تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

الْوَدْقَ) أي : المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) و (خِلالِهِ) ، (سَنا بَرْقِهِ) ضوؤه.

قال أبو عوسجة : والركام : الكثير المتراكم الذي بعضه فوق بعض ؛ يقال : ارتكم الشيء ، أي : صار بعضه على بعض ، ويقال : ركمت المتاع أركمه ركما : إذا جعلت بعضه فوق بعض ، والودق : المطر ؛ يقال : ودقت السماء تدق ودقا : أي : مطرت (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) أي : من بينه ، وواحد الخلال : خلل ، (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) السنا مقصور ، وهو الضوء ؛ يقال : السنا : النار ، وهو واحد.

وقوله : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) هو ـ والله أعلم ـ صلة قوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية ؛ ذكر السحاب وما فيه من التدبير والعلم والحكمة ، وذكر ـ أيضا ـ تقليبه الليل والنهار وما فيهما من التدبير والعلم والحكمة والقدرة ؛ فعلى ذلك قوله : (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ) يذكر قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره ؛ أخبر أنه خلق الخلائق كلهم من هذا الماء ، على اختلاف أجناسهم وجواهرهم من شيء واحد وأنهم لم يكونوا بالطباع كذلك ، ولكن بتدبير واحد عالم بذاته ، لا بعلم وتدبير مستفاد ، ولكن علم ذاتي ؛ إذ لو كانوا بالطباع لخرجوا على تقدير واحد وصفة واحدة.

والثاني : أنه لا أحد من حكماء البشر يدرك كيفية إنشاء هذا العالم ، وخلق هذه الخلائق من هذه المياه فإنه خلق ذلك ، وليس في تلك المياه معنى ولا شيء من جوهر الخلائق دل إنشاؤه إياهم أنه قادر بذاته ، لا يعجزه شيء يخلق بسبب وبغير سبب ، وأنه خلق الخلائق بحكمة ذاتية ؛ إذ لم يدرك ذلك حكماء البشر.

ودل خلق هذه الخلائق على هذه المعاني والأسباب أنه لم يخلقهم عبثا ليتركهم سدى ، لا يأمرهم ولا ينهاهم ؛ فإذا ثبت الأمر والنهي ثبت الإحياء من بعد الممات للجزاء.

ودلت قدرته على خلق هذه الخلائق من الماء أنه قادر على الإحياء ، وأنه لا يعجزه شيء ؛ لأن من قدر على هذا لقادر على ما ذكرنا (١).

وقوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ) يذكر هذا ـ والله أعلم ـ لأحد وجهين :

إما تذكيرا إياه نعمه ومننه وفضله الذي أعطاهم وإحسانه الذي أحسن إليهم ؛ لأنه أخبر أنه خلق هذا العالم معتدلا سويّا من غير أن كان منهم اختيار لذلك.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٤٢٣).

٥٨١

أو يستوجبون ذلك قبله ، وخلق غيرهم من الدواب منكبين على وجوههم وماشين على بطونهم ، وذلك فضل منه ونعمة.

أو ذكر مثالا بحال الكفرة في الآخرة ؛ كقوله : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى ...) الآية [الملك : ٢٢] ؛ أخبر أن الكفرة يكونون منكبين على وجوههم ، وأهل الإسلام يمشون منتصبين مستوين (يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ) بسبب وبغير سبب (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ؛ لأنه قادر بذاته ، لا بقدرة مستفادة بالطباع.

قوله تعالى : (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠) إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ)(٥٤)

وقوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ ...) الآية ؛ قد ذكرناه.

وقوله : (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) اختلف فيه :

قال بعض أهل التأويل ـ ابن عباس وغيره ـ : إنه وقعت بين علي بن أبي طالب وبين عثمان ـ رضي الله عنه ـ خصومة في أرض اشتراها عثمان من علي ، فاختصما إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تلك ، فقضى لعلي على عثمان ، وألزمه الأرض ، فقال قوم لعثمان : إنه ابن عمه وأكرم عليه فقضى عليك له (١) ، أو نحو هذا من الكلام ، فنزل في قوم عثمان ذلك ... إلى آخر ما ذكر.

