تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

والثاني : (لا تَخَفْ) من غيري ؛ (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) من غيري ؛ فكأنه قال ـ والله أعلم ـ على هذا التأويل : إنما نهاه عن الخوف من غيره ، وأخبر أنه لا يخاف لديه المرسلون.

والثالث : أخبر أنه أمنه من خوف الآخرة وأهوالها ؛ كأنه قال : لا تخف فإني سأؤمن المرسلين من خوف يومئذ.

ثم استثنى فقال : (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) : هذا ـ أيضا ـ يخرج على وجوه :

أحدها : لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم إذا بدل حسنا بعده سوء.

والثاني : لا يخاف لدي المرسلون ، ولكن من ظلم ممن سواهم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم ، رجاء المغفرة وطمع العفو عما كان منه.

والثالث : لا يخاف لدي المرسلون إلا من ظلم منهم ؛ نحو : موسى بقتله النفس ، وإخوة يوسف ، ثم بدل حسنا وتاب عن ذلك ـ فإنه يخاف أيضا ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) : فالله تعالى قادر أن يجعل يده بيضاء من غير إدخاله إياها في جيبه ، لكنه امتحن موسى بالأمر بإدخالها في جيبه ؛ وكذلك قادر أن يصير عصاه في يده حية ، لكنه امتحن بالأمر بإلقائها ، ولله أن يمتحن عباده بكل أنواع المحن.

وقوله : (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) : قيل (١) : من غير آفة من برص أو غيره ، وقد ذكرنا معناه فيما تقدم.

وقوله : (فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) : قال بعضهم : موسى من تسع آيات ، وقد يجوز استعمال حرف في مكان من كما يقال : لفلان كذا كذا نوقا فيها فحلان ، أي : منها فحلان.

وقال بعضهم : (فِي تِسْعِ آياتٍ) : قال أبو معاذ : قد يكون معنى (في) و (مع) واحدا فيما لا يحصى عدده ، تقول : (خرجت في أهل مرو إلى مكة) ، و (مع أهل مرو إلى مكة) ، فإذا قلت : (خرجت في تسعة) اختلفا ؛ لأنك أحصيت العد في تسعة أنت تاسعهم ، و (مع تسعة) أنت عاشرهم.

وقال بعضهم : هو على الانقطاع من الأول ؛ كأنه قال لرسوله محمد : ولقد بعثنا موسى في

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٩٢).

١٠١

تسع آيات إلى فرعون ؛ كما قال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ)(١) [الإسراء : ١٠١].

وقوله : (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) : دل هذا أنه كان مبعوثا إلى فرعون وقومه جميعا ؛ إذ ذكر في آية إلى فرعون خاصة ، وفي آية أخرى : (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [الأعراف : ١٠٣] ، وذكر هاهنا (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ) ، فكان مبعوثا إلى الكل.

وقوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) أي : يبصر بها ويعلم ، كقوله : و (النَّهارِ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ١٢] أي : يبصر به.

وقرأ بعضهم : (مُبْصِرَةً) بنصب الصاد ، أي : بينة ظاهرة يبصر فيها ؛ وكذلك قال موسى لفرعون : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢].

وقالوا : (هذا سِحْرٌ مُبِينٌ) : لم يزل عادة فرعون اللعين تلبيس أمر موسى وآياته على قومه ؛ لئلا يؤمنوا به ولا يطيعوه فيما يدعوهم ؛ مرة قال : (إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) [يونس : ٢] ، و (إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) [الشعراء : ٣٥] ، وأمثال ذلك مما يلبس على قومه أمره ويغويهم عليه ؛ لئلا يطيعوه فيما يدعوهم إليه ولا يجيبوه.

وقوله : (وَجَحَدُوا) بالآيات : جائز في اللغة أن يقال : (جحد بها) و (جحدها) ؛ كلاهما واحد.

ثم قال بعضهم (٢) : إن الجحود لا يكون إلا بعد العلم به والإيقان.

ولكن يجوز أن يقال : جحد بعد المعرفة والعلم ، وقبل أن يعلم به ويعرف ؛ إذ الجحود ليس إلا الإنكار ، وقد يكون الإنكار للشيء للجهل به وبعد المعرفة.

وقال بعضهم (٣) : هو على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال : فلما جاءتهم آياتنا مبصرة جحدوا بها ظلما وعلوا.

(وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) : أنها من الله ، وأنها آياته ، ليست بسحر ، ولو كان سحرا في الحقيقة لكان آية ؛ لأن السحر على غير تعلم يكون منه آية سماوية.

وقوله : (ظُلْماً) : لأنهم جحدوا الآيات وسموها سحرا ، فوضعوا الآيات موضع السحر ، لم يضعوها موضعها ، والظلم : هو وضع الشيء في غير موضعه.

وقوله : (وَعُلُوًّا) أي : تكبرا وعنادا.

(فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) : ليس على الأمر له بالنظر في ذلك ، ولكن

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : يعني قد تم الكلام بقوله : «تخرج بيضاء من غير سوء» ثم ابتدأ الكلام فقال لرسوله محمد ـ عليه‌السلام ـ : «ولقد بعثنا ...» شرح.

(٢) انظر قول قتادة السابق.

(٣) قاله السدي ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٩٣).

١٠٢

على تنبيه أولئك ، والزجر لهم عما هم فيه ، أي : انظر ما ينزل بهم لجحود الآيات وعنادهم فيها على ما نزل بأوائلهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ)(١٩)

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) : فيه وجهان من الاستدلال :

أحدهما : في خلق أفعال العباد.

والثاني : في ترك الأصلح.

أمّا الاستدلال على خلق الأفعال : لأنه قال : (آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) ، وقال على أثره : (عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ) ، وقال في رسول الله (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] ، وقال : (الرَّحْمنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ. عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ١ ـ ٤] ، ونحوه من الآيات فيما أضاف التعليم والفعل إلى نفسه ، فلو لم يكن له في ذلك صنع لم يكن لإضافة ذلك إليه معنى ؛ فدل أنه خلق أفعالهم منهم.

فإن قيل : إنما أضاف ذلك إلى نفسه بالأسباب التي أعطاهم.

قيل : لا يحتمل ذلك ؛ لأنه قد أعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميع أسباب الشعر ، ولم يكن غيره من الشعراء أحق بأسباب الشعر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم أخبر أنه لم يعلمه الشعر ؛ دل أنه لم يرد به الأسباب ، ولكن أراد ما ذكرنا.

