تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

وإمّا للذكر بعد الوفاة.

وكذلك الأموال يطلب منها ما ذكرنا :

الانتفاع بها في حال الحياة.

وإمّا للمعونة على الأعداء.

أو الذكر بعد الموت ؛ لخيرات يتركونها ، فإذا صرفوها إلى ما أمرهم إبليس أشركوه فيها ، ومشاركته إياهم في الأموال هي أن يأمرهم ويدعوهم إلى اكتساب ما يحرم ، والإنفاق فيما لا يحل وفي الأولاد ، وكذلك يأمرهم بالمعصية ، ويدعوهم إليه فيطيعونه ويجيبونه في ذلك ، فذلك ـ والله أعلم ـ مشاركته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعِدْهُمْ).

قال عامة أهل التأويل : أي : وعدهم أن لا جنة ، ولا نار ، ولا بعث ، لكن يعدهم بخلاف ما وعد الله ، وخوفهم على ضدّ ما خوفهم الله : ما كان من الله لهم وعد رجاء يكون منه وعد [خوف](١) ، وما كان من الله [وعد خوف](٢) يكون منه وعد رجاء ؛ وهو ما قال : (إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) [إبراهيم : ٢٢] : أخبر أن ما وعد هو قد أخلف ، فذلك تأويل قوله :

(وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً) ، أي : كذبا وباطلا ؛ لأنه يخرج كله على خلاف ما وعد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) :

يحتمل قوله : (سُلْطانٌ) وجوها ثلاثة :

أحدها : القدرة والقهر.

والثاني : في الحجة والبرهان.

والثالث : الولاية.

فأما القدرة والقهر : فليس له عليهم ذلك ؛ لأنه لم يجعل له قدرة القهر عليهم شاءوا أو أبوا ، وكذلك ليس له عليهم الحجة فيما يدعوهم إليه ويأمرهم به ، كقوله يوم القيامة حين يقول : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ ...) الآية [إبراهيم : ٢٢].

وأمّا سلطان الولاية فإن له ذلك على من اختار اتباعه وتوليه ؛ كقوله : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) [النحل : ١٠٠] ، وقوله : (إِنَّ عِبادِي) المخلصين الذين أخلصوا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : وعيد وخوف.

٨١

إلىّ ، (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) يحتمل قوله : (سُلْطانٌ) ، أي : حجة ؛ لأنهم إنما يتبعون أمر الله بحججه ؛ فلا يتبعون الشيطان بأمانيه التي يمنيهم ، وشبهاته التي يشبه عليهم.

أو أن يكون قوله : (لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ، أي : سلطان القهر والغلبة ؛ إنما له عليهم الدعاء والتزيين لا غير.

أو أن يكون قوله : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) : من الحجة والملك على ما ذكرنا ؛ إنما سلطانه عليهم سلطان الولاية على الذين يتولونه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً).

يحتمل : (وَكِيلاً) : عاصما يعصمك عن تمويهاته وتسويلاته ، وناصرا ينصرك على مكايده ، أو مفزعا تفزع إليه ، أو معتمدا تعتمد عليه في جميع أمورك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً)(٧٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ).

(يُزْجِي) يجري ويسير ويسوق الفلك في البحر.

قال الحسن : أي : سخر الفلك والسفن لنا في البحر ، والدّواب في البر ؛ لنقطع بها البحار والمفاوز والبراري ؛ لنصل بذلك إلى حوائجنا التي جعلت لنا في البلدان النائية والأمكنة البعيدة.

وكذلك قال في قوله ـ تعالى ـ : (يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [يونس : ٢٢] ، أي : سخر لنا ذلك.

ونحن نقول كذلك : سخر لنا ما ذكر ، إلا أن إضافة ذلك إليه على قولنا (١) : إن أفعالنا مخلوقة له (٢). ثم يذكر فيه قدرته وسلطانه وعلمه حيث خلق الخشب ، وجعل فيه معنى : يقر على وجه الماء مع ثقله ، ومن طبع الشيء الثقيل التسرب في الماء والتسفل فيه ، ولا

__________________

(١) زاد في ب : هو خلق سيرنا وجريتنا وفي البر وفي البحر على قولنا.

(٢) في ب : لنا.

٨٢

نفهم (١) المعنى الذي به تقر على وجه الماء ، وإن كان دون ذلك في الثقل يتسفل فيه ويتسرب.

أو جعل ذلك بطبعه بحيث يقر على وجه الماء ولا يتسرب فيه ؛ لطفا منه ؛ فمن قدر على إنشاء ما يقر على وجه الماء لمعنى جعل فيه لا نعقله نحن ، أو بلطفه ـ لقادر على إنشاء هذا الخلق وإعادته بعد فنائه وذهابه ، وإن كانت عقول الخلائق لا تدرك ذلك ، وأفهام البشر تعجز عن دركه ؛ فكما قدر على إنشاء ما هو طبعه التسرب في الماء والتسفل فيه ، بحيث يقرّ ويركد على الماء يقدر على ما ذكرنا ، وحيث قدر على تسكين الأمواج في البحر ؛ ليعبر فيها ، وخلق رياحا فيها لتجرى السفن كما تجري بالماء الجاري ؛ فمن قدر على هذا يقدر على ما ذكرنا من الإحياء بعد الفناء.

وفيه ما ذكرنا من تذكير نعمه لنا ؛ لنشكره ، وتذكيره قدرته وسلطانه ؛ لنهاب منه ، ولا ننكر قدرته وسلطانه في شيء من الأشياء على ما أنكر قدرته بعض خلقه ؛ لقصور عقولهم عن درك ذلك. وفيه وجوه من الدلالة :

أحدها : تعليم الأسباب التي بها يوصل إلى قطع البحار والبرارى من اتخاذ السفن والحمل عليها وغير ذلك.

والثاني : تسخير البحار والبراري لنا ما لو لا ذلك ما تهيأ لنا استعمال ذلك.

والثالث : دلالة الرسالة ؛ إذ لو لا خبر السماء ، وإلا : ما يعرف أن ما يحتاج إليه هو في تلك البلدان النائية والأمكنة البعيدة ، وما يعلم أن ذلك الطريق يفضي إلى تلك الأمكنة إلا بخبر الرسول عن الله ، تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً).