لكن هذا بعيد ؛ إذ لا يحتمل أن يكون عثمان أو قومه يخطر ببالهم في رسول الله ما ذكر.

وقال بعضهم : نزل هذا في بشر المنافق ، وذلك أن رجلا من اليهود كان بينه وبين بشر

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٦١٧٧) ، عن مجاهد.

٥٨٢

خصومة ، وأن اليهودي دعا بشرا إلى رسول الله ، ودعاه بشر إلى كعب بن الأشرف ، فقال : إن محمدا يحيف علينا ، أو نحوه من الكلام ؛ فنزل هذا ؛ لكنا لا نعلم أنه فيمن نزل سوى أن فيه بيانا أنها إنما نزلت في المنافقين.

وفي ظاهر الآية دلالة أنهم علموا أن رسول الله لا يقضي إلا بالحق ؛ ألا ترى أنه ذكر في آخره : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) مسرعين مطيعين ، ولو كان عندهم أنه يقضي بالجور لكانوا لا يأتونه للقضاء ، وإن كان الحق لهم مخافة الجور والظلم عليهم ، لكن ما ذكر في سياق هذا يمنع هذا التأويل.

وقوله : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) في هذا من الدلالة أن عندهم أنه لا يقضي بالحق لهم ، وأنه يجور ؛ حيث قال : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) إن كان على هذا الوصف فهو يخاف جوره وحيفه ، إلا أن تجعل الآية في فرق من المنافقين : فرقة منهم عرفوا أنه لا يقضي إلا بالحق ، وفرقة منهم كان في قلوبهم مرض ، وفرقة ارتابوا ، وفرقة خافوا جوره ، وهم كانوا فرقا ؛ ألا ترى أنه قال : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ) ومنهم من قال : كذا ، ومنهم من قال : كذا.

أو أن يكون تأويل قوله : (وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ) أي : وإن يكن لهم القضاء بالحق أتوه مذعنين ؛ أي : إذا عرفوا أنه يقضي لهم لا محالة أتوه ، وإلا لا يأتونه ، فإن كان على هذا ، فما ذكر على سياقه من المرض والارتياب والخوف في الحيف فمستقيم.

على هذين الوجهين يحتمل أن يخرج تأويل الآية ، وأما على غير ذلك فإنا لا نعلم ، والله أعلم.

وقوله : (وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) ؛ لأن من ارتاب ، أو شك في رسالته ، أو خاف جوره وحيفه فهو كافر ، ليس بمؤمن.

وفي قوله : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ) يخرج على وجهين وإن كان ظاهره حرف شك :

أحدهما : على الإيجاب والتحقيق ، أي : في قلوبهم مرض وارتابوا وخافوا على ما ذكرنا في حرف الاستفهام أنه في الظاهر ، وإن كان استفهاما فهو في التحقيق علم وإيجاب ؛ أي : قد علمت ورأيت ونحوه ؛ لما لا يجوز الاستفهام منه ، فعلى ذلك هذا.

والثاني : ما ذكرنا أنه في فرق : فرقة عرفت أنه لا يقضي إلا بالحق ، وفرقة منهم ارتابت ، وفرقة منهم خافت جوره وظلمه.

٥٨٣

قال القتبي (١) : قوله : (مُذْعِنِينَ) أي : خاضعين.

وقال أبو عوسجة : مسرعين ، مطيعين ؛ يقال : ناقة مذعان : أي سريعة ، ونوق مذاعين ، والحيف : الجور ، حاف يحيف حيفا فهو حائف.

وقوله : (إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) قوله : (دُعُوا إِلَى اللهِ) يحتمل إضافة الدعاء إلى الله وجهين :

أحدهما : دعوا إلى كتاب الله وإلى رسوله : (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ) ، كقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) [النساء : ٦١].

