تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

فيتكلف صحته أو سقمه ، إنما هو شيء يجب التصديق به ، فنقول بالنفخ والصور على ما جاء ولا نفسر ، والله أعلم.

وقوله : (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، وقال في آية أخرى : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الزمر : ٦٨] إنما هو إخبار عن شدة هول ذلك اليوم ؛ كقوله : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى ...) الآية [الحج : ٢] ؛ وكقوله ـ تعالى ـ : (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) [الحج : ٢] ونحوه.

وقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) : هم الشهداء في الأرض ؛ وعلى ذلك روي في بعض الحديث أنه قال : «ما أعطي آدمي بعد النبوة أفضل من الشهادة ، لا يسمع الشهيد الفزع يوم القيامة إلا كرجل قال لصاحبه : أتسمع ، قال : أسمع كتأذين الصلاة».

وقال بعضهم (١) : هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت.

وقال بعضهم : هم الأنبياء والرسل.

لكن لا نقول نحن : إن أهل الثنيا هم كذا ولا نشير إلى أحد ؛ لأنا لا نعلم ذلك إلا إن ثبت في ذلك خبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنقول به.

وجائز أن يكون الذين استثناهم عن الذين أخبر عنهم في آخر الآية أنهم يكونون آمنين من فزع ذلك اليوم وهوله ، وهو ما قال : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ).

وقوله : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ) : قرئ بالمد آتوه وتطويله مضموم التاء فيه على مثال (فاعلوه) ، وهو جمع (آت) ؛ كقوله (إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) [مريم : ٩٣] ، و (أَتَوْهُ) جمع (أتى) وهو من سيأتون.

وقرأ بعضهم بقصر الألف ونصب التاء على الإتيان (٢) : قد أتوه (٣).

وقوله : (داخِرِينَ) قيل (٤) : صاغرين ذليلين ، دخر ، أي : ذل.

وقوله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) : قال بعضهم (٥) : وهي تمر مر كذا ؛ لكثرتها وازدحامها يرنو الناظر إليها ويحسبها كأنها جامدة ؛ وكذلك العسكر العظيم

__________________

(١) قاله الكلبي ومقاتل ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٤٣١).

(٢) ينظر : اللباب (٥ / ٢٠٦).

(٣) ثبت في حاشية أ : وأتوه : نعت الفاعلين على معنى الفعل ، كأنه قال : وكل سيأتون ، شرح.

(٤) قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٧١٢٠) و (٢٧١٢١) و (٢٧١٢٢) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٢١).

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧١٢٤).

١٤١

يحسب الناظر إليه كأنه ساكن جامد ؛ لكثرتهم وازدحامهم ؛ فعلى ذلك الجبال (١).

وقال بعضهم : لا ، ولكن لشدة ذلك اليوم وهوله وفزعه على الناس يحسبون كأنها جامدة ، (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) وهو ما ذكر : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى ...) الآية [الحج : ٢] ؛ لشدة ذلك اليوم وفزعه. وقال بعضهم : لا ، ولكن الجبال لهول ذلك اليوم وفزعه تمرّ مر السحاب وسيره ؛ كقوله : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] ، وأصله : إنما يذكر هذا وما تقدم من هول ذلك اليوم وشدته على الخلق ؛ ليتعظوا وينزجروا.

وقوله : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) : قال بعضهم (٢) : (أَتْقَنَ) : أحكم وأبرم.

وقال بعضهم (٣) : (أَتْقَنَ) : أي : أحسن كل شيء.

قال بعض المعتزلة : كيف يكون الكفر حسنا وهو قبيح ؛ لأنه شتم رب العالمين ، ولا يجوز أن يقال : الله خلق شتم نفسه وأحسن شتم نفسه ، أو أحسن كفر الكافر وغير ذلك من الخرافات؟!

فيقال لهم : لا يقول أحد : إنه خلق الكفر وأحسنه أو أحسن شتم نفسه على هذا الإطلاق ، من قال ذلك فهو كافر ، ولكن يقول : فعل الكفر من الكافر قبيحا ، وخلق فعل المعصية من العاصي قبيحا ، لكنه من حيث خلقه ذلك وجعله حجة عليه حسنا متقنا محكما ، وإن كان ذلك الفعل منه قبيحا باطلا سفها جورا ـ أعني : من الكافر ـ ألا ترى أن من تكلف أن يعرف فعل الكفر منه سفها وجورا كان غير مذموم ؛ لأنه يتكلف أن يعرف ما هو سفه في الحقيقة سفها ، ويعرف ما هو حق حقا فهو من هذا الوجه عارف بحق وحكمة ؛ لأن الحكمة توجب أن يعرف كل شيء على ما هو في نفسه حقيقة ؛ فعلى ذلك خلق فعل الكفر من الكافر على الوجه الذي ذكرنا هو حسن متقن محكم ، وإن كان من حيث فعل الكافر قبيحا سفها باطلا ، وهذا كما نصفه على الإطلاق : أنه رب كل شيء وخالق كل شيء ، ولا نقول : يا خالق الأنجاس ويا رب الأقذار ونحوه ، وإن كان هذا داخلا في الجملة أنه خالقها وربها ؛ لأنه على الإطلاق يخرج مخرج المدح له والثناء وعلى التخصيص مخرج الذم له ؛ فعلى ذلك الأول.

وقوله : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) : على أثر وصف الجبال بما وصف من انتقاضها

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : بمنزلة السحاب الذي استوعب السماء ، وهو يمر ، ولا يحس مروره ؛ لازدحامه واشتمال السماء له ، فهذا كذلك ، وكذلك العسكر. شرح.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٧١٢٥) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٢١).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٧١٢٦) ، وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٢٢).

١٤٢

وإفسادها ، وإخراجها عن الصفة التي أنشأها إلى ما ذكر لم يخرج من الإتقان والإحكام والإبرام ؛ ليعلم أن ليس في إفساد الشيء خروج عن الإتقان إذا كان ذلك لحكمة ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) : وعيد لهم.

وقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ) : قالوا جميعا : الحسنة هاهنا : التوحيد والإيمان.