وأما في ترك الأصلح : فهو ما ذكر من قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) ، وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، أنه إنما ذكر هذا على الامتنان والإفضال ، فلو كان لا يجوز له ألّا يعطيه ذلك ، ولا كان له ترك ما فعل بهم من الإفضال ـ لم يكن لذكر ذلك له على الإفضال والامتنان معنى ، ولا كان داود وسليمان يحمدانه على ما أعطاهما ، ولا كان هو يستوجب الحمد بذلك ؛ إذ فعل ما عليه أن يفعل ؛ دل أنه إنما أعطى ذلك لهم وفعل بهم ذلك على جهة الإفضال والامتنان ، وكان له ترك ما فعل ، وإن كان ذلك ليس أصلح في الدين. فهذان الوجهان ينقضان على المعتزلة مذهبهم

١٠٣

في إنكارهم خلق الأفعال ، وجواز ترك الأصلح في الدين.

ثم قوله : (عِلْماً) : قال بعضهم (١) : علما بالقضاء والحكم والعلم بكلام الطير والدواب.

وقال بعضهم : فضلا بالنبوة والعلم.

لكن عندنا ذكر أنه آتاهما العلم ، ولم يبين ما ذلك العلم أنه علم ما ذا؟ مخافة الكذب على الله ، والله أعلم.

وقوله : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) : قال أهل التأويل (٢) : ورث النبوة والحكم ، والوارث : هو الباقي بعد هلاك الآخر وفنائه ، كقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم : ٤٠] أي : نبقى بعد هلاك أهلها وفنائهم ، وقوله : (وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) [الحجر : ٢٣] أي : الباقون بعد فنائهم ، إلا أنه ورث شيئا لم يكن له من قبل ؛ وكذلك قوله : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ ...) الآية [الأحزاب : ٣٣] ، أي : أبقاكم وترككم في أرضهم وديارهم ، وقوله : (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها) [الزخرف : ٧٢] أي : أبقيتم فيها ، وأمثال ذلك كله راجع إلى البقاء ؛ فعلى ذلك قوله : (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) أي : بقي في ملكه ونبوته ؛ وعلى ذلك ما سأل زكريا ربه من الولد حيث قال : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [مريم : ٥ ، ٦] لا يحتمل أن يسأل ربه ولدا يرث ماله من بعد وفاته ، ولكن كأنه سأل ربه الولد ؛ ليبقى في نبوته ورسالته بعد وفاته ؛ لتبقى النبوة في نسله ، والله أعلم.

وقوله : (وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) : لا يحتمل أن يذكر هذا ـ صلوات الله عليه ـ على الافتخار والنباهة ، ولكن ذكر فضل الله ونعمه التي أعطاه ومنّ عليه ؛ كقوله : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى : ١١] ، ألا ترى أنه قال : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ).

ثم قوله : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) : لا يحتمل كل شيء ؛ لأنهم لم يؤتوا كل شيء حتى لم يبق شيء ، إنما أوتوا شيئا دون شيء ، ولكن كأنه قال : وأوتينا من كل شيء سألناه أن يؤتينا.

أو أن يكون (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مما يؤتى الأنبياء والملوك وما يحتاج إليه ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله ابن جرير (٩ / ٥٠٢).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٩٣).

١٠٤

وقوله : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) : قال بعضهم (١) : قوله : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يحبس أولهم على آخرهم ؛ كأنه لا يدعهم أن ينتشروا ويتفرقوا ، ولكن يسيرهم مجموعين على كل صنف منهم وزعة ترد أولهم على آخرهم ، وذلك من سيرة الملوك وأمراء العساكر أن يسيروا جنودهم مجموعة غير منتشرة ولا متفرقة.

وقال أبو عوسجة : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) أي : يساقون ، ويقال : أوزعني ، أي : ألهمني ، والوزع : من الكف والسوق ، تقول : وزع ، أي : كف ، ووزع ، أي : ساق.

وقال مرة : (يُوزَعُونَ) : يجتمعون ، يقال : وزعت الإبل ـ أي : جمعتها ـ أزع وزعا.

وقال القتبي (٢) : (يُوزَعُونَ) ، أي : يدفعون ، وأصل الوزع : الكف والمنع ، يقال : وزعت الرجل إذا كففته ، ووازع الجيش : هو الذي يكفهم عن التفرق والانتشار ، وهو على ما ذكر.

وقوله : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) : هذا يدل أن النمل وقتئذ لا تخالط الناس ؛ حيث أضاف الوادي إليها بقوله : (حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ) ، ولو كانت تخالط الناس كهي الآن لقال : حتى إذا أتوا على الوادي الذي فيه النمل ؛ دل أنها كانت لا تخالط الناس ، وكان لها مكان على حدة ، والله أعلم.

وقوله : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : يخرج قوله : (قالَتْ نَمْلَةٌ) على وجهين : على حقيقة القول من النملة كما يكون من البشر ، أطلع الله سليمان على ذلك ، وألقاه على مسامعه ؛ لطفا منه وفضلا من بين سائر الخلائق على ما ذكرنا في قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ...) الآية [الإسراء : ٤٤].

والثاني : أن يجعل الله في سرية النمل معنى يفهم بعضها من بعض لما يريدون فيما بينهم من أنواع الحوائج على غير حقيقة القول ، أطلع الله سليمان على ذلك ؛ حتى فهم منها ما كانت تفهم بعضها من بعض لطفا منه وفضلا ؛ وهو كقوله : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان : ٩] ، ليس أحد يقول لآخر إذا تصدق عليه ذلك ، لكن الله أخبر عما علم من ضميرهم ومرادهم من التصدق على غير حقيقة القول منهم ؛ فعلى ذلك قول النملة ، أخبر سليمان عما كان في سريتها فيما بينهم من غير أن كان منها نطق أو كلام يفهم منه الخلق ، والله أعلم.

وقالت الباطنية : ليس المراد من ذكر النمل : النملة المعروفة وقولها ؛ وكذلك قالوا في

__________________

(١) قاله ابن عباس وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٦٨٩٦) و (٢٦٨٩٧).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٢٣).

١٠٥

الهدهد : إنه لم يرد به : الهدهد المعروف ؛ إذ لا يجوز للهدهد من العلم أكثر مما يكون لسليمان ولغيره ، ولكن أراد به : الرجل ، وهو الإمام الذي يدعو الناس إلى الهدى ، ويدلهم على الرشد.

