تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٨

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٧١٩

١
٢

سورة الفرقان كلها مكية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً)(٣)

قوله ـ عزوجل ـ : (تَبارَكَ) : قال أهل التأويل (١) : تبارك من التفاعل ، وهو من تعالى ؛ لأن البركة (٢) هي اسم كل رفعة وفضيلة وشرف ، فكان تأويله : تعالى من التعالي والارتفاع.

وقال أهل الأدب : تبارك : هو من البركة ، والبركة هي : اسم كل فضل وبر وخير ، أي : به نيل كل فضل وشرف وبر.

قال أبو عوسجة : (تَبارَكَ) هو تنزيه ؛ مثل قولك : تعالى.

وقال الكسائي والقتبي (٣) : هو من البركة ؛ وهو ما ذكرنا.

وقوله : (نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) : سماه : فرقانا ؛ قال بعضهم (٤) : لأنه يفرق بين الحق والباطل ، وبين الحلال والحرام ، وبين ما يؤتى وما يتقى ؛ وعلى هذا جائز أن يسمى جميع كتب الله التي أنزلها على رسله فرقانا ؛ لأنها كانت تفرق بين الحق والباطل ، وبين ما يحل وما يحرم ، وبين ما يؤتى وما يتقى ؛ ولذلك سمى التوراة : فرقانا بقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) [الأنبياء : ٤٨].

وأما القرآن : هو من قرن بعضه إلى بعض ؛ يقال : قرنت الشيء إلى الشيء إذا ضممته إليه ، قرن يقرن قرنا (٥).

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٦٢٦٨) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١١٤).

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ٤٧٢).

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن (ص ٣١٠).

(٤) قاله قتادة أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١١٤).

(٥) ثبت في حاشية أ : ومن لم يهمز القرآن ، وهو قراءة أهل مكة ، فمعناه على وجهين :

أحدهما : أنه من قرأت. بهمزة الوجه الأولى في المعنى إلا أنه حذف همزه استخفافا ؛ لكثرة الاستعمال.

والوجه الثاني : أن وزنه (فعال) ، من (قرنت) ، النون منه لام الفعل سمي بذلك ؛ لأنه قرن السور وما فيها بعضها إلى بعض ، وقال الشاعر :

وكنت أعوذه بالقرآن

وأتفل كفى له حيث جد

إفصاح.

٣

وقال بعضهم : سمي القران : فرقانا ؛ لأنه أنزل بالتفاريق مفرقا ، وسائر الكتب أنزلت مجموعة ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا بدءا ، وهو أقرب وأشبه.

وقوله : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) : جائز أن يكون قوله : (لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) ، أي : القرآن الذي أنزله على عبده يكون نذيرا لمن ذكر.

ويحتمل قوله : (لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) أي : ليكون محمد بالقرآن الذي أنزل عليه نذيرا ؛ كقوله : (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) [فاطر : ٢٤] ؛ وكقوله : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [الأنعام : ١٩] أي : من بلغه القرآن من الخلق فرسول الله نذيره.

ثم قوله : (لِلْعالَمِينَ) جائز أن يراد به الإنس والجن.

ثم ذكر النذارة فيه ولم يذكر البشارة ، فإن كان على هذا فهو حجة لأبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أن ليس للجن ثواب إذا أسلموا سوى النجاة من العقاب ، ولهم عقاب بالإجرام ؛ لأن الله ـ تعالى ـ لم يذكر لهم الثواب في الكتاب ، وذكر لهم العقاب بالعصيان ؛ حيث قال : (يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ ...) الآية [الأحقاف : ٣١] ، جعل ثوابهم نجاتهم من عذاب أليم.

وجائز أن يكون في النذارة بشارة ـ أيضا ـ ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ؛ لأنهم إذا اتقوا مخالفة الله ومعاصيه كانت لهم العاقبة ، فلهم بشارة في ذلك ونذارة ؛ كقوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) [سبأ : ٢٨].

وقوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) : جائز أن يكون قوله : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) صلة قوله : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ) ، ووجهه ـ والله أعلم ـ أي : تعالى عن أن يكون النذير الذي بعثه فيهم ، إنما بعثه لحاجة نفسه لجر منفعة إليه ، أو لدفع مضرة عنه على بعث ملوك الأرض من الرسل لحوائج أنفسهم : لجر النفع إليهم ، أو لدفع مضرة عنهم ، ولكن إنما يبعث النذير والبشير إلى الخلق لمنافع أنفسهم ؛ إذ لا يحتمل أن يكون من له ملك السموات والأرض أن يبعث النذير والبشير لمنافع نفسه ولحاجته ؛ لغناه ، وأما ملوك الأرض لا يملكون ذلك ؛ فلذلك ما يرسلون ويبعثون من الرسل إنما يبعثون ويرسلون لمنافع أنفسهم وحوائجهم ؛ لدفع مضرة أو جر منفعة.

وجائز أن يكون قوله : (تَبارَكَ) أي : تعالى عن أن يتخذ ولدا أو شريكا في الملك على ما نسبوا إليه من الولد والشريك ، فقال : تعالى عن أن يكون له الولد أو الشريك ؛ إذ له ملك السموات والأرض ، فالولد في الشاهد إنما يتخذ لإحدى خلال ثلاث ؛ وقد ذكرناها.

٤

وبعد : فإن الولد في الشاهد إنما يكون من جنس الوالد ومن جوهره ، ويكون من أشكاله ، وكل ذي شكل وجنس يكون فيه منقصة وآفة ؛ وكذلك الشريك إنما يكون من جنسه ومن شكله ، وإنما يقع الحاجة إلى الولد إما لعجز أو آفة ، فإذا كان الله سبحانه له ملك السموات والأرض وهو خالقهما ـ فأنى يقع له الحاجة إلى الولد والشريك؟!

وقوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ) : فيه دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنه أخبر أنه خلق كل شيء ، وعلى قولهم أكثر الأشياء لم يخلقها من الحركات والسكون والاجتماع والتفرق وجميع الأعراض ؛ لأنهم يقولون : إنها ليست بمخلوقة لله ولا صنع له فيها.

وقوله : (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) : جائز أن يكون قوله : (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) لحكمة أو (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) لوحدانية الله وألوهيته ، أو (فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) أي : جعل له حدّا لو اجتمع الخلائق على ذلك ما عرفوا قدره ولا حده من صلاح وغيره ما لو لم يقدر ذلك لفسد.

وقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) أي : معبودا.

ثم تسميته إياها ـ أعني : الأصنام التي عبدوها ـ : آلهة على ما عندهم وفي زعمهم : أنها آلهة ؛ والإله عند العرب المعبود ، يسمون كل معبود إلها ؛ وكذلك قوله : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] عندهم وفي زعمهم ، وقول موسى : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) [طه : ٩٧] في زعمهم وعندهم أن كل معبود إله ، وإلا قد عابهم بتسميتهم الأصنام : آلهة.

ثم بين سفههم وقلة فهمهم في عبادتهم الأصنام وتسميتهم إياها : آلهة ؛ حيث قال : (لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل : ٢٠] ، أي : يتركون عبادة من يعلمون أنه خالق كل شيء ، ويعبدون من يعلمون أنهم لا يخلقون وهم يخلقون ، ويتركون عبادة من يعلمون أنه يملك النفع والضر لأنفسهم أيضا ، وهو قوله : (وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً) لغيرهم ؛ فعلى هذا الظاهر يجيء أن يكونوا هم سموا أنفسهم : آلهة لا الأصنام ؛ لأنهم يملكون ضرر الأصنام ونفعها ، والأصنام لا تملك ذلك لهم ولا لأنفسها.

وقال بعضهم في قوله : (وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً) أي : الموت الذي كان قبل أن يخلق الناس ، كقول الله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) [البقرة : ٢٨].

وأما قوله : (وَلا حَياةً) يقول : لا يملكون أن يزيدوا في هذا الأجل المؤجل ، (وَلا نُشُوراً) أي : بعثا بعد الموت.

وقال بعضهم : لا يملكون أن يميتوا حيّا قبل أجله ، (وَلا حَياةً) : ولا يحيون ميّتا إذا جاء أجله ، (وَلا نُشُوراً) ، أي : بعثا ، على ما ذكرنا ، وبالله العصمة.

٥

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(٩)

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ) يعنون هذا القرآن الذي أنزل على رسوله ، وكان يقرؤه عليهم ، يقولون : ما هذا إلا إفك ـ أي : كذب ـ افتراه من تلقاء نفسه ويخترعه من نفسه.

إن أهل الشرك كانوا يكذبون الأنباء والأخبار من غير أن كانت لهم أسباب التي بها ما يوصل إلى معرفة صدق الأخبار وكذبها ، وذلك كانت عادتهم وهمّتهم ، والأسباب التي يعرف بها صدق الأخبار وكذبها هي الكتب السماوية والرسل التي نطقوا عن وحي السماء ، فكفار مكة لم يكن لهم واحد من هذين ، فكيف ادعوا على رسول الله اختلاق هذا القرآن واختراعه من نفسه ، وأنه مفترى ، على غير كون أسباب معرفة الكذب والصدق لهم في الأخبار ، مع ما ظهرت لهم آيات رسالته وأعلام صدقه في الأخبار ؛ حيث لم يؤخذ عليه كذب قط ، ولا رأوه اختلف إلى أحد من أهل الكتاب ، ولا كان يحسن أن يخط بيده كتابا ، وما قرع أسماعهم من أول الأمر إلى آخر الأبد قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ، وقوله : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣] فدل عجزهم وترك تكلفهم ذلك على أنهم عرفوا أنه من عند الله ، وأنهم كذبة في قولهم : إنه إفك مفترى.

وقوله : (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) ، وقالوا : إنه إفك مفترى ، وأعانه على ذلك قوم آخرون في افترائه واختراعه ، وهم قوم من أهل الكتاب أسلموا ، وقد كانوا يجدون في التوراة والإنجيل نعته وصفته ، وما كان أنبأهم رسول الله ويخبرهم من الأنباء المتقدمة والأخبار الماضية ، فأخبروهم بذلك حين سألهم أولئك المشركون عما يخبرهم رسول الله ، وقالوا : إنه كما يقول ، وإنه صادق في ذلك كله ، وإنا نجد ذلك في كتابنا ، فلما سمعوا ذلك من أهل الكتاب ما سمعوا من تصديقهم إياه ـ عند ذلك قالوا : (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ).

ثم أخبر أنهم (جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) ، أما قوله : (ظُلْماً) لأنهم كذبوه ، و [قالوا :] إنه مفترى من غير أن كان لهم أسباب الكذب والصدق ، فهو ظلم ؛ حيث وضعوا ذلك [في] غير موضعه. وأما قوله : (وَزُوراً) لأنهم قالوا : إنه مختلق ، وإنه سحر ، وإنه (إِنَّما يُعَلِّمُهُ

٦

بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] ، وإنه (وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) ، وإنه (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ، قد ظهر كذبهم بهذا فيما بينهم ؛ لأنهم متى رأوه اختلف إلى واحد منهم يعلمه ذلك؟! أو متى رأوه كتب شيئا قط أو يحسن الكتابة قط؟! وقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)؟!

فإذا عرف تلك الأنباء والأحاديث التي كانت من قبل ـ ولا شك أنها لم تكن بلسانه ، وإنما كانت بلسان أولئك ـ دل إخباره عما في كتبهم بلسانه أنما عرف ذلك بالله تعالى (١).