وقوله : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) : قيل فيه بوجوه :

أحدها (١) : من جاء بالتوحيد : توحيد ربه [يوم] البعث فله خير منها ، ومجيئه ربه بالتوحيد إذا ختم به فله ما ذكر ، شرط المجيء به ، ولم يقل : من عمل بالحسنة فله كذا ؛ لأن الرجل قد يعمل بالحسنات ثم يفسدها ويبطلها ؛ فلا يثاب عليها ؛ ليعلم أن ما ينتفع بالحسنات في الآخرة الحسنة التي ختم عليها وجاء بها ربه.

وقال بعضهم : قوله : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي : ما يعطى في الآخرة له من الثواب ، والثواب والجزاء إنما يكون من الحسنة التي كانت منه في الدنيا منها يكون له جميع الخيرات في الآخرة.

وقال بعضهم : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي : الذي أعطي له في الآخرة من الخيرات خير مما ترك في الدنيا من النعم وصبر عليها ، فذلك خير مما ترك ، كقوله : (إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ) [هود : ١١] كذا.

وقال بعضهم : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) أي : رؤية الرب ولقاؤه خير مما أعطي غيرها من الخيرات ، على ما يكون في الدنيا رؤية الملك ولقاؤه على الرعية أعظم وأفضل عندهم من غيره من الكرامات وإن عظمت وجلت.

وقال بعضهم : ذلك الثواب والجزاء في الآخرة خير مما عملوا به من الخيرات في الدنيا ؛ لأن الثواب وجوبه الفضل والرحمة لا الاستيجاب والاستحقاق ؛ إذ في الحكمة والعقل وجوب العمل ، وليس فيهما وجوب الثواب ، فما هو سبيله فضل الله خير مما هو غيره.

لكنه عورض بأن ما كان سبيل وجوبه الحكمة والعقل خير مما كان سبيل وجوبه الإفضال ؛ إذ ما كان سبيل وجوبه الحكمة والعقل لا يسع تركه ، وما كان [سبيل] وجوبه الإفضال له تركه ، لكنه قال : إن قوله : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ، أي : في طباعكم ووهمكم ذلك

__________________

(١) قاله ابن جرير (١٠ / ٢١).

١٤٣

الثواب خير من ذلك ، لا أنه في الحقيقة خير ؛ وهو كقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] أي : في طباعكم ، وعندكم أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه ؛ إذ ليس شيء أهون على الله من شيء ، ولكن عندكم أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.

وقوله : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) أخبر أنهم إذا أتوا ربهم بالتوحيد يكونون آمنين من فزع ذلك اليوم وهوله.

وقوله : (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) أي : بالشرك ، (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) : المنكب على الوجه : هو الملقى على الوجه ، كقوله : (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) [الأحزاب : ٦٦].

وقوله : (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : ما تجزون إلا بأعمالكم.

قوله تعالى : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٩٣)

وقوله : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها).

قوله : (حَرَّمَها) يحتمل وجهين :

يحتمل (حَرَّمَها) أي : منعها من الاستلاب والاختطاف فيها ؛ كقوله : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) [القصص : ١٢] ليس على التحريم حتى لا يحل له ذلك ، ولكن على المنع والحظر ، أي : منعنا منه المراضع.

والثاني : على التحريم نفسه ، وهو ما جعل في كل أحد من الكافر والمسلم في الجاهلية والإسلام حرمة ذلك المكان ؛ حتى لا يتناول أحد من صيد تلك البقعة ومن شجرها وحشيشها ، والله أعلم.

وقوله : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) : أيضا عليكم كأنهم أوعدوه بوعيد وخوفوه به ، وطلبوا منه الموافقة لهم ، فقال عند ذلك لهم : إنما أمرت أن أعبد ربّ هذه البلدة ، وهو رب كل شيء ، أي : أمرت أن أكون عبدا له ، لا أجعل نفسي عبدا لغيره ، وأمرت ـ أيضا ـ أن أجعل نفسي سالما له ، لا أجعل لأحد فيها شركا كما جعلتم أنتم ـ أيضا ـ ذلك كله.

وأمرت ـ أيضا ـ أن أتلو القرآن عليكم ، فأنا أتلوه عليكم كذبتموني أو لم تكذبوني ، فإني لا أخاف كيدكم ولا مكركم ، والله أعلم.

وفي قوله : (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها) دلالة لزوم الرسالة ؛ لأن أهل مكة وغيرهم قد أقروا جميعا بحرمة تلك البقعة من أوائلهم وأواخرهم ، فما

١٤٤

عرفوا ذلك إلا بالرسل ؛ دل أن أوائلهم يقرون بالرسل والنبوة ، فعلى ذلك يلزم هؤلاء الإقرار بها ، والله أعلم.

وقوله : (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) : يخبر : أن من آمن وقبل الهدى فإنما يفعل ذلك لمنفعة نفسه ، ومن ضل ـ أيضا ـ فإنما يكون ضرره عليه ؛ كقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦].

وقوله : (فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) أي : ليس عليّ إلا الإنذار ، فأمّا غير ذلك فذلك عليكم ؛ كقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] ، وقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢].

وقوله : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) : هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : سيريهم آيات وحدانيته وربوبيته ، وآيات رسالته.

وقوله : (فَتَعْرِفُونَها) أي : بالآيات ما ذكر ؛ كقوله : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣].

والثاني : سيريهم ما وعد لهم من النصر والمعونة ليعرفوه عيانا على ما عرفوه خبرا.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) : قال بعضهم : هذا الحرف توبيخ للظالم وتعيير وزجر ، وتعزية للمظلوم وتسل له.

وقال بعضهم : هذا الحرف ترغيب وترهيب.

قال القتبي : قوله : (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] أي : تبعكم ، واللام زائدة ؛ كأنه قال : ردفكم ، والله أعلم بالصواب.

* * *

١٤٥

سورة القصص وهي مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٤) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (٥) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ)(٦)

قوله ـ عزوجل ـ : (طسم* تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) : قد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع مما يغني عن ذكره في هذا الموضع.