قال بعضهم : أي : من رحمته أن جعل لكم الفلك والدواب ؛ لتصلوا بها إلى أرزاقكم التي في البلاد النائية البعيدة.

وقال بعضهم : إنه لم يزل بكم رحيما إذا تبتم ورجعتم عن ذلك.

أو كانت الآية في المؤمنين ؛ فهو لم يزل بهم رحيما ، وإن كانت في الأرزاق فيهم جميعا.

فإن قالت الثنوية : إنكم تصفون ربكم (٢) بالرحمة والرأفة ، وهو يميتكم ، ويقتلكم ، ويحمل عليكم الشدائد والمؤن العظام ؛ فذلك ليس من صفة الرحيم.

__________________

(١) في أ : ولأنفسهم.

(٢) في أ : تصورتم بربكم.

٨٣

قيل : إنا قد ذكرنا لكم في غير موضع جواب السؤال : إن المرء رحيم على نفسه ، وله الرحمة والشفقة عليها ، ثم مع ذلك يحمل على نفسه الشدائد والمؤن العظام ؛ لما يأمل من النفع في العاقبة : من نحو الحجامة ، والافتصاد ، وشرب الأدوية الكريهة ، ما لو لا [ما] يأمل من النفع في العاقبة ـ ما تحمل ذلك.

وكذلك الوالدان فيهما من الرحمة والرأفة لولدهما ما لا يخفى ذلك على أحد ، ثم يحملان على ولدهما ما ذكرنا من الشدائد والمؤن العظام ؛ لما يأملون من النفع لهم في العاقبة ، ثم لا يمنع ذلك من الوصف بالرحمة والرأفة ؛ فعلى ذلك الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يمنع ما يحمل علينا من الشدائد عن أن يوصف بالرحمة ، ولا يخرجه ذلك عن الحكمة ؛ بل هو على ما قال : (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف : ٦٤ ، ٩٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) :

أي : بطل ما كانوا يأملون من عبادتهم الأصنام إلا العبادة التي كانت لله ؛ فإنه لم يبطل ما يؤمل من عبادتهم إياه ؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان ، ويقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] : فأخبر ـ عزوجل ـ عن سفههم ؛ لعبادتهم الأصنام ، وعجزهم عما يأملون منها في الآخرة ، حيث لم يملكوا دفع شيء مما مسهم ، وكشف ما أصابهم في الدنيا ؛ فكيف يأملون ذلك في الآخرة.

أو أن يكون (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) ، أي : ضل الآلهة التي عبدوها دون الله إلا إله الحق المستحق للعبادة ؛ فإنه أعانكم ونجاكم من الهلاك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) :

هكذا كانت عادتهم أنهم إذا خافوا الهلاك على أنفسهم ـ أخلصوا الدعاء لله ، كقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥] الآية ، وكقوله : (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ*. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ ...) [يونس : ٢٢ ، ٢٣](إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) [الروم : ٣٣] [ونحوه](١).

ويحتمل قوله : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) عن وفاء ما عهدتم ، وإنجاز ما وعدتم ؛ لأنهم قالوا : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ، فأعرضوا عن هذا الوعد ، ولم يوفوا ذلك.

__________________

(١) سقط في أ. وقد خلط المؤلف بين آيتي يونس والروم.

٨٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً).

لنعم ربّه ، يذكر سفههم من وجهين :

أحدهما : عبادتهم من يعلمون أنه لا ينعم عليهم في حال الرخاء ، ولا يدفع عنهم البلاء في حال الشدة.

والثاني : أن في [الشاهد من](١) أنعم على آخر نعمة ، وأحسن إليه ـ يشكر له ويثني عليه ، وإذا حلّ به بلاء وشدة من أحد من الخلائق يدعو عليه ويلعنه ، فمعاملة أولئك الكفرة مع الله على خلاف معاملة الخلق بعضهم بعضا : يخلصون له الدعاء في حال الشدة والبلاء ، ويكفرون نعمه في حال الرخاء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) :

على ما خسف قوما في البر ، (أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً).

على ما أرسل على قوم من الحصباء ، وهي الحصى ؛ فأهلكهم ، (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً) : ناصرا ينصركم ، أو معتمدا تعتمدون عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى).

أي : يحوجكم إلى ركوب البحر مرة أخرى ، (فَيُغْرِقَكُمْ) بما كفرتم.

أو يذكر هذا أن من قدر على إنشاء ما ذكر من الفلك وإجرائها في البحر ، وتسكين أمواجه ودفع أهواله عنكم ـ لقادر على إهلاككم في البر ، وإعادتكم في البحر ثانيا ، وإغراقكم فيه.

وفى قوله : (يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ) وقوله : (يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) ـ دلالة أن لله في فعل العباد صنعا ؛ لأنهم هم الذين يسيرون في البحر ، وهم الذين يجرون الفلك فيه.

ثم أضاف الإجراء إلى نفسه ، وكذلك السير ؛ ليعلم أن له فيه صنعا وفعلا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) :

[قال بعضهم : (تَبِيعاً)](٢) أي : من يتبعنا بدمائكم ، ويطالبنا بها.

وقال أبو عوسجة : التبيع : الكفيل ، ويقال : المتقاضي في موضع.

وقال غيره : هو من التبعة ، أي : لا تجدوا لكم علينا به تبعة ، وهو ما ذكرنا.

وقال القتبي (٣) : الحاصب : الريح ؛ سميت بذلك ، لأنها تحصب ، أي : ترمي

__________________

(١) في أ : الشاهدين.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (٣٥٩).