وقوله : (فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) قال أهل التأويل : غدوّا وعشيّا ، فلو كان على ذلك لكان يحضرونه في البكرة والعشيّ ، فيسمعون ويشاهدون ما يملى عليه ؛ إذ الوقت وقت الحضور ، ولكن ـ عندنا ـ كأنهم أرادوا بالبكرة والعشيّ : أول الليل وآخره ، الأوقات التي هي ليست بأوقات الحضور والجلوس ، يقولون : يأتونه سرّا فتملى عليه ويعلمه ، فلو كان ذلك أيضا لكانوا يراقبونه ويحافظونه سرّا ؛ ليعرفوا ذلك ويشاهدوه ، فإذا لم يفعلوا ذلك دل أنهم كانوا يعرفون صدقه ، وأنهم كذبة في زعمهم ، لكنهم كابروه وعاندوه في ذلك.

ثم أخبر أنه إنما أنزل عليه الذي يعلم السر في السموات والأرض ؛ حيث قال : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليس بمختلق منه ولا مفترى ، ثم قوله : (يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يعلم الأعمال الخفية والسرية من أهل السماوات والأرض ، أي : يعلم الكوائن التي في السموات والأرض وخفياتها.

وقال بعضهم : قوله : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ) أي : قل لهم يا محمد : أنزله ـ أي : هذا القرآن ـ الذي يعلم السر ؛ وذلك أنهم قالوا بمكة سرّا : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [المؤمنون : ٢٤] فإنه بشر مثلكم ، بل هو ساحر (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) [الأنبياء : ٣] ، ففي ذلك دلالة إثبات رسالته ؛ لأنهم قالوا سرّا فيما بينهم ثم أخبرهم بذلك ، دل أنه بالله عرف ذلك.

وقوله : (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) في تأخير العذاب عنهم ، (رَحِيماً) حين لا يعجل عليهم بالعقوبة إذا تابوا ورجعوا عن التكذيب إلى التصديق على ما ذكرنا. وقوله : (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) في تأخير العذاب ، يحتمل قوله : (غَفُوراً رَحِيماً) إذا تابوا عن ذلك وآمنوا به ورجعوا إلى الحق ، أو غفور رحيم لا يعجل بالعقوبة أي : برحمته وفضله لا يعجل بعقوبتهم ؛ لعلهم يتوبون.

__________________

(١) ثبت في الحاشية : بلسان نفسه من غير أن يعرفوا له معلما ، ولا كان له معرفة بلسانهم ولا معرفة بالكتابة والقراءة عن الكتاب ، عرف أنهم عرفوا أنه علم ذلك بالله تعالى. شرح.

٧

وقال القتبي : «تبارك» مشتق من البركة ، وكذلك قال الكسائي ، وقد ذكرنا ذلك.

وقال أبو عوسجة : تنزيه ، مثل قولك : «تعالى» ، على ما ذكرنا ، وقال : الفرقان هو الحق ؛ فرق بين الحق والباطل ، والقرآن : هو من قرن بعض إلى بعض ، والزبور : هو اسم كتاب ، والزّبر : جميع ، وزبرت : كتبت ، والزّبر : قطع الحديد ، كقوله : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) [الكهف : ٩٦] الواحد : زبرة ، والتوراة : اسم كتاب لا أظنه بالعربية.

قال أبو معاذ : الأساطير : الأحاديث ، واحدها : أسطورة ، كأرجوزة وأراجيز ، وأحدوثة وأحاديث ، وأعجوبة وأعاجيب.

وفي حرف حفصة : فهي تمل (١) عليه ، وهما لغتان ، وفي سورة البقرة : (أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) [البقرة : ٢٨٢].

وقوله : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) كان الكفرة يطعنون رسول الله بشيئين :

أحدهما : أنه من البشر ؛ بقولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [المؤمنون : ٢٤] و (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [إبراهيم : ١٠] كانوا لا يرون أن يكون من البشر رسول كقوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) الآية [الأنعام : ٨] ، وقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) ، ونحو ذلك.

والثاني : كانوا يطعنون بالفقر والحاجة وصفارة اليد ؛ حيث قالوا : (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ) ، وحيث قالوا : (يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) كأنهم ينكرون الرسالة في الفقراء وذوي الحاجة ، ويرونها في ذوي الملك والأموال ؛ ولذلك قالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف : ٣١] ، فعلى ذلك قولهم : (يَأْكُلُ الطَّعامَ) كما يأكل الفقراء ، (وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) في حوائجه كما يمشي الفقراء ، ولو كان رسولا لكان ملكا غنيّا يأكل طعام الملوك ، لا يقع له الحاجة إلى أن يمشي في الأسواق في حوائجه.

فأجاب لهم في طعنهم فيه أنه بشر مثلهم ، وإنكارهم الرسالة في البشر بوجوه :

أحدها : قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) ، قال : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) الآية [الأنعام : ٨] ، معناه ـ والله أعلم ـ : أنه لا ينزل الملك إلا بالعذاب ، فلو أنزل لأنزل بالعذاب فأهلكوا.

والثاني : ما قال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] ، تأويله ـ والله أعلم ـ : أنه لم يجعل في وسع البشر رؤية الملك على صورته وعلى ما هو عليه ؛ إذ جنس هذا غير جنس أولئك ، وجوهرهم غير جوهر أولئك ، ولو جعلناه هكذا كنا لبسنا ما كان

__________________

(١) في أ : تملى.

٨

يلبس أولئك القادة على الأتباع ؛ كقولهم : إنه ساحر وإنه كذاب وإنه مجنون ؛ فكان في ذلك تلبيس عليهم.