وليس كما قالوا ؛ لأنه إنما ذكر هذا على التعجب ، ولو كان ذلك إنسانا ممن يكون له قول وكلام ، لم يكن لذكر ذلك منه كبير تعجيب ولا فائدة ؛ دل أنه ليس كما قالوا.

وقوله : (لا يَحْطِمَنَّكُمْ) أي : لا يكسرنكم ، والحطم : هو الكسر.

وفي حرف ابن مسعود : لا يحطمكم على طرح النون والتشديد.

وقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) : قال بعضهم : هذا من النملة ثناء على سليمان ومدح عليه لعدله في ملكه وسلطانه : أنه لو شعر بكم ، لم يحطمكم ولم يهلككم.

وقال بعضهم : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي : لا يشعر جنوده كلام النملة ، وهذا يدل أن النملة كانت رئيسة سائر النمل وسيدته ؛ حيث قالت ذلك من بين غيرها من النمل ، وعلى كل رئيس وسيد للقوم أن يحفظ رعيته وحواشيه عما يحملهم على الفساد.

وقول من قال : إن النمل يومئذ كان كالذباب عظيما ، لا يحتمل ؛ لأنها لو كانت كما ذكر لم يكن لقوله : (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) معنى ؛ لأنها لو كانت كالذباب يشعرون بها ، فدل أنها كانت على ما هي اليوم ، والله أعلم.

وقوله : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) : قال بعضهم : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) أي : سبح الله لما فهم من قول النمل وحمده عليه ، وتبسم الأنبياء : التسبيح.

وجائز أن يكون التبسم : هو السرور ؛ إذ التبسم إنما يكون لسرور يدخل في الإنسان ، فقوله : (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً) أي : سرّ بما أعطاه الله من عظم النعمة له والملك ؛ ألا ترى أنه سأل ربه الإلهام ؛ ليشكر نعمه التي آتاه الله حيث قال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَ) ، سأل ربه الإلهام واللطف الذي يكون منه ؛ ليشكر نعمه ، ولو كان الإلهام هو الإعلام على ما قاله بعض الناس ، لم يكن سليمان ليسأله ذلك ؛ لأنه كان يعلم أن عليه شكر نعمه ؛ وكذلك يعلم كل أحد أن عليه شكر منعمه ، فدل سؤاله الإلهام على الشكر أنه إنما سأل اللطف الذي عنده به يشكر نعمه إذا أعطاه ، وهو التوفيق ، لا الإعلام الذي قالوه.

وقوله : (وَعَلى والِدَيَ) فيه أنه يجب على المرء شكر النعم التي أنعم الله على والديه.

وسأل ربه ـ أيضا ـ أن يوفقه على العمل الذي يرضاه منه ، حيث قال : (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ).

١٠٦

وقوله : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) : جائز أن يكون سؤاله هذا بإدخاله فيما ذكر كسؤال يوسف حيث قال : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١] ، سأل ربه التوفي على الإسلام والإلحاق بالصالحين ؛ فعلى ذلك سؤال سليمان يشبه أن يخرج على ذلك.

ثم فيه دلالة أن النجاة ودخول الجنة إنما يكون برحمة الله لا بالعمل حيث قال : (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ) بعد ما سأل ربه العمل الصالح المرضي.

وقوله : (أَوْزِعْنِي) أي : ألهمني ، والإيزاع : الإلهام ، والوزع : الكف والسوق.

وقال القتبي (١) : وأصل الإيزاع : الإغراء بالشيء ؛ يقال : أوزعته بكذا ، أي : أغريته وهو موزع بكذا ومولع بكذا.

قوله تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ)(٢٨)

وقوله : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) : عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : «تدرون كيف تفقد سليمان الهدهد؟ ثم قال : إنه إذا كان في فلاة من الأرض ، دعا الهدهد وسأله عن بعد الماء في الأرض وغوره ، فهو يعلمه من بين غيره من الطيور ؛ لذلك تفقده وسأل عن حاله».

وذكر أنه سأل ابن سلام عن ذلك (٢) ، فأخبر بذلك.

لكن هذا بعيد ؛ لأن سليمان ـ صلوات الله عليه ـ كانت له الريح مسخرة ، ذكر أنها كانت تحمله وتسير به كل غداة مسيرة شهر وكل عشية كذلك ، وهو قوله : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) [سبأ : ١٢] ؛ فلا يحتمل أنه إذا وقعت له الحاجة إلى الماء ألا يبلغ إلى الماء حتى يحتاج إلى أن يحفر له البئر ، فيستخرج منه الماء ، وما كان له من

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٢٣).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٦٩٠٤) و (٢٦٩٠٥) و (٢٦٩٠٦) و (٢٦٩٠٩) ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرف عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٩٦).

١٠٧

الشياطين والجن مسخرين له مذللين حتى قال واحد منهم : (أَنَا آتِيكَ بِهِ) يعني : عرش بلقيس (قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) ، وقال الآخر : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) ، فمن له سلطان وقوة على القدر الذي ذكر لا يحتمل أن يقع له الحاجة إلى الماء ، وإذا وقعت لا يحتاج إلى أن يتكلف وصوله إليه بالهدهد مع تكلف الحفر في الأرض ، هذا يبعد بمرة ـ والله أعلم ـ إلا أن يخرج على الامتحان ، ويكون تفقده الطير لما كان عليه حفظهم جميعا ، ومنعه إياهم عن الانتشار في الأرض والتفرق ، لا لما ذكروا هم ـ والله أعلم ـ لما على كل ملك وأمير حفظ رعيته وحاشيته ، والتفقد عن أحوالهم وأسبابهم ؛ فعلى ذلك هذا.

ثم يحتمل أن يكون من كل صنف من الطير واحد لا عدد حتى قال : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) ؛ إذ لو كان عددا من الهداهد لقال : ما لي لا أرى هدهدا من الهداهد ، إلا أن يكون الذي فقده كان رئيسا لغيره من الهداهد وسيدهم ؛ فجائز أن يقال ذلك : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) من بين غيرهم يغيب عن بصري ولا أدركه (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ) عنهم ؛ فكأنه سأل واحدا منهم عن ذلك ، فأخبر أنه من الغائبين ، فعند ذلك قال : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ...) الآية ، فقالت الباطنية في ذلك : إن سليمان لا يحتمل أن يعذب من ليس بمخاطب في شيء ، ولا يجري عليه القلم ؛ فدل وعيده إياه من التعذيب والذبح أنه لم يكن هدهدا معروفا ، ولكن كان رجلا ممن يخاطب ويجري عليه القلم ؛ وكذلك قالوا في النملة : إنه كان رجلا ممن يكون منه الكلام والفهم ، وأما النملة المعروفة فلا يحتمل.

