تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

الرِّعاءُ) ؛ لما ذكرنا.

وقرئ : (يُصْدِرَ) بنصب الياء (١) وبالرفع جميعا.

فمن قرأه بالنصب فإنه يقول : حتى يصدر الرعاء بأنفسهم أي : يرجع.

ومن قرأه بالرفع ، أي : حتى يصرفوا ويرجعوا أغنامهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) : تذكران ـ والله أعلم ـ عذر أبيهما في التخلف عن سقي الغنم ، وإرساله إياهما في ذلك دون تولي ذلك بنفسه ، وقالا : ذلك لكبره وضعفه ما يتخلف عن ذلك ويرسلهما ، وإلا لا معنى لذكر كبر أبيهما بلا سبب يحملهما على ذلك سوى ما ذكرنا.

وجائز أن يكون لمعنى آخر لا نعلمه.

وقوله : (فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) : دل أن البئر التي كانت تسقى الماشية منها كانت في الشمس ؛ حيث أخبر أنه أسقى لهما ثم تولى إلى الظل.

وفيه أن لا بأس بأن يجلس في الظل.

وقوله : (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) قيل (٢) : إن هذا منه شكاية عما أصابه من الجوع ؛ لأنه ذكر أنه خرج من المصر إلى مدين هاربا من فرعون وقومه ، غير متزود ، وهو مسيرة ثماني ليال.

وفيه دلالة أن لا بأس للرجل أن يخبر ويذكر عما هو فيه من الشدة والبلاء ، حيث ذكر موسى حاله التي هو فيها من الجوع الذي أصابه ؛ وكذلك ما قال في آية أخرى : (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) [الكهف : ٦٢] ، وذلك يرد قول من يقول : إن مثل هذا يخرج مخرج الشكاية عن الله ، ولو كانت شكاية لكان موسى لا يقول ذلك ولا يذكره.

وقوله : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ).

قوله : (تَمْشِي) : مشي من لم يعتد الخروج.

أو (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) ، أي : تمشي مشي من لم يخالط الناس على التستر والتغطية.

(قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) : هذا يدل على أن لا بأس أن يؤخذ على المعروف الذي صنع إلى آخر أجر ، والأفضل على من صنع إليه المعروف والتبرع أن

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٥ / ٢٣٦ ، ٢٣٧).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٣٤١) و (٢٧٣٤٢) و (٢٧٣٤٣) ، وعن سعيد بن جبير (٢٧٣٤٤) ، وإبراهيم (٢٧٣٤٥) ، ومجاهد (٢٧٣٤٦) ، و (٢٧٣٤٧) ، وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور.

١٦١

يعطي لمعروفه وتبرعه بدلا وأجرا ، والأفضل على المتبرع وعلى صانع المعروف ألّا يأخذ على ذلك بدلا ، إلا أن موسى كان قد اشتدت به الحاجة ؛ لذلك كان ما ذكر وأخذ لمعروفه ما ذكر بدلا ، والله أعلم.

وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) أي : لما جاء موسى أبا المرأتين وقص عليه قصته قال له : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

دل قوله هذا لموسى : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) : أنه لم يكن لفرعون على ذلك المكان سلطان ولا يد ؛ إذ لو كان له سلطان لكان له فيه الخوف الذي كان من قبل ، ولم يكن نجا موسى منه ، دل أنه لم يكن له عليهم سلطان.

وقوله : (الظَّالِمِينَ) يحتمل : المشركين ؛ إذ كل مشرك ظالم.

ويحتمل (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) : الذين يقتلون بغير حق حيث قال : (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وقوله : (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) : قال أهل التأويل (١) : قال أبوهما لما قالت له استأجره فإنه قوي أمين : ما قوته وأمانته؟ فقالت : أما قوته : فإنه رفع الحجر من رأس البئر وحده ، وكان لا يطيقه إلا كذا كذا نفرا ، ونزح الدلو من البئر وحده ، وكان لا يطيق نزحه إلا كذا كذا ؛ فذلك قوته.

وأمّا أمانته : فإنه قال لي : امشي خلفي وصفي لي الطريق ؛ فذلك أمانته.

ولكن قد كانت تعرف أمانته قبل ذلك لما جرى بينه وبينهما من المعاملة حين قال لهما : (ما خَطْبُكُما) ، وحين سقى لهما في مثل هذا تعرف أمانته في ترك النظر إليهما ، وترك الاعتراض لما يوجب التهمة ، والله أعلم.

وقولها : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) كأن أباها كان في طلب أجير قوي أمين ، لكنه لا يجد ولا يظفر به ؛ لذلك قالت له : (اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) إذ لا يحتمل أن يكون له ماشية وله غناء وبه حاجة إلى رعي ذلك وسقيه ، وقد بلغ في نفسه من الكبر والضعف ما ذكر ، يرسل ابنتيه في الرعي والسقي ، ولا يستأجر الأجير ليتولى ذلك دون بناته ، هذا لا يحتمل ذلك ، وخاصة مع ما وصف ابنته من الحياء حيث قال : (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) دل ذلك أنه كان في طلب الأجير ، وإنما أرسل ابنتيه في سقي الغنم وهو مضطر إلى ذلك محتاج إليه ؛ لذلك قالت له : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٣٧٦) ، (٢٧٣٧٨) ، وعن مجاهد (٢٧٣٨٠) ، (٢٧٣٨١) ، (٢٧٣٨٢) ، وقتادة (٢٧٣٨٦) ، وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٣٩).

١٦٢

اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ).

ثم قال : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) : طلبت هي الاستئجار ، وهو عرض عليه النكاح لما لم ترغب هي في النكاح ، أو طلبت الاستئجار ولم تر من نفسها الرغبة في النكاح ، وإن كانت لها الرغبة حياء ، والله أعلم.

ثم قوله : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) : يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه جعل عمله ثماني حجج بدلا للنكاح ومهرا لبضعها.

ثم تحديده ثماني حجج لما رأى عمل ثماني سنين مهر مثلها.

وقوله : (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي : فإن أتممت عشرا وزدت على مهر المثل فمن عندك ، أي : لك ذلك فضل منك وإحسان.