٨٥

بالحصباء ، وهي الحصى الصغار ، والقاصف : الريح الشديدة التي تقصف الشجر ، أي : تكسرها. وكذلك قال أبو عوسجة : القاصف : الشديدة من الرياح.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) :

كرمهم بأن خلقهم في أحسن صورة ؛ كقوله : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) [غافر : ٦٤] ، وقومهم في أحسن تقويم وأحسن قامة ؛ كقوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين : ٤] ، وكرمهم بأن ركب فيهم العقول التي بها يعرفون الكرامات من الهوان ، ويعرفون بها المحاسن من المساوي ، والحكمة من السفه ، والخير من الشرّ ، وكرمهم بأن جعل لهم لسانا يتكلمون بها الحكمة وكل خير ، وبها يتوصلون إلى درك الحكمة وجمعها ، وكرمهم بأن جعل أرزاقهم أطيب الأرزاق وجعل لغيرهم ما خبث منها وما فضل منهم ، وكرمهم بأن خلق جميع ما على وجه الأرض لهم ؛ كقوله : (خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة : ٢٩] ، وكرمهم بأن سخر لهم جميع الخلائق : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] ، وجعل بني آدم هم المقصودون بخلق جميع الخلائق ونحوه ، وكرمهم حيث جعلهم بحيث يتهيّأ لهم استعمال السماء والأرض ، واستعمال الشمس والقمر ، واستعمال البحار والبراري ، وجميع الصعاب والشدائد في حوائجهم ومنافعهم ما لا يتهيّأ لغيرهم من الخلائق ذلك ؛ فذلك تفضيلهم.

وجائز أن يكون كرم بني آدم ؛ لأنه كرم آدم ، [وكرم آدم](١) ؛ لأنه أسجد ملائكته له ، وبعثه رسولا إليهم ؛ حيث قال : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [البقرة : ٣٣] ؛ فلما كرم آدم صار بنوه مكرمين ـ أيضا ـ ولهذا نقول بأن الأب يصير مشتوما بشتم ابنه.

وما قال أهل التأويل : إنه فضل بني آدم على غيرهم من الحيوان والدواب ؛ حين أكلوا وشربوا هم بأيديهم وسائر الدّواب يأكلون بأفواههم ـ هذا الذي ذكروا هو من التفضيل ، إلا أن ذكره له خاصة ليس فيه كثير حكمة وفضل ؛ لكن فضلهم وكرمهم بما ذكرنا من وجوه الكرامات ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

هذا تفسير ما ذكر من تكريم بني آدم وتفضيله إياهم ، ثم يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : أن جعل لهم البر والبحر مسخرين ؛ حتى يصلوا إلى ما في باطن البحر وظاهره من أنواع المال والمنافع.

__________________

(١) سقط في أ.

٨٦

وكذلك البر سخر لهم ؛ حتى يصلوا إلى ما في باطنه من الأموال والمنافع وظاهره.

والثاني : أن جعلهم بحيث يقضون حوائجهم التي كانت لهم من وراء البحر ووراء البرّ ـ ما لم يجعل ذلك لغيرهم من الخلائق ـ قضاء الحوائج من ورائهما ، وذلك معنى تفضيلهم الذي ذكر ، ثم ما ذكر على أثر قوله : (كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ، هو تفسير تفضيله وإكرامه ؛ حيث قال : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ).

وجائز أن يكون ما ذكر من تكريم بنى آدم وتفضيله إياهم ـ هو ما جعل فيهم من الأنبياء ، والرسل ، والأتقياء ، والأخيار منهم ـ ما لم يجعل ذلك من غيرهم ؛ ألا ترى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قال : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) الآية [المائدة : ٢٠].

وقوله : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ).

هو ما ذكرنا : أن جعل أرزاقهم وغذاءهم ما بلغ في الطيب غايته ، ولا كذلك غذاء غيرهم من الدّواب ورزقهم ؛ لأنهم لا يأكلون إلا بعد أن يستخرجوا منه ما فيه من أذى وخبث وخشونة : من النخالة وغيرها ، وفي الطبخ والنضج حتى يبلغ في الطيب واللين غايته. وأمّا غيرهم من الدواب فإنما يأكلون كما هو نيئا غير مطبوخ ولا نضيج ، وفيه من الخبث والأذى.

(وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً).

أمّا بعض أهل التأويل فإنه قال : فضلناهم على كثير ممن خلقنا : على الجن والشياطين ، وأصحابهم غير الملائكة.

وقال بعضهم : على كثير ممن خلقنا : من الحيوان والدواب ، (تَفْضِيلاً) : بالأكل بالأيدى ، وجعل رزقهم من غير رزق الدواب.

ويحتمل (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) : ممن على وجه الأرض من الجن وغيرهم ؛ لما لم يرسل إلى الجن رسول منهم ، ولا أنزل عليهم كتاب على حدة ، وما جعل أرزاقهم مما يفضل من البشر من العظام والسرجين وغيره ، على ما ذكر ؛ فذلك وجه تفضيلهم عليهم.

وأمّا الكلام في تفضيل البشر على الملائكة والملائكة على البشر ـ فإنّا لا نتكلم في شيء من ذلك ؛ [لما](١) لا نعلم ذلك ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة ؛ فالأمر فيه إلى الله في تفضيل هؤلاء على هؤلاء ، وهؤلاء على هؤلاء ، ليس إلينا من ذلك شىء ، ولا جائز أن يجمع بين أشرّ البشر وأفسقهم وبين الملائكة الذين لم يعصوا الله طرفة عين ، فيقال : هم أفضل من الملائكة ؛ ولكن إن [كان] لا بد فإنما يجمع بين الأنبياء والرسل

__________________

(١) سقط في أ.

٨٧

وأتقى الخلائق وبين الملائكة ، فيتكلم حينئذ بتفضيل بعض على بعض ؛ فهو ما ذكرنا أن الأمر في ذلك إلى الله ، ليس إلينا من ذلك شيء ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً)(٧٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ).

قال الحسن : هذا صلة قوله : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) ، فيقول : أي : يوم ندعو كل أناس بإمامهم.

ثم اختلف في قوله : (بِإِمامِهِمْ).

قال بعضهم : ندعو بإمامهم ، أي : بدينهم الذي دانوا به وذبوا عنه ، ويدعى كل بدينه الذي دان به وذبّ عنه.

وقال بعضهم (١) : (بِإِمامِهِمْ) ، أي : برؤسائهم وأئمتهم الذين أضلّوهم ، أي : يدعى الأتباع بأئمتهم ورؤسائهم الذين أضلّوهم حتى يلوم بعضهم على بعض ، ويلعن بعضهم على بعض ، ويتبرأ بعضهم من بعض ؛ كقوله : (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا ...) الآية [البقرة : ١٦٦] ، وقوله : (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) [العنكبوت : ٢٥] ، وقوله : (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ : ٣١] يدعى الأتباع بالمتبوعين.