وقوله : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِ) : (مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) أي : من خبرهما.

وقوله : (بِالْحَقِ) أي : بالصدق ما يعلم أنه صدق وحق.

وجائز أن يكون قوله : (بِالْحَقِ) أي بالحق الذي لموسى على فرعون وقومه.

أو بالحق الذي لله عليه ، والله أعلم.

وقوله : (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) يحتمل وجهين :

أحدهما : (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ) للمؤمنين ؛ لأنهم هم المنتفعون بالأنباء وما فيها ، وأما من لا يؤمن فلا ينتفع بها فلا يكون.

والثاني : لقوم يؤمنون بالأنباء والكتب المتقدمة ، هم يعرفون أنه حق لما في كتبهم ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) : قال بعضهم : تجبّر واستكبر وأبى أن يصغى لموسى ولأمثاله.

وقال بعضهم (١) : (عَلا فِي الْأَرْضِ) أي : بغى وقهر ؛ فيكون تفسيره ما ذكر على أثره (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) ، هذا ـ والله أعلم ـ يشبه أن يكون علوه وبغيه في الأرض.

ويشبه أن يكون قوله : (عَلا فِي الْأَرْضِ) أي : علا قدره وارتفع رتبته في الأرض لما

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٧١٥٨) ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٢٦).

١٤٦

ادعى لنفسه الألوهية والربوبية ، بعد ما كان عبدا كسائر العباد أو دونهم ، فعلا قدره وارتفعت منزلته بدعواه بذلك ، وعلا في الأرض ، أي : غلب.

وقوله : (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) قيل (١) : فرقا : يستضعف طائفة ، ويذبح طائفة ، ويستحيي طائفة ، ويعذب طائفة.

وجائز أن يكون قوله : (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) أي : جعل لكل طائفة منهم عبادة صنم لم ، يجعل ذلك لطائفة أخرى ، وجعل طائفة أخرى على عمل أولئك وحوائجهم ؛ ليتفرغوا لعبادة الأصنام التي استعبدهم لها ؛ لأن الشيع فرق يرجعون جميعا إلى أصل واحد وإلى أمر واحد.

وقوله : (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) : كذلك كان ، لعنه الله.

وقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) : هذا في الظاهر إخبار لرسوله أنه سيفعل ذلك ، لا أنه منّ عليهم وفعل ذلك ؛ لأنه يقول : نريد أن نمن على الذين كذا ، وقد من عليهم بذلك فهلا قال : وقد مننا على الذين استضعفوا في الأرض؟ لكن معناه ـ والله أعلم ـ أي : كنا نريد في الأزل أن نمن عليهم ، وأن نجعلهم أئمة ، وأن نجعلهم الوارثين ، وإلا الظاهر ما ذكرنا.

وقوله : (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) يحتمل وجهين :

أحدهما : جعلهم جميعا أئمة لنا ، بهم نقتدي وننقاد لهم ، أو أن يكون قوله : (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) أي : نجعل فيهم أئمة وقادة لهم ، أي : نجعل بعضهم أئمة لبعض ؛ كقوله لموسى : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ) [المائدة : ٢٠] ، والأئمة المذكورة هاهنا كأنهم هم الأنبياء الذين ذكروا في هذه الآية.

(وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) : هذا كما ذكر في آية أخرى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) الآية [الأعراف : ١٣٧] ، أي : يرثون الأرض وملكهم بعد فرعون وقومه.

والوارث : هو الباقي على ما ذكرنا ؛ كأنه قال : يبقون هم في أرضهم وملكهم بعد هلاكهم ؛ كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم : ٤٠] ، أي : نبقى نحن بعد هلاك الأرض وهلاك من عليها ، والله أعلم.

وقوله : (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ) أي : يرون ما كانوا

__________________

(١) قاله قتادة ومجاهد وابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٧١٥٩) ، (٢٧١٦١) ، (٢٧١٦٢) ، (٢٧١٦٣) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٢٦).

١٤٧

يحذرون منه ، وهو الهلاك وذهاب الملك ، هذا كانوا يحذرون فأراهم ذلك ؛ لأنه كان يذبح أبناءهم إشفاقا على بقاء ملكه ويحذر ذهابه.

قال الزجاج : إن من حماقة فرعون وقلة عقله أنه كان يذبح أبناءهم لقول الكهنة : إنه يذهب ملكه بغلام يولد في العام الذي قالوه ، فلا يخلو إما أن صدقوا في قولهم فيذهب ملكه وإن قتل الأبناء ، وإما أن كذبوا في قولهم فلا معنى لقتل الأبناء ؛ لأنه لا يذهب لكنه فعل ذلك بهم لحماقته وسفهه وجهله بنفسه.

وقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) : بالنجاة من فرعون وآله ، واستنقاذه إياهم من يديه ، ومن قتل الولدان وغير ذلك من أنواع التعذيب ، والله أعلم.

وفي قوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ...) إلى آخر ما ذكر ـ وجوه على المعتزلة في قولهم : إن ليس لله أن يفعل بعباده إلا ما هو أصلح لهم في الدين ، وأنه لو لم يفعل ذلك كان ذلك جائزا.

فيقال لهم : لو كان عليه فعل الأصلح لهم في دينهم على كل حال لكان لا معنى لذكر المنة على الذين استضعفوا في الأرض في جعلهم أئمة وإبقائهم في أرضهم وتمكينه إياهم في ملكهم ووراثتهم أموالهم ؛ لأنه على زعمهم فعل بهم ما عليه أن يفعل ؛ لأن ذاك أصلح لهم في الدين ، وكل من فعل فعلا عليه ذلك الفعل ؛ لا يكون له الامتنان على المفعول به ذلك ، فدل ذكر المنة فيما ذكر أنه فعل بهم على أنه فعل ما لم يكن عليه ذلك ، ولكنه فعل ذلك متفضلا ممتنا ، وله ألا يفعل ذلك.