لكن الجواب لهم في ذلك : أن الله خلق هذه الدواب والطير وغيرها من الأشياء لمنافع البشر ولحاجاتهم ، فجائز تعذيبها وذبحها للرد إلى منافعهم إذا امتنعت عن الانتفاع بها ، على ما تؤدب الدواب وتعذب للرياضة والتعليم ؛ لردها إلى الانتفاع بها.

أو يعذبه لما يشغله عن ذكر الله والقيام ببعض أموره ، على ما ذكر في آية أخرى حيث قال : (إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ* فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ ...) الآية [ص : ٣٢] لما شغله عن ذكر ربه ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون تعذيب الهدهد على الوجوه التي ذكرنا.

ومن الناس من استدل بهذا على مخاطبة الطيور والدواب وغيرها ، وتكليفها بأمور كما يكلف غيرها من الخلائق ، واحتج على هذا بقوله : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨] ، أخبر أن الطير وغيره أمم أمثالنا ، وقد أخبر في آية أخرى أنه لم تخل أمة عن أن يكون فيها نذير بقوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] ، الأمة التي هي أمثالنا من الإنس والجن ، دليله قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، وقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِ

١٠٨

وَالْإِنْسِ ...) [الأعراف : ١٧٩] ونحوه كثير ، وقوله : (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨] ليس في الخطاب والتكليف ، ولكن في أشياء كثيرة.

وقوله : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) أي : لم يمكث طويلا حتى جاءه.

وفي حرف ابن مسعود : فمكث غير بعيد ثم جاءه.

(فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) : كأنه سأله : أين كنت؟ فقال عند ذلك له : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ). وفي حرف أبي : أحطت بما لم تحط به أنت ولا أحد من جنودك ، أي : بلغت ما لم تبلغ أنت ، أي : علمت ما لم تعلم أنت ولا أحد من جنودك.

ثم قال : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) : لا شك فيه ؛ فكأنه سأله عن ذلك النبأ ، فقال عند ذلك ـ والله أعلم ـ : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يؤتى الملوك على ما ذكرنا في قوله : (وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).

ثم العجب من أمر بلقيس أن كيف خفي خبرها وأمرها على سليمان كل ذلك الخفاء ، وكانت بقرب منه ، وكانت ملكة جبارة ذات سلطان وملك ، وكان يذهب في كل غدو مسيرة شهر ، وفي كل رواح كذلك ، كيف لم يطلع على أمرها وخبرها؟! وكانت الجن والشياطين مسخرين له ومذللين ، يعملون له الأعمال الصعبة الشديدة ، ويطوفون في الآفاق والأفق ، وكان هو بعث إلى الدعاء إلى توحيد الله ، كيف خفي عليه أمرها وخبرها كل هذا الخفاء ، حتى أخبره بذلك الهدهد؟! هذا ـ والله أعلم ـ أمر عجيب ، ومن عادة الملوك ـ أيضا ـ أنهم يطلع بعضهم على أمور بعض ، ويعلم بأحواله.

لكن يحتمل خفاء خبرها عليه لما لا يتجاسر كل أحد أن يكلمه في ذلك ، وأن يعلمه عن حالها ـ وإن كان لا يعلم هو ذلك ـ إلا بعد السؤال وطلب الخبر ؛ تعظيما له وإجلالا ؛ وهكذا الملوك ليس يتجاسر كل أحد أن يخبره عن كل أمر وخبر إلا بعد السؤال إياه ؛ تعظيما لهم وتوقيرا ، فعلى ذلك أمر سليمان مع بلقيس.

أو أن يكون لأمر وسبب لم يبلغنا ذلك ، ولم نشعر به.

وقال بعض أهل التأويل في قوله : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) : إنما طلبه وتفقده ؛ لأن الطير كانت تظله على رأسه من الشمس ، فلما نظر إلى الطير وجد موضع الهدهد خاليا يقع عليه الشمس ، فعند ذلك قال : (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ).

وقالوا في قوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) أي : لأنتفن ريشه حتى تصيبه الشمس ، فذلك هو العذاب الشديد ، لكن لا نفسر ما ذلك العذاب الشديد الذي أوعده سليمان مخافة الكذب والله أعلم.

١٠٩

وقوله : (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ) : قال بعضهم : غير طويل.

وجائز أن يكون : فمكث وقتا يأتي في مثله من كان غير بعيد ؛ لأنه إنما يعبر به عن المكان لا عن الوقت في الظاهر.

فقال : (أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ) كأنه يريه المناصحة له والشفقة ، يقول : أتيتك من العلم والخبر ما لم تأت أنت ولا أحد من ـ جنودك ، فكيف تعذبني؟!

وفي حرف عبد الله : فمكث غير بعيد ثم جاءه.

قال أبو معاذ : مكث : بنصب الكاف (١) ورفعها مكث لغتان.

وقوله : (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) : قال بعضهم (٢) : حق لا شك فيه ، أي : عند الهدهد ، وأما عند سليمان فلا ؛ ألا ترى أن سليمان قال له : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) ، وقف في خبره لينظر أصدق ما يقول أم كذب؟

وقال بعضهم : (بِنَبَإٍ يَقِينٍ) أي : عجيب.

ثم اختلف في قوله : (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) ؛ قال بعضهم : سبأ : اسم رجل تنسب القرية إليه.

وقال بعضهم : اسم بلدة.

وقال أبو عوسجة : سبأ : أبو اليمن.

فمن جعلها اسم بلدة لم يجر ، ومن جعلها اسم رجل جره ، والله أعلم.

وقوله : (إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ) : كأنه على الإضمار ، أي : وجدت امرأة تملكهم ، أي : تملك أهل سبأ ، ألا ترى أنه قال في آخره : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) ذكر القوم في آخر الآية ؛ دل أن (الأهل) كان مضمرا فيه.

وقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أي : أوتيت من كل شيء كما يؤتى الملوك من الذكور من الأسباب والهيئة وغير ذلك.

وقال بعضهم (٣) : وأوتيت من كل شيء في بلادها.

(وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) : قال أهل التأويل (٤) : أي : لها سرير حسن عظيم ضخم ، كذا كذا ذراعا طوله ، وكذا كذا ذراعا عرضه.

وجائز أن يكون العرش كناية عن الملك ؛ كأنه قال : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) أي : ملك

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٥ / ١٣٧).

(٢) ينظر : اللباب (١٥ / ١٣٨ ـ ١٣٩).

(٣) قاله السدي ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٩٩).

(٤) قاله زهير بن محمد ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٩٩).

١١٠

عظيم.

وقوله : (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) :

(يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) ، أي : يعبدون الشمس من دون الله.

وجائز : يطيعون للشمس ويخضعون لها من دون الله.

وقوله : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الخبيثة السيئة حتى رأوها حسنة (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) : وهو سبيل الله ؛ لأن السبيل المطلق هو سبيل الله وهو الإسلام ، والكتاب المطلق كتاب الله.

وقوله : (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) : فإن كان هذا القول من الهدهد ؛ فتأويله : فصدّهم عن السبيل فهم غير مهتدين ؛ لأنه لا يحتمل أن يعرف أنهم لا يهتدون في حادث الوقت.

وإن كان من الله فهو إخبار أنهم لا يهتدون أبدا ، لما علم أنهم لا يهتدون ، والله أعلم.

وقوله : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) : اختلف في تلاوته بالتخفيف والتشديد : فمن قرأه بالتشديد : (أَلَّا يَسْجُدُوا) فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : على طرح (لا) كأنه يقول : فهم لا يهتدون أن يسجدوا ، أي : هم لا يهتدون أن يسجدوا.

والثاني : صلة قوله : (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) لئلا يسجدوا.

ومن قرأ بالتخفيف فهو يخرج على الأمر ، أي : ألا فاسجدوا لله.

وقال بعضهم : ألا ـ بالتخفيف ـ : هلا يسجدون لله ؛ وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود أنه قرأ : هلا يسجدوا لله ، وهو حجة من قرأه بالتخفيف.

وفي حرف أبيّ : ألا تسجدوا لله ، بالتاء على المخاطبة إلى قوله : (وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ).

وذكر في حرف حفصة : ألا يسجدون بالنون.

قال الكسائي : ومن شدد (إِلَّا) فتأويله : زين لهم الشيطان ألا يسجدوا على ما ذكرنا.

وأما التخفيف فهو على وجه الأمر ، أي : اسجدوا و (إِلَّا) صلة والياء صلة أيضا.

ثم قال بعضهم : من قرأه بالتخفيف يلزمه السجود ؛ لأنه أمر.

وأما من قرأه بالتشديد فلا يلزم.

لكن عندنا سواء يلزمه السجود بالتلاوتين جميعا ؛ لأنه لا يحتمل أن يلزم السجود فيما يأمر غيره بالسجود ، ولا يلزم فيما يخبر عنهم أنهم لا يسجدون ، بل لزوم السجود فيما يخبر أنهم لا يسجدون أولى ؛ خلافا لصنيعهم وإظهارا للطاعة لله في ذلك ، والله أعلم.

١١١

وقوله : (يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الخبء : ما يخبأ من الشيء ما كان.

قال بعضهم : خبأ في السماء المطر فيخرج ، وفي الأرض النبات فيخرج ذلك النبت.

ويحتمل الخبء ما يخبئ بعضهم من بعض ويسر بعضهم بعضا ، يخبر أنه يظهر ذلك ويعلمه ؛ ألا ترى أنه قال : (وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ) على الوعيد ؛ ليكونوا على حذر أبدا.

وفي حرف حفصة : ألا يسجدون لله الذي له الغيب في السماوات والأرض.

وقوله : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) ذكر هذا ـ والله أعلم ـ جواب قوله : (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) ، يقول : رب العرش العظيم هو الله الذي لا إله إلا هو ، لا هي ، أعني : بلقيس.

وقوله : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) أي : ننظر أصدقت فيما أخبرت وأتيت من أمر بلقيس ، أم كنت من الكاذبين في ذلك؟ وقف في خبره ، ولم يصدقه ولم يكذبه إلى أن يظهر له الصدق أو الكذب ؛ وهكذا الواجب على كل من أخبر بخبر أن يقف فيه إلى أن يظهر له الحق في ذلك ، إذا كان الخبر ممن يحتمل الغلط والكذب.

ثم قال له : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ) : لا يحتمل أن يكون سليمان أمر الهدهد بذهاب الكتاب إليها ويوليه تبليغ ذلك إليها ، وهو أعظم من خبره الذي أخبره بذلك بعد ما وقف في خبره قبل أن يتبين ويظهر له صدقه في خبره ؛ فدل توليته إياه تبليغ الكتاب إليها أنه قد ظهر له صدقه فيما أخبره من أمر تلك المرأة ، إما بوحي من الله تعالى إليه ، أو انتهى إليه من الخبر ما قد علم بذلك علم يقين وإحاطة ، فعند ذلك ولاه تبليغ الكتاب إليها حيث قال له : (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ).

وقوله : (ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) يحتمل وجهين :

أحدهما : ألق الكتاب إليهم ثم تول ، أي : استتر واختف عنهم ، فانظر ما ذا يقولون ، وما ذا يرددون فيما بينهم من الكلام والجواب؟

والثاني : على التقديم والتأخير ؛ كأنه قال : ألق الكتاب إليهم ، فانظر ما ذا يرجعون من الجواب؟ ثم تول عنهم ، أي : أعرض عنهم ؛ ففعل ما قال له سليمان من إلقاء الكتاب إليها ، وإن لم يذكر في الآية.

قوله تعالى : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ

١١٢

بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ)(٣٥)

حيث قالت : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) فكأنهم قالوا : ممن ذلك الكتاب؟ فقالت عند ذلك (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ).

وقوله : (كِتابٌ كَرِيمٌ) : قال بعضهم (١) : أي : حسن ؛ لما رأت فيه من الكلام الحسن والقول اللطيف.

وقال بعضهم : (كِتابٌ كَرِيمٌ) أي : مختوم ، وقد ذكر في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كرم الكتاب ختمه» أو كلام نحو هذا أو شبهه.

وجائز أن يكون فيه إضمار ، أي : إني ألقي إليّ كتاب من إنسان كريم ، وسليمان كان معروفا بالكرم ، يشبه أن يكون قد أتاها خبر كرمه.