وقال بعضهم : يدعى كل أناس بداعيهم الذي دعاهم : إن كان رسولا فبالرسول ، وإن كان شيطانا فبالشيطان ، وهو قريب مما ذكرنا.

وقال بعضهم (٢) : (بِإِمامِهِمْ) : كتابهم الذي كتب (٣) الملائكة أعمالهم فيه.

وقال بعضهم (٤) : يدعى بكتابهم الذي أنزل عليهم ، يدعى كل بما ذكر ؛ ليعلموا أن الحجة قد قامت عليهم ، ووجب لهم العذاب باتباعهم ما اتبعوا بلا حجة ولا برهان.

وحاصل أقاويل هؤلاء ترجع إلى وجوه ثلاثة :

__________________

(١) قاله ابن عباس ، كما في تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (١ / ٢٥٩).

(٢) قاله ابن عباس والحسن والضحاك ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٢٥٢١) و (٢٢٥٢٣) و (٢٢٥٢٤).

(٣) في ب : التي كتبت.

(٤) قاله ابن زيد ومجاهد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٢٥٢٦) و (٢٢٥٢٧).

٨٨

أحدها : يوم ندعو إمام كل أناس : كان إمامهم في خير أو شر فيجزى له جزاؤه ، ثم يكلف هو دعاء أتباعه إلى ما أعد لهم من الثواب والعقاب.

والثاني : يدعى كل إمام ورئيس في خير أو شرّ بأتباعه الذين يتبعونه فيما يدعوهم إليه نحو كل رسول يدعى بقومه الذين اتبعوه ، وكل رئيس وشيطان استتبعهم.

والثالث : (بِإِمامِهِمْ) : كتابهم الذي كتب لأعمالهم الذي كتبوا ؛ كقوله : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً) [الإسراء : ١٣] ، ونحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ) :

كلهم قد يقرءون كتابهم ، غير أن المؤمن إذا نظر في الكتاب ـ فرح به واستبشر بما فيه ؛ فسهل عليه القراءة ، وهانت لما كان يتبع حجج الله.

وأمّا الكافر إذا نظر في الكتاب ، حزن واغتم به ؛ فعسر عليه قراءة كتابه ، وهو كقوله : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) الآية [الحاقة : ١٩ ، ٢٠] ، ويقول الكافر : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ ...) الآية [الحاقة : ٢٥] ؛ لأنه اتبع ما اتبع بلا حجة.

أو أن يكون المؤمن إذا نظر في كتابه ، رأى سيئاته مغفورة ، كقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) [الأحقاف : ١٦] ـ فرح بذلك ، والكافر إذا رأى سيئاته باقية عليه ، وحسناته قد بطلت ـ حزن بذلك واغتم ؛ لذلك قال ما قال ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً).

قال بعضهم : من كان في هذه الدنيا أعمى عن توحيد الله والإيمان به مع كثرة آياته ودلالته على وحدانيته ـ فهو عن الإيمان بالآخرة والبعث بعد الموت ـ أعمى.

وقال بعضهم : من كان في هذه الدنيا أعمى عن الحق ـ فهو في الآخرة أعمى عن حججه ؛ لأنه إذا عمي عن الحق نفسه فهو عن حججه أعمى ؛ فتكون (في) بمعنى (عن) ؛ إذ الآيات والدلالات على وحدانية الله أكثر وأظهر من الدلالة على البعث والآخرة ؛ إذ ليس شيء إلا وفيه أثر وحدانيته ودلالة ألوهيته ، ولا كذلك الآخرة ؛ فهو عن الإيمان بها أشد عمى.

وقال بعضهم : من عمي في هذه الدنيا عن الإيمان بالله ـ فهو في الآخرة أعمى عن الإيمان به ؛ لأن الدنيا مما يقبل فيها الإيمان ، وفي الآخرة لا يقبل ؛ وهو ما قال : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) [سبأ : ٥٤] ، أي : حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان به ، (كَما

٨٩

فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) [سبأ : ٥٤] ، أي : كما حيل بين أشياعهم وبين الإيمان به ، عند معاينة بأس الله وعذابه ، وهو قول الحسن.

وقال أبو بكر قريبا من هذا ، وهو أن من عمي عن الرشد والحق في هذه الدنيا ؛ لجهله به ـ فهو في الآخرة عند علمه بالرشد والحق أشد عمى ، أو كلام نحو هذا.

وقال بعضهم : من عمي قلبه في الدنيا عن الإيمان بالله والتوحيد له ـ فهو في الآخرة يكون أعمى الوجه والحواس ؛ كقوله : (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) [طه : ١٢٥] ، وكقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا ...) الآية [الإسراء : ٩٧] : ما ذكر ذاهبة حواسهم لما تركوا الانتفاع بها في الدنيا لما جعلت لهم الحواس.

ويشبه أن يكون قوله : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) : بالافتراء على الله (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) ، أي : مفتر على الله ـ أيضا ـ كقوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، ونحوه : يفترون في الآخرة ويكذبون كما كذبوا في الدنيا ، وكقوله : (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف : ٥٣] ، ثم أخبر عنهم فقال : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) [الأنعام : ٢٨].

وقال قتادة (١) : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى) : يقول : ومن كان في الدنيا فيما أراه الله من آياته من خلق السموات والأرض والجبال والنجوم أعمى (فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ) الغائبة عنه التي لم يرها ـ (أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) ، وهو قريب مما ذكرنا.

وقال ابن عباس (٢) ـ رضي الله عنه ـ ومن كان في هذه النعم أعمى أن يعلم أنها من الله ـ فهو في الآخرة أعمى عن حجته ، ويقال : عن دين الله ، وأضل طريقا ، ويقال : أضل عن حجته.

وقال غيره من أهل التأويل : من كان في هذه النعم أعمى ـ يعني : الكافر ـ عمي عنها ، وهو يعاينها ؛ فلا يعرف أنها من الله فيشكر ربها ؛ فهو في الآخرة أعمى ، يقول : عما غاب عنه من أمر الآخرة من البعث والجزاء ـ أعمى وأضل سبيلا وأخطأ طريقا ، وبعضه قريب من بعض ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٢٥٣٢) و (٢٢٥٣٣) ، وأبو الشيخ في العظمة كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٢).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٢٥٣٠) ، وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٢).

