تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)(٥٣)

وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) : يحتمل هذا : لقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا ، وأمرناه أن يقول لهم : اعبدوا الله.

وجائز أن يكون قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) بالرسالة ، أي : أرسلناه ليدعوهم إلى عبادة الله.

وقوله : (اعْبُدُوا اللهَ) : يحتمل : وحدوا الله.

ويحتمل العبادة نفسها : أن اعبدوا الله ولا تشركوا غيره فيها ، ولا تشركوا في تسمية الألوهية غيره ، ولكن وحدوه ، فكيفما كان ففيه أمر بالتوحيد له في العبادة والألوهية له.

وقوله : (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) : مؤمن بصالح ومكذب به ، ولم يبين فيم كانت خصومتهم؟ وبين من كانت في هذه الآية؟ لكنه بين في آية أخرى وفسر وهو ما قال : (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ* قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الأعراف : ٧٥ ، ٧٦] ، هذه الخصومة التي ذكر في قوله : (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) بين الرؤساء من المؤمنين بصالح ، والله أعلم.

وقوله : (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي : لم تستعجلون العذاب قبل الرحمة ، واستعجالهم العذاب والسيئة ذكر في آية أخرى وهو قوله : (فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الأعراف : ٧٧] ، فذلك استعجالهم السيئة قبل الحسنة.

وقوله : (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي : لو لا توحدون الله ولا تشركوا غيره في العبادة وتسمية الإلهية ؛ لكي يرحمكم ، وفيه إطماع لهم لو آمنوا وتابوا عنه لرحمهم ؛ كقوله : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨].

وقوله : (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) أي : تشاءمنا منك وبمن معك ، لم يزل الكفرة يقولون لرسل الله ـ عليهم‌السلام ـ ولمن آمن منهم : اطيرنا بكم ، إذا أصابتهم الشدة

١٢١

والبلاء يتطيرون بهم ويتشاءمون ، ويقولون : إنما أصابنا هذا بشؤمكم ، وإذا أصابهم رخاء وسعة فقالوا : هذا لنا بنا ومن أنفسنا ، وهو ما قال موسى حيث قال : (فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ) الآية [الأعراف : ١٣١] ؛ وكذلك قال أهل مكة لرسول الله حيث قال : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) [النساء : ٧٨] ، كانوا يتطيرون برسول الله ويتشاءمون بما يصيبهم من الشدة ، وما ينزل بهم من البلاء ، فأخبر الله رسوله ، وأمره أن يقول لهم : (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي : الرخاء والشدة من عند الله ينزل ، وهو باعث ذلك لا أنا ؛ فعلى ذلك قوله : (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي : ما ينزل بكم ويصيبكم من الشدة والرخاء إنما ينزل من عند الله لا بنا ولا بكم.

أو يقال : ما ينزل بكم من العذاب في الآخرة إنما يصيب بتكذيبكم إياي في الدنيا.

أو أن يقال : طائركم عند الله ، أي : جزاء طيرتكم عند الله ، هو يجزيكم بها بعذاب الدنيا والآخرة.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) يحتمل قوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) ابتداء : مرة بالشدّة ومرة بالرخاء ، لا بما تكسبون من الأعمال.

وجائز أن قوله : (تُفْتَنُونَ) بالعذاب بما تكسبون من الأعمال في الدنيا ، أي : تعذبون بها.

قال أبو عوسجة : (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) يقول : الله أعلم بطائركم وما تطيرتم به.

وقال القتبي (١) : (طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) أي : ليس ذلك بي وإنما هو من الله ، وهو ما ذكرنا.

وقوله : (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) : قال بعضهم : الرهط : إنما يقال من ثلاثة إلى تسعة ، وإذا نقص عن ذلك أو زاد يقال : رجال.

وقال أبو عوسجة : الرهط : النفر ، وأراهط ورهوط جمع.

ثم يحتمل الرهط وجهين :

أحدهما : (تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي : تسعة نفر من الأتباع وغيره يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

والثاني : تسعة رهط لا تسعة نفر من الرؤساء ، ولكل أحد منهم رهط من الأتباع يفسدون في الأرض ولا يصلحون.

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٢٦).

١٢٢

جائز أن هذا إخبار من الله أنهم يفسدون أبدا في الأرض ولا يؤمنون أبدا.

وجائز أن يكون إخبارا عن حالهم ، أي : يعملون الفساد والمعاصي ولا يصلحون ، أي : لا يسعون بالصلاح.

وقال ابن عباس (١) : إن هؤلاء التسعة كانوا من أبناء أشرافهم ، وكانوا بالحجر ، وكانوا فساقا ، فقال بعضهم لبعض : لنقتلن صالحا وأهله ، ثم لنقولن لوليه ـ أي : لقومه من ورثته ـ : ما قتلناه.

وقوله : (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) : فتحالفوا على ذلك ، فأتوا صالحا ليلا فدخلوا عليه بأسيافهم ليقتلوه ، وعند صالح ملائكة جاءوا من الله تعالى يحرسونه ، فقتلوا الرهط فى دار صالح بالحجارة ؛ فذلك قوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً) : بصالح وأهله ، (وَمَكَرْنا مَكْراً) أي : أهلكناهم ، (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : أنهم يهلكون.

وقال بعضهم (٢) : هؤلاء التسعة الرهط تواثقوا أنهم يبيتون صالحا ويقتلونه وأهله بعد ما عقروا الناقة ، وقالوا فيما بينهم : فإن خوصمنا في ذلك لنقولن ولنقسمن : ما شهدنا مهلك أهله ، أي : ما حضرنا في هلاكهم ؛ على هذا التأويل يكون على التقديم والتأخير.

وقال بعضهم : هؤلاء التسعة كانوا شرار قومه ، خرجوا بخمر إلى بعض المغار ليشربوها ، ثم ليبيتوا على صالح وأهله ، فشربوا هنالك فانهدم بهم الصخرة وعذبوا فيه ؛ فذلك قوله : (وَمَكَرُوا) : بقتل صالح وهلاكه ، (مَكْراً وَمَكَرْنا) : بهم حيث أهلكناهم ، (مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ). والمكر : هو الأخذ بغتة.

وقوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) أي : جزيناهم جزاء مكرهم.

ثم اختلف في قراءة (٣) (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَ) بالنون ؛ فذلك قول بعضهم لبعض.

وقرأه بعضهم بالتاء : لتبيتنه وأهله ثم لتقولن ؛ فذلك قول الرؤساء للأتباع.

ومن قرأ بالياء يجعله خبرا عن الله تعالى لهم.

وقوله : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) أي : لم نسكن فيها أحدا ، ولكن تركناها خالية كذلك.

وقال بعضهم : (خاوِيَةً) أي : خربة بما ظلموا كقوله : (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) أي : ساقطة خربة ، وقد كان ذلك كله : منها ما جعل لغيرهم مسكنا إذا أهلكهم من نحو ما

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٤٢٣).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٧٠٤٩) ، وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢١١).

(٣) ينظر : اللباب (١٥ / ١٧٩ ، ١٨٠).

١٢٣

أورث بني إسرائيل ديار القبط وأموالهم ، وأنزلهم فيها ، ومنها : ما تركها كذلك خالية بعد ما أهلك أهلها وخربها وتركها كذلك.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) أي : في هلاك من ذكر لآية ولعبرة يعتبرون.

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ) مخالفة الله ، ومخالفة أمره ونهيه.

قوله تعالى : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٥٨)

وقوله : (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) : كأن فيه إضمارا كأنه قال : أرسلنا لوطا إلى قومه.

(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) أي : أتاتون الفاحشة وأنتم تبصرون ، وتعلمون أنها فاحشة.

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) أي : اشتهاء لكم (مِنْ دُونِ النِّساءِ) : يقول : تأتون الذكور وتدعون النساء ، وهو ما قال في آية أخرى : (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ ...) الآية [الشعراء : ١٦٥].

وقوله : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) : قال بعضهم : ولكن أنتم قوم تجهلون ، أي : تجهلون الأمر فتعصون.

ويشبه أن هذا جواب قول كان من قومه نحو ما قالوا : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) [الشعراء : ١٦٧] ، فقال عند ذلك : (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) ما تقولون ، أي : على جهل ما تقولون ذلك ، أو كلام نحوه ، والله أعلم.

وقوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ).

قوله : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) في وقت إلا أن قالوا كذا ، لا في الأوقات كلها ؛ لأنه قد كان منهم قول وجوابات نحو ما قالوا : (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ ...) الآية [العنكبوت : ٢٩] ونحوه ، وقولهم : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) ؛ دل هذا منهم أنهم قد علموا أن ما يأتون ويعملون أنه خبيث وفحش ومنكر حيث قالوا : (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ).

ثم يحتمل قولهم هذا وجوها :

أحدها : أنهم قالوا ذلك استهزاء منهم بهم.

والثاني : قالوا : (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) ؛ فإنهم يستقذرون أعمالنا وأفعالنا.

والثالث : على التحقيق (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ).

١٢٤

وقوله : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) فيه دلالة أن غير الزوجة يجوز أن يسمى أهلا.

قال عامة أهل التأويل : أهله : بناته.

وفي قوله : (قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) دلالة خلق أفعال العباد ؛ حيث أخبر أنه قدرها من الغابرين ، والغبور والبقاء فعلها ، فأخبر أنه قدر ذلك منها وخلق.

وقوله : (مِنَ الْغابِرِينَ) أي : الباقين في عذاب الله.

وفي حرف ابن مسعود : ولقد وفينا إليه أهله كلهم إلا عجوزا في الغابرين.

وقوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) أي : ساء مطر المنذرين الذين لم يقبلوا الإنذار ، ولم تنفعهم النذارة.

قوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ)(٦٦)

وقوله : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) أمر نبيه بالحمد له والثناء عليه على هلاك أعداء الرسل الخالية.

ثم قال : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) وهم الرسل والأنبياء ، صلوات الله عليهم.

وجائز أن يكون أمره إياه بالحمد له والثناء عليه لما أنعم عليه من أنواع النعم ، منها ما ذكر من هلاك أعداء الرسل وإبقاء أوليائهم ؛ تخويفا لأعداء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يهلكوا كما أهلك أعداء الرسل الخالية.

أو أن يكون أمره إياه بالحمد له والثناء عليه ؛ لما أنعم عليه في نفسه من أنواع النعم من النبوة والرسالة والهداية ونحوه ، والله أعلم.

وقوله : (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) : يحتمل الرسل ؛ كقوله : (وَسَلامٌ عَلَى

١٢٥

الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٨١]. ويحتمل الأمر بالسلام على أصحابه وجميع المؤمنين ؛ كقوله : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الأنعام : ٥٤] ، أمر رسوله بالسلام على المرسلين وعلى أصحابه وعلى المؤمنين.

ثم في قوله : (اصْطَفى) دلالة : أن لا أحد يستوجب الصفوة إلا بالله ؛ حيث قال : (اصْطَفى).

وقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : الذي فعل هذا بالأمم الخالية من الهلاك للأعداء وإبقاء الرسل والأولياء ، أم الأصنام التي تشركون في عبادته ، وهي لا تملك شيئا من ذلك؟ يقول ـ والله أعلم ـ : إنكم تعلمون أن الله يملك ما ذكر من إهلاك أعدائه وإبقاء رسله ، والأصنام التي تعبدونها دونه لا تملك شيئا ، فكيف تشركونها في ألوهيته؟! وإلا لم يذكر جواب قوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) جوابه أن يقولوا : بل الله خير.

وكذلك روي في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ إن ثبت ـ : أنه كان إذا قرأ هذه الآية ، قال : «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم» (١).

وقوله : (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) : يذكرهم بهذا ؛ لوجهين :

أحدهما : يذكر قدرته وسلطانه في خلق ما ذكر من السموات والأرض ، وإنزال الماء من السماء ، وإنبات النبات من الأرض ، وإخراجه على إقرارهم أن الله خالق ذلك لا غيره ، فيقول : فإذا علمتم أن الله هو خالق ذلك كله ، فكيف أشركتم غيره ممن لا يملك ذلك ، ولا يقدر في تسمية الإلهية والعبادة؟!