والثاني : إضافته إلى الله هي إضافة إلى رسوله ، كقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) [النساء : ٨٠] جعل طاعة الرسول طاعة لله ؛ فعلى ذلك جائز أن يراد بإضافة الدعاء إلى الله دعاء إلى رسول الله ، وعلى ذلك يخرج قوله : (أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ) لا يحتمل أن يكونوا يخافون حيف الله وجوره ، لكن إنما يخافون جور رسوله أو كتابه ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ) قد ذكرنا إضافة الدعاء إلى الله في قصّة المنافقين ونعتهم ، فعلى ذلك في نعت المؤمنين.

وقوله : (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) يحتمل قوله : (سَمِعْنا) أي : سمعنا الدعاء وأطعنا الأمر.

ويحتمل : سمعنا : أجبنا وأطعنا الأمر.

وجائز أن يكون قوله : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) ليس على حقيقة القول منهم والنطق به ، ولكن إخبار من الله ـ تعالى ـ عما هم عليه واعتقدوا به ؛ إذ كل مؤمن يعتقد في أصل اعتقاده طاعة الله وطاعة رسوله ، فيكون كما ذكر في آية أخرى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) [الإنسان : ٩] هذا إخبار عما أطعموهم ، ليس أنهم قالوا باللسان : إنما نطعمكم لكذا ، ولكن إخبار عما في قلوبهم ، فعلى ذلك الأوّل.

وقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) المفلح هو الذي يظفر بحاجته دنيوية وأخروية ؛ يقال : فلان أفلح : أي : ظفر بحاجته ، والله أعلم.

وقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ) يحتمل قوله : (وَيَخْشَ اللهَ) أي : يخشى الله على ما مضى من ذنوبه ويتقيه فيما بقي من عمره.

أو يخشى الله على ما يكون منه من التقصير والتفريط ويتقي ذلك وكل معصية الله

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٠٦).

٥٨٤

ومخالفته (فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) وفي حرف ابن مسعود وأبيّ وحفصة فأولئك هم المؤمنون فهما واحد.

وقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ) قال بعضهم : كل يمين بالله فهي جهد اليمين ؛ لأنهم من عاداتهم أنهم كانوا لا يحلفون بالله إلا في العظيم من الأمر والخطير ، فأمّا الأمر الدون فإنما يحلفون بغيره ، فيكون على هذا كل يمين بالله فهو جهد اليمين.

ويحتمل أن يكونوا حلفوا بيمين غليظة شديدة على ما يغلظ الناس في أيمانهم ربّما ، فسمى ذلك جهد اليمين.

أو أن يكون جهد اليمين ما ذكر على أثره ، وهو قوله : (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ) قوله : (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ) هو جهد أيمانهم ، والله أعلم.

وقوله : (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ) قوله : (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ) يحتمل وجوها :

لئن أمرتهم ليخرجن من أرضهم التي تخاصموا إليه فيها ؛ أي : ليخرجن ويسلمونها إلى خصمهم.

ويحتمل : لئن أمرتهم (لَيَخْرُجُنَ) من جميع أملاكهم وما تحويه أيديهم ، تعظيما لأمرك وإجلالا ، فكيف لا يتبعون لقضائك وينقادون لحكمك.

وجائز أن يكون قوله : (لَيَخْرُجُنَ) من المدينة بعيالاتهم وجميع حواشيهم إلى بلدة أخرى.

وقال بعضهم (١) : (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ) أي : أمرتهم أن يخرجوا في الجهاد ليخرجن ؛ لأنهم كانوا يتخلّفون.

ثم أمر رسوله أن ينهاهم عن القسم الذي أقسموا فقال : (قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) اختلف فيه :

قال بعضهم : لا تقسموا ؛ فإن الله لو بلغ منكم الجهد لم تبلغوه ، ثم قال : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) يقول : أطيعوه وقولوا له المعروف.

وقال بعضهم : قوله : (لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا) تم الكلام ، ثم قال : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ).

وفي هذا الكلام حذف ؛ للإيجاز يستدل بظاهره عليه ؛ كأن القوم كانوا ينافقون ويحلفون في الظاهر على ما يضمرون خلافه ، فقيل لهم : لا تقسموا هي طاعة معروفة

__________________

(١) قاله مقاتل ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٩٩).

٥٨٥

صحيحة لا نفاق فيها ، لا طاعة فيها نفاق.