والثاني : قوله : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ) ليس على جعله بدلا للنكاح ، ولكن على الإجارة المعروفة على أجر معلوم على حدة ، من غير أن كان ذلك مهرا لها.

ثم التحديد بثماني سنين على هذا الوجه يخرج على إحدى خلتين :

إحداهما : أنه لما قص عليه قصته علم أنه لا يقدر على العود إلى المصر ، ورأى أنه لا يأمن تلك الناحية بدون ما ذكر من المدة.

أو لما رأى أن نفسه تنزع وتشوق بالعود في ذلك الوقت فشرط ذلك عليه لئلا يحدث نفسه بالرجوع إليه إلى ذلك الوقت.

وقوله : (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) أي : فإن زدت سنتين على ذلك فمن فضلك وإحسانك (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) في الزيادة على ذلك كله ، والله أعلم.

ثم قال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في جميع ما يجري بينك وبيني من المعاملة والصحبة.

وفيه أن الثنيا فيما يعدون كان ظاهرا في الأمم السالفة.

ثم اختلف في أبي المرأتين :

قال بعضهم : كان شعيبا.

وقال بعضهم (١) : ابن أخي شعيب.

وقال الحسن (٢) : لم يكن شعيبا ، ولكنه كان سيّد الماء يومئذ.

وليس لنا إلى معرفة من كان حاجة ، أمّا شعيب فإنه لم يكن في زمن موسى ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله أبو عبيدة أخرجه ابن جرير (٢٧٣٧٠) ، (٢٧٣٧١) ، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣٨).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٧٣٧٥) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٨).

١٦٣

وقوله : (قالَ ذلِكَ) يعني : الشرط ـ والله أعلم ـ (بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ) أي : أوفيت وعملت ، إمّا الثماني وإما العشر (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) يقول : لا سبيل لك عليّ بعد ذلك ولا تبعة ، والعدوان : هو الظلم والمجاوزة عن الحدّ الذي حد له يقول : لا ظلم عليّ ولا مجاوزة على أي الاختيارين قضيت ، أيّ الأجلين اخترت وشئت لنا.

ثم قال : (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) قال بعضهم (١) : والله كفيل على مقالتي ومقالتك ، والوكيل : هو الشهيد أو الحافظ ، كأنه يقول : والله على ما نقول شهيد.

ذكر أن جبريل جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «إن سئلت : أي الأجلين قضى موسى؟ فقل : أبرّهما وأوفاهما ، وإن سئلت : أي المرأتين تزوج؟ فقل : أصغرهما» (٢).

فإن ثبت هذا ، ففيه أنه قضى الأجلين جميعا : الثماني والعشر ، وليس في الآية إلا قضاء الأجل حيث قال : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ).

وقال القتبي : (عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) أي : تجازيني من التزويج والأجر من الله إنما على الجزاء على العمل.

قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) (٣٥)

وقوله : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) قال أهل التأويل ما ذكرنا : أنه قضى أتمهما أو أكثرهما

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٣٩٧).

(٢) أخرجه البزار وابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي ذر.

وأخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة.

وأخرجه ابن جرير (٢٧٤٠١ ـ ٢٧٤٠٧) ، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة ، في المصنف وعبد ابن حميد والبخاري وابن المنذر وابن مردويه ، من طرق عن ابن عباس موقوفا ، وروي عنه مرفوعا عند ابن جرير (٢٧٤٠٩) ، والبزار وأبي يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣٩ ، ٢٤٠).

١٦٤

لكن لا نعلم التأويل الصحيح ، فعلى ما ذكروا ، وليس في الآية إلا قضاء الأجل ؛ فلا يزاد على ذلك إلا بثبت ، فإن ثبت ما روي من الخبر ، فهو والله أعلم.

وقوله : (وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً آنَسَ) : قيل (١) : أبصر وأحسّ نارا.

قال بعضهم : إن موسى لم يكن رأى نارا ، ولكن إنما رأى نورا ظن أنه نار ، فلا يحتمل ذلك ؛ لأنه أخبر أنه آنس نارا ، وإن لم يكن ذلك في الحقيقة نارا لم يجز ، وكان ذلك يوجب الكذب في الخبر ، إلا أن يقال على الإضمار : آنس من جانب الطور نورا ظن أنه نار ، أو في ظنه أنه نار.

(قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) أي :

امكثوا لعلي آتيكم منها بخبر يدلنا أو بجذوة تضيء الطريق ؛ فكأنه قد ضل الطريق فيقول : لعلي آتيكم منها بخبر الطريق أو جذوة من النار ، أي : آتيكم بجذوة من النار ، وهي ما رغبتم فيه ولم آتكم بخبر الطريق (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) هذا يدل أنه كان في أيام الشتاء ، وفي وقت البرد : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) قال بعضهم : الأيمن : أي : عن يمين الجبل.

وقال بعضهم (٢) : عن يمين موسى.

وقال بعضهم (٣) : يمين الشجرة ، ولكن الأيمن : المبارك ، وهو من اليمن ، الوادي اليمن.

والبقعة المباركة : قال بعض أهل التأويل : سميت مباركة ؛ لكثرة أشجارها وأنزالها ، وكثرة مياهها وعشبها ، ولكن سماه : مباركا وأيمن ـ والله أعلم ـ لأنه مكان الأنبياء والرسل وموضع الوحي.

وقوله : (مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ولله أن يسمع ويخبر من شاء مما شاء وكيف شاء كما أسمع مريم من تحتها حيث قال : (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي) [مريم : ٢٤].

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٧٤١٤) ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤١).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٤٢١) و (٢٧٤٢٢) ، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤٢).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤٢).

١٦٥

وقوله : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) ليس هذا بموصول بقوله : (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ولكن ذلك ما ذكر في سورة طه : (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ...) [طه : ١٢] إلى آخر ما ذكر.

ثم قال في آخره : (وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) أي : تتحرك (كَأَنَّها جَانٌ) قال بعضهم : الجانّ : الحية الصغيرة.

وقال بعضهم : الجانّ ما يعم العظيمة والصغيرة ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَّى مُدْبِراً) فارّا هاربا (وَلَمْ يُعَقِّبْ) أي : لم يلتفت ولم يرجع لشدة خوفه وفرقه.