والثاني : يخبر عن اتساق الأمور والتدبير فيهما جميعا ، واتصال منافع أحدهما بالآخر ، على تباعد ما بينهما ؛ ليعلم أن منشئهما ومدبرهما واحد لا عدد ، فإذا عرفتم ذلك فكيف أشركتم غيره فيهما؟! وهو كقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢].

وهذا الحرف على الثنوية والدهرية وهؤلاء لقولهم بالعدد وإنكارهم الواحد ، والأول على المقرين بالواحد إلا أنهم أشركوا الأصنام في التسمية والعبادة.

وقوله : (حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ) : قال بعضهم (٢) : الحدائق : الحيطان ، والبساتين : ما دون الحيطان.

وقال بعضهم : الحدائق : الحوائط التي خصت بالأشجار ، والبساتين : هي الملتفة بها.

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد عن قتادة موقوفا عليه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢١١).

(٢) قاله الضحاك بنحوه ، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢١٢).

١٢٦

وقال أبو عوسجة : الحدائق : البساتين والرياض ، والحديقة : الروضة.

وقال القتبي (١) : الحدائق : البساتين واحدها : حديقة ، سميت بذلك لأنها تحدق بها ، أي : تحيط (ذاتَ بَهْجَةٍ) : حسن المنظر.

وجائز أنها سميت ذات بهجة لما يبتهج صاحبها إذا نظر إليها ويسر.

وقوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي : ما تقدرون أنتم أن تنبتوا شجرها ، فمن هو دونكم أشد وأبعد ، فكيف أشركتم في العبادة وتسمية الإلهية من هو دونكم في كل شيء؟! وقوله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي : لا إله مع الله.

(بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) : يحتمل هذا وجهين :

[أحدهما] : يحتمل (يَعْدِلُونَ) أي : يجعلون من لا يملك ما ذكر عديلا لله.

والثاني : (يَعْدِلُونَ) أي : يعدلون عن الله ، ويميلون إلى غيره من العدول ، والله أعلم.

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) : يقرون عليها ، ويتعيشون فيها ويبيتون ، (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) : ينتفعون بها أنواع المنافع ويشربون ، (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) ، أي : الجبال لئلا تميد بهم ، (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) : قال بعضهم : جعل بين بحر فارس والروم جزيرة العرب حاجزا ، وسميت : جزيرة ؛ لما جزر الماء فيها ، أي : ذهب.

وقال بعضهم : بحر الشام وبحر العراق.

وقال بعضهم (٢) : قوله : (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) بين العذب والمالح حاجزا بلطفه ، لا يختلط هذا بهذا ولا هذا بهذا ؛ لطفا منه ، يذكرهم نعمه عليهم ولطفه : أن كيف أشركتم في عبادته وألوهيته من لا يملك ذلك ، وصرفتم شكرها إلى غير المنعم؟!

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي : لا إله مع الله.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) : لأن من لا ينتفع بما يعلم فكأنه جاهل ، نفى عنهم العلم لتركهم الانتفاع به ؛ كما نفى عنهم السمع والبصر واللسان والعقل ؛ لتركهم الانتفاع بهذه الجوارح والحواس ، وإن كانت لهم هذه الجوارح ؛ فعلى ذلك جائز نفي العلم عنهم لتركهم الانتفاع به.

والثاني : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لما لا يتكلفون النظر فيما ذكر ، أو لا يعلمون أن بينهما حاجزا ، والله أعلم.

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٢٦).

(٢) قاله ابن جرير (٩ / ٥) ، والبغوي (٣ / ٤٢٥).

١٢٧

وقوله : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) : يخرج على الصلة بقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) ؛ كأنه يقول : من يملك إجابة المضطر وكشف السوء عنه وجعلكم الخلفاء في الأرض خير ، أمّن لا يملك من ذلك شيئا؟ فجواب ذلك أن يقولوا : بل الذي يملك ذلك خير ممن لا يملك ولا يقدر على ذلك.

أو يخرج على الوجهين اللذين ذكرتهما :

أحدهما : أنكم تعلمون أن الذي يجيب المضطر ويكشف السوء هو الله تعالى ، لا الأصنام التي تعبدونها ، فكيف أشركتموها في الألوهية والعبادة؟!

والثاني : أنه إذا أجاب دعوة المضطر وكشف السوء والأحزان ومنع ؛ فدل بقاء ذلك كله واتساق الأمر أنه واحد لا شريك له ؛ فهذا على الثنوية ، والأوّل على المشركين ؛ لإشراكهم غيره في العبادة له وتسميته الإله.

وقوله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي : لا إله مع الله (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ).

وعلى ذلك يخرج قوله : (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) على الوجوه التي ذكرناها ؛ وكذلك قوله : (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي من يقدر على ما تقدم ذكره يملك البعث بعد الموت وإحياءكم ؛ يلزمهم البعث بهذا أي : من يقدر [على] هذا يقدر [على] ما ذكر.

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أي : لا إله مع الله ، بل الله هو المتفرد بذلك دون من يعبدون ويشركون.

وقوله : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أي : من لج في هذا أو أنكر ذلك وادعى الشرك فيه لغيره ، (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في مقالتكم.

وقوله : (بُشْراً) من البشارة و «نشرا» بالنون من التفريق والرفع.

وقوله : (خُلَفاءَ الْأَرْضِ) : يخلفون من قبلهم من الأمم ؛ قال أبو معاذ : وواحد خلفاء خليف ، وواحد الخلائف خليفة ، والخليف من الخالف كالعليم من العالم.

وقوله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يقول ـ والله أعلم ـ يفعل ذلك ، أي يرزقكم ، وينزل لكم من السماء ماء ، وينبت من الأرض ما تأكلون ، ويرعى أنعامكم ، أو مع الله إله يهديكم في ظلمات البر والبحر ، ويرسل لكم الريح بشرا ، أو يجيب المضطر ويكشف السوء عنه ، وكل ما ذكر ، أي : ليس معه إله سواه ، بل الله يفعل ذلك وحده ، فكيف أشركتم غيره في إلهيته وعبادته ، على علم منكم أن الذي تعبدون من دونه لا يملك شيئا أن يفعل ذلك

١٢٨

بكم؟! يذكر سفههم وقلة بصرهم ومعرفتهم.