وقال بعضهم : لا تحلفوا ، ولتكن هذه منكم للنبيّ طاعة معروفة حسنة.

وقال بعضهم : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) يقول : طاعة يعرف أنها طاعة بالقول والعمل ، لا تكونوا كاذبين فيها بالقول دون العمل ، وبعضه قريب من بعض : (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فلا تقسموا.

وفيه دلالة إثبات رسالته ؛ لأنهم كانوا يسرون ويضمرون فيما بينهم التولي والإعراض عن حكمه ، ثم أخبرهم بذلك ؛ فعلموا أنه بالله عرف ذلك.

وقوله : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا) أي : فإن تولوا عن طاعة الله وطاعة رسوله (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) قال : فإنما على النبي ما أمر بتبليغ الرسالة وعليكم ما حملتم وأمرتم من الطاعة لله ورسوله.

ويحتمل : فإنما عليه أداء ما حمل من الفرائض ، وعليكم أداء ما حملتم وأمرتم من الفرائض.

وجائز أن يكون قوله : (فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ) أي : لا يسأل هو ، ولا يؤاخذ بما عليكم ، ولا تسألون أنتم ولا تؤاخذون ـ أيضا ـ بما عليه ؛ إنما يسأل كل عما عليه ؛ كقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام : ٥٢] والله أعلم.

وقوله : (وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا) لا شك أنهم إن أطاعوه اهتدوا (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ظاهر.

قوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ)(٥٧)

وقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قال بعضهم : مكث رسول الله بمكة سنين من بعد ما أوحي إليه خائفا هو وأصحابه يدعون الناس إلى الله ـ تعالى ـ سرّا وعلانية ، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة فكانوا بها خائفين ، يصبحون في السلاح ، ويمسون في السلاح ، فقال رجل من أصحابه : يا رسول الله ، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع فيه السلاح ، فقال رسول الله : «لن تلبثوا إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس معهم حديدة» ، فأنزل الله

٥٨٦

هذه الآية على أثر ما ذكر.

وقال بعضهم : لما صدّ المشركون رسول الله وأصحابه يوم الحديبية وعد الله المسلمين أن يظهرهم وأن يفتح لهم مكة ، وقال : وتصديق ذلك ما ذكر في سورة الفتح ، وهو قوله : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ...) الآية [الفتح : ٢٥] ، حتى قال في آخر ذلك : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ...) الآية [التوبة : ٣٣] ؛ وعد رسوله في القرآن أنه يستخلفهم في الأرض وينزل فيها كما استخلف الذين من قبلهم فجعلهم خلفاء في الأرض.

وقال قائلون : كان وعده إياهم في التوراة والإنجيل والزبور أنه يجعلهم خلفاء في الأرض كما فعل بالذين من قبلهم ، ولكن كيفما كان ذلك الوعد لهم في القرآن أو في الكتب المتقدمة ففيه أمران اثنان :

أحدهما : البشارة للمسلمين ، والحجة على الكافرين ؛ لأنه وعد لهم الأمن في النصر في وقت لا يرجون ولا يطمعون [في] النجاة فضلا أن يطمعوا [في] الاستخلاف ، والتمكن في الأرض ، وإظهار الدين الذي ارتضى لهم وهو الإسلام على الأديان كلها ، فإذا كان مثل ذلك الوعد والبشارة لا يطمع ولا يرجى في مثل ذلك الوقت والخوف ـ علم أنه إنما بشرهم بذلك بوحي من الله ، ووعد منه ، فكان ما وعد دل أنه بالله وعد ذلك وبشر ، فذلك حجة على أولئك ، وبشارة للمؤمنين (١) ، والله أعلم.

وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

قوله : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) ليس بشرط فيه ؛ لأنه لو كفر قبل ذلك ـ أيضا ـ فهو فاسق.

ثم من الناس من قال : ومن كفر بعد هذه النعم التي أنعمها عليهم ولم يشكره عليها فهو كذا.

وجائز أن يكون قوله : (وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) ليس له جواب.

وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) فيما أمركم به ونهاكم عنه (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) هو ظاهر ، قد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع.