والثالث : ما قال : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ ...) الآية [الإسراء : ٩٥] أي : لو كان أهل الأرض ملائكة لكنا أنزلنا عليهم الرسول ملكا من جنسهم وجوهرهم ؛ لأنهم أعرف به وأظهر صدقا عندهم ممن هو من غير جوهرهم وجنسهم ، فإذا كان أهل الأرض بشرا فالرسول إذا كان منهم ، فهم أعرف به وصدقه أظهر عندهم ، وقلوبهم إليه أميل لا إلى من هو من غير جنسهم.

وأجاب لطعنهم في أكله ومشيه في الأسواق حيث قال : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٢٠] في حوائجهم ، أي : غيره من الرسل الذين تؤمنون أنتم بهم كانوا فقراء ، يأكلون الطعام ويمشون في حوائج أنفسهم ، ثم لم يمنع ذلك عن أن يكونوا موضعا لرسالته ؛ فعلى ذلك محمد ، والفقير وذو الحاجة أحق أن يكون موضعا لرسالته من الغني الثري ؛ لأن الناس يتبعون الغني ومن له الملك والثروة ، فلو كان الرسول غنيّا مثريّا لكان لا يظهر متبع الحق من غيره ، وإذا كان فقيرا محتاجا لظهر ذلك ، اللهم إلا أن يكون ملكا هو آية الرسالة نحو ملك سليمان وداود ، وذلك لنفسه آية لرسالته على ما قال : (وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص : ٣٥] ، والله أعلم.

وقوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً) : كأنهم قالوا ذلك لما نزل قوله : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) [الفرقان : ١] قالوا عند ذلك : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) ، وقالوا : (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) عند سماع قوله : (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الزخرف : ٨٥] أي : قالوا : لو كان محمد رسول الله من له ملك السموات والأرض ونذيرا للعالمين على ما يقول ، لكان أنزل معه ملك نذيرا ، ولكان أعطي هو كنزا أي : ما لا أو تكون له جنة يأكل منها على ما يكون لرسل ملوك الأرض.

لكن الجواب لهم ما ذكر : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ...) الآية ، أي : لو شاء أعطاك خيرا مما يقولون من البنيان والقصور على ما أعطى غيرك ، لكن ليس فيما يمنع منقصة لك ، ولا فيما أعطاهم فضيلة.

وقوله : (وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ) أي : ما تتبعون ، (إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) : لا تزال عادتهم بنسبة الرسول إلى السحر والجنون والكذب.

وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا) : فتأويله ـ والله أعلم ـ أي : انظر إلى

٩

سفههم أن كيف ضربوا لك الأمثال ، وشبهوك بها ؛ نسبوك مرة إلى السحر وقالوا : إنك ساحر ، ومرة إلى الجنون وقالوا : إنك مجنون ، ومرة إلى الشعر وقالوا : إنك شاعر ، ومرة إلى الكذب حيث قالوا : بل هو كذاب أشر ، ونحو هذا مما كانوا ينسبونه إليه ، فيقول ـ والله أعلم ـ : انظر إلى سفههم أن كيف ضربوا لك الأمثال ونسبوك إلى ما ذكروا ، على علم منهم أنك لست كذلك ولا على ذلك ، وأنك على الحق وهم على باطل وكذب.

أو أن يكون قوله : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) ما قالوا : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) وأمثال ما سألوا ، فيقولون : لو كان ما يقول إنه رسول ، لكان ذلك له أعلام الرسالة وأمارات صدقه ، فيخبر أن الأعلام والآيات ليست تأتي على شهوات سؤال المعاندين وأمانيهم ، ولكن إنما تجيء على ما توجيه الحكمة ، مما يدل على صدق ما ادعى ويظهر كذب من عاند وتولى ، وقد أتاهم محمد صلوات الله عليه وسلامه بحجج وبراهين ما أظهر لهم صدق ما ادعى من الرسالة والنبوة ، لكنهم عاندوها وكابروا ، فلم يقروا بها خوفا أن يذهب عنهم رياستهم (١).

وقوله : (فَضَلُّوا) لا شك أنهم قد ضلوا عن الهدى ، أي : عدلوا بضربهم الأمثال له ، ونسبتهم إياه إلى ما نسبوه إليه ؛ فلا يستطيعون سبيلا إلى الهدى أو إلى ما سألوا من الأشياء.

وفي حرف حفصة : فلا يهتدون سبيلا.

وقال بعضهم (٢) : فلا يستطيعون مخرجا من الأمثال التي ضربوها لك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً)(١٤)

وقوله : (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ) قد ذكرنا أنه خرج جواب ما سألوه من الأشياء : من الملك والكنز والجنة وأنواع الطعن الذي طعنوه ، أي : لو شاء لأعطاك

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٤٨٣).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٦٢٧٩) ، والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١١٥).

١٠

خيرا من ذلك (١).

ثم أخبر أن الذي حملهم على ذلك السؤال وأنواع الطعن فيه هو تكذيبهم بالساعة ؛ حيث قال : (بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ) حيث لم يروا لأمورهم عاقبة ينتهون إليها ؛ يثابون عليها أو يعاقبون.

ثم أخبر ما أعدّ لهم بتكذيبهم الساعة فقال : (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً).

ثم وصف ذلك السعير فقال : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً).

وقوله : (رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) : يحتمل وجهين : أحدهما : يجعل لها أسبابا تراهم كما يرونها. والثاني إذا صاروا في مكان بحيث يرونها كأنها رأتهم.

وقوله : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً) : قيل : إن النار ترفع ويعلو لهبها ، وترد من كان في أعلاها إلى أسفلها ، ويرد من كان في أسفلها إلى أعلاها ، فيجمعهم جميعا فيضيق عليهم المكان ويشتد بهم العذاب ، كلما ضاق عليهم المكان كان العذاب لهم أشد.

وقوله : (مُقَرَّنِينَ) : قال بعضهم (٢) : مقيدين بعضهم ببعض.