٩٠

وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً)(٧٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ).

دل هذا على أنه قد كان من الكفرة شيء من الدعاء إلى شيء : يصير به مفتونا لو أجابهم إلى ذلك ، وكذلك كانت عادة الكفرة : كادوا أن يضلّوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويفتنوه عن الذي أوحي إليه ، ويصرفوه عنه ، كقولهم : (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) [يونس : ١٥] ، هكذا كانت عادتهم : كانوا يطلبون منه الافتراء على الله والضلال على وجه المكر به ، لا ضلال تصريح وكفر تصريح ؛ ولكن معنى (١) ؛ يؤدى ذلك إلى الضلال والكفر ، يريدون منه المساعدة لهم في بعض ما هم فيه بما كانوا يرونه من الموافقة له والمساعدة ، لكن الله عصم رسوله عن جميع ما كانوا يطلبون منه ؛ بالآيات والحجج التي ذكر في كتابه ، وبالعقول ؛ كقوله : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ...) الآية [النساء : ٦٥] : أخبر أنهم لا يؤمنون حتى لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضى. ومن لم يكن معصوما يجوز أن يوجد منه حرج مما قضى به ، وكقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [الأحزاب : ٥٧] ، ومن لم يكن معصوما يجوز أن يؤذي ولا يلحقه اللعنة ، وقوله : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ ...) الآية [الأحزاب : ٣٦] ، فمن لم يكن معصوما يجوز أن يكون الخيرة من أمره ، وقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأنفال : ١] ، وأمثاله [من الآيات](٢) مما يكثر عدّها.

وكذلك العقول تشهد أنه كان معصوما ؛ فمن أراد أن يصرف ويزيل عنه العصمة بتأويل يتأوّله في بعض الآيات ، أو بحديث يرويه ـ فإنا لا نقبل تأويله ، ولا خبره الذي روى ، ونشهد أنه كذب.

ويجوز أن يكون في خبره الذي روى معنى آخر سواه ؛ فليس له أن يروي إلا بالمعنى الذي كان فيه ؛ فتأويل أهل التأويل أنه ألقى الشيطان ولقنه عند تلاوته : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ، ٢٠] ـ تلك الغرانيق العلى ، وشفاعتهن ترتجى.

وقال بعضهم (٣) : لا ندعك تستلم الحجر إلا أن تستلم آلهتنا ، ونحوه.

__________________

(١) في أ : يعني.

(٢) سقط في أ.

(٣) قاله سعد بن جبير أخرجه ابن جرير (٢٢٥٣٦) ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٢) ، وهو قول قتادة ومجاهد وغيرهما.

٩١

إن ذلك كله فاسد خيال ؛ أنه كان لا يحوم حول أصنامهم في حال صغره ، ولا رأوه دنا منها ؛ حتى لم يطمعوا ذلك منه ما دام صغيرا ؛ فكيف طمعوا ذلك الاستسلام لها بعد ما أوحي إليه وصار رسولا؟!

وكذلك ما ذكروا أنهم طلبوا منه أن يطرد بعض الذين اتبعوه ـ عنه ؛ ليكونوا هم أتباعه ؛ فهم أن يفعل ذلك فنزل : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، لكن ذلك كله فاسد خيال ، لا يحتمل ما توهموا فيه ؛ لأنهم لم يعرفوه حق معرفته ، وإلا لو عرفوه حقيقة (١) المعرفة ما توهموا فيه شيئا من ذلك ، وبالله التوفيق والمعونة.

ثم قوله : (لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ).

قد ذكرنا أن عادتهم ذلك إلا أن الله عصمه عن ذلك.

ثم قوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) :

فظاهر الآية يرد جميع ما قال أهل التأويل في هذه الآية ؛ لأنه يقول : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) : أخبر أنه قد ثبته ؛ فلم يركن ؛ لأنه أخبر أنه قد ثبته ؛ فلم يكد أن يركن إليهم. وقال : (شَيْئاً قَلِيلاً) : سمي ذلك : شيئا يسيرا ، ولو كان ما قال أولئك لكان شيئا كبيرا عظيما ، بل يبلغ الكفر ؛ دلّ أنه لم يكن ما ذكروا ، وقال : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) ، و (كاد) : هو حرف بمعنى : قارب ، أي : قارب أن يركن ؛ كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ) [مريم : ٩٠] ، أي : قارب أن يتفطرن ، وليس فيه أنه ركن إليهم ؛ فقولهم فاسد للوجوه التي ذكرنا [أحدها : أنه ذكر](٢) ، (شَيْئاً قَلِيلاً) : وما قالوا : كبير عظيم يخاف أن يبلغ الكفر.

والثاني : قال (كِدْتَ) ، وهو حرف تقارب.

والثالث : ذكر على الشرط : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) ؛ فلم يركن لما ثبته ، وهو ما قال إبراهيم : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) [الانبياء : ٦٣] ، وما ذكرنا في قصّة يوسف : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) [يوسف : ٢٤] : ليس فيه أنه هم ، ولا فيه أنه ركن ؛ لأنه خرج على الشرط.

وقال الحسن في قوله : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) ، أي : هممت ، لكنه هم به هم خطر خطره إبليس. وكذلك قال في قصّة يوسف : همت به همّ عزم ، وهم بها هم خطر.

__________________

(١) في ب : حق.

(٢) سقط في أ.

٩٢

وقال غيره (١) : أرادوا منه أن يجعل لهم مجلسا على حدة ؛ ليسلموا ، فهمّ به أن يفعل ذلك ؛ لحرصه على إسلامهم ، وإشفاقا عليهم ، فمثل هذا يجوز الفعل إلا أن الرسل لا يجوز لهم أن يفعلوا شيئا ، وإن صغر ، إلا بإذن من الله ـ تعالى ـ ألا ترى أن يونس ـ عليه‌السلام ـ لما خرج من عند قومه مغاضبا عليهم بغير إذن منه ـ عاتبه ربه بذلك معاتبة عظيمة ؛ حيث قال : (فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصافات : ١٤٣ ، ١٤٤] ، ومثل هذا لو فعله غيره من دونهم كان ممدوحا محمودا في ذلك ؛ فهذا يدل أن الأنبياء لم يكن لهم صنع شيء وإن قل إلا بإذن من الله ، والله أعلم (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) :

أي : ضعف عذاب الحياة ، وضعف عذاب الممات.

