (٣ / ٤٥٥).

١٩٨

صنعة الذهب ويحسنها (١).

وقال بعضهم : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) أي : على خبر عندي ، قال ذلك على أثر قول أولئك : (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) إلى قوله تعالى : (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) كأنهم أوعدوه بذهاب ذلك عنه وهلاكه ، فقال ـ والله أعلم ـ : إنما أوتيت ذلك على علم عندي ، لم أوت جزافا بلا سبب ، وكأنه ـ والله أعلم ـ نسي الآخرة بما أوتي من المال والكنوز ، وترك الإنفاق في الخير ، وكان ينفق في صد الناس عن سبيل الله ؛ ولذلك قال : (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) ، إلا أنه كان عارفا بالله حيث قالوا له : (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) وقالوا له : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) دل هذا منهم أنه كان عارفا بالله تعالى.

وقوله : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) : ذكر هذا ـ والله أعلم ـ لما أنه كان يفتخر ويستكبر على الناس بما أوتي من الأموال والكنوز والأتباع ، ويحسب أنه يدفع العذاب الموعود في هذه الدنيا بذلك عن نفسه.

أو يظن أنه لما أوتي ذلك لا يعذب كظن أولئك الكفرة حيث قالوا : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] ؛ فجائز أن كان من قارون من الإعجاب بالكثرة والجمع ما ذكر بأولئك ، فقال عند ذلك : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) ، ثم لم يتهيأ لهم دفع ما نزل بهم من العذاب ؛ فعلى ذلك أنت يا قارون ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) : اختلف فيه :

قال بعضهم (٢) : لا يسألون عن ذنوبهم ؛ كقوله : (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) [الرحمن : ٤١].

وقال بعضهم (٣) : لا يسأل هذه الأمة عن صنيع مجرمي الأمم الخالية.

وجائز ألا يسأل عن ذنوبهم ؛ لأنهم لا يرون ما يعملون من الأعمال ذنوبا ، ولكن إنما يسألون عن الدليل الذي به لا يرون تلك الأعمال ذنبا ، والله أعلم.

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : يقول بعضهم : (على علم عندي) ، هو علم الكمية. شرح.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٧٢٦١) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٦٢).

(٣) قاله محمد بن كعب ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٦٢٣).

١٩٩

وقوله : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) : قال عامة أهل التأويل (١) : إنه خرج على بغال شهب ، ومعه كذا كذا من الجواري على كذا كذا بغال شهب عليهن من الثياب كذا.

وقال بعضهم (٢) : إنه خرج على براذين كذا بيض مع كذا كذا غلمان وجواري ، ونحو ما ذكروا.

لكنّا لا ندري على أيّ زينة خرج؟ ولكنا نعلم أنه خرج على الزينة التي يخرج أمثاله من الملوك ، ولا نفسّر أنه كذا على كذا ، وكذلك لا نفسّر العلم ؛ ذكر أنه أوتي له من المال والكنز أنه كان عنده كذا من العلم ، والله أعلم بذلك ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : أوتوا منافع العلم : لأنه قد يؤتى العلم ربمّا ، ولا يؤتى من الانتفاع له به ما أوتي هؤلاء ؛ حيث قالوا لأولئك : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) لم يكن من أولئك إلا التمني أن يؤتوا مثل ما أوتي قارون ، ثم نهاهم الذين أوتوا منافع العلم والانتفاع به عن ذلك التمني ، فدل ذلك أن التمني لا يسع الاشتغال به والطلب ؛ حيث قالوا لهم : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ).

اختلف في قوله : (وَلا يُلَقَّاها) كيف ذكره بالتأنيث ، وإنما تقدم له ذكر الثواب ، فألا قال : (وما يلقاه)؟ لكن اختلف فيه :

قال بعضهم : (وَلا يُلَقَّاها) كناية عن تلك المقالة التي كانت من أولئك الذين أوتوا العلم لأولئك الذين يريدون الحياة الدنيا ، أي : لا يلقى تلك المقالة التي قالوها لأولئك إلا الصابرون.

وقال بعضهم : لا ، ولكن ذلك كناية عن الأعمال ، أي : ولا يلقى تلك الأعمال ولا يوفق إليها إلا الصابرون.

قال أبو عوسجة والقتبي (٣) : (وَلا يُلَقَّاها) أي : لا يوفق ، ويقال : لا يرزق.

(الصَّابِرُونَ) يحتمل : المؤمنين أنفسهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم : ٥] وقوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [هود : ١١] أي : آمنوا.

ويحتمل : الصابرون : الذين صبروا أنفسهم وحبسوها على أداء ما افترض الله عليهم ،

__________________

(١) قاله ابن جريج ، أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٦٢).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٦٢٦) ، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٦٢).

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٣٦).

٢٠٠