ثم قال بعضهم : الشيطان يقرن ، ويقيّد كل بشيطانه الذي دعاه إلى دعائه واتبعه ؛ كقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً ...) الآية.

وقال بعضهم : يقرن العابد والمعبود من دون الله ، وهو الأصنام التي عبدوها ؛ كقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا ...) الآية.

وقوله : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) أي : هلاكا ، والثبور : الهلاك ؛ كقوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) أي : هالكا.

والثبور والويل : هما حرفان يدعو بهما كل من كان في الهلكة والشدة ، فقال : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) ، أي : لا تدعوا هلاكا واحدا ؛ كما يكون في الدنيا أن من هلك مرة لا يهلك ثانيا ، وأما في النار فإن لأهلها هلكات لا تحصى ؛ كقوله : (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) أي : أسباب الموت تأتيهم من كل مكان وما هو بميت ؛ وكقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ ...) الآية.

وإنما يسألون ويدعون بالهلاك لما يرجون من الهلاك النجاة من ذلك العذاب ؛ وهكذا كل من ابتلي ببلاء شديد يتمنى الهلاك والموت.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٤٨٤).

(٢) قاله أبو صالح بنحوه ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١١٧).

١١

قوله تعالى : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً)(١٦)

وقوله : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) : يشبه أن يكون قال هذا لقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) ، فيقول : أذلك الذي سألتموه أنتم خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون؟!

أو يكون قال ذلك لهم لما رأوا لأنفسهم الفضل والمنزلة في الدنيا ؛ لما وسع عليهم الدنيا وأعطوا من حطامها ، فقال : أذلك الذي أعطيتم في الدنيا من السعة خير ، أم جنة الخلد التي أعطي المتقون؟! والله أعلم.

وقوله : (لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) : يحتمل قوله : (وَعْداً مَسْؤُلاً) مما سألته لهم الملائكة ؛ كقوله : (رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ ...) الآية [غافر : ٨] ، وسؤال الرسل ؛ كقوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ...) الآية [آل عمران : ١٩٤] ، أو وعدا مسئولا مما سألوا ربهم ، فوعد لهم ذلك ؛ فهذا يدل أنهم إنما يدخلون الجنة بالسؤال والتشفع لهم والتضرع ، لا أنهم يستوجبون ذلك بأعمالهم.

وقال بعضهم في قوله : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) : في السلاسل وذلك أنهم إذا ألقوا فيها تضايق عليهم كتضايق الزج في الرمح ، فالأسفلون يرفعهم اللهب ، والأعلون يخفضهم اللهب ، فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة فضايق عليهم ، فعند ذلك يدعون بالثبور ؛ يقولون : يا ثبوراه ويا ويلاه.

وروي مثله عن عبد الله بن عمر (١) ، وكان يقول : إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج في الرمح.

وقوله : (دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) يقول : ويلا وهلاكا ، قال الله تعالى : (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) : ثم قيل : (أَذلِكَ خَيْرٌ) يعني : الذي ذكر ، (أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً) لأعمالهم ، (وَمَصِيراً) أي : منزلا.

قال أبو عوسجة : التغيظ : من الغيظ ، والزفير : الشهيق يكون في الحلق ، وشهق يشهق شهيقا وشهقا ، وهو نفس في الحلق شديد له صوت.

وقال (٢) : (ثُبُوراً) أي : إهلاكا ، وصرفه : ثبر يثبر ثبرا وثبورا ، فهو ثبور.

__________________

(١) أخرجه ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق قتادة عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١١٧).

(٢) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير (٢٦٢٩٣) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١١٧).

١٢

وقال القتبي (١) : (تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) [الفرقان : ١٢] أي : تغيظا عليهم ؛ كذلك قال المفسرون.

وقال بعضهم : بل يسمعون فيها تغيظ المعذبين وزفيرهم واعتبروا ذلك بقول الله تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) [هود : ١٠٦] واعتبره الأولون بقوله : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) [الملك : ٨] هذا أشبه التفسيرين إن شاء الله ؛ لأنه قال : (سَمِعُوا لَها) ، ولم يقل : سمعوا فيها ، ولا منها. وقال : (ثُبُوراً) أي : بالهلكة ؛ كما يقول القائل : وا هلاكاه ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً)(٢٠)

وقوله : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) اختلف [فيه] :

قال بعضهم : نحشر أولئك الذين عبدوا دون الله والمعبودين وهم الملائكة ؛ لأن من العرب من قد عبدوا الملائكة ؛ كقوله في آية أخرى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ. قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ ...) الآية : [سبأ : ٤١].

وقال بعضهم (٢) : هو عيسى يحشر بينه وبين من عبدوه ؛ لأنه قد عبد دون الله فيقول له ما ذكر ؛ كقوله : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ ...) الآية [المائدة : ١١٦].

وقال بعضهم : يحشر الأصنام ومن عبدها ، ثم يأذن لها في الكلام فيقول : (أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) ؛ كقوله : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) إلى قوله : (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) [يونس : ٢٩] ، ولو كان عيسى ـ عليه‌السلام ـ أو الملائكة لكانوا عالمين بعبادتهم إياهم غير غافلين ؛ دل ذلك أنها الأصنام التي عبدوها دون الله وإياها يسألون.

وكل ذلك محتمل ؛ إذ قد كان منهم ذلك كله ، والله أعلم.

وقوله : (فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ) : والله ـ عزوجل ـ

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣١٠).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٦٢٩٧) و (٢٦٢٩٨) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١١٨).