وقال أبو عوسجة : (ضِعْفَ الْحَياةِ) ، أي : مثل الحياة.

وغيره قال : (ضِعْفَ الْحَياةِ) : عذاب الدنيا ، (وَضِعْفَ الْمَماتِ) : عذاب الآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) ، قيل : مانعا.

وقيل : ناصرا ينصرك ، وشافعا يشفعك [إلينا](٣) ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها) :

قال الحسن : قوله : (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ، أي : كادوا ليقتلونك ، وليخرجوك منها بالقتل ، وقد كانوا هموا قتله ، لكن الله عصمه عن ذلك ؛ بقوله : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً) :

هكذا كان سنة الله في الأمم الخالية أنهم إذا قتلوا نبيهم : لم يلبثوا بعده إلا قليلا حتى أهلكوا. وقال بعضهم : هو على الإخراج نفسه ، إلا أن الله أخرجه إخراج هجرة إلى المدينة لما سبق من رحمته وفضله ألا يهلك هذه الأمة إهلاك استئصال ؛ فلو كانوا هم أخرجوه ـ لاستوجبوا به الإهلاك ؛ لما كان من سنته في الأولين إهلاكهم إذا أخرجوا رسولهم من بينهم.

وقال بعضهم (٤) : على حقيقة الإخراج منهم : أخرجوا رسول الله من بينهم ، وفعلوا

__________________

(١) قاله جبير بن نفير أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٢).

(٢) ينظر : اللباب (١٢ / ٣٥١).

(٣) سقط في أ.

(٤) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٢٥٥٠) ، و (٢٢٥٥١) ، وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٣) ، وهو قول مجاهد أيضا.

٩٣

ذلك ؛ فلم يلبثوا بعده إلا قليلا ، حتى أهلكهم الله بالقتل يوم بدر وغيره ، وهو ما قال : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ) [محمد : ١٣] : ففيه دلالة أنهم أخرجوه ، وأنهم أهلكوا بذلك ، وكذلك كانت سنة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك.

وقال أهل التأويل في قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ) ، أي : ليستنزلونك من أرض المدينة ؛ حيث نزل بالمدينة ؛ قالت له اليهود : إن هذه الأرض ليست بأرض الأنبياء والرسل إنما أرض الأنبياء والرسل أرض الشام ؛ فإن كنت نبيّا رسولا فاخرج إليها فخرج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم متوجها إلى الشام ، فعسكر على رأس أميال ؛ لينتاب إليه أصحابه ؛ فنزل به جبريل بهذه الآية (١) ، لكن ذكرنا أن هذا وأمثاله لا يحتمل ؛ لأنه لا يجوز أن يخرج رسول الله من أرض المدينة إلى أرض الشام بقول أولئك اليهود ، من غير أن كان من الله إذن له في ذلك ، هذا لا يحتمل ولا يتوهم منه ذلك ، والوجه فيه ما ذكرنا ، والله أعلم.

ويشبه أن يكون قوله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، أي : كادوا أن يفتنونك بالمكر والكيد والخديعة لك ؛ ليستفزونك من الأرض ، لا أنهم كانوا يطمعون أن يفتنوه ويضلوه عن الذي أوحي إليه على التصريح والإفصاح ؛ ولكن على جهة المكر به والخديعة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا) :

على قول الحسن : السنة في الأمم الذين قبله : أنهم إذا قتلوا الرسول أهلكوا أو (٢) عذبوا.

وعلى قول بعضهم : السنة فيهم : أنهم إذا أخرجوا الرسول من بينهم ؛ على علم منه : أنهم لا يؤمنون ، بعده الإهلاك. وعلى قول بعضهم : على الإخراج نفسه ، وهؤلاء قد أخرجوا رسولهم من بينهم بقوله : (إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ ...) الآية [التوبة : ٤٠].

وقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ) [محمد : ١٣] ، لكنهم عذبوا تعذيب رحمة وإهلاك رحمة ، لا إهلاك استئصال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً). أي : لعذابنا تحويلا.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنمه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٣).

(٢) في أ : و.

٩٤

قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً)(٨٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَقِمِ الصَّلاةَ).

يحتمل الأمر بإقامة الصلاة : الأمر بالدوام عليها واللزوم بها ، أي : الزم بها وأدها.

أو اسم التمام والكمال ، أي : أتممها وأكملها بالشرائط التي أمرت بها.

ويحتمل قوله : (أَقِمِ) : فعلها ، ولم يفهم من قوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ) الانتصاب على ما ينصب الشيء ويقام به ؛ فدلّ أنه لا يفهم من الخطاب ظاهره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ).

اختلف فيه : قال بعضهم (١) : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) زوالها (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ، أي : إلى ظلمة الليل (٢)(وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) ، أي : صلاة الفجر ، فيقول [بعض](٣) الناس : في هذه الآية بيان أوقات الصلوات الخمس جميعا ؛ لأنه ذكر أول ما يجب من الصلاة وهي الظهر إلى ما ينتهي وهي الفجر ؛ فعلى هذا التأويل (إِلى) لا تكون غاية ، ولكن تكون كأنه قال : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ، والله أعلم.

[وقوله ـ عزوجل ـ : (لِدُلُوكِ) اختلف فيه :

قال بعضهم : دلوك الشمس : زوالها (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ، أي : إلى ظلمة الليل](٤).

ومنهم من يقول : فيه ذكر صلوات النهار ؛ لأنه ذكر دلوك الشمس ، وهو زوالها (إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ، وغسق الليل هو بدوّ ظلمة الليل.

فيدخل فيه الظهر والعصر ؛ فعلى تأويل هذا يكون حرف (إِلى) غاية لا تدخل صلاة

__________________

(١) قاله ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن برزة الأسلمي أخرجه ابن جرير عنهم (٢٢٥٦٧) ، و (٢٢٥٦٨) ، و (٢٢٥٦٩) ، و (٢٢٥٧١) ، وهو قول الحسن والضحاك وقتادة وغيرهم وانظر الدر المنثور (٤ / ٣٥٤).