ثم قال : (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) أن مع الله إلها فعل ذلك بكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

ثم قال : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) : كأنه قال ـ والله أعلم ـ لرسوله : قل لا يعلم ممن تعبدون من أهل السموات ومن في الأرض الغيب إلا الله ؛ لأن بعضهم كان يعبد أهل السموات وهم الملائكة ، وبعضهم كانوا يعبدون من في الأرض ؛ يقول : لا يعلم ممن تعبدون من دون الله من في السموات والأرض الغيب ، إنما يعلم الغيب الله.

ثم قوله : (الْغَيْبَ) يخرج على وجهين :

أحدهما : ما يغيب بعضهم من بعض ؛ يقول : ما يغيب بعضهم من بعض فهو يعلم ذلك.

والثاني : لا يعلم الغيب إلا الله ، أي : ما كان وما يكون إلى أبد الآبدين لا يعلم ذلك إلا الله وإن أعلموا وعلموا ذلك.

ومنهم من صرف الغيب إلى البعث والساعة ، يقول : لا يعلم الساعة أحد متى تكون إلا الله.

وقوله : (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) : قال أهل التأويل : وما يشعر أهل مكة متى يبعثون ، لكن لو كان الجهل عن وقت البعث ، فأهل مكة وغيرهم من أهل السموات وأهل الأرض في جهلهم بوقت البعث شرعا سواء ، لا أحد يعلم من أهل السموات والأرض أنه متى يبعث ، إلا أن تكون الآية في منكري البعث ، فحينئذ جائز صرفه إلى بعض دون بعض ، فأما في وقت البعث فالناس في جهلهم بوقت البعث سواء ، وهو ما قال في آية أخرى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها ...) الآية [الأعراف : ١٨٧] ، أخبر أنه لم يطّلع أحد على علم ذلك عند الله.

وقوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) : اختلف في قراءته وتأويله :

أما القراءة : فإنه قرأ بعضهم : (ادَّارَكَ) بالتشديد والألف.

وقرأ بعضهم : ادراك بإسقاط الألف والتشديد.

وقرأ بعضهم : بلي بإثبات الياء في بلى ، على الوقف عليها ، وأ أدارك على الاستفهام : بلى أأدرك.

ومنهم من قرأ على الاستفهام : آدرك على غير إثبات الياء في حرف (بَلِ) وعلى

١٢٩

غير قطع منه.

فمن قرأ : ادراك بالتشديد على غير الاستفهام ، يقول : معناه : تدارك واجتمع ، أي : تدارك علمهم في الآخرة ، يقول : أبلغ علمهم بالآخرة.

أي : لم يدرك ولم يبلغ علمهم ، (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) ، يسفههم ويجهلهم ، يقول : ما بلغ علمهم بالآخرة.

وقال بعضهم (١) : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) ، أي : أم ادّارك علمهم.

وقال بعضهم : (٢) (ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) ، أي : خاب علمهم عن الآخرة ، وادّرك في الآخرة حين لم ينفعهم.

وعن الحسن (٣) قال : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) ، أي : اضمحل علمهم وذهب ، وعن ابن عباس وغيره قالوا : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) ، بل أجمع علمهم بأن الآخرة كائنة ، وهم مشركو العرب.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) قال : يقولون مرة : الآخرة كائنة ثم يشكون فيها فيقولون : ما ندري أكائنة أم لا؟

(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) يعني : جهلة بها.

وجائز أن يسمى الشاك في شيء : عميّا.

وأبو عوسجة والقتبي يقولان : (ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ) أي : تدارك ظنهم في الآخرة ، وتتابع في القول.

(بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) أي : من علمها.

وقال بعضهم من أهل الأدب : لا تستقيم قراءة من قرأ بإثبات الياء في بلى والصلة بالأول ؛ لأن (بلى) بالياء إنما يقال في الإيجاب والإثبات ، وما تقدم من الكلام هو على الإنكار والنفي ، وذلك غير مستقيم في اللغة والكلام.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٠٧٤) و (٢٧٠٧٥) و (٢٧٠٧٦) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢١٤).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٧٠٧١) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢١٤).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢١٤).

١٣٠

الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ)(٧٥)

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) : كأنهم قالوا ذلك لأحد وجهين :

إما استهزاء بما يخبرهم الرسل أنكم تبعثون ، أو قالوا ذلك احتجاجا بما احتجوا به على الرسل بقولهم الذي قالوا : (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، يحتجون فيقولون : لقد وعد آباؤنا بالبعث كما وعدنا نحن ، ثم لم نرهم بعثوا منذ ماتوا ؛ فعلى ذلك نحن وإن وعدنا فلا نبعث كما لم تبعث آباؤنا.

ثم قال : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) : يقول ـ والله أعلم ـ : لو سرتم في الأرض فنظرتم إلى ما حل بمكذبي الرسل من العذاب ، والرسل إنما كانوا يدعون إلى توحيد الله ، والإقرار بالبعث بعد الموت ، فكل ذلك ينزل بكم ما نزل بأولئك بتكذيبهم الرسل بالبعث وغيره ؛ فيكون قوله : (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ليس على حقيقة الأمر بالسير ، ولكن على ما ذكرنا ، أي : لو سرتم لعرفتم ما حل بهم بتكذيبهم ، أو أن يكون الأمر بالسير في الأرض أمرا بالتفكر فيما نزل بأولئك ، الأمر بالنظر في عاقبة أمرهم أمر بالاعتبار فيهم ، وفي أمر أولئك أمر بهذا ؛ ليزجرهم ذلك عن مثل صنيعهم وفعلهم.

وقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) : قال قائلون : قوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) بما يحل بهم من العذاب ، إن لم يحزنوا هم على أنفسهم ولم يرحموها.

وقال بعضهم : قوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) إن لم يسلموا ؛ كقوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) [الكهف : ٦] ؛ وكقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ، وأمثال ذلك ، كادت نفسه تهلك وتتلف ؛ إشفاقا عليهم بما ينزل بهم بتركهم الإسلام ، فقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، ليس على النهي ، ولكن على تسكين نفسه وتقريرها على ما هي عليه ؛ لئلا تتلف وتهلك ، وهو ما قال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) [القصص : ٥٦].