١٣

كان عالما لما كان منهم ، لكن السؤال إياهم ـ والله أعلم ـ يخرج مخرج توبيخ أولئك الكفرة وتعييرهم ؛ لأنهم يعبدون من ذكر من دون الله ، ويقولون : هم أمروهم بذلك ، وكانوا مقبولي القول عندهم صادقين فيما يخبرون ويقولون ، فأراد أن يظهر كذبهم عند الخلائق ؛ لذلك سألهم ، والله أعلم بالكائن منهم من أنفسهم ، لكنه يخرج على ما ذكرنا.

ثم نزهوه عن جميع ما لا يليق به ، وبرءوا أنفسهم عن أن يكون منهم أمر أو شيء مما نسبه أولئك إليهم ، وهو أعلم بهم فقالوا : (سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) قال أهل التأويل : (أَوْلِياءَ) أي : أربابا ، وهم لم يتخذوا أربابا من دونه ، لكنه عندنا يخرج على وجهين :

أحدهما : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونه أولياء هم المؤمنون.

الثاني : أو أن يكون : ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دون ولايتك ولاية سواك (١).

وفي بعض القراءات : أن نتخذ من دونك أولياء برفع النون ، لكن أهل الأدب يقولون : هو خطأ.

وقوله : (وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ) : هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أن آباءهم قد أمهلوا ومتعوا في هذه الدنيا ، حتى ماتوا على ذلك من غير أن أصابهم شيء مما أوعدوا في كتابهم ، ومما أوعدهم الرسل من العذاب والهلاك على ما اختاروا من الدين وصنيعهم ، فظنوا أنهم على حق من ذلك ؛ حيث لم يصبهم من المواعيد المذكورة في كتابهم ، أو ما أوعدهم رسلهم بشيء ؛ فعلى هذا التأويل الذكر : الذي نسوه هو كتابهم ، أو ما أوعدهم رسلهم ، والله أعلم.

فإن كان على هذا فالآية في أهل الكتاب منهم.

ويحتمل أن تكون الآية في الفراعنة ، والقادة من هؤلاء الكفرة متعوا في هذه الدنيا بأحوال ورئاسة ، ووسع عليهم المعيشة ، حتى دعوا الناس وأتباعهم إلى ما هم عليه من التكذيب برسوله وما أنزل عليه ، فأجيبوا بالأموال عندهم ، فنسوا ما في القرآن من الوعيد.

(وَكانُوا قَوْماً بُوراً) والبور : قال بعضهم : الهلاك.

وقال بعضهم (٢) : البور : الفساد.

وقوله : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ) : أي : فقد كذبكم أولئك ، (بِما تَقُولُونَ) : أنهم أمرونا بذلك ، وكانوا عندهم صدقة.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٤٩٨ ، ٤٩٩).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١١٩).

١٤

وقوله : (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) : هذا يحتمل وجوها :

أحدها : أي : ما يستطيع أولئك الكفرة صرف قول من عبدوهم وتكذيبهم حين كذبوهم في قولهم.

(وَلا نَصْراً) أي : ولا استطاعوا الانتصار منهم حين كذبوهم ؛ وعلى ذلك يخرج قراءة من قرأه بالتاء : فما تستطيعون صرفا ولا نصرا.

و [الثاني :] يحتمل : فما يستطعون أولئك المعبودون صرف عذاب الله ونقمته عنكم ، ولا كانوا لهم نصراء ؛ لأنهم قالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

والثالث : (فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً) أي : فداء ، (وَلا نَصْراً) أي : لا يقبل منهم الفداء ، ولا كان لهم ناصر ينصرهم في دفع العذاب عنهم ؛ كقوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ).

وقال القتبي (١) وأبو عوسجة : قال بعضهم : الصرف : النافلة ، سميت صرفا لأنها زيادة على الواجب ، والعدل : الفريضة. وقد روي في الخبر : «من طلب صرف الحديث ليبتغي به إقبال وجوه الناس ، لم يرح رائحة الجنة» (٢) أي : من طلب تحسينه بالزيادة فيه.

وقال بعضهم : الصرف : الدية ، والعدل : رجل مثله ؛ كأنه يريد : لا يقبل منه أن يفتدي برجل مثله وعدله ، ولا يصرف عن نفسه بديته ، ومنه قيل : صارفي ، وصرف الدرهم بالدنانير ؛ لأنك تصرف هذا إلى هذا ، وأصله ما ذكرنا.

قال القتبي (٣) وأبو عبيدة : (قَوْماً بُوراً) ، أي : هلكى (٤) ، وهو من بار يبور ؛ إذا هلك وبطل ؛ يقال : بار الطعام ، إذا كسد ، وبارت الأيم ؛ إذا لم يرغب فيها ، وفي الخبر : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتعوذ من بوار الأيم».

قال أبو عبيدة (٥) : يقال : رجل بور وقوم بور لا يثنى ولا يجمع.

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن (٣١١).

(٢) أخرجه ابن ماجه (١ / ٢٣٤) ، في المقدمة باب : الانتفاع بالعلم والعمل به (٢٥٣) ، عن ابن عمر بلفظ :

«من طلب العلم ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار» وضعفه البوصيري في الزوائد.

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣١١) ، ومجاز القرآن (٢ / ٧٢).

(٤) قاله ابن عباس ومجاهد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٦٢٩٩) و (٢٦٢٣٠) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١١٩).

(٥) ينظر : مجاز القرآن (٢ / ٧٣).

١٥

وقال أبو عوسجة : (قَوْماً بُوراً) : لا خير فيهم ، ورجل بائر ؛ وكذلك قال ابن زيد (١) : بورا أي : ليس فيهم من الخير شيء.

وقال قتادة (٢) : بورا : فاسدين ، بلغة أهل عمان ، وقال : «ما نسي قوم ذكر الله قط إلا باروا وفسدوا».

وقوله : (وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً) : أما على قول بعض الخوارج : كل ظلم ارتكبه فهو في ذلك الوعيد على أصل مذهبهم.

وعلى قول المعتزلة : كل صاحب كبيرة في ذلك الوعيد.