و (الْمَلَأُ) قالوا : هم الأشراف وأهل السؤدد.

وقال الزجاج (٢) : سموا لما اجتمع عندهم من حاجات الناس ، وحسن الرأي والتدبير في كل شيء من الأمور ، أو كلام نحو هذا.

وقوله : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) : هو ما ذكرنا كأنهم سألوها ممن ذلك الكتاب؟ فقالت : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ) ، وسألوها ـ أيضا ـ : ما في ذلك الكتاب؟ فقالت : (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ).

قوله : (أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ) أي : لا تتكبروا ولا تتعظموا عليّ.

(وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) : مخلصين لله بالتوحيد ، أي : اجعلوا أنفسكم سالمة لله خالصة له ، لا تجعلوا لأحد سواه فيها شركا ولا حقّا ؛ لأنه أخبر أنهم كانوا يسجدون للشمس من دون الله فيخبر في الكتاب ، حيث افتتح ببسم الله الرحمن الرحيم : أن الذي يستحق السجود والعبادة هو الله الرحمن الرحيم لا ما تعبدون أنتم.

ثم إن من عادة الأنبياء والرسل الإيجاز في الكلام والرسائل ، لا يشتغلون بفضول الكلام وتطويله ، على ما ذكر من كتاب سليمان إلى بلقيس : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ذكر هذا القدر كان الكتاب ، والله أعلم.

وقوله : (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) : استشارت أشراف قومها وطلبت منهم الرأي في ذلك ، وهكذا عمل الملوك وعادتهم أنهم إذا أرادوا

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٦٩٤٨) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٠٠).

(٢) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٤ / ١١٨).

١١٣

أمرا أو استقبلهم أمر يستشيرون أولي الرأي من قومهم وأهل الحجى والتدبير منهم ، ثم يعملون بتدبير يكون لهم وما يرون ذلك صوابا ؛ وعلى ذلك أمر الله رسوله أن يشاور أصحابه بقوله : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران : ١٥٩] ، ثم أمره إذا عزم على الأمر أن يتوكل على الله في ذلك ، وأن يكل أمره إليه.

وقوله : (حَتَّى تَشْهَدُونِ) : يحتمل وجهين :

ما كنت قاطعة أمرا حتى تحضروا.

أو ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدوا أنه صواب حق.

فأجابوها فيما طلبت منهم الرأي والتدبير في ذلك ، فقالوا : (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) ، أي : نحن أولو قوة في أنفسنا وأولو بأس شديد ، أي : حرب وقتال شديد ، أي : لنا معرفة في ذلك ، ومع ما قالوا وكلوا الأمر إليها حيث قالوا : (وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ) ، وهكذا الواجب على وزراء الملوك والرعية أنهم إذا استشاروهم في أمر أن يدلوهم على الأصوب والحسن لهم ، ثم يكلوا الأمر إليهم.

وقصة سليمان صلوات الله عليه مع ما فيها من العجائب والآداب ، ففيها معرفة سياسة الملوك وتعلم آدابهم ؛ من ذلك : ما قال سليمان : (فَهُمْ يُوزَعُونَ) ، ومن ذلك قوله : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ ...) الآية ، وقوله : (لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً ،) أو من ذلك استشارة بلقيس أشراف قومها في ذلك وجوابات قومها لها ، وإخبارها إياهم من طبع الملوك وعاداتهم من الإفساد والقتل والإذلال ؛ حيث قالت : (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) : قال أهل التأويل : هذه شهادة من الله لها بما قالت ، والتصديق لها فيما أخبرت أنهم كذلك يفعلون بكبرائهم.

ثم قال : (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) : ذكر أنها قالت : إن لي في هذا رأيا ، فإن يك صاحب دنيا فعسى أن نرضيه بالمال فيسكت عنا ويكف شره ، وإن يكن نبيّا فلا يقبل ذلك منا وسنعرف ، فعملت ذلك وأرسلت إليه بهدايا ، فلم يقبلها سليمان فعرفت أنه نبي ، وهذا كان منها تدبيرا أو حسن الرأي في الأمر واحتيالا وفقت في ذلك ، لم تشتغل بالحرب والقتال على ما أشار لها قومها.

وقال ابن عباس : «قالت بلقيس لما أتاها كتاب سليمان ، واستشارت قومها في ذلك وطلبت فتياهم ، فأفتوا لها بما أفتوا ـ قالت : أبعث إليه بهدية ، فإن قبلها فهو ملك فأحاربه ، وإن لم يقبلها فهو نبي أتابعه» (١).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٠٢).

١١٤

قال أبو عوسجة : (فَناظِرَةٌ) يقال : أنظرته نظرة ، أي : أمهلته ، والنظرة في الدين خاصة وهو الإنظار.

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ)(٤١)

وقوله : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) : الرسول الذي بعثت معه بلقيس الهدية.

ويحتمل : (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ) المال الذي بعثت إليه ؛ يحتمل ذا أو ذا.

وقوله : (قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) أي : أتعطونني بمال ، وقال أهل الأدب : (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) من المدد ، والمدد الزيادة كما يمد القوم ، ويكون الإعطاء كقوله : (وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) [الطور : ٢٢] ، ويحتمل هذه الزيادة ، والله أعلم.

وقوله : (فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) أي : ما آتاني الله من النبوة والعلم والحكمة خير مما آتاكم من الأموال.

ويحتمل : (فَما آتانِيَ اللهُ) فأوتيكم إذا أتيتموني مسلمين (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ) ؛ إذ لم تؤتوني وأوتيتم الإسلام ، أو كلام نحو هذا.

وقال بعض أهل التأويل : فما آتاني الله من الملك خير مما آتاكم من الملك ؛ لأنه سخر له الجن والإنس والشياطين والطيور والرياح وجميع الأشياء ، فذلك خير له وأعظم من ملكها.

والأول أشبه وأقرب ؛ إذ لا يحتمل أن يفتخر سليمان بملكه على غيره ، إنما يكون افتخاره بالدين والنبوة ، والله أعلم.

وقوله : (بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) : قال بعضهم : بل أنتم بهديتكم تفرحون إذا ردت إليكم ، لكن هذا بعيد : لا تفرح برد الهدية إذا ردت إليها ، ولم تقبل بل تحزن على ذلك وتهتم ، لكنه يقول ـ والله أعلم ـ بل أنتم أولى بالفرح بالمال والهدايا منا ؛ إذ مرادكم المال والدنيا ، ومرادنا الدين ودار الآخرة ، أو كلام نحو هذا ، والله أعلم بذلك.