ويقولون ـ أيضا ـ : إن إهلاك فرعون وقومه أصلح لهم من إبقائهم ؛ وكذلك إماتة كل كافر فلم يذكر فيه المنة ، دل ذلك أنه ليس على ما يقولون هم ، وأن ذلك منقوض مردود عليهم.

ويقولون ـ أيضا ـ : إن الإرادة من الله لهم أمر لهم يأمرهم به ، فلو كان أمرا على ما يزعمون لكان الأمر منه قد شمل الكل ، ثم لم يصيروا جميعا أئمة وقادة ، ولكن إنما صار بعض دون بعض ؛ دل أن الإرادة غير الأمر ، وأنه إذا أراد لأحد شيئا كان ما أراد ، ليس على ما يقولون : إنه أراد إيمان كل كافر ، لكنه لم يؤمن بعد ما أعطاه جميع ما عنده من القوة والعون على ذلك ، حتى لم يبق عنده شيء من ذلك إلا وقد أعطاه ؛ فدل ما ذكر على فساد مذهبهم.

١٤٨

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٣)

وقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) : قال عامة أهل التأويل (١) : إن الوحي هاهنا وحي الإلهام والقذف في القلب ، لا وحي إرسال صارت رسولة ، وذلك لا يجوز.

لكن يقال : جائز أن تلهم هي إرضاعه وإلقاءه في اليم ، فأمّا أن تلهم ما ذكر : (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) هذا مما لا سبيل إلى معرفة ذلك وعلمه إلا بتصريح قول ومشافهة آخر ، اللهم إلا أن يقال : إنه كان بموسى آيات الرسالة وأعلام به ؛ لما عرفت هي بتلك الأعلام والآيات التي كانت له أنه يرد إليها ، وأنه يبقى رسولا إلى وقت ، وقد كانت بالرسل أعلام وآيات الرسالة في حال صغرهم وصباهم ؛ نحو عيسى حيث كلم قومه في المهد : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ ...) [مريم : ٣٠] ، إلى آخر ما ذكر وأن محمدا لما ولد بالليل استنارت تلك الناحية واستضاءت بنوره حتى ظنوا أن الشمس قد طلعت ونحوه ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون بموسى أعلام وآيات عرفت أمه بها أنه رسول ، وأنه يرد إليها.

وإنما تكلفنا بهذا التخريج قول أهل التأويل : إنه وحي إلهام وقذف في القلب لا غير.

وعندنا جائز أن يكون الوحي إليها وحي إرسال رسول وإخبار من غير أن صارت هي بذلك رسولة ؛ نحو ما ذكر من قصة مريم أن الملك لما دخل تعوذت بالله منه حيث قالت : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [مريم : ١٨ ، ١٩] ، وذلك من البشارة التي بشروها بالولد فلم تصر بما أرسل إليها من الرسل وشافهوها رسولة ؛ فعلى ذلك أم موسى ؛ ونحو بشارة الملائكة لامرأة

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٢٨) ، وعن قتادة أخرجه ابن جرير (٢٧١٧١) و (٢٧١٧٢) ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور.

١٤٩

إبراهيم بالولد وهو قوله : (فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ) [هود : ٧١] ، ونحوه مما يكثر ذكره لم يصيروا بذلك رسلا ؛ فعلى ذلك الوحي إلى أم موسى يحتمل ما ذكرنا.

وجائز ذلك من غير أن صارت بذلك رسولة ، وهو أشبه وأقرب ، والله أعلم.

وقوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) : قال بعضهم : في الآية إضمار ؛ لأنهم لم يلتقطوه ؛ ليكون لهم عدوا وحزنا ولكن كان فيه إضمار ، أي : التقطه آل فرعون ليتخذوه ولدا ووليا ، فكان لهم عدوا وحزنا إذا كبر [و] نحو هذا.

وقال بعضهم : ذاك إخبار عما في علم الله أنه يكون ما ذكر ، معناه ـ والله أعلم ـ : التقطه آل فرعون ، فكان في علم الله ـ تعالى ـ أنه يكون لهم عدوا وحزنا ، وذلك جائز في اللغة ؛ يقال :

 ............................

لدوا للموت وابنوا للخراب

لا يلدون للموت ولا يبنون للخراب ، ولكن إخبار عما هو عليه عملهم في الآخرة ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) : ظاهر. وفيه نقض قول المعتزلة من وجه.

وقوله : (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) : هذا لطف من الله بموسى ؛ حيث ألقى محبته في قلوبهم وحلاوته في أعينهم ، وهو ما ذكر منة عليه حيث قال : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] ليتأدى بذلك الشكر عليه.

قال أبو معاذ : قال مقاتل : قوله : (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا) تقول : ليس لك بقرة عين.

قال أبو معاذ : وهذا محال ، ولو كان كذلك لكان في القراءة : «تقتلونه» ، وهذا ـ أيضا ـ محال لقوله : (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) ، ولو كانت القراءة : (قرت عين لي ولك لا [لا] تقتلوه) لكان مقاتل مصيبا.

وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : يحتمل وجهين :

أحدهما : (١) (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أن إهلاكهم واستئصالهم على يديه.

والثاني : لا يشعرون أنه هو المطلوب بقتله من بين الكل ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) : قال بعضهم (٢) : فارغا من هم موسى وحزنها

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٧١٩١) و (٢٧١٩٢) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٢٩).

(٢) قاله أبو عبيدة ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٤٣٧).

١٥٠

عليه. وقال بعضهم (١) : فارغا من كل شيء إلا على موسى وذكره ، وكأن قوله : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) جواب قوله : (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ ...) الآية.

وهو يحتمل وجوها :

أحدها : أن الله رفع الحزن والخوف وطمأنها من غير أن كان ثمة قول أو كلام.