وأما على قول المسلمين : فذلك الوعيد لمرتكبي الظلم : ظلم كفر وشرك ، وأمّا ما دون ذلك فهو في مشيئة الله : إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه.

وقوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) : قد ذكرنا فيما تقدم أن هذا إنما أخرج جوابا لقول أولئك : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) ، فأخبر أن الرسل الذين كانوا من قبل محمد كانوا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق على ما يأكل هو ويمشي.

ثم من الناس من كره الركوب في الأسواق بهذا ، وقال : إنه أخبر عن الأنبياء والرسل جملة أنهم كانوا يمشون في الأسواق ، لم يذكر منهم الركوب ؛ فدل ذلك منهم أنه مكروه منهي عنه ؛ فيشبه أن يكون ما قال هؤلاء ، وأنه يكون مكروها ؛ لأنه يخرج الركوب في الأسواق مخرج التعزز والمباهاة ؛ فالواجب على كل مسلم أن يكون تعززه بالإسلام وبدينه الذي اختاره الله تعالى ، وخاصة على العلماء يجب أن يكون تعززهم ومباهاتهم بالعلم الذي أعطاه الله لهم وأكرمهم ؛ فإنه عز لا يعقبه ذلّا : ولا يورثه صغارا ولا قهرا ، وأمّا كل عز كان سوى ما ذكرنا فهو إلى ذل ما يصير سريعا ، كأنه ليس بعز في الحقيقة ، ولو تأصّل ، والله أعلم.

وقوله : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) : الفتنة كأنها هي المحنة التي فيها شدة وبلاء.

ثم قال أهل التأويل : إنه لما أسلم عبد الله وأبو ذر وعمار وبلال وصهيب وأمثال هؤلاء ، قال الفراعنة من قريش نحو أبي جهل والوليد وأمثالهما : انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدا ، اتبعوه من موالينا وأعرابنا رذالة كل قوم ، فازدروهم وآذوهم واستهزءوا

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٦٣٠٣).

(٢) تقدم.

١٦

بهم ؛ فأنزل الله هذه الآية لهؤلاء الفقراء الذين اتبعوا رسول الله ؛ ليصبرهم على أذاهم فقال : (فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ) أي : اصبروا على الأمر ؛ هذا محتمل.

وقال الحسن (١) : قوله تعالى : (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً) جعل أهل البلوى فتنة لغيرهم وغير أهل البلوى ؛ يقول الأعمى : لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان ، ويقول الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيّا مثل فلان ؛ وكذلك يقول السقيم : لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان ، لكنه أعطى لأهل البلوى البلوى وأمرهم بالصبر عليها ، وأعطى لأهل النعمة النعمة وأمرهم بالشكر عليها.

وجائز أن يكون غير هذا ، وهو قريب من هذا ، وذلك أنه أعطى بعضا النعمة والسعة ، وجعل بعضهم أهل ضيق وشدة ، ثم جعل كل فريق محتاجا إلى الفريق الآخر ؛ جعل الغني والمثري محتاجا إلى الفقير في بعض أموره ، والفقير محتاجا إلى الغني لغناه ، وجعل لبعض على بعض مئونة ما لو لا فقر الفقير لا يعرف الغني قدر غناه ، ولا الفقير قدر فقره ، ولا قام بعض بكفاية مئونة بعض ، ثم أمر كلا بالصبر على تحمل مئونة الآخر بقوله : (أَتَصْبِرُونَ) أي : اصبروا على الأمر يخرج ، وإن كان ظاهره استفهاما وسؤالا ، والله أعلم.

وقوله : (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) أي : على بصر وعلم ؛ جعل بعضا فتنة لبعض ليس على سهو وغفلة.

قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً)(٢٩)

وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا) : قال أهل التأويل (٢) : (لا يَرْجُونَ) أي : لا يخافون ولا يخشون لقاءنا ، أي : البعث بعد الموت.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٦٣١٣) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والبيهقي في الشعب ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٢٠).

(٢) قاله ابن جرير (٩ / ٣٧٨).

١٧

وقال أهل الكلام : الرجاء : هو الرجاء لا الخوف ، لكن جائز أن يكون في الرجاء خوف ، وفي الخوف رجاء ؛ لأن الرجاء الذي لا خوف فيه هو أمن ، والخوف الذي لا رجاء فيه إياس ، فكلاهما مذمومان : الإياس والأمن جميعا.

وقوله : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا) : جائز أن يكون قولهم : لو لا أنزل علينا الملائكة رسلا دون أن أنزل البشر رسلا إلينا ؛ لإنكارهم البشر رسولا ؛ كقولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ).

ويحتمل قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ) : بالوحي والرسالة لنا دونك ، ونحن الرؤساء والملوك والقادة دونك ؛ يقولون : لو كان ما تقول حقّا وصدقا أنك رسول ، وأنه ينزل عليك الوحي والملك فنحن أولى بالرسالة منك ؛ إذ نحن الملوك والرؤساء ؛ كقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) وأمثال هذه الأفكار.

ثم الرسالة لمن هو دونهم في الدنياوية.

أو أن يكون ذلك ؛ كقولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً .... أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ) أي : رسول أو نرى ربنا عيانا ونكلمه ونسأله عن ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) : الاستكبار : هو ألا يرى غيره مثلا له ، ولا عدلا ولا شكلا في نفسه وأمره ، فإن كان هذا فهو ما لم يروا رسول الله أهلا للرسالة وموضعا لها ؛ لفقر ذات يده وحاجته ، ورأوا أنفسهم أهلا لها ، فاستكبارهم هو ما لم يروا غيرهم مثلا ولا شكلا لأنفسهم ؛ فاستكبروا ولم يخضعوا لرسول الله ، ولم يطيعوه ، ولم يتبعوه أنفا منه ، بعد علمهم أنه محق في ذلك وأنه رسول إليهم.