وقوله : (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) : هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : لا تكن في ضيق مما يستهزءون بك ، ويسخرون بما توعدهم من العذاب

١٣١

والهلاك ؛ ألا ترى أنهم قالوا على أثر ذلك : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، قالوا ذلك له استهزاء بما يوعدهم ؛ فكأنه قال لرسوله : لا تكن في ضيق مما يستهزءون بما توعدهم ؛ فإن الله يجزيهم جزاء استهزائهم بك.

والثاني : (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) أي : مما يريدون ويهمون قتلك ؛ فإن الله يحفظك ويحوطك ؛ فلا يصلون إليك بما يريدون من قتلك وإهلاكك ، وهو ما قال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [الأعراف : ٧٠].

وفيه دلالة إثبات رسالته ؛ حيث أمنه وأخبره أنه يحفظه ويعصمه من جميع الأعداء وهو بين أظهرهم ، فذلك آية من آيات النبوة والرسالة ، والله أعلم.

وقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) : قد ذكرنا أنهم إنما يقولون ذلك استهزاء وتكذيبا بما كان يوعدهم من العذاب بتكذيبهم إياه ، ثم كان يوعدهم مرة بعذاب ينزل بهم في الدنيا كما نزل بأوائلهم بتكذيبهم الرسل ، ومرة يوعدهم بعذاب ينزل بهم في الآخرة ، فيكذبونه في ذلك كله ويستهزءون به ويقولون : (مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ؛ وكذلك قال أوائلهم لرسلهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الأعراف : ٧٠].

ثم قال : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) : هذا يحتمل وجهين : أحدهما : قوله : (رَدِفَ لَكُمْ) بعد هذه الحال ، وبعد هذا القول الذي قالوا : (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) ، أي : ينزل بكم بعد هذه الحال بعض الذي تستعجلون وهو العذاب ، وقوله : (رَدِفَ لَكُمْ) أي : يدنو منكم ويقرب.

والثاني : (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) بعد الحزن والمكروه الذي يحل بكم بالموت (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) وهو عذاب القبر ؛ لأنهم وقت الموت يحزنون ويكرهون لما شاهدوا وعاينوا من حالهم ؛ ولذلك يسألون ربهم الرجوع والردّ إلى المحنة ثانيا ؛ نحو قولهم : (رَبِّ ارْجِعُونِ) [المؤمنون : ٩٩] ، وقولهم : (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ) [الأعراف : ٥٣] ونحوه.

وقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ) : يحتمل قوله : (لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) وجوها :

أحدها : ذو فضل في تأخير العذاب عنهم ، ولكن أكثرهم لا يشكرون ذلك الفضل ولكن يستعجلون.

والثاني : ذو فضل على الناس في دينهم في بعثه وإرساله إليهم من يزجرهم ويصرفهم عما يستوجبون من عذاب الله ومقته وهو الرسول ، لكنهم لا يعرفون هذا الفضل ولا يشكرونه ، بل يعاندونه ويكابرونه.

١٣٢

أو لذو فضل على الناس فيما أنعم عليهم في أموالهم وأنفسهم ، لكنهم لا يشكرون في ذلك ، بل يصرفون شكره إلى غير المنعم ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ).

قوله : (تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) يحتمل وجهين :

أحدهما : ما تكنون أنتم في صدوركم وتسترون فيها (وَما يُعْلِنُونَ) ، أي : ما يبدون ويظهرون فيها ، يعلم ذلك كله.

أو (ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) ، أي : ما تخفي أنفس الصدور وتستر فيها (وَما يُعْلِنُونَ) : وما تحمل الصدور أصحابها على إبداء ما فيها وإظهاره ، وهو ما ذكر في الخبر حيث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن في الإنسان مضغة إذا صلحت صلح جميع بدنه وهو القلب» ، والله أعلم.

وقوله : (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) هذا يخرج على وجهين ـ أيضا ـ :

أحدهما : ما من غائبة في السماء والأرض مما كان ويكون أبد الآبدين إلا كان ذلك مبينا في كتاب مبين ، يخبر أنه كان لم يزل عالما بما كان منهم أبد الآبدين ، وأنه عن علم بأفعالهم وصنيعهم خلقهم وأنشأهم ، لا عن جهل وغفلة.

والثاني : (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي : ما من غائبة عن الخلق ما يغيب بعضهم من بعض ويستر بعضهم بعضا ، (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) : إلا كان ذلك عند الله محققا ظاهرا مرقوبا ، ينبههم ؛ ليكونوا على حذر ؛ يقول : إن ما يغيب بعضهم من بعض فهو عند الله محفوظ رقيب لا يغيب عنه شيء ؛ كقوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] ، والله الموفق.

قال بعضهم (١) : في قوله : (عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) أي : أعجل لكم.

قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ)(٨٢)

وقوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) قوله :

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧٠٧٩) ، والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢١٥).

١٣٣

(أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) مقطوع من قوله : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) ؛ كأنه قال : (يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : يبين لهم ، ثم قال على الاستئناف : (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

وقال بعضهم : لا ، ولكن هو موصول بعضه ببعض ؛ (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُ) أي : يبين على بني إسرائيل أكثر ما اختلفوا فيه.

فإن كان على ما يقول هذا ، فهم بأنفسهم يبينون الاختلاف الذي هم فيه لا يحتاج إلى أن يبين القرآن الذي هم فيه يختلفون ؛ إذ هم يبينون ما اختلفوا فيه.

ولكن تأويله ـ والله أعلم ـ إن هذا القرآن يبين لهم الحكم في أكثر ما يختلفون ، أو يبين لهم الحق في أكثر ما يختلفون فيه.

وفي ظاهر الآية أنه يبين لهم أكثر الذي هم فيه يختلفون : أنه قد بقي شيء مما اختلفوا فيه لم يبين لهم ؛ حيث قال : (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ، لكن قوله : (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) أي : يبين لهم ما فيه نص القرآن ، ولم يبين لهم ما فيه دليل القرآن ، أو يبين لهم ما فيه نص القرآن ولم يبين ما فيه سنة القرآن ونحوه ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنَّهُ) أي : القرآن الذي ذكر ، (لَهُدىً وَرَحْمَةٌ) أي : هدى ورحمة ، أي : هدى من الضلالة لمن اتبعه في الدنيا وعمل به ، ورحمة في دفع العذاب عنهم في الآخرة ، فيكون هو هدى ورحمة لمن آمن به.

وقوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) : حكمه : هو عدله ؛ كأنه يقول : إن ربك يقضي بينهم بعدله ، لا يجور ولا يظلم في الحكم والقضاء.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ) : الذي لا يعجزه شيء ، (الْعَلِيمُ) : الذي لا يخفى عليه شيء ؛ عزيز بذاته عالم بذاته.

وقوله : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أي : توكل على الله واعتمد عليه ، ولا تخف مكرهم وما يريدون ويقصدون أن يكيدوا بك ؛ كقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] وقوله : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) ؛ لأن معك حججا وبراهين ، وليس مع أولئك حجج وبراهين ، وإن كان كل منهم يقول : إنا على الحق ، فأنت على الحق المبين لا هم ؛ لأن معك حججا وبراهين ؛ فالذي أنت عليه حق ، وإن الذي هم عليه باطل ليس بحق.

وقوله : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) : قال بعض أهل التأويل : بلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نادى يوم بدر : «يا فلان ويا فلان ـ وهم قتلى بعد ما أمر أن يجمعوا

١٣٤

في قليب ـ هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟! ألم تكذبوا نبيكم وتكفروا بربكم وتقطعوا أرحامكم» (١)؟! فأنزل الله هذه الآية : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى).

لكن عندنا أن الله تعالى سمى الكافر : ميتا في غير آي من القرآن ؛ لما لم يجهدوا أنفسهم في عبادة الله ولا استعملوها في طاعته ، فهم كالموتى ، وسماهم : صما ؛ لما لم يسمعوا الحق ولم يقبلوه ، وسماهم : بكما ؛ لما لم ينطقوا بالحق ولا تكلموا به ، وسماهم : عميا ؛ لما لم يبصروا الحق ، وسماهم : موتى ؛ لما لم يستعملوا أيديهم في الحق ؛ فنفى عنهم هذه الحواس لما لم ينتفعوا بهذه الحواس ، ولا استعملوها فيما أنشئت وخلقت وإن كانت لهم هذه الحواس ؛ فعلى ذلك سماهم : موتى وهلكى ، وفي موضع آخر شبههم بالأنعام وأخبر أنهم أضل ؛ لما لم يستعملوا أنفسهم فيما أنشئت هي له ، ولم ينتفعوا بها.

فإن قيل : ما معنى قوله : (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) : أخبر أنه لا يقدر على أن يسمع الصم إذا ولوا مدبرين ، ولا يقدر أن يسمع الصم وإن أتوا مقبلين ولم يولوا؟

قيل : معناه ـ والله أعلم ـ أنهم صاروا صما لا ينتفعون بما سمعوا لإعراضهم وترك إمكان النظر فيه ، ولو أقبلوا إليه لانتفعوا به ، فيصير مسمعا لهم ؛ يخبر عن شدة تعنتهم ومكابرتهم أنهم كالصم المدبرين ، لا يمكن إسماعهم بحال ولا تفهيمهم وإن جهد ، وأما الصم المقبلون فإنهم قد يمكن إسماعهم وتفهيمهم بجهد بالإشارة والإيماء ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) ، وفي بعض القراءات : وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم (٢) ، هذا يدل أن ليس كل الهدى البيان على ما قالت المعتزلة ؛ لأنه لو كان الهدى كله بيانا في جميع المواضع على ما قالوا هم ، لكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقدر أن يبين للكفار عن ضلالتهم ، وقد بين لهم ، ثم أخبر رسوله : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) ، فدل هذا أن عند الله هداية ولطفا إذا سألوه وطلبوا منه ذلك وأعطاهم لاهتدوا به وآمنوا ، فهذا ينقض على المعتزلة قولهم.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٣١) ، كتاب المغازي باب : قتل أبي جهل (٣٩٧٦) ، ومسلم (٤ / ٢٢٠٤) ، كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب : عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه (٧٨ / ٢٨٧٥) ، عن أنس عن أبي طلحة.

(٢) ينظر : اللباب (١٥ / ٢٧٠).

١٣٥

وقوله : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي : ما تسمع إلا أهل الإيمان بالآيات وأهل الإسلام منهم ، فأما أهل العناد والمكابرة فلا.

وقوله : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ) : قال بعضهم : قوله : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) أي : إذا وقعت الحجة عليهم ولزمت فكذبوها أخرجنا لهم دابة.

وقال بعضهم : وإذا وقعت السخطة والغضب عليهم أخرجنا لهم دابة.

وقال قائلون : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) ، أي : إذا بلغوا في الكفر حدّا يعلم الله أنهم لا يؤمنون أبدا بعد ذلك (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً) ، لكن قد ذكرنا في غير موضع : أن هذا لا يصح ولا يجوز ؛ إذ الله ـ عزوجل ـ لم يزل عالما بما كان ويكون منهم أبد الآبدين ، فليس علمه بأحوالهم بما يكون منهم إذا بلغوا ذلك الحدّ ، بل لم يزل عالما بما يكون منهم ، وهذا الحرف الذي يقول القائل يومئ إلى أنه إنما يعلم ذلك منهم إذا بلغوا ذلك الحدّ وقبل ذلك لا ، فهو قبيح.

وقول من قال : إذا وقعت الحجة عليهم ؛ فهو لا يحتمل أيضا ؛ لأن الحجة قد كانت قامت قبل ذلك الوقت ، وليست تقوم الحجة عليهم في ذلك الوقت.

فيكون التأويل أحد وجهين :

أحدهما : ما ذكرنا من وقوع العذاب ، ووجوب العقوبة والسخطة عليهم ؛ كقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) [الأحقاف : ١٨] أي : العذاب وجب عليهم.