والثاني : على القول لها : لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، فلو كان على هذا فهو على البشارة لها بالردّ إليها وجعله رسولا ، أو على النهي والزجر عن الحزن عليه والخوف عليه ، هو حزن مفارقته لها ، والخوف عليه خوف الهلاك ؛ كقول يعقوب حيث قال : (إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٣] ذكر الحزن عند المفارقة والذهاب عنه ، والخوف عند الهلاك ، فرفع الله عنها حزن المفارقة ، وبشرها بالرد إليها وجعله رسوله وأمنها عن الهلاك ؛ فيكون قوله : (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) مما خافت عليه وحزنت ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) : كادت لتبدي به لو لا أن ربطنا على قلبها بما ذكر من قوله : (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي ...) الآية ، فلم تكد أن تبدي ، وهو كما ذكر : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [يوسف : ٣٤] أي : كان يهم بها لو لم ير برهان ربّه لا أنه هم بها ؛ وهو كقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٤] أي : كان يركن إليهم شيئا قليلا لو لم يثبته ، لكنه ثبته فلم يركن إليهم ونحوه ؛ فعلى ذلك الأول.

وقال أهل التأويل : ربط قلبها بالإيمان.

وجائز أن يكون ربطه قلبها لما ذكر من قوله : (وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي ...) الآية.

وقال بعضهم : (٢) (فارِغاً) من عهد الله الذي كان عهد إليها ، أنساها عهد الله عظم البلاء الذي حل بها ، فكادت تبدي به ، ثم تداركها الله بالرحمة فربط على قلبها فذكرت وارعوت (٣).

وقال بعضهم (٤) : اتخذه فرعون ولدا ، فصار الناس يقولون : ابن فرعون ابن فرعون ، فأدركت أمه الرقة وحبّ الولد فكادت تقول : بل هو ابني ، والأوّل أشبه (٥) ، وفي حرف

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧١٩٦ ـ ٢٧١٩٩) ، وعن مجاهد (٢٧٢٠٠) ، ومطر (٢٧٢٠٢) ، وقتادة (٢٧٢٠٣) ، والضحاك (٢٧٢٠٤) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٢٩).

(٢) قاله ابن زيد والحسن ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٧٢٠٥) و (٢٧٢٠٦).

(٣) ثبت في حاشية أ : أي : إثبات الأمن لها ، ودفع الخوف ، شرح.

(٤) قاله الكلبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٤٣٧).

(٥) ينظر : اللباب (١٥ / ٢١٩).

١٥١

ابن مسعود وأبيّ وحفصة : إن كادت لتشعر به.

وقوله : (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) أي : اتبعي أثره.

وقوله : (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) قيل (١) : عن بعد ، أي : كانت تتبع أثره عن بعد منه.

وقال بعضهم (٢) : الجنب : أن يسمو بصر الإنسان إلى موضع بعيد ، وهو إلى جنبه بقرب منه ، وذلك عند الناس معروف ظاهر فيهم ذلك.

وقال بعضهم (٣) : في قوله : (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) قال : مشيت بجانبه وهي معرضة عنه كأجنبية.

وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : أن هذه تراقبه أو تنظر إليه وتحفظه.

أو لا يشعرون أن هلاكهم على يديه.

بصرت وأبصرت واحد.

وقوله : (عَنْ جُنُبٍ) : عن ناحية بعيدة ، وجوانب : جماعة ، ويقال : رجل جنب وقوم أجناب ، وجانب وأجناب وأجانب وأجنبي أي : غريب ، وهذا كله من الاجتناب ؛ وهو قول أبي عوسجة والقتبي (٤).

وقوله : (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) : حرم تحريم منع وحظر الذي ضده الإطلاق والإرسال ، لا التحريم الذي ضده الحل ، وذلك لطف من الله تعالى وفضل ورحمة ؛ حيث منع موسى عن أن يرتضع من النساء وهو طفل ، وهمّ أمثاله الارتضاع والرغبة في التناول من كل لبن ومن كل مرضع ترضعه لا تمييز لهم في الارتضاع ؛ فدل امتناعه وكفه نفسه عن الارتضاع من النساء أجمع أن ذلك لطف من الله أعطاه ليمتنع عنه.

فعلى ذلك جائز أن يكون عند الله لطف لو أعطى الكافر الذي همته الكفر والرغبة فيه لآمن واهتدى ، لكنه لما عرف رغبته وهمته فيه واختياره له منع ذلك عنه ولم يعطه.

وهذا الحرف ينقض على المعتزلة مذهبهم في زعمهم أن الله قد أعطى كل كافر السبب الذي به يؤمن وما به يصير مؤمنا ، حتى لم يبق شيء مما يكون به إيمانه إلا وقد أعطاه ، لكنه لم يؤمن ، فينقض قولهم ما ذكرنا من أمر موسى أن عنده لطفا لم يعطه لو أعطاه لآمن

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٢٢٣) و (٢٧٢٢٤) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٢٩).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٢٢٦).

(٣) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٧٢٢٥) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣٠).

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٢٩).

١٥٢

واهتدى ، لكنه لم يعطه لما ذكرنا.

وفيه لطف آخر : وهو أن فرعون والقبط كانوا يقتلون الولدان من الذكور ؛ ليصير الذي يخاف هلاكه وذهاب ملكه على يديه مقتولا ، فجعل الله بلطفه ورحمته محبته في قلب فرعون وقلوب أهله ، حتى صار أحب الخلق إليهم ، وصاروا هم أشفق الناس وأرحمهم عليه ، حتى خافوا هلاكه وطلبوا له المراضع ؛ لئلا يهلك بعد ما كانوا يطلبون هلاكه وتلفه ، وذلك لطف منه له ورحمة ، وهو ما قال : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] ، وبالله يستفاد كل فضل ونعمة.

وقوله : (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ).

قوله : (فَقالَتْ) أي : أخته التي كانت تتبعه وتمشي على أثره ، وذلك منها تعريض بالدلالة لهم إلى أمّه ؛ لئلا يشعروا أنها أمّه حيث قالت : (أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ) ، ولم تقل : على امرأة لها لبن وهي ترضع ، ولعلها لو قالت لهم ذلك وقع عندهم أنها أمه ، ولكن دلتهم إلى بيت ليقع عندهم أنهم أهل بيت قتل ولدهم ولهم ولد يكفلونه لكم ، أي : يقبلونه ويضمونه إلى أنفسهم.

(وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) : يحتمل قولهم : (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) أي : لفرعون لا يخونونه فيه. ويحتمل (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) لموسى.

وقوله : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها) ، بالمقام معه والكون عندها ، (وَلا تَحْزَنَ) : على فراقه.

أو أن يقال : (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ) ، أي : تسرّ بردّه إليها ، وذلك معروف في النساء ظاهر أنهن يحزن بمفارقة أولادهن ويهممن لذلك ، ويسررن إذا جعلوا إليهن واجتمعوا.

وقوله : (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) : كانت تعلم هي ـ والله أعلم ـ أن وعد الله حق كائن لا محالة ، لكن علم خبر لا علم عيان ومشاهدة ؛ كأنه قال : لتعلم علم عيان ومشاهدة ما علمت علم خبر ؛ لأن علم العيان والمشاهدة أكبر وأبلغ وأتقى للشبهة من علم الإخبار ؛ ألا ترى أن إبراهيم سأل ربه أن يريه إحياء الموتى ، وإن كان يعلم حقيقة أنه يحيي الموتى ، وأنه قادر على ذلك ، لكنه كان يعلمه علم خبر فأحبّ أن يعلمه علم عيان ومشاهدة ؛ لأنه أكبر وأبلغ وأدفع للوساوس من علم الإخبار؟! فعلى ذلك هذا.

وقوله : (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : والمعتزلة فيهم ؛ لأنه أخبر أنه يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين ؛ حيث قال : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) [الأعراف : ١٨] ، وهم يقولون : أراد ألّا يملأ جهنم ؛ لأنهم يقولون : إنه أراد إيمان كل الناس جميعا وشاء ذلك لهم فلم يؤمنوا ، فعلى

١٥٣

قولهم : إذا شاء ذلك لهم شاء ألّا يملأ جهنم منهم ، فذلك خلف في الوعد وكذب في القول على قولهم.

قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢١)

وقوله : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) : قال بعض أهل التأويل (١) : الأشد : هو ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة ، ثم هو ما بين الثلاثين إلى الأربعين استواء الشدة ، ثم يأخذ بعد الأربعين في النقصان ، ثم غيّر بعمره (٢) إلا أربعين سنة.

وقال بعضهم : بلغ أشده : ثلاث وثلاثون سنة واستوى : أربعون ، وعن ابن عباس (٣) مثله.

وقال بعضهم (٤) : بلغ أشده قال : الأشد : الحلم ، والاستواء : أربعون سنة.

وأصل الأشد : أن يشتد كل شيء منه ، وصار يحتمل ما قصد به وجعل فيه ، ويدخل في ذلك العقل وكل شيء.

واستوى : أي استوى ذلك واستحكم ، وصار بحيث يحتمل ذلك.

وجائز أن يكون الاستواء هو الأشد الذي ذكره.

وقال أبو عوسجة والقتبي (٥) : واستوى : أي استحكم وانتهى شبابه واستقر ، فلم يكن

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب المعمرين من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣١).

(٢) كذا في أ.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٧٢٤٥) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والمحاملي في أماليه من طريق مجاهد عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣١).

(٤) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٢٤٨).

(٥) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٢٩).

١٥٤

فيه زيادة ، وأصله ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) أي : آتيناه العلم الذي يحكم به بين الناس ، وعلما بمصالح نفسه ومصالح الخلق.

وقال بعض أهل التأويل (١) : الحكم : الفقه والعقل والعلم قبل النبوة.

وقوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) : يحتمل قوله : (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) في الآخرة بالوعد الذي وعد لهم في الدنيا ؛ كما جزي موسى بإنجاز ما وعد له ، أو أن يكون من موسى إحسان وجهد في طلب العلم وغير ذلك مما أعطاه ذلك ، وأخبر أنه كذلك يجزي من ذكر ؛ كقوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) [العنكبوت : ٦٩] ، وقوله : (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [القصص : ١٣] كان وعده إياها أن يرده إليها ويجعله من المرسلين ، ومعناه ما ذكر فيما تقدم.

قال الكسائي : يقال : امرأة مرضع : ما دامت ترضع ، فإذا فطمت سميت : مرضعة ، وما دامت حبلى فهي مرضعة ، أي : سترضع.

وقوله : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) : قال عامة أهل التأويل (٢) : على حين غفلة أهل المدينة وهو عند الظهيرة ، وذلك وقت القائلة.

وقال قائلون : على حين غفلة أهل البلد عن دخول موسى ، أي : دخلها من غير أن شعروا به وعرفوا أنه موسى ؛ على هذا التأويل الغفلة تكون على دخول موسى عليهم.

وعلى الأول على غفلة أهل المدينة ، أي : وقت غفلتهم.

فإن كان على هذا فيحتمل أن يكون غفلة أهلها : هو أن كان ذلك يوم عيدهم خرجوا إليه ، فدخل هو المدينة ليطلع أحوالها وأسبابها ، إلا أن تكون العادة فيهم بأجمعهم يقيلون فذلك محتمل ، والله أعلم.

وقوله : (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) : قال بعض أهل الأدب : إن قوله : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) إنما يقال للشاهد المشار إليه ، فأما الغائب فإنه لا يقال ، لكن قالوا : إن فيه إضمارا أو لطفا ؛ كأنه قال : فوجد فيها رجلين يقتتلان من نظر إليهما يقول : هذا من شيعته وهذا من عدوه.

ثم قال أهل التأويل (٣) : أحدهما كان إسرائيليّا والآخر قبطيّا.

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٧٢٤٩) ، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣١).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٢٥٥) ، وعن قتادة (٢٧٢٥٦) ، والسدي (٢٧٢٥٧) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٣١).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣٢).

١٥٥

فإن قيل : كيف سمي الإسرائيلي من شيعة موسى وذلك أوّل ما دخل موسى المدينة ، وبنو إسرائيل يومئذ كانوا عباد الأصنام ، وقد حبب ذلك إليهم حتى قالوا لموسى بعد ما أخرجهم من المدينة وبعد هلاك فرعون والقبط جميعا : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] ؛ وكذلك يقول مقاتل : كانا كافرين جميعا ؛ ألا ترى أنه قال : (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) ، لكن يخرج هذا على الإضمار ؛ كأنه قال : يكون هذا من شيعته وهذا من عدوه.