وقوله : (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ).

قوله : (وَلا تَخَفْ) يحتمل وجوها :

أحدها : على رفع الخوف من قلبه ؛ إذ قال : له الأمن فيه.

والثاني : على البشارة أنه لا يؤذيه ؛ كأنه يقول : لا تخف وكن من الآمنين ، فإنه لا يؤذيك.

والثالث : على النهي ، أي : لا تخف ؛ فإني أحفظك وأدفع أذاه عنك ؛ كقوله : (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى. قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٥ ، ٤٦] أسمع ما يقول لكما ، وأرى ما يفعل بكما ، وأدفع ذلك عنكما.

وقوله : (أَوْ جَذْوَةٍ) بكسر الجيم ورفعها ؛ قال بعضهم : عود قد احترق بعضه.

وقال قتادة (١) : أصل شجرة فيها نار.

وقال أبو عوسجة : الجذوة : مثل الشهاب سواء ، والجذى : جمع الجذوة.

وقال أبو عوسجة : الجذوة : القطعة الغليظة.

وقال القتبي (٢) : الجذوة : عود قد احترق ، أي : قطعة منها.

وشاطئ : أي شط الوادي.

آنست : أبصرت ، وكذلك قوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء : ٦] أي : أبصرتم وعلمتم.

وقوله : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) على ما ذكر في آية أخرى : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) [النمل : ١٢] هذا يدل أن لا بأس بتغيير الألفاظ واختلافها بعد إصابة المعنى وما قصد بها.

وقوله : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) قد ذكرناه فيما تقدم.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٧٤١٦) ، و (٢٧٤١٧) وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤١).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٣٢).

١٦٦

وقوله : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) بالضم ، والرهب بالفتح ؛ قد قرئ بهما جميعا.

ثم قال بعضهم : هو على التقديم والتأخير ، قوله : (مِنَ الرَّهْبِ) موصول بقوله : (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من الرهب ، أي : الخوف والغرق.

وقال بعضهم : أمره أن يضم يديه إلى نفسه ؛ لأن ذلك أخوف وأهيب وأعظم من إرسالهما ، وذلك معروف أيضا في الناس أنهم إذا دخلوا على ملك من الملوك ضموا أيديهم وجناحيهم إلى أنفسهم ؛ تعظيما لهم وتبجيلا ، أو خوفا منهم.

فعلى ذلك جائز أن يأمره بضم يديه إلى نفسه ؛ ليكون بين يدي ربه أهيب وأخوف ما يكون ، وأعظم ما يجب له ، وهو ما قال له : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [طه : ١٢].

وقوله : (فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) أي : اليد والعصا ، اللتان ذكرهما (بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ) أي : حجتان (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ).

وقوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً).

وقال في سورة الشعراء : (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ...) إلى قوله : (فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء : ١٤] أخر في هذا ما كان مقدما في الذكر في ذلك ، وذكره على اختلاف الألفاظ وتغيير الحروف ؛ ليعلم : أن ليس على السامع حفظ الألفاظ والحروف بعد إصابته المعنى ، وفهم ما قصد بها وأودع فيها ؛ لأن الله ذكر هذه الأنباء والقصص التي كانت من قبل في القرآن على اختلاف الألفاظ ، وتغيير الحروف ، على التقديم والتأخير ، والزيادة والنقصان ؛ ليعلم أن المقصود والمراد بذكرها ما فيها ، لا عين اللفظ والحروف ، فإذا عرف ما فيها وفهم جاز الأداء بأي لسان كان ، وبأيّ لفظ كان ، والله أعلم.

وقوله : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) يحتمل وجوها :

أحدها : أمّا أهل التأويل (١) فإنهم قالوا : كان في لسانه رتة أي : عقدة لما أدخل في فمه من النار ؛ فذلك لا نعلمه ، وقد قال في آية [أخرى] : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي. يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه : ٢٨ ، ٢٩] فيجوز أن يكون ذلك خلقة خلقه هكذا ، على ما خلق بعض الخلق أفصح وأبين من بعض.

أو أن يكون لما ذكر له من الخوف والذنب ما لم يكن ذلك لهارون ، ولا شك من اشتد به الخوف منع صاحبه عن التكلم والبيان ، وذلك متعالم معروف في الناس ، وهو ما قال :

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٤٤٥).

١٦٧

(إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ...) الآية.

أو أن يكون ذلك لأن نشوء هارون كان فيهم وهم بلسانه أعرف ، ومنطقه أفهم ، ولموسى فترات كان معتزلا عنهم.

وقوله : (فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) أي : عونا (يُصَدِّقُنِي) ثم بيّن في آية أخرى أنه فيم طلب منه عونا؟ وهو ما قال (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ...) الآية [طه : ٢٩] ، أي : يصدقني فيما أقول إذا كذبوني هم ، أو أستأنس به إذا ضاق صدري بالتكذيب والردّ ، فأجابه ربه فقال : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) كناية وعبارة عن القوة والعون ؛ لأن القوة فيه تكون ؛ فذكر فيمن تكون ، وهو كقوله : (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) [البقرة : ٢٥٠] ذكر الأقدام ، لأنه بالأقدام يثبت ، وقوله : (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) [الأنفال : ٤٨] لأنه بالعقب ينكص ، ومثله كثير ، فعلى هذا ذلك.

وقوله : (وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا) قال قائلون (١) : هو على التقديم والتأخير ، أي : نجعل لكما سلطانا ، أي : نجعل لكما سلطانا بآياتنا فلا يصلون إليكما.

وقال بعضهم : ونجعل لكما سلطانا باللطف ندفع عنكما أذاهم وشرهم ؛ كقوله : (لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦] أي : أسمع ما يقول لكما ، وأرى ما يفعل بكما ، وأدفع ذلك عنكما فلا يصلون إليكما بالآيات التي معكما.

وقوله : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) يحتمل هذا وجوها :

الغالبون بالحجج والبراهين ، أي : تغلب حجتكما سحرهم وتمويهاتهم.

أو أن يكون عاقبة الأمر لكما.

أو أن يكون ذلك في الآخرة.

قال أبو معاذ : العرب تقول : أردت الرجل : أي : أعنته.