(٢) ينظر : اللباب (١٢ / ٣٥٨).

(٣) سقط في أ.

(٤) سقط في ب.

٩٥

الليل فيه.

ثم تخصيص الخطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأمر له بإقامة الصلاة يكون كأنه قال : (أقم لهم الصلاة) ، فإن كان هذا ، ففيه دلالة صحة صلاة القوم بصلاة الإمام ، وتعلق صلاتهم بصلاة الإمام حيث قال : (أقم لهم الصلاة) ، ولو كان كل أحد يقيم صلاة نفسه ، لكان لا يقول : (أقم لهم الصلاة) ، ولكن يقول (صل الصلاة) ؛ فدلّ أنه على ما ذكرنا.

ثم قوله : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) : يحتمل وجهين :

أحدهما : أقم الصلاة للذي تدلك له الشمس [أي : تسجد](١) كقوله : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ ...) الآية [النحل : ٤٨].

والثاني : أقم الصلاة للوقت الذي يتلو دلوك الشمس الصلاة [وأقم قراءة الصلاة](٢).

ثم تخصيص الفجر لما ذكر حيث قال : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) ، التخصيص لقرآن الفجر لأنه مشهود ، والفرضية بها بقوله : أقم قرآن الصلاة على ما ذكرنا.

ثم قوله : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [أي : لم يزل في علم الله كان مشهودا ، أو صار مشهودا](٣) ، ثم قال : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) : وهي صلاة الفجر ، وإنما ذكر صلوات النهار فدخل صلوات الليل بقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ) ، لكنهم يقولون : إن التهجد بعد النوم ، وقد يكره النوم قبل فعل المغرب والعشاء فلا يصح هذا.

ومنهم من يقول : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) غروبها ، وهو قول عبد الله بن مسعود (٤) وغيره (٥).

وقال بعضهم : فيه ذكر صلوات الليل ؛ لأنه ذكر بدوّ ظلمة الليل ، وذلك بالغروب (٦) ، وقرآن الفجر وهو آخر ما ينتهي ظلمة الليل ؛ لأنه يبقى ظلمة الليل إلى وقت الفراغ من الفجر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

(٤) أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير (٢٢٥٥٧) ، (٢٢٥٥٩) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه ، وابن مردويه من طرق عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٤).

(٥) منهم ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٥٦٠) و (٢٢٥٦٢).

(٦) في ب : بالمغرب.

٩٦

يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : القرآن يكون كناية عن صلاة الفجر ، كأنه قال : أقم (١) الصلاة لدلوك الشمس ، وأقم ـ أيضا ـ صلاة الفجر ؛ لأنه نسق على الأول ، ويحتمل قوله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ) ، أي : قراءة الفجر ، أي : أقم قراءة الفجر.

ويجوز أن يقال : (القرآن) مكان (القراءة) ، كقوله : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة : ١٨] ، أي : قراءته.

ثم من الناس من احتج بفرضية القراءة في الصلاة بهذا ؛ لأنه نسق على الأول على ما ذكرنا كأنه [قال](٢) (أقم القراءة).

ومنهم من يقول : إنما حث على قراءة الفجر دون غيرها من الصلوات لما طول القراءة فيها لتقصيره عن الأربع ؛ لأنه لم يجعل غيرها من الصلوات ركعتين فحث على قراءتها لهذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً).

قال عامة أهل التأويل : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، أي : حرس الليل وحرس النهار ، وعلى ذلك رويت الآثار عن رسول الله (٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعن الصحابة (٤).

وقوله : (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) : أي : قراءة الفجر تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار ، على هذا حمله أهل التأويل ، وعلى ذلك رويت الأخبار ، وإلا جاز أن يقال فيه [بوجه](٥) آخر : وهو أن تشهده القلوب والسمع والعقول ؛ لأن ذلك الوقت هو وقت الفراغ عن جميع الأشغال والموانع التي تشغل عن الاستماع والفهم عنه ما لا يكون

__________________

(١) في أ : اقرأ.

(٢) سقط في أ.

(٣) في الباب عن أبي هريرة ، أخرجه البخاري (٢ / ٣٣) ، كتاب مواقيت الصلاة : باب فضل صلاة العصر (٥٥٥) ، ومسلم (١ / ٤٣٩) ، كتاب المساجد باب فضل صلاة الصبح والعصر (٢١٠ / ٦٣٢) ، ومالك (١ / ١٧٠) ، كتاب قصر الصلاة في السفر باب جامع الصلاة (٨٢) ، عن أبي الزناد عن الأعرج عنه أن رسول الله قال : «يتعاقبون فيكم ملائكة ، بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ـ وهو أعلم بهم ـ كيف تركتم عبادي فيقولون : تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون.

(٤) منهم أبو هريرة ، أخرجه أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي في الشعب عنه ، وعن ابن مسعود ، أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير (٢٢٥٩٩) ، وابن المنذر والطبراني كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٥) ، وهو قول ابن عباس وأبي الدرداء وقتادة وغيرهم.

(٥) سقط في أ.

٩٧

ذلك الفراغ لغيرها من الصلوات من صلاة المغرب والعشاء ؛ لأنها بقرب من الأشغال والحوائج ، ألا ترى أن الجهر بالقراءة إنما جعل في الأوقات التي هي أوقات الفراغ عن الاشتغال : وهي المغرب والعشاء ، ثم وقت الفجر هو أخلى وقت عن غيره ؛ لأنه بعد فراغ النوم ، وقبل هجوم وقت التقلب ، فالقراءة فيها والقلوب أشهد لها ، لكن أهل التأويل صرفوا ذلك إلى ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ).

قال بعضهم : النافلة : الغنيمة ، كقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) [الأنفال : ١] ، أي : الغنائم ، وقوله ـ عزوجل ـ : (نافِلَةً لَكَ) ، أي : غنيمة لك تغنم بها غنائم أو كلام نحو هذا.

وقال الحسن (١) : قوله : (نافِلَةً لَكَ) : أي : خالصة لك ، وخلوصها له وهو ألا يغفل هو عن شيء منها في حال من الأحوال ، وغيره من الناس يغفلون فيها عن أشياء.