١١٥

وقوله : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) : قال ذلك ـ والله أعلم ـ للرسول الذي أتاه بالهدية : (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) ، أي : لنأتينهم بجنود لا طاقة لهم بها إن لم يأتوني مسلمين ، (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) إن لم يأتوني مسلمين.

ثم قال سليمان ـ عليه‌السلام ـ : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) إنما خاطب به أشراف قومه ، وهكذا العادة في الملوك أنهم إذا خاطبوا أحدا بشيء إنما يخاطبون أهل الشرف والمنزلة منهم.

(أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) : قال بعض أهل التأويل (١) : إنما قال هذا لأنه علم نبي الله متى أسلموا يحرم أموالهم مع دمائهم ، فأحب أن يؤتى به قبل أن يحرم ذلك عليه ، لكن هذا محال بعيد وفحش من القول لا يحتمل أن يكون رغبة سليمان في الأموال هذا الذي ذكر بعد ما رد هداياها إليها ، وأخبر : إنكم تفرحون بها ؛ لأنكم أهل دنيا ؛ إذ رغبة أهل الدنيا في الأموال ، ونحن أهل الدين رغبنا في الدين به نفرح ، ويستعجل كل هذا الاستعجال رغبة في مالها وعرشها.

لكنه ـ والله أعلم ـ يخرج على وجهين :

أحدهما : أنه أراد أن يريهم قوته وسلطانه أن يرفع واحد من جنوده عرشها ـ مع عظمه ـ بمعاينة منهم ومشاهدة وحمله من بينهم ؛ ليعلموا أن من قدر على ذلك لقادر أن يأتيهم بجنود لا طاقة لهم تصديقا لما قال : (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) ، ويقدر على قهرهم وغلبتهم.

والثاني : أراد أن يريهم آية من آيات نبوته إذا أتوه (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) ؛ ليعلموا أنه نبي ليس بملك.

وهذا التأويل الذي ذكرنا آية ، لكنه قبل أن يأتوه ؛ ليعلموا أنه نبي ليس بملك.

وقوله : (قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) أي : مصالحين ، وذلك جائز في اللغة.

وقوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) : قال بعضهم (٢) : مقامه : مجلسه الذي كان يقضي فيه إلى أن يفرغ من قضائه حتى يؤتى به.

(وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) : لأن الجن أقوى من الإنس وصف نفسه بالأمانة ؛ لأن الجن لا يرغبون في الأموال ما يرغب الإنس.

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٦٩٨٠) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٠٤).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٠٤) ، وعن مجاهد وقتادة ووهب بن منبه أخرجه ابن جرير عنهم (٢٦٩٨٩) ، (٢٦٩٩٠) ، (٢٦٩٩١).

١١٦

وقال بعضهم (١) : أمين على فرج تلك المرأة.

مقامه : مجلس الرجل يكون فيه حتى يقوم ، ولكن لا ندري ما أراد بمقامه الذي ذكر.

وقال بعضهم (٢) : أراد سليمان أن يكون أعجل من ذلك (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) ذكر أنه كان رجلا يعلم اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ).

ثم اختلف في ارتداد طرفه.

قال بعضهم : هو أن يبعث رسولا إلى منتهى طرفه فلا يرجع حتى يؤتى به.

وقال بعضهم : هو الرجل ينظر إلى الشيء البعيد قبل أن يرجع إليه طرفه.

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) : قال بعضهم (٣) : دخل في نفق الأرض ، فخرج بين يدي سليمان ـ يعني : العرش ـ كأنه ـ والله أعلم ـ أتاه إذ دعاه بذلك الاسم ، من غير أن تكلف هو حمله أو إتيانه ؛ فهذا يدل أن الآيات قد تجري على غير أيدي الرسل ، لكن تكون الآية للرسول وإن كانت تجري على أيدي غيره.

ثم قال : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) : قال بعضهم : والله ما جعله فخرا ولا أشرا ولا بطرا ، لكنه جعله شكرا وتواضعا.

وقال بعضهم : لما دعا ذلك الرجل بذلك الاسم فرآه مستقرا عنده ، وقع في قلب سليمان شيء وخطر بباله أنى يكون رجل عنده علم ما ليس عنده من العلم ، قال : فعزم الله له على الخبر.

وقيل له : إنه ممن خولك الله ، فقال سليمان : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) ، يقول : ما أعطى ذلك الرجل ما لم يعطني (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ) إذا كان مثله تحت يدي. (أَمْ أَكْفُرُ) ، لكن لا يحتمل أن يشكر الله على ما أعطى غيره.

ثم يحتمل قوله : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي) إتيانه أولئك مسلمين ، أو النبوة والعلم الذي آتاه الله ، قال : ذلك من فضل ربي ، أراد : تسخير ما سخر له (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) ، أي : يمتحنني أأشكر أم أكفر؟ (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) ؛ ليعلم أنه إنما يمتحن بالشكر ، ويأمره به لا لمنفعة الممتحن ولكن لمنفعة المأمور به.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٦٩٩٢) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٠٤).

(٢) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٩٩٩) ، وعن ابن إسحاق (٢٧٠٠٢).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٣٧٠١١) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن عساكر عنه ، وعن مجاهد أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر ، وعن ابن سابط أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٠٤ ، ٢٠٥).

١١٧

وقوله : (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) : غني : عن شكره ، كريم : يقبل القليل منه واليسير.

وقوله : (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) : قال أهل التأويل (١) : (نَكِّرُوا) أي : غيروا لها عرشها ؛ كأنه أمر أن يغيروا بعض ما عليه من الزيادة والنقصان ؛ ليمتحنها أتعرف أنه عرشها أم لا؟ والمنكر هو الذي لا يعرف ؛ كقوله : (قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) [الحجر : ٦٢] ، وقوله : (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) [هود : ٧٠] أي : لم يعرفهم.

وقوله : (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) : كان يجيء أن يقال : نكروا عرشها ، ويكون (لَها) زائدة ، إلا أن يقال : (نَكِّرُوا لَها) ، أي : نكروا لأجلها عرشها ، وهذا يشبه أن يكون.