وقال أبو عوسجة : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) أي : أعينك به وأقويك ، والعضد : كناية عن القوة ؛ لأنه فيه تكون القوة ، وبه يقوى من يوصف بالقوة ؛ على ما ذكرنا.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٤٤٦).

١٦٨

الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) (٤٢)

وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) أي : جاء موسى فرعون وقومه بآياتنا ، أي :

أعلاما أنشأها موضحات ، مظهرات يظهرن ، ويوضحن رسالة موسى ونبوته ، وقد أظهرن لهم ذلك وعرفوا أنها آيات من الله نزلن ؛ أفلا ترى أن موسى قال له يا فرعون : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢] لكنهم عاندوا وكابروا ، وقالوا : (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) ؛ هذا منهم تمويه وتلبيس على الأتباع والسفلة ، ولم تزل عادتهم التمويه والتلبيس على أتباعهم أمر موسى.

وقوله : (وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) يقولون ـ والله أعلم ـ : إن آباءنا قد عبدوا الأصنام على ما نعبد نحن ، وقد ماتوا على ذلك من غير أن نزل بهم ما توعدنا من الهلاك والعذاب ، فعلى ذلك نحن على دين آبائنا ، وعلى ما هم عليه ؛ فلا ينزل بنا شيء مما تذكر وتوعدنا به من العذاب.

ثم قال موسى : (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) هذا ـ والله أعلم ـ كأنه ليس بجواب لقولهم : (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) ويكون جواب هذا إن كان هو قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) كنى بالظلم عن السحر ؛ يقول ـ والله أعلم ـ : ليس بسحر ؛ لأني قد غلبتكم وقهرتكم ، وقد أفلحت أنا ، ولو كان سحرا ما أتيتكم به لم أفلح ؛ إذ الله ـ تعالى ـ أخبر أن الساحر لا يفلح بقوله : (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه : ٦٩] وقال ـ أيضا ـ : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ ...) [يونس : ٨١] الآية ، وقد أصلح عملي ؛ فظهر أنه ليس بفساد ، ولكنه صلاح.

ويكون جواب قوله : (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) ما ذكر في سورة (المص) [الأعراف : ١] ، حيث قالوا : (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ) [الأعراف : ١٢٧] فقال عند ذلك : (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) أنتم أو نحن؟ يقول : ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده جوابا لقوله : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) [غافر : ٢٩] والله أعلم.

وقوله : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) كأنه قال للملإ

١٦٩

خصوصية لهم ؛ لأنه كان اتخذ للأتباع أصناما يعبدونها وجعل للملإ عبادة نفسه وإلهيته ، لما لم ير الأتباع أهلا لعبادة نفسه جعل لهم عبادة الأصنام ، ورأى الملأ أهلا لذلك ؛ فخصهم ، ومنه اتخذت العرب عبادة الأصنام دون الله ؛ لما لم يروا أنفسهم أهلا لعبادة الله ، وقالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

وقوله : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) قال أهل التأويل (١) : أول من اتخذ الآجر هو ، ولا نعلم ذلك ، يحتمل أن يكون من قبل ذلك.

وقوله : (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) أي : قصرا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) كان يعرف أنه ليس إله السماء والأرض ؛ إذ لا يملك ذلك ، فكأنه أراد بقوله : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) قومه وأهله خاصة (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) كأن جميع ما كان بين موسى وفرعون من الكلام كان على الظن ؛ كقوله : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) [الإسراء : ١٠١] وكذلك قال له موسى : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) [الإسراء : ١٠٢].

وقوله : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) الاستكبار : هو ألّا يرى لنفسه شكلا ولا نظيرا ، وهو كذلك ، كان لا يرى لنفسه شكلا ولا نظيرا ؛ لأنه يدعي لنفسه الربوبية والألوهية ، واستكبار قومه لما استعبدوا هم بني إسرائيل ، واستخدموهم ، أو استكبروا أن يخضعوا لموسى ويجيبوا له إلى ما يدعوهم إليه.

وقوله : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ* فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ) أخذناه أخذ تعذيب وإهلاك (فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) يعذبون بظلمهم.

وقوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ذكر في هؤلاء : أنه جعلهم أئمة في الشر ، وذكر في الرسل وأهل الخير : أنه جعلهم أئمة في الخير ؛ حيث قال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) [الأنبياء : ٧٣] وما قال : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) [آل عمران : ١٠٤] فكان من الله ـ تعالى ـ في أهل الخير صنع ومعنى حتى صاروا بذلك أئمة الخير ما لم يكن ذلك منه بأهل الشر وأئمة السوء فيرد على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : لم يكن من الله ـ تعالى ـ إلى الرسل وقادة الخير إلا وقد كان ذلك منه إلى كل كافر وفاسق.

فلو كان على ما قالوا لكان لا يحتمل أن يصير هؤلاء أئمة الخير وأولئك أئمة الشر بأعمالهم أيضا ، وإن كان ما من الله إليهم على السوء ، لكن يضاف ذلك إلى الله بأسباب تكون منه ، وكانت حقيقة ذلك منهم بعملهم ؛ نحو : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ)

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٧٤٥٤) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤٤).

١٧٠

[يس : ١١] أضاف إنذاره إلى من اتبع الذكر ، وإن كان رسول الله ينذر من لم يتبع ، وكذلك ما قال في الشياطين : (يَدْعُوا حِزْبَهُ) [فاطر : ٦] إنما يدعو الحزبين جميعا ، لكنه أضاف دعاءه إلى حزبه لما منهم يكون له الإجابة ، وأضاف إنذار رسول الله إلى من اتبعه وقبله لطاعتهم له ؛ فعلى ذلك الأوّل ، أضاف ذلك إلى نفسه لفعلهم.

لكن عندنا لا يكون من الخلق في فعل الخلق حقيقة الفعل ، إنما يكون منهم الأسباب ، ويكون من الله ـ تعالى ـ في أفعالهم الأسباب ، وحقيقة الفعل ، فيكون إضافة ذلك إلى الله على حقيقة الفعل والأسباب جميعا وإلى الخلق لأسباب تكون منهم إليهم.