أو يقول : يكون هذا من قوم شيعته ويبقى هذا عدوّا في قوم هم أعداؤه ، وعلى هذا يخرج قوله : (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) أي : يبقى عدوّا لهما ، أو أن يكون عدوّا لهما ؛ لأن أبا معاذ النحوي يستدل به على وهم مقاتل ووهمه في تأويله أنهما كانا كافرين جميعا ، لكن يخرج على ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) أي : استغاثه الذي كان في علم الله أنه يكون من شيعته على الذي في علم الله أنه يبقى عدوّا له ينصره ، والاستغاثة هي الاستعانة والاستنصار ، أي : سأله أن يكون من شيعته.

وقوله : (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ) : قال أبو عوسجة : الوكزة : الطعن في الصدر.

وقال الزجاج (١) والقتبي (٢) وهؤلاء : الوكزة : الدفعة (فَوَكَزَهُ) ، أي : دفعه.

(فَقَضى عَلَيْهِ) : قال بعضهم (٣) : أي فرغ منه ؛ كقوله : (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [القصص : ٢٩] ، وقوله : (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) [يوسف : ٤١] أي : فرغ ونحوه.

وقال بعضهم : (فَقَضى عَلَيْهِ) أي : قتله.

وكلاهما سواء إذا قتله فقد فرغ منه ، وهو لم يتعمد قتله ولا قصده ، لكن الله قضى أجله وجعل انقضاء عمره بوكزة موسى ، وهو في الظاهر قاتل ؛ لأنه قال : (إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [القصص : ٣٣] ، ولم يكذب الله موسى في قوله : إنك لم تقتل ، وقال ـ أيضا ـ : (إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ...) الآية.

وفيه دلالة جواز الاستدلال لقول أبي حنيفة حيث قال : من قتل آخر بحجر عظيم أو بخشبة عظيمة مما لا ينجو من مثله فإنه لا يقتل به ، ولا يجب القصاص فيه ؛ لأن موسى لما وكز ذلك القبطي فمات ، وكان له قوة أربعين رجلا ـ لم ير القصاص به واجبا حيث قال له ذلك الرجل : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ. فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ، ولو كان القصاص واجبا

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٤ / ١٣٧).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٣٠).

(٣) قاله ابن جرير (١٠ / ٤٥) ، والبغوي (٣ / ٤٣٩).

١٥٦

لكان أولئك لم يكونوا ظلمة في قتله ، بل يكون هو الظالم فيه.

ولا يحتمل أن يكون القصاص واجبا ـ أيضا ـ وموسى يفر من ذلك ويهرب وفي ذلك إبطال حقهم دل أنه لم يجب.

ولا شك أن وكزة من له قوة أربعين رجلا إلى الهلاك أسرع وأقرب وأعمل من الضرب بالحجر العظيم أو الخشبة العظيمة ، فإذا لم يجب في هذا لم يجب في ذاك ، والله أعلم.

وقوله : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) : قال بعضهم (١) : بما أنعمت عليّ بالمغفرة ، فلم تعاقبني بقتل النفس وعصمتني من أن أعاقب به في الدنيا.

وجائز أن يكون بما أنعم عليه هو قوته التي أعطاها أخبر أنه لا يكون بها ظهيرا للمجرمين ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ) : أكثر ما ذكر في القرآن (أصبح) ، أي : صار ؛ كقوله : (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً) [الكهف : ٤١] ، وقوله : (إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً) [الملك : ٣٠] ونحوه ، وأما هاهنا قوله : (فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً) إنما يريد : الصباح نفسه.

وقوله : (يَتَرَقَّبُ) : قال عامة أهل التأويل : (يَتَرَقَّبُ) أي : ينتظر سوءا يناله منهم.

وقال أبو عوسجة : الترقب : الخوف ؛ كأنه قال : خائفا يخاف هلاكه ، وأصل الترقب هو النظر ؛ لأن موسى كان يرقب من يطلبه ومن يأتيه في طلبه ، وهو من الرقيب.

وقوله : (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) : كأن الرجل الذي أخبر أنه من شيعة موسى كان ضعيفا في نفسه ، حيث لا يقدر أن يقوم لواحد ؛ فيستغيث بموسى ويستعين به ، إلا أنه كان يخاطب وينازع ويقاتل لسوء فيه وبلاء يقاتل وينازع ، وإلا لم يكن بنفس هذا قوة ما يقوم لواحد فمن حيث لا يقاتل مثله ، ولكنه لما ذكرنا من سوء به ؛ ولذلك قال له موسى : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ، لكن موسى إنما عرف غوايته بالاستدلال الذي ذكرنا لا بالمشاهدة ؛ ولذلك أراد أن يبطش بالذي هو عدوّ لهما لئلا يقتله ولا يهلكه لما عرف غوايته بالاستدلال لا حقيقة.

وذكر هاهنا البطش ـ وهو الأخذ باليد ـ وفي الأول ذكر الوكزة : وهي الدفع والطعن على ما ذكرنا ، فهو ـ والله أعلم ـ لأنه لما وكز الأوّل فأتت الوكزة على نفسه فقتلته ، فأخذ هذا من هذا ليمنعه عن إهلاكه وإتلافه ، ولا يأتي على نفس الآخر كما فعلت الوكزة.

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٤٣٩).

١٥٧

ثم قال : (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) : اختلف في قائل هذا :

قال عامة أهل التأويل (١) : إن قائل هذا هو الذي استصرخه واستغاثه بالأمس ظن أن موسى إنما أراد بطشه وأخذه وإليه قصد ؛ لذلك قال : (أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ).

وقال قائلون : هذا القول إنما قال له ذلك القبطي ، فإن كان هذا فهو يدل أن قتله ذلك الرجل بالأمس كان ظاهرا ، حيث علم به القبطي ، وكان قوله : (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) أي : من دخول موسى المدينة.