وقوله : (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) : قال أهل التأويل : أتهتدي أنه عرشها أو لا تهتدي إليه؟

وجائز أن يكون قوله ننظر : أتهتدي إلى دين الله وتوحيده ، أم تكون من الذين لا يهتدون إلى دين الله؟

قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٤٤)

وقوله : (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) : قال بعضهم (٢) : شبهت هي عليهم ولبست أمره ، كما فعلوا هم بها من تغيير عرشها عليها وتلبيسه عليها ، لكن قوله : (كَأَنَّهُ هُوَ) لم تقطع فيه القول لما رأت فيه من التغيير والتنكير ، ورأت فيه سررها ـ وقفت فيه.

ودل قوله : (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ) أن العرش لم يحمل وهي نائمة ، على ما قاله بعض أهل التأويل : إنه حمل دونها من قبل ، ثم جاءت بعد ذلك ـ والله أعلم ـ ألا ترى أنه لو أمرهم أن يغيروا عرشها وهي عليه لم تشعر به ـ هذا بعيد ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) : إن كان هذا القول من سليمان فكأنه يقول : قد أوتينا العلم من قبل علمها به أنه عرشها ، ولنا غنية عن السؤال لها عنه ، لكن نسألها مستخبرين عن ذلك ممتحنين لها.

وقوله : (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) أي : صرنا مسلمين جميعا ، وأن يكون هذا صلة قوله : (وَلَقَدْ

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٧٠١٣) ، وعن مجاهد (٢٧٠١٥) و (٢٧٠١٦).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٧٠٢٤) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٠٦).

١١٨

آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) ، فهذا العلم الذي قال : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) ، وإلا في الظاهر ليس هذا صلة ما تقدم من قوله : (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) ، والله أعلم.

وقوله : (وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) : قال بعضهم : صدها عبادتها الشمس والأصنام التي عبدوها دون الله عن الإسلام وعبادة الله.

وقال بعضهم (١) : وصدها سليمان عن عبادتها التي كانت تعبد من دون الله ؛ لأنه ذكر أنها أسلمت.

وقوله : (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) : قال بعضهم : الصرح : صحن الدار ؛ وهو قول الزجاج (٢). وقال القتبي (٣) وأبو عوسجة وأكثر أهل التأويل : الصرح : هو القصر.

ثم لا ندري ما سبب بناء ذلك الصرح؟ وما سبب أمره إياها بالدخول فيه وكشفها عن ساقيها؟

أما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا في ذلك :

قال بعضهم : قالت الجن لما أقبلت بلقيس : لقد لقينا من سليمان ما لقينا من التعب ، فلو اجتمع سليمان وهذه المرأة وما عندها من العلم لهلكنا ، وكانت أم هذه المرأة جنية ، فقالوا : تعالوا ننقصها ونكرهها إلى سليمان ، فقيل لسليمان : إن رجلها مثل حافر الدواب ؛ لأن أمها كانت جنية ، فأمر سليمان عند ذلك فبني له بيت من قوارير فوق الماء ، وأرسل فيه السمك لتحسب أنه ماء فتكشف عن رجليها ، فينظر سليمان أصدقت الجن أم كذبت ، فلما رأته حسبته الماء وكشفت عن ساقيها فنظر إليها سليمان فإذا هي أحسن الناس قدمين وساقين ، فلما رأت الجن أن سليمان رأى ساقيها قالت الجن : لا تكشفي عن ساقيك (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ).

وقال بعضهم : لا ، ولكن ذكر لسليمان أن على ساقيها شعرا وأنهما شعراوان ، فأمر بذلك ليعرف ذلك.

وقال بعضهم (٤) : لا ، ولكن خافت الجن عند ذلك أن يتزوجها سليمان فتفشي إليه أشياء كانوا أطلعوها عليها وأفشوا إليها ، فأرادوا أن يكرهوها إليه ، فطعنوها بعيوب في عقلها ونفسها ، فقالوا : يا نبي الله ، ألا نريك عقلها فإن في عقلها شيئا؟ قال : بلى ،

__________________

(١) قاله ابن جرير (٩ / ٥٢٨).

(٢) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٤ / ١٢٢).

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٢٥).

(٤) قاله ابن جريج ، أخرجه ابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٠٦).

١١٩

فجاءت الجن بماء فأجروه فتركوه لجة ، ثم جاءوا بالسمك والضفادع فأرسلوها في الماء ، ثم جيء بها إلى ذلك الماء ، فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ، فقالوا لسليمان : إن في عقلها آفة ؛ ألا ترى أنها لا تعرف الصرح من الماء ، ولا تميز بينهما؟ أو نحو هذا من الكلام.

لكن لا نعلم ما سبب ذلك ، ولا يحتمل أن يكون سليمان يحتال هذا ؛ لينظر إلى ساقها وهي أجنبية.

ثم جائز أن يكون لغير ذلك ، أو أراد أن يريها آية من آيات نبوته ؛ حيث اتخذ صرحا ممردا من قوارير يرى كالماء للطافته ، وذلك خارج عن تدبير البشر ؛ لتعلم هي أن ذلك تدبير السماء لا تدبير البشر.

أو أن يكون أراد بذلك ـ والله أعلم ـ أن يريها عظم ملكه وسلطانه ؛ لتعلم أنه يفعل ما يشاء قادر على ذلك لا ينفعها سوى الطاعة له والإجابة والخضوع لله والإسلام له ، فعند ذلك قالت : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) فيما عبدت دون الله (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) أي : أخلصت وأسلمت نفسي لله رب العالمين.

قال القتبي (١) : عفريت ، أي : شديد وثيق ، وأصله العفر زيدت التاء فيه ، يقال : عفريت نفريت ، وعفريت ونفريت ، وعفاريت نفاريت.

وقال أبو عوسجة : العفريت : الخبيث المارد ، وعفاريت جمع.

وقال : صدها أي : ردها ومنعها.

وقال الصرح : القصر ، والصروح جمع.

واللجة : الماء المجتمع الكثير.

وقال : الممرد : وهو المملس بالطين أو بالجص أو بما كان.

وقال غيره : الممرد الطويل. قال القتبي (٢) : ومن ذلك يقال : الأمرد للذي لا شعر على وجهه ، ويقال للرملة التي لا تنبت : مرداة ، ويقال : للممرد : المطول ، ومنه قيل لبعض الحصون : مارد.

وقال الكسائي : الممرد : الأملس ، ويقال : منه سمي الأمرد أمرد.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٢٤).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٢٥).

١٢٠