والثاني : إنما خصّ بالإنذار من اتبع الذكر ؛ لأنه إنما يقصد بالإنذار من اتبعه لا من لا يتبعه ، وكذلك الشيطان إنما يقصد بدعائهم إياهم حزبه منهم ، وإن كان الرسول ينذر الخلق جميعا : الذي سوف يتبعه والذي لا يتبعه ، وكذلك الشيطان يدعو الحزبين جميعا ؛ لأن هذا يقصد ضررهم بما يدعوهم إليه ؛ ألا ترى إلى قوله : (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ) [فاطر : ٦] والرسول بما ينذر يقصد نفعهم ؛ لذلك خصّ الإنذار لمن اتبعه وخص في ذلك حزبه.

وقوله : (أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) ليس تصريحا ؛ لأنهم لو دعوهم إلى النار لا يجيبونهم ، ولكن يدعونهم إلى أعمال توجب لهم النار لو أجابوهم ، وهو كقوله : (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [البقرة : ١٧٥] أي : ما أصبرهم على عمل يستوجبون به النار.

وقوله : (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) كأن الشيطان مناهم النصر والشفاعة بعبادة الأصنام ، فيخبر أنهم لا ينصرون لما مناهم.

وقوله : (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) وهو ما عذبوا في الدنيا واستؤصلوا (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) قال بعضهم : مسودون وجوههم.

وجائز أن يكون ذلك جزاء ما افتخروا في هذه بالحلي والزينة ، وطعنوا في موسى جوابا لهم على ما قالوا : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) [الزخرف : ٥٣] يخبر أنهم يكونون في الآخرة على غير الحال التي كانوا في الدنيا وافتخروا بها.

وقال بعضهم (١) : المقبوح : هو السواد مع الزرقة.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٤٤٧).

١٧١

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٤٦)

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) من نحو عاد ، وثمود ، وهؤلاء الذين كانوا من قبل من الأمم ، أي : أرسلناه بعد هلاك من ذكر ؛ حتى يعتبر الناس ، يشبه أن يكون قوله : (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) أي : هلاك من ذكر من القرون الأولى بصيرة وعبرة لمن يكون من بعدهم ؛ لينزجروا بذلك عن تكذيب الرسل ، ويكون ذلك آية لرسالة موسى.

والثاني : أن يكون قوله : (بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً) أي : الذي آتاه الله موسى هو بصائر وهدى ورحمة لهم إذا قبلوه واتبعوه وعملوا به ، وكذلك كان جميع كتب الله هدى ورحمة وبصيرة لمن آمن بها وعمل بها.

وجائز أن يكون هذا جوابا وصلة لقولهم : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون : ٢٤] يقول ـ والله أعلم ـ : إنكم لا تسمعون ذلك في آبائكم الذين اتبعوا رسلهم ، فأجابوهم ، فأما من كذبوهم فإنا أهلكناهم بتكذيبهم الرسل واستأصلتهم ، والله أعلم.

وقوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) قال بعضهم : جانب الغربي : حيث تغرب الشمس والقمر والنجوم ، والشرقي : حيث تشرق وتطلع.

وقال بعضهم : بجانب الغربي ، أي : بجانب الوادي الغربي ، والله أعلم ما أراد به.

وقوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ .... وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) أي : مقيما (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) يحتمل وجوها :

أحدها : أنك لم تكن شاهدا هذه المشاهدة التي شهدها موسى حيث قضينا إلى موسى الأمر بجانب الغربي ، ولم تكن شاهدا هنالك ، وما كنت في أهل مدين ثاويا حتى تعلم أمر موسى وحينه ، وما كنت بجانب الطور حيث نادى : يا موسى ونحوه ؛ أي : لم تكن شاهدا هذه المشاهدة التي كان موسى شاهدا فيها ، ثم أعلمناك بتلك الأنباء والأخبار على ما كانت لتتلو تلك الأنباء والأخبار على أهل مكة ؛ فتكون آية لنبوتك ، وحجة لرسالتك ؛ إذ لم تشهدها ولا اختلفت إلى أحد ممن يعرفها فعلمك ، ثم أنبأت على ما كانت ؛ ليعرفوا أنك إنما عرفت بالله تعالى.

١٧٢

والثاني : يحتمل أن يذكر هذا له امتنانا عليه ليتأدى به شكره ؛ لأنه ذكر أنه أوحى إلى موسى ، وذكر محمدا وأمته في شرفه حتى تمنى موسى أن يجعل من أمته.

يقول ـ والله أعلم ـ : لم تكن أنت شاهدا في هذه المشاهد فذكرتك ثمة وأمتك.

أو أن يذكر هذا له على الاختصاص له ؛ ليعرف أن أمر الرسل والوحي إليهم على الاختصاص لهم من الله ، لا بأمر كان منهم.

على هذه الوجوه الثلاثة يحتمل أن يخرج تأويل ما ذكر له.

وقال بعض أهل التأويل في قوله : (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) يقول لمحمد : لم تعاين هذا ولم تشهده ، وإنما هو شيء أنزلناه عليك لتتلوه على أهل مكة.

وقوله : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) هذا ليس بصلة الأول ، ولكن على الابتداء ؛ يقول ـ والله أعلم ـ : لكنا أنشأنا قرونا بعد انقراض الرسل ، ودروس أعلامهم وآثارهم ، وتطاول العهد والعمر ، ثم بعثناك فيهم رسولا ؛ لتحيي به آثارهم ، وتظهر فيهم سننهم وأعلامهم ورحمة منا إليهم ، وهو ما قال في آخره : (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي : أرسلنا إياك رحمة منا لهم ، وهو ما قال : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] أو أن يكون قوله : (وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) أي : ما أنبأك وأعلمك من أنباء موسى وأخباره ، حيث لم تشهدها من رحمة ربك ، حيث جعلها آية لنبوتك ، وحجة لرسالتك ، والله أعلم.

وقوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : لتنذر قوما ما أنذر به الرسل الذين من قبلك قومهم.

والثاني : لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ، أي : على رجاء التذكر تنذرهم.

أو أن يكون ذلك خاصة لمن تذكر إذا كان على الإيجاب.

قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥٠)

وقوله : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) لا ينتظم الجواب ، وليس ما ذكر

١٧٣

على إثره جوابا له ، إلا أن يقال : إن قوله : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) أي : لم تصبهم مصيبة ، وذلك جائز في اللغة ؛ كقوله : (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا) [النور : ١٦] أي : لم تقولوا : ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ، وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ) [النور : ١٤] أي : لم يمسّهم ، وجميع ما ذكر في هذه السورة من (وَلَوْ لا) كله أنه لم يكن ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون تأويل قوله : (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) أي : لم تصبهم مصيبة ، ولو أصابتهم مصيبة ، وهو العذاب (فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) وهو كقوله : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) [طه : ١٣٤] على هذا يخرج تأويل هذا.

ثم في هذه الآية في قوله : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) وجهان :

أحدهما : على من يقول بأن ليس لله أن يعذبهم بما كان منهم قبل بعث الرسل إليهم لقوله : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء : ١٥] ، وفي الآية بيان أن له أن يعذبهم وإن لم يبعث الرسل ؛ لأنه أوعدهم الهلاك ، فلو لم يكن له التعذيب والإهلاك لم يكن للإيعاد فائدة ؛ فدل أن له الإهلاك في الدنيا والاستئصال ، لكنه أخره عنهم ؛ فضلا منه ورحمة.

والثاني : على المعتزلة في قولهم الأصلح ؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون ما أوعدهم أصلح لهم من الترك أو الترك لهم أصلح : فإن كان ما أوعد لهم أصلح فقد تركهم ؛ فيكون في تركهم إياهم جائرا على قولهم ؛ لأنه لم يفعل ما هو أصلح لهم في الدين.

أو أن يكون الترك لهم أصلح ؛ فيكون بما أوعدهم جائرا ؛ إذ أوعد بما كان غيره أصلح لهم مما أوعد ؛ فدل ما ذكرنا على أن ليس على الله حفظ الأصلح لهم في الدين.

ثم قوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) ليس الكفر نفسه ، ولكن العناد والمكابرة مع الكفر ؛ لأن عذاب الكفر في الآخرة ليس في الدنيا ؛ لأن الله تعالى قد أبقى كثيرا من الكفرة لم يهلكهم ولم يعذبهم في الدنيا ، ولكن إنما أهلك واستأصل في الدنيا من عاند وكابر الرسل في الآيات والحجج التي أتوهم بها وأقاموها عليهم على أثر سؤال كان منهم ، فعند ذلك أهلكهم واستأصلهم لا بنفس الكفر ، ثم مع ما كان له التعذيب قبل بعث الرسل لم يعذبهم ، ولكن أخر عنهم إلى أن يبعث الرسل إليهم بالآيات والحجج ؛ ليقطع به لجاجهم ومنازعتهم فضلا منه ، وإن لم يكن لهم الاحتجاج عليه بقولهم : (لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

يحتمل قوله : (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) الآيات التي تبعث مع الرسل لا يبعث الرسل بالآيات.

١٧٤

وجائز أن يكون قوله : (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) يعنون بالآيات : الرسل أنفسهم ، والله أعلم.

وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) : جائز أن يكون الحق الذي ذكر الرسول نفسه ، ويحتمل الحق الكتاب الذي أنزل عليه وآيات (١).

وقوله : (قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) : هذا يحتمل وجوها :

أحدها : قالوا : هلا أوتي محمد من أنواع النعم من المن والسلوى وغيره من غير تكلف ولا تعب ؛ مثل ما أوتي موسى لو كان رسولا على ما يقول.

أو أن يقولوا : لو لا أوتي من الآيات الحسيات الظاهرات من نحو اليد والعصا والحجر الذي كان ينفجر منه والغمام ، وما ذكر من الضفادع والقمل والدم والطوفان وغير ذلك مثل ما أوتي موسى.

أو أن يقولوا : لو لا أوتي محمد القرآن جملة عيانا جهارا ؛ كما أوتي موسى التوراة جملة عيانا جهارا ، والله أعلم بذلك ما عنوا به.

ثم بين الله تعالى وأخبر أنهم إنما يسألون ما سألوه سؤال عناد ومكابرة لا سؤال استرشاد وطلب الحق حيث قال : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) أي : لم يكفر هؤلاء الذين سألوك الآيات بما أوتي موسى ـ يعني : أهل مكة ـ لأنهم كانوا مشركين لم يؤمنوا برسول قط من قبل.

ويحتمل قوله : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) أي : أولم يكفر قوم موسى بعد سؤالهم الآيات إذ أتاهم بها ؛ فعلى ذلك هؤلاء يكفرون بما أوتيت. والأول أشبه.

ثم قالوا : (سِحْرانِ تَظاهَرا) ، وقد قرئ : (سِحْرانِ) بالألف (٢).

وقال بعضهم (٣) ساحران : موسى وهارون.

وقال بعضهم (٤) : موسى ومحمد.

وقال بعضهم (٥) : عيسى ومحمد.

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : ويحتمل المعجزات القائمة على إثبات رسالته. شرح

(٢) ينظر : اللباب (١٥ / ٢٦٨).

(٣) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٤٧٩) و (٢٧٤٨٠) ، وعن سعيد بن جبير (٢٧٤٨١) وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٤٨).

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٧٤٧٥ ـ ٢٧٤٧٨) ، وعبد بن حميد والبخاري في تاريخه وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤٨).

(٥) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٤٨٢) ، وعن قتادة أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤٨).

١٧٥

وقوله : (سِحْرانِ) بغير ألف : كتابان ، لكنهم اختلفوا :

قال بعضهم (١) : التوراة والإنجيل.

وقال بعضهم (٢) : الفرقان والتوراة ونحوه.

وقال بعض أهل الأدب : ساحران : أولى وأقرب ؛ لأن ذكر التظاهر إنما يكون بين الأنفس لا يكون بين الكتب.

(تَظاهَرا) أي : تعاونا.

وقال بعضهم من أهل الأدب ـ أيضا ـ (سِحْرانِ) بغير ألف أولى ؛ لأنه أراد به الكتابين. ألا ترى أنه طلب منهم بما قالوا إتيان الكتاب حيث قالوا : (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) ردّا على ما قالوا وطلبوا منه.