والثاني : أي : إذا أتى وقت خروج الدابة التي وعدنا لهم أنها تخرج ، أخرجناها لهم في ذلك الوقت ، أي : لا يتقدم خروجها عن الوقت الموعود ولا يتأخر ؛ كقوله : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف : ٣٤] ، وهكذا كل شيء جعل الله لظهور ذلك وكونه وقتا لا يتقدم ولا يتأخر ذلك الوقت ؛ هذا ـ والله أعلم ـ يشبه أن يكون تأويل الآية.

وقوله : (تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) : قراءة العامة بالتشديد : تكلمهم من التكليم والتحديث ؛ وكذلك في بعض الحروف : تحدثهم وتنبئهم ، وقد قرئ : (تُكَلِّمُهُمْ) بالتخفيف (١) وهو من الجراحة ، وهو ما ذكر في الأخبار والقصص أن الدابة إذا خرجت تجرح الكافر ، وتسمه بسمة وعلامة ، حتى يعرف الكافر من المؤمن فيقال : يا مؤمن ويا كافر.

وسئل ابن عباس عن ذلك؟ فقال : «تكلم المؤمن وتحدثه ، وتجرح الكافر» (٢) ، والله

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٥ / ٢٠١).

(٢) أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢١٧).

١٣٦

أعلم.

ثم اختلف في قوله : (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) ؛ اختلف في تلاوته ، وتأويله : (أَنَّ النَّاسَ) بنصب الألف ، و (أَنَّ النَّاسَ) بكسرها (١) ، فمن قرأ بالنصب : ان الناس جعل ذلك القول من الدابة ، ثم يخرج على وجهين :

أحدهما : تقول الدابة : إن الناس كانوا بي وبخروجي لما وعدوا لا يوقنون أني أخرج ، فها أنا ذا خرجت.

والثاني : أنها تخبر عن الله وتنبئ أن الناس كانوا بالدابة وبغيرها من الآيات لا يوقنون.

ومن قرأ بالخفض (ان) يجعل ذلك القول من الله ابتداء إخبار : أنهم كانوا لا يزالون لا يوقنون.

وفي خروج الدابة أعظم آيات في إثبات رسالة رسول الله ونبوته ؛ لأنه أخبر أنها تخرج في وقت كذا ؛ فتخرج على ما أخبر في ذلك الوقت على الوصف الذي وصف ؛ فتدلهم على صدقه.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٩٠)

وقوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا) : يجمع القادة منهم والأتباع والمتبوعون ، فيساقون إلى النار جميعا ؛ كقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ...) الآية [الصافات : ٢٢] ، وكقوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) الآية [الزمر : ٧١] ؛ وكقوله : (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) [الصافات : ١٩].

قال أهل التأويل : (٢) (يُوزَعُونَ) أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ، وقد ذكرنا الوزع فيما تقدم وما قيل فيه.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٥ / ٢٠١ ، ٢٠٢).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٧١١٢) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٢١) ، وعن قتادة أخرجه ابن جرير (٢٧١١٣).

١٣٧

وقوله : (حَتَّى إِذا جاؤُ) أي : حتى إذا جاءوا جميعا واجتمعوا ـ يعني : الكفار ـ قال لهم : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) ، يحتمل (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) أي : قد أحطتم بها علما أنها آيات ، لكن كذبتم وأنكرتم أنها آيات عنادا ومكابرة ؛ إذ يجوز أن يتكلم بالنفي على إثبات ضده ؛ كقوله : (أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [يونس : ١٨] أي : يعلم بضد ذلك وبخلاف ما تقولون أنتم ، وذلك جائز في القرآن كثير.

أو أن يكون قوله : (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) لما لم تتفكروا فيها ، ولم تنظروا إليها نظر التعظيم والإجلال لكي تعرفوا ، وأحطتم بها علما أنها آيات.

وإلا لو كان التأويل على ظاهر ما ذكر لكان لهم عذر في تكذيبها إذا لم يحيطوا بها علما ؛ إذ من لم يحط العلم بالشيء فله عذر الرد وترك القبول ، لكن يخرج على الوجهين اللذين ذكرتهما ، والله أعلم.

ثم قال : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) : في تكذيب الآيات والأعمال التي عملوها بلا حجة ، ولا برهان.

(وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) : أي : وجب القول بالعذاب ، ووقع ما وعدوا من العذاب بما ظلموا حيث قال : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] ونحوه.

وقوله : (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) أي : لا ينطقون بالحجة مما يكون لهم به عذر.

وقوله : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) : أي : في الليل والنهار لآيات لقوم يؤمنون.

ثم الآيات التي ذكر فيهما تكون من وجوه :

أحدها : دلالة وحدانيته ودلالة علمه ، وتدبيره وحكمته ، ودلالة كرمه وجوده ، ودلالة قدرته وسلطانه ، ودلالة القدرة على البعث والإحياء بعد ما صاروا رمادا وترابا.

أما دلالة كرمه وجوده : ما جعل لهم في الليل والنهار منافع تدوم ما داموا هم.

ثم تلك المنافع تكون من وجهين :

أحدهما : جعل النهار للتقلب فيه والتصرف لمعاشهم وما به قوام دنياهم ، وجعل الليل راحة لهم وسكونا ، ولو جعلهما جميعا للتقلب ما قام به معاشهم وما به قوام أنفسهم وأبدانهم أبدا ؛ لأنه لا يلتئم ذلك إلا بالراحة ، ولو جعلهما جميعا للراحة لم يقم أمر معاشهم ، فمن رحمته وفضله جعل أحدهما للراحة والآخر للتقلب ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) [القصص : ٧٣].

والثاني : من النعمة التي ذكر أنه جعل الذي للتقلب إنما جعل ذلك للكل ، لا للبعض

١٣٨

دون البعض ؛ وكذلك الذي هو مجعول للراحة ، والقرآن إنما جعله كذلك للكل لا لقوم دون قوم ، ولو جعل كذلك لكان لا يقوم أمر معاشهم ، ولا ما به يقوم أبدانهم وأنفسهم ، ولكن من رحمته وفضله جعل المجعول وقتا للراحة للكل لا لبعض دون بعض ؛ وكذلك المجعول للتقلب ؛ ليظفر المشترون بالباعة والباعة بالمشترين ؛ ليلتئم أمر معاشهم ودنياهم.