ثم قال : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) قال بعضهم : (مُعْجِزِينَ) أي : فائتين في الأرض هربا من عذابه ؛ فلا يدركهم.

وقال بعضهم : سابقين في الأرض هربا ـ أيضا ـ حتى لا يجزون بكفرهم ، وهو واحد

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٤٣٩ ، ٤٤٠).

٥٨٧

(وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ) قد ذكرناه أيضا.

وقوله : (لا تَحْسَبَنَ) كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أنهم ليسوا بفائتين ولا بسابقين عنه ، لكنه ذكر له هذا كما ذكر في قوله : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم : ٤٢] هما واحد.

وفي حرف ابن مسعود وأبي وحفصة : حسب الذين كفروا أن يعجزوا الله في السماوات والأرض إنه وإن اختلفت الحروف فالمعنى واحد ، والله أعلم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(٦٠)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) قال بعضهم : ذكر أن رجلا وامرأته تسمى أسماء بنت مرثد اتخذا طعاما للنبي ، فجعل الناس يدخلون بغير إذن ، فقالت أسماء : ما أقبح هذا يا رسول الله أن يدخل على الرجل وامرأته بغير إذن وهما في ثوب واحد غلامها المملوك ، فأنزل الله : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ)(١).

وقال بعضهم : نزل هذا في شأن عمر بن الخطاب ، وهو ما قال : «وافقت ربّي في ثلاث» ؛ ذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث غلاما من الأنصار يقال له : مدلج إلى عمر بن الخطاب ظهيرة ليدعوه ، فانطلق إليه ليدعوه ، فوجده قائلا قد أغلق عليه الباب ، فسأل الغلام عنه ، فأخبر أنه في هذا البيت ، قال : فدفع الغلام الباب على عمر وسلم ، فلم يستيقظ عمر ، فرجع الغلام ورد الباب ، فقام من خلفه وحركه ، فلم يستيقظ ، فقال الغلام : اللهم أيقظه لي ، قال : ودفع الباب ، ثم ناداه ودخل فاستيقظ عمر فجلس ، فانكشف منه شيء ، فرآه الغلام وعرف عمر أن الغلام قد رأى ذلك منه ، فقال عمر : وددت ـ والله ـ أن الله نهى أبناءنا ونساءنا وخدمنا أن يدخلوا هذه الساعات علينا إلا بإذنه ، ثم انطلق معه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فوجده قد نزل عليه هذه الآية وأمر بالاستئذان على دخولهم في هذه الساعات.

__________________

(١) قاله مقاتل ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٠١).

٥٨٨

لكن لا حاجة لنا إلى أن نتعرف أنها نزلت في شأن فلان أو فلان ، أو في أمر فلان وسببه ، سوى أن نتعرف المودع فيها وما ذكر من أنواع الآداب والأحكام.

ثم خاطب بالاستئذان المستأذن عليه لا المستأذن والسادات والآباء ومن يعول الصغار حيث قال : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) وذلك الخطاب ـ والله أعلم ـ يخرج مخرج الأمر للآباء والسادات بتعليم صبيانهم أمور الدين والقيام بما يحتاجون إليه ، والتأديب على ذلك إن أبت أنفسهم ، وكذلك ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «مروا صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا ، واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا ، وفرقوا بينهم في المضاجع» (١) خاطب به الآباء والأولياء أن يأمروهم بأمور الدين أمر عادة ، والتعليم لهم والتأديب إن امتنعوا عن ذلك ، ولم يخاطبهم في أنفسهم لجهلهم وقلة معرفتهم بأمرهم ، وإذا بلغوا وعرفوا النهي والأمر ، فعند ذلك خاطبهم بأنفسهم بالاستئذان ؛ حيث قال : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) خاطبهم إذا بلغوا ، وأمرهم بالاستئذان في أنفسهم ، وما داموا صغارا خاطب به الآباء والأولياء لما لا يجري عليهم القلم ، وليس الخطاب والأمر والنهي إلا لجرية القلم عليهم ، وترك الأمر والخطاب لرفع القلم عنهم.