وقال بعضهم (٢) : ذكر أنه نافلة له ؛ لأنه كان مغفورا له فما يعمل يكون له نافلة ، وأما غيره فإن ما يعمل من الخيرات يكون كفارة لذنوبهم فلا يكون لهم نافلة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).

قال : (يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) ، تحمد عاقبته بالتهجد ، أي : يبعثك ربك مقاما تحمد أنت تلك العاقبة جزاء بتهجدك في الدنيا.

وقال بعضهم : (مَقاماً مَحْمُوداً) ما يحمده كل الخلائق الأولون والآخرون.

وقال بعضهم : (مَقاماً مَحْمُوداً) هو مقام الشفاعة ، والله أعلم ، أي : تشفع لأمتك وأهل العصيان منهم.

وجائز أن يكون هو صلة قوله ـ ما تقدم من قوله : (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً) [الإسراء : ٢٢] ، وقوله : (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) [الإسراء : ٢٩] ، وقوله : (فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) [الإسراء : ٣٩] ، وما ذكر من المواعيد لما سمع هذا وقرع سمعه أخافه ذلك وأفزعه ؛ فنزل قوله : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) إن عبدت الله وأطعته في جميع أموره ونواهيه ، وأقمت له الصلاة والصيام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) :

__________________

(١) أخرجه ابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٦).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٢٦١٨) ، وابن المنذر ومحمد بن نصر والبيهقي في الدلائل ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٦).

٩٨

ظاهر هذا الخطاب يكون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث أمره أن يدعو بما ذكر ، وقد عرف هو ما أمره من الدعاء بقوله : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) ، فلا حاجة تقع لنا إلى أن نطلب المراد من ذلك ، إلا أن يكون لغير في ذلك اشتراك ، فعند ذلك يتكلف فيه ويطلب المراد منه.

وقد تكلم أهل التأويل في ذلك.

قال بعضهم (١) : قوله : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة منها إلى المدينة وأمر أن يدعو بهذا الدعاء : (رب أدخلنى في المدينة مدخل صدق آمنا على زعم اليهود ، وأخرجني من المدينة إلى مكة مخرج صدق على زعم كفار مكة ظاهرا عليهم) ؛ ألا ترى أنه قال : (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) عليهم ففعل الله ذلك له وأجابه ، وقد ذكرنا في غير موضع أن حرف (السلطان) يتوجه إلى وجوه ثلاثة :

يكون مرة عبارة عن حجة قاهرة غالبة.

ويكون عبارة عن ولاية نافذة غالبة.

ويكون عبارة عن اليد الغالبة الظاهرة أيضا ، وقد كان ـ بحمد الله ومنته ـ لرسول الله على الكفرة ذلك كله.

وقال بعضهم (٢) : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) في مكة ؛ ليعلم أهل مكة أني قد بلغت الرسالة (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) ؛ ليعلم يهود المدينة أني نصرت وبلغت ما أمرت به.

وقال الحسن (٣) : أخرجني من مكة مخرج صدق. وأدخلني في الجنة مدخل صدق.

وقال بعضهم (٤) : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ) فيما حملتني من الرسالة والنبوة ، وما أمرتنى به لأؤديها على ما أمرتني ، وأبلغ الرسالة إلى الخلق على ما كلفتني ، (وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) ، أي : أخرجني مما كلفتني سالما لا تبعة علي ، أو كلام نحوه.

وأصله : كأنه أمره أن يسأل ربه الصدق في جميع أفعاله وأقواله ؛ وفي جميع ما يعبده به من الدخول في أمر أو الخروج منه ؛ إذ لا يخلو العبد من هذين : من الدخول في أمر والخروج منه ، سأله الصدق في كل حال وكل دخول وكل خروج.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٢٦٤٤) ، وأحمد والترمذي وصححه ، وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه ، وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي معا في الدلائل ، والضياء في المختارة عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٥٩) ، وهو قول الحسن وقتادة وابن زيد.

(٢) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٦٥٤).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٢٦٥٢).

(٤) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٦٥٠) و (٢٢٦٥١).

٩٩

وقال مجاهد : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) في الرسالة والنبوة ، وهو ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً).

قال بعضهم (١) : حجة منه ، وقد أقامها على الكفرة.

وقال بعضهم : (سُلْطاناً نَصِيراً) ، أي : اجعل في قلوب الناس هيبة ، ليهابوني ، وقد كان من الهيبة بحيث هابوه من مسيرة شهرين.

وقال بعضهم (٢) : هو السلطان الذي ينصرون به الدين ، ويقيمون الحدود والأحكام ونحوه.

وقيل : السلطان : هو إقامة الحدود والأحكام والشرائع ، وهو تفسير الولاية ؛ لأنه بالولاية ما يقيمها ، وهو ما ذكرنا : أن (٣) الولاية إقامة الأحكام.

ثم قيل في الصدق والإخلاص :

قال بعضهم : الإخلاص : هو ألا يجعل الشخص (٤) بقلبه نصيبا لأحد سواه ، والصدق وإن جعل لا يجد لذلك لذة ، الصدق عندنا أن يجعل الفضل في جميع أفعاله لله لا يجعل لنفسه شيئا من الفضل ، وعلى ذلك يلزمه الشكر لربّه في جميع خيراته.

وعن الحسن (٥) قال : لما مكر كفار مكة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، فأراد الله بقاء أهل مكة ، فأمر نبيه أن يخرج منها مهاجرا إلى المدينة ، وعلمه ما يقول ، فأنزل الله : (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً) ؛ وعده الله لينزعن ملك فارس والروم ويجعله لأمته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) :

قال بعضهم : (جاءَ الْحَقُ) وهو الإسلام.

وقيل (٦) : (جاءَ الْحَقُ) : القرآن.

وقيل : (جاءَ الْحَقُ) أي : محمد.

أو يقول : جاءت آثار الحق فذهب الباطل وآثاره.

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٦٥٧) و (٢٢٦٥٨).

(٢) قاله قتادة بنحوه أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٦٥٦).

(٣) في ب : من.

(٤) في ب : الشيء

(٥) أخرجه ابن جرير (٢٢٦٤٥) ، و (٢٢٦٥٥).

(٦) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٦٦٠) و (٢٢٦٦١).

١٠٠