لكن نقول نحن : لا نحب أن نختار إحدى القراءتين على الأخرى ؛ لأنه إنما هو خبر أخبر عنهم أنهم قالوا ذلك : فمرة قالوا : (سِحْرانِ) ، ومرة قالوا : (سِحْرانِ) ، فأخبر على ما قالوا ؛ وكذلك قوله : (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) بالألف وبغير الألف ، لا يختار أحدهما على الآخر ؛ لأنه خبر أخبر عنهم على ما كان منهم فهو على ما أخبر ، والله أعلم.

وقال بعض أهل التأويل (٣) في قوله : (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) : قالت اليهود : نأمر قريشا أن تسأل أن يؤتى محمد مثل ما أوتي موسى يقول الله لرسوله : قل لقريش يقولوا لهم : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى) يعني : اليهود ، وقالوا : (سِحْرانِ تَظاهَرا) قال قول اليهود لموسى وهارون وهو مما ذكرنا قريب ، والله أعلم.

وقوله : (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) ما أوتي موسى على اختلاف ما ذكرنا.

ثم قال : قل يا محمد لقريش أهل مكة : (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) من التوراة والفرقان أو التوراة الإنجيل على اختلاف ما قالوا ، (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في زعمكم أنهما سحران تظاهرا ، وأنه مفترى ، ائتوا أنتم من عند الله بكتاب أتبعه ؛ إلى هذا ذهب أهل التأويل.

ووجه آخر يشبه أن يكون أقرب منه : وهو أن قوله : (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ

__________________

(١) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٤٨١) ، وعن أبي رزين أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤٨).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٤٧٨٣) و (٢٧٤٨٤) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤٨).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٤٧٣) و (٢٧٤٧٤) ، والفريابي وابن أبي شيبة ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤٧).

١٧٦

أَهْدى مِنْهُما) ، أي : ائتوا بكتاب من عند الله أنه أمركم بعبادة الأصنام والأوثان ؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام دون الله ، ويقولون : الله أمرهم بذلك ، ويقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله ، وإن عبادتهم إياها تقربهم إلى الله زلفى ونحوه من الكلام ، فيقول ـ والله أعلم ـ : ائتوا بكتاب من عند الله : أنه أمركم بذلك هو أهدى منهما ، أي : أبين منهما وأوضح من هذين ؛ لأن هذين إنما جاءا بنهي عبادة غير الله ومنعها دونه ، يقول : ائتوا بكتاب هو أهدى وأبين عما جاء منه من هذين ، إن كنتم صادقين أن الله أمركم بذلك ، ويكون عبادتكم إياها على ما تزعمون ، هذا جائز أن يكون أقرب من الأول ، والله أعلم.

وقوله : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) : في إتيان ما تطلب منهم وتسأل من الكتاب ، (فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) بغير علم ، وهم كانوا يعلمون : أنهم إنما يتبعون في عبادة الأصنام وتحريم الحلال وتحليل الحرام ـ أهواءهم ، ويجعلون هواهم هو الإمام ؛ إذ لا يؤمنون برسول حتى يكون لهم كتاب.

ثم قال : (وَمَنْ أَضَلُ) ، أي : لا أحد أضل (مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) ، أي : من غير بيان من الله ـ (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، أي ـ والله أعلم ـ : إن الله لا يهدي قوما يتبعون أهواءهم ، لا يتبعون الحجج والبراهين لا يهديهم ما داموا في اتباع هواهم.

أو لا يهدي القوم الذين ظلموا الحجج والبراهين ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (٥٦)

وقوله : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) : اختلف فيه :

قال قائلون (١) : هو القرآن ، ثم يخرج على وجهين :

أحدهما : وصل القرآن بعضه ببعض حتى خرج كله موافقا بعضه بعضا مصدقا مجتمعا غير مختلف ، وإن فرق في الإنزال على تباعد الأوقات وطول المدد.

(لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) : أن مثل هذا لا يكون إلا ممن يعلم الغيب ، ولا يعزب عنه شيء ولا

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٧٤٩٨) وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤٩).

١٧٧

يغيب ؛ إذ لو كان هو ممن لا يعلم ذلك من كلام المخلوق لخرج مختلفا متناقضا على ما يكون من كلام المخلوق في تباعد الوقت وطول المدة مختلفا متناقضا.

والثاني : وصل مواعظ القرآن بعضها ببعض ومواعيده بعضها ببعض ، وعداته بعضها ببعض ، وكذلك أوامره ومناهيه ، وإن تفرق نزولها واختلف مواضعها ، يدعوهم به مرة بعد مرة ؛ لعلهم يتذكرون به.

ومنهم من يقول في قوله : (وَقُلْنا لَهُمُ) [النساء : ١٥٤] : القول ، أي : الإنباء وإخبار الأمم الخالية نبأ بعد نبأ وخبرا على أثر خبر ما نزل بمكذبي الرسل منهم من الهلاك والعذاب ، ومصدقي الرسل من النجاة والبقاء في النعم الدائمة ، على إقرار منهم بذلك وعلم أنه كان بهم ذلك ؛ لعلهم يتذكرون ذلك وينزجرون عن تكذيب رسولهم ؛ مخافة أن ينزل بهم بالتكذيب ما نزل بأولئك.

وجائز أن يكون قوله : (وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أي : قول التوحيد.

ووجه هذا : أن وصلنا التوحيد حتى جعلنا في كل أمة وكل قوم أهل توحيد لم يخل قوم ولا أمة عنه ؛ كقوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] ؛ وكقوله : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ...) [الأعراف : ١٥٩] ونحو ذلك من الآيات ، يدل على أن كل أمة وقرن أهل توحيد ؛ لعلهم يتذكرون أن في آبائهم من قد آمن بالرسل وصدق بهم ، ولا يقولون : إن آباءنا على ما هم عليه ، يشبه أن يكون هذا وصل القول الذي ذكر.

و (وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ).

قال أبو عوسجة والقتبي (١) : أي : أتبعنا بعضه بعضا ؛ فاتصل عندهم.

وقال بعضهم : (٢) (وَصَّلْنا) أي : بينا شيئا فشيئا ؛ حتى صار عندهم ظاهرا.

وقال أبو معاذ : وصلنا في كلام العرب : أتممنا ؛ كصلتك الشيء بالشيء.

وقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) ، وقال في آية أخرى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٤٦].

وقال في آية أخرى : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) [العنكبوت : ٤٧] ، وقال : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [المائدة : ١٣] وأمثاله.

يذكر في هذه الآيات أن من أهل الكتاب من لم يؤمن ، ويذكر في الأولى على

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٣٣).

(٢) قاله سفيان بن عيينة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٤٩٩) ، وعن السدي أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤٩).

١٧٨

الإطلاق : أن الذين أوتوا الكتاب من قبله هم به يؤمنون ، جائز أن يكون قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) وانتفعوا به يؤمنون به.

أو أن يكون الذي آتيناهم الكتاب فيتلونه حق تلاوته هم يؤمنون به على ما ذكر في آية أخرى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) [البقرة : ١٢١] أولئك يؤمنون به ، وأما من لم يتله حق تلاوته فلا يؤمنون.

فأما أهل التأويل فإنهم صرفوا الآية إلى قوم خاص من أهل الكتاب : عبد الله بن سلام وأصحابه الذين آمنوا به ، وكذا جائز أن تكون الآية في قوم منهم ؛ ألا ترى أنه قال على أثره : (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) ذكر أهل التأويل : أنهم كانوا آمنوا به قبل أن يبعث محمد ، فلما بعث ثبتوا على ذلك وآمنوا على ما كانوا من قبل.

وفيه دلالة : أن الإيمان والإسلام واحد ؛ لأنهم قالوا : (آمَنَّا بِهِ) ، وقالوا : (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) دل أنهما واحد ؛ وكذلك قوله : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات : ٣٦] وهما واحد ذكر مرة الإيمان ومرة الإسلام ؛ دل أنهما واحد.

وقوله : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) : هذا يحتمل وجوها ثلاثة :

أحدها : يؤتون أجرهم مرة بالإسلام ، ومرة بما صبروا على زوال الرئاسة منهم وذهابها ؛ لأنهم كانوا أهل رئاسة ومنزلة وقدر ، فذهب ذلك كله عنهم بالإسلام ، فلهم الأجر مرتين لذلك.

والثاني : يؤتون أجرهم مرتين : مرة بالإسلام ، ومرة بما صاروا قدوة وأئمة لمن بعدهم يقتدون بهم : أحد الأجرين بإسلام أنفسهم ، والثاني بدعائهم غيرهم إليه على ما يعاقب الرؤساء منهم والقادة ، ويضاعف العذاب عليهم مرتين : مرة بضلال أنفسهم ، ومرة بإضلال غيرهم ؛ كقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [النحل : ٢٥] جائز : أن يكون إيتاء الأجر مرتين ؛ لما يصيرون أئمة وقدوة لغيرهم في الخير ، ويضاعف عليهم العذاب إذا صاروا أئمة وقدوة في الشر ؛ ألا ترى أنه قال في نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠] ، وذلك ـ والله أعلم ـ لما يصرن هن أئمة لغيرهن يقتدين بهن ؛ فعلى ذلك الأول.

والثالث : جائز أن يكون يؤتون أجرهم مرتين بالإسلام نفسه ، ويكون الصبر كناية عن الإيمان ؛ كقوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) [هود : ١١] أي : آمنوا وأسلموا.

١٧٩

وأما أهل التأويل فإنهم يقولون : يؤتون أجرهم مرتين : مرة بإيمانهم بمحمد قبل أن يبعث ، ومرة بإيمانهم بعد ما بعث ، والأول أشبه.

وقال بعضهم : (يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) بما صبروا : مرة بإسلامهم ، ومرة بما صبروا ، وحلموا على أذى أولئك الكفرة ، ولم يكافئوهم ، بل خاطبوهم بخير حيث قالوا : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) [القصص : ٥٥].

وروي في بعض الأخبار عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل آمن بنبي ثم إذا بعث نبي آخر آمن به ، ومملوك لرجل يخدمه ويحسن خدمته ويعبد ربه ، ورجل ربى جاريته ثم أعتقها فتزوجها» (١).

وقوله : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) : هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : يحسنون إليهم بعد إساءتهم إليهم وأذاهم إياهم على ما كانوا يفعلون ويصنعون إليهم قبل ذلك.

والثاني : (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) أي : يعفون عن أذاهم ولا يكافئونهم فيكون كقوله : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ...) الآية [الأعراف : ١٩٩] ، والأول كقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤].

وقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي : ينفقون في حق الله وسبيل الخير ، وإلا كل كافر ينفق كقوله : (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ ...) الآية [آل عمران : ١١٧].

وقوله : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا) : هذا ـ أيضا ـ يحتمل وجهين :

إذا سمعوا منهم من الكلام ما يتأذون من كلام اللغو والأذى والفرية ، أعرضوا عنه ، أي : لم يكافئوهم لأذاهم.

والثاني : إذا سمعوا ما يلغون به من الباطل أعرضوا ، أي : لم يخالطوهم فيما هم فيه ؛

__________________

(١) أخرجه البخاري (١ / ٢٥٨) كتاب العلم ، باب : تعليم الرجل أمته وأهله (٩٧) ومسلم (١ / ١٣٤ ، ١٣٥) ، كتاب الإيمان باب : وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢٤١ / ١٥٤) ، والحميدي (٧٦٨) ، وأحمد (٤ / ٣٩٥ ، ٣٩٨ ، ٤٠٢) ، وأبو داود (١ / ٦٢٦) ، كتاب النكاح ، باب : في الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها (٢٠٥٣) ، والترمذي (٢ / ٤٠٩) ، كتاب النكاح ، باب : ما جاء في الفضل في ذلك (١١١٦) ، والنسائي (٦ / ١١٥) ، كتاب النكاح ، باب : عتق الرجل جاريته ثم يتزوجها ، وابن ماجه (٣ / ٣٨٠ ، ٣٨١) ، كتاب النكاح ، باب : الرجل يعتق أمته ثم يتزوجها (١٩٥٦) ، والبغوي في شرح السنة (١ / ٨٨) ، عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثلاثة لهم أجران : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها ثم أعتقها فتزوجها ، فله أجران».

١٨٠