وأمّا أمر الآباء لهم بذلك فيخرج مخرج الشفقة لهم عليهم والقيام لبعض مصالحهم ، وذلك جائز.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٣٣٤) كتاب : الصلاة ، باب : متى يؤمر الغلام بالصلاة؟ حديث (٤٩٥) ، وأحمد (٢ / ١٨٧) ، والدارقطني (١ / ٢٣٠) كتاب : الصلاة ، باب : الأمر بتعليم الصلوات والضرب عليها ، حديث (٢ ، ٣) ، والحاكم (١ / ١٩٧) ، وابن أبي شيبة (١ / ٣٤٧) ، والدولابي في الكنى (١ / ١٥٩) ، والعقيلي في الضعفاء (٢ / ١٦٧ ، ١٦٨) ، وأبو نعيم في الحلية (١٠ / ٢٦) ، والخطيب في تاريخ بغداد (٢ / ٢٧٨) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «مروا أولادكم بالصلاة ، وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين ، وفرقوا بينهم في المضاجع ...» الحديث.

وأخرجه أبو داود (١ / ٣٣٢ ، ٣٣٣) كتاب الصلاة ، باب : متى يؤمر الغلام بالصلاة؟ ، حديث (٤٩٤) ، والترمذي (٢ / ٢٥٩) كتاب : الصلاة ، باب : ما جاء متى يؤمر الصبى بالصلاة؟ حديث (٤٠٧).

والدارمي (١ / ٢٧٣) ، وابن أبي شيبة (١ / ٣٤٧) ، وأحمد (٣ / ٢٠١) ، وابن الجارود (١٤٧) ، وابن خزيمة (٢ / ١٠٢) ، والطحاوي في مشكل الآثار (٣ / ٢٣١) ، والدارقطني (١ / ٢٣٠) ، والحاكم (١ / ٢٠١) ، والبيهقي (٢ / ١٤) من طريق عبد الملك بن الربيع بن سبرة عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مروا الصبي بالصلاة ابن سبع سنين ، واضربوه عليها ابن عشر».

وقال الترمذي : حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح على شرط مسلم ، ووافقه الذهبي. وصححه ابن خزيمة.

٥٨٩

ثم اختلف فيما ملكت أيماننا : قال جماعة (١) : هن النساء دون الرجال ، وأما الرجال فإنهم يستأذنون في جميع الأوقات.

وقال بعضهم (٢) : هم النساء والرجال جميعا ، والنهي عن الدخول في هذه الأوقات الثلاث ؛ إذ هي أوقات غرة وساعات غفلة للذكور والإناث جميعا.

ومنهم من يقول : هم الكبار فإنهم دون الصغار.

والأشبه أن يكون في الصغار منهم ؛ لأن الكبار منهم والأحرار سواء في حظر النظر إلى العورة وإباحته ؛ ألا ترى أنه قال : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) وهم الأحرار والصغار ؛ فعلى ذلك قوله : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) الصغار منهم ؛ أمر السادات بتعليمهم ما ذكرنا من الأمور ، والله أعلم.

وقوله : (وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) هذا يحتمل وجهين :

يحتمل قوله : (لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) أي : لم يحتلموا ، ويحتمل الذين لم يبلغوا الحلم أو لم يبلغوا مبلغ الحلم بعد ما جعلهم في مراتب ثلاث ؛ أعني : الصغار في حال لا يؤمرون ولا ينهون ، وهي الحال التي لا يميزون بين العورة وبين غير العورة ، وهو ما قال : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) أي : لا يعرفون العورة من غير العورة ، وحال يعرفون ذلك إلا أنه لا يقع لهم الحاجة إليها فيؤمرون بالستر عنهم ، وحال يقع الحاجة إليها وقضاء الوطر ، فيؤمرون بالحجاب والتفريق في المضاجع ، والله أعلم.

وقوله : (ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) يحتمل قوله : (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) وجهين :

أحدهما : ثلاث أوقات عورات لكم وساعاتها.