وإن كان هو الأول كان قتله إياه خفيّا غير ظاهر ، فعلى هذا تكون الغفلة على أهل المدينة ليس على دخول موسى ، والله أعلم.

وقوله : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) ؛ لأن الذي يصلح بين اثنين لا يقتل ولا يأخذ أحدهما دون الآخر ، ولكن يصلح بينهما على السواء الذي قال ما قال.

وقوله : (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) : قال بعضهم (٢) : يقول هكذا فعل الجبابرة ، يقتلون النفس بغير نفس.

وقال بعضهم (٣) : الجبابرة تقتل النفس بغير نفس.

وقال بعضهم : الجبار : هو الذي يحمل الناس على هواه وعلى ما يريده ، ويقهرهم على ذلك شاءوا أو أبوا.

وقال بعضهم : الجبار : هو الذي يتكبر على الناس لا يرى أحدا لنفسه نظيرا أو كلام نحوه. ويقال : كل قاتل آخر على الغضب بغير حق فهو جبار.

وقوله : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى) : يحتمل أن يكون أقصى المدينة هو سكن فرعون ومقامه ، فمنه جاءه ذلك الرجل.

أو أن يكون أقصى المدينة : موطن الملأ والأشراف الذين ذكر أنهم ائتمروا على قتله.

وقوله : (يَسْعى) : والسعي : هو العدو في اللغة ، كأنه يسرع المشي إليه ليخبره بذلك.

وقوله : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ).

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣٣) ، وعن قتادة والسدي أخرجه ابن جرير عنهما (٢٧٢٨٢) و (٢٧٢٨٣).

(٢) قاله ابن جريج أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٢٨٧).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٢٨٦).

١٥٨

(يَأْتَمِرُونَ) : قال بعضهم (١) : يتشاورون في قتلك.

وقال الزجاج (٢) : (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) أي : يأمر بعضهم بعضا أن يقتلوك.

وقال القتبي (٣) : (يَأْتَمِرُونَ) : أي يهمون في قتلك ، وذكر عنه أنه قال : (يَأْتَمِرُونَ) : يتشاورون بك ؛ وهو قول أبي عوسجة.

وأصل الائتمار في اللغة هو الطاعة والاتباع لما يؤمر من الفعل ، كأن فرعون أمر الملأ أن يقتلوه فأطاعوه وائتمروا لأمره ، والله أعلم.

وقوله : (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) : قال الزجاج : قوله : (لَكَ) صلة ، والصلة لا تتقدم الموصول به ، ولكن معناه : فاخرج إني لك من الناصحين الذين ينصحون لك ، وليس كما قال ؛ الصلة تتقدم وتتأخر ، وذلك ظاهر في الكلام.

وقوله : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ) : قد ذكرنا هذا.

دل قوله : (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) : أن الخوف قد يكون من دون الله.

وجائز أن يخاف من غيره ، وليس كما يقول بعض الناس : إنه لا يسع الخوف من دون الله ، وحقيقة الخوف تكون من الله يخاف أن ينتقم منه على يدي هذا ، والله أعلم.

وقوله : (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) : يحتمل الظالم كل مشرك ؛ لأن كل مشرك ظالم.

ويحتمل قوله : (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) حيث هموا قتله ، وقتل موسى ذلك القبطي لم يوجب عليه القتل والقصاص ؛ لأنه لم يتعمد قتله أو لم يقتله بسلاح يجب به القتل ، فذكر أنهم فيما هموا قتله ظلمة.

قوله تعالى : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٤٤٠).

(٢) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٤ / ١٣٨).

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن (٣٣١).

١٥٩

وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) (٢٨)

وقوله : (وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) : قال بعضهم (١) : أخذ طريقا إذا سلك ذلك الطريق وأخذ فيه خرج تلقاء مدين ، أو وقع تلقاء المكان المقصود إليه.

وقوله : (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) أي : الطريق الذي كان يقصده ويطلبه وهو طريق مدين ، وذكر أنه كان ضل الطريق.

وقوله : (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) أي : ورد البئر التي كان ماء مدين من تلك البئر.

(وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) أمة أي : جماعة.

وقيل (٢) : أناس من الناس يسقون أغنامهم ومواشيهم.

(وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) : قال بعضهم (٣) : (تَذُودانِ) : تحبسان حتى يفرغ الناس ويصدرون ويخلو لهما البئر.

وقال بعضهم : (تَذُودانِ) أي : تطردان أغنامهما لتسقياها.

ثم قوله : (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) يحتمل وجهين :

أحدهما : تذودان غنمهما ولا تسقيانها حتى يصدر الرعاء ؛ لما لا تتركان تسقيان غنمهما مع غنم أولئك الرعاء حتى يصدروا هم.

والثاني : لا تمنعان ذلك ، ولكنهما تستحيان أن تزاحما الرجال وتختلطا بهم ، فتنتظران فراغهم صدور الرعاء عنها.

فإن قيل : فما بالهما لا تتخلفان وقت اجتماع القوم ، وتشهدان في ذلك الوقت ، ولا تنتظران خلاء البئر عنهم؟!

قيل : لما ذكر أن على رأس البئر حجرا يلقى عليه لا يطيقه إلا كذا كذا نفرا ؛ وكذلك الدلو التي يستقى منها لا يطيقها إلا كذا كذا من عشرة إلى أربعين على ما ذكر ، فهما تشهدان ذلك البئر وقت شهود القوم وحضورهم ؛ ليتولوا هم نزح الدلو واستقاءها ، ولو تخلفتا وانتظرتا خلاء البئر عنهم ثم تأتيان ، لم تقدرا على نزح الماء والدلو ، ورفع الحجر الذي ذكر أنه كان على رأس البئر ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله : (ما خَطْبُكُما) أي : ما شأنكما وما أمركما؟ (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ

__________________

(١) قاله عكرمة ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣٥).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٣١٤) و (٢٧٣١٥).

(٣) قاله أبو مالك أخرجه ابن جرير (٢٧٣٢٢) وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣٧).

١٦٠