وأما دلالة وحدانيته : ما جعل منافع أحدهما متصلة بالآخر ؛ إذ لا يقوم أحدهما إلا بالآخر على اختلاف جوهرهما ؛ ليعلم أن مدبرهما ومنشئهما واحد ؛ إذ لو كان عددا لكان ما أراد هذه إيصاله منع الآخر ، فإن لم يكن ولكن جريا على سنن واحد واتساق واحد ؛ دل أنه تدبير واحد لا عدد.

ودلالة علمه وحكمته : أنهما منذ كانا ، كانا على ميزان واحد ، وعلى تقدير واحد من غير تغير ولا تبدل يقع فيهما ؛ دل أن لمنشئهما علما ذاتيّا وحكمة ذاتية ، لا علما مكتسبا مستفادا كعلم الخلق.

وأما دلالة القدرة والسلطان : لأنهما يقهران الخلق كله من الجبابرة والفراعنة شاءوا أو أبوا ، حتى إذا أراد واحد منهم أن يمنع أحدهما أو ينقص من الآخر لم يقدر عليه.

أو إن اجتمعوا جميعا على دفعهما أو دفع أحدهما دون الآخر لم يقدروا عليه ؛ دل أن لمنشئهما قدرة وسلطانا ؛ إذ من قدر على إنشاء هذا لا يعجزه شيء.

ودلالة القدرة على البعث : لأنه يتلف أحدهما ويذهب به حتى لا يبقى أثره ، ثم يأتي بالآخر على تقدير الأول ، فمن قدر على إنشاء هذا بعد ذهاب الآخر بكليته وذهاب أثره لقادر على إنشاء الخلق بعد فنائهم وهلاكهم ، وأنه لا يعجزه شيء.

ثم لما جعل هذا ما ذكرنا وخلق ما خلق من المنافع التي ذكرنا لهذا العالم خلق هذا العالم للمحنة يأمرهم وينهاهم ، وجعل لهم عاقبة فيها يثاب من أطاعه ويعاقب من عصاه ؛ إذ لو لم تكن عاقبة لكان خلقهم عبثا لا حكمة فيه ؛ لأن من بنى بناء للفناء والنقض خاصة لا لعاقبة يتأمل نفعه كان بناؤه عبثا غير حكمة ؛ فعلى ذلك خلق الخلق لا لعاقبة تقصد عبث ليس بحكمة.

والآيات لمن آمن بها وصدق ، فأما من لم يؤمن وكذب بها فهي آيات عليهم لا لهم.

وقوله : (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) : اختلف في النفخ ما هو؟ وفي عدده؟ واختلف في الصور أيضا ما هو؟ وكيف هو؟!

أما الاختلاف في النفخ : فمنهم من يقول : ليس على حقيقة النفخ ، ولكن إخبار عن خفة قيام القيامة على الله ؛ أخبر بالنفخ عنها ؛ لأنه أخف شيء على الخلق وأهونه ، فأخبر به عنها ، وهو ما قال : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ) [النحل : ٧٧] شبه أمرها بلمح

١٣٩

البصر لما ليس شيء أخف على المرء من لمح البصر ؛ فعلى ذلك النفخ عند قيامها لخفته على الخلق.

ومنهم من يقول : ذكر النفخ لسرعة نفاذ الساعة ؛ إذ ليس شيء أسرع نفاذا من النفخ ، وهو ما قال : إلا صيحة ، وإلا رجفة ، ذكر ذلك وشبهها بالصيحة والرجفة لسرعة نفاذها ؛ إذ ليس شيء أسرع نفاذا من الصيحة والرجفة ، فيقول : ليس على حقيقة النفخ ، ولكن إخبار عن خفتها على الله أو سرعة نفاذها على ما ذكرنا ، وهو ما قال : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] ، ليس أنه ينفخ فيه نفخا ، ولكن يجعل كأنه قال : وجعلنا فيه من روحنا.

ومنهم من يقول : هو على حقيقة النفخ ، فإن كان على هذا فهو أن يمتحن الملك من غير أن يقع له الحاجة إلى ذلك ؛ نحو ما امتحن الكرام الكاتبين بكتابة أعمال الخلق وأفعالهم من غير وقوع الحاجة إليه ، لكن امتحانا منه ملائكته بذلك ، أو أن يكونوا أحذر ؛ إذ هو عالم بما كان وبما يكون كيف يكون؟ ومتى يكون وأي شيء يكون؟

وأما اختلافهم في عدد النفخ : قال قائل : إنه واحد يحتج بقوله : (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) [يس : ٢٩].

ومنهم من يقول بالنفختين ؛ يحتج بقوله : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) [النازعات : ٦ ، ٧] ، أخبر أنه يردف الأولى غيرها ، ويحتج بقوله أيضا : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) [الزمر : ٦٨].

ومنهم من يقول بالنفخات الثلاث يقول : الأولى للفزع ، والثانية للصعق على ما ذكرنا في الآية ، والثالثة للإحياء.

ومنهم من يقول بالثلاث إلا أنه يجعل ذلك كله بعد الموت :

أحدها للفزع في القبور ، والثانية للإحياء فيها ، والثالثة للإخراج منها والنشر ، ويقول هذا القائل بعذاب أهل القبر من النفخة الثانية إلى النفخة الثالثة ؛ وعلى ذلك رويت أخبار في ذلك ، فإن ثبتت فهو ذاك وإلا نقف فيه.

وأمّا اختلافهم في الصور : قال قائلون : ينفخ في الخلق ، والصور جمع صورة ؛ قال : الزجاج : لا يحتمل هذا ؛ لأن الصور على سكون الواو ليس هو من أفراد الصور ولا من جمعها ؛ لأن الفرد هو صورة بالهاء وجمع الصورة صور ـ بتحريك الواو ـ على ما ذكر في الآية : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [غافر : ٦٤].

ومنهم من يقول : هو قرن ينفخ فيه كقرن كذا ، أو بوق كبوق كذا.

لكنا لا نفسر شيئا مما ذكر من النفخ والصور أنه كذا ، ولا نشير إلى شيء أنه ذا ، إلا إن ثبت شيء من التفسير عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيقال به وليس هو بشيء يوجب العمل به

١٤٠