وقوله : (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) : قال بعضهم : العتو : هو الجرأة ، وهو أشدّ من الاستكبار.

وقال بعضهم : العتو : هو الغلو في القول غلوا شديدا.

وقال بعضهم : هو من التكبر.

وقوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) : قال الحسن (١) : حجرا محجورا : كلمة من كلام العرب ؛ إذا كره أحدهم الشيء قال : حجرا حرام هذا ، فإذا رأوا الملائكة كرهتهم ، وقال : حجرا محجورا ، فعلى هذا القول الكفرة هم يقولون :

__________________

(١) عنه وعن قتادة أخرجه ابن جرير (٢٦٣١٩) ، وعبد الرزاق وابن المنذر وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٢١).

١٨

حجرا محجورا ؛ إذا رأوا الملائكة وما معهم من المواعيد.

قال بعضهم (١) : إن الملائكة يتلقون المؤمنين بالبشرى على أبواب الجنة ، ويقولون للكفرة : لا بشرى لكم ، ويقولون : حجرا محجورا ، أي : تقول الملائكة : حرام البشرى للمجرمين ، أو حرام عليهم الجنة أن يدخلوها ، والحجر على هذا القول هو الحرام.

وقال بعضهم : الحجر هاهنا هو المنع والحظر ، يقولون : إنهم يمنعون ويحظرون عما طمعوا وقصدوا بعبادتهم الملائكة والأصنام التي عبدوها ، حيث قالوا : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] فيقول : يمنع عنهم ما قصدوا وطمعوا بعبادتهم.

أو يكون المنع : ثواب الخيرات التي عملوها في هذه الدنيا من صلة الأرحام والصدقات ونحوها ، مما هي في الظاهر خيرات منعوا ثوابها في الآخرة ؛ كقوله : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) [الكهف : ٣٦] ، وقوله : (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠] ونحو ذلك كله ، والله أعلم.

وقوله : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) : هو ما ذكرنا من الأعمال عملوها في هذه الدنيا رجاء أن يصلوا إليها في الآخرة ، فجعلناها هباء منثورا.

قال أهل التأويل (٢) : (وَقَدِمْنا) أي : عمدنا وقصدنا إلى ما عملوا من عمل.

لكن عندنا : جعلنا أعمالهم تلك في الأصل هباء منثورا.

وقال بعضهم : منبثا وهو رهج (٣) الدواب.

وقال بعضهم : الهباء المنثور : هو غبار الثياب.

وقال بعضهم (٤) : هو الغبار الذي يكون في شعاع الشمس ، وهو الذي يسمى : الذر.

وقال بعضهم قوله : (حِجْراً مَحْجُوراً) أي : عوذا معاذا ، يقول : المجرمون يستعيذون من الملائكة (٥).

__________________

(١) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير (٢٦٣١٨) ، وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٢١) ، وعن مجاهد أخرجه الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في المصدر السابق.

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٦٣٢٤) و (٢٦٣٢٥) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٢١).

(٣) ثبت في حاشية أ : الرهج : الفساد. شرح.

(٤) قاله عكرمة والحسن ومجاهد ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٦٣٢٦) و (٢٦٣٢٧) ، و (٢٦٣٢٨) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٢٢).

(٥) ثبت في حاشية أوالتحجير ـ أيضا ـ : أن تسم حول عين البعير بميسم مستدير. شرح.

١٩

قال أبو عوسجة : (وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) : هو من التكبر ، ويقال : من الخلاف : عتا عتيا ؛ إذا خالف ، يقال في الكلام : لا تعت علي ، أي : لا تخالفني.

وقال بعضهم : هو من الشدة واليبس ؛ كقوله : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) أي : يابسا.

وقال : (حِجْراً مَحْجُوراً) أي : حراما محرما ، وحجرت عليه ماله ، أي : منعته من ماله أحجر حجرا. ويقال : حجرت عينه ، أي : لطخت أجفانها بشيء من الدواء.

وقوله : (هَباءً مَنْثُوراً) أي : لا شيء ، والهباء : هباء النار ، أي : رمادا يكون على أعلى النار إذا خمدت ويقال : هبت النار تهبو هبوا إذا خمدت والجمرة على حالها ، إلا أنه قد غطاه ذلك الهباء ، وكل شيء ليس لشيء فهو هباء ، وتقول : هذا هباء ، أي : لا شيء ، ومنثور : قد نثر.

وقوله : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) : وصف عزوجل أعمال الكفرة مرة بالهباء المنثور ، ومرة بالرماد ، ومرة بالسراب ، ومرة بالتراب الذي يكون على الصفوان ، وهو الحجر الأملس إذا أصابه الوابل. ووصف أعمال المؤمنين بالثبات والقرار ونحوه.

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : «لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل النار في النار ، وأهل الجنة في الجنة ثم قرأ : أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا» (١). وكذلك ذكر في حرفه في سورة الصافات : (ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ) قرأ هو : إن مقيلهم لإلى الجحيم أي : إلى الجحيم.

ويشبه أن يكون ذكر هذا لقولهم : (أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) أي : لنا أموال وجنات ، وليس له من ذلك شيء ، فقال جوابا لهم : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً).

وقوله : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) : وصف السماء لهول ذلك اليوم بأوصاف وذكر لها أحوالا ، فقال في آية أخرى : (وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) [التكوير : ١١] ، و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] ، و (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] ، وقال : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) [الأنبياء : ١٠٤] ، و (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) [الرحمن : ٤٨] ونحو ذلك ، وذلك في اختلاف الأوقات ، يكون في كل وقت على الحال التي وصف ؛ وكذلك ما

__________________

(١) أخرجه ابن المبارك في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٢٢).

٢٠