ويحتمل : (ثَلاثُ عَوْراتٍ) أي : ثلاث حالات تظهر فيها العورة ؛ كقوله : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) [الأحزاب : ١٣] أي : ليس مما يمنع السرق عن السرقة فيها.

وفيه أن العمل بالاجتهاد في الأغلب والأكبر من الرأي والأمر ليس على الحقيقة جائز ؛ لأنه قد سمّى بثلاث عورات من الأمر ، ونهى عن الدخول بلا استئذان ، وإن كان يجوز أن تكون العورة مستورة ، والمباح في غيرها من الأوقات الدخول بلا استئذان ، ويجوز أن يكون هناك كشف العورة ؛ حيث قال : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ) أي : بعد

__________________

(١) قاله ابن عمر ، أخرجه الفريابي عنه ، وعن أبي عبد الرحمن السلمي ، أخرجه الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٠٣).

(٢) قاله أبو عبد الرحمن ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦١٨٥).

٥٩٠

ثلاث ساعات (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) لكنه أباح وحظر بالأغلب والأكبر ، لا على الحقيقة ، وهكذا العمل بالاجتهاد ، والله أعلم.

وقوله : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) أي : يخدمونكم بعد هذه الثلاث ساعات يدخلون عليكم بغير إذن بعضكم على بعض بالخدمة ؛ فلا إذن عليهم ؛ لما ذكرنا أن الأغلب أن تكون العورات مستورة في غير هذه الثلاث ساعات ، وفي الثلاث لا.

قال القتبي (١) : (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) : العبيد والإماء (ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ) يريد هذه الأوقات ؛ لأنها أوقات التجرد وظهور العورة.

أما قبل صلاة الفجر فللخروج من ثياب النوم ولبس ثياب النهار.

وأما عند الظهيرة فلوضع الثياب للقيلولة.

وأما بعد صلاة العشاء فلوضع الثياب للنوم.

(بَعْدَهُنَ) أي : بعد هذه الأوقات.

ثم قال : (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ) يريد : أنهم خدمكم ؛ فلا بأس بأن يدخلوا ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) أي : يطوف عليهم في الخدمة.

وقال أبو عوسجة : الظهيرة : نصف النهار ، وظهائر : جمع ، وأظهرت ، أي : دخلت في الظهيرة.

وقوله : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) فقد ذكرنا أنه خاطب به الأولياء في تعليم الآداب وأمور الدين الصغار ، ولم يخاطبهم هو ؛ حيث قال : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ) وإذا بلغوا خاطبهم بأنفسهم ؛ حيث قال : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا) ، ثم يحتمل قوله : (وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ) وجهين :

يحتمل : إذا احتلموا.

ويحتمل : إذا بلغوا وقت الحلم ؛ فالأوّل على حقيقة الاحتلام ، والثاني على قرب بلوغ الاحتلام ؛ فكأن الأوّل أشبه ؛ لأنه خاطبهم في أنفسهم ، وأمرهم بالاستئذان ، فلو لم يكونوا بالغين لم يخاطبهم ، ولكن خاطب به الأولياء ، كما خاطبهم في الآية الأولى.

وفيه دلالة أن الحدّ في بلوغ الصغير الاحتلام ، وعلى ذلك اتفاق القول منهم ؛ ألا ترى أنه قال : (فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يقول ـ والله أعلم ـ : ما أمر به قبل هذه الآية البالغين ألا يدخلوا بيتا حتى يستأذنوا على أهله.

أو أن يكون قوله : (كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) يعني : الكبار ، أي : يكون

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٠٧).

٥٩١

الاستئذان في الكبار معروفا ظاهرا ، وفي الصغار لا ، فأمر إذا بلغوا أن يستأذنوا كما يستأذن الكبار منهم.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يوافق ظاهر الآية ، وهو رفع القلم عن ثلاث : أحدهم : الصبي حتى يحتلم (١) ، وأما إذا بلغ خمس عشرة سنة فمما اختلف أصحابنا فيه : رآه أبو يوسف ومحمد بالغا ؛ لحديث ابن عمر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أجازه في القتال وهو ابن خمس عشرة سنة ، ولم يجز له وهو ابن أربع عشرة سنة (٢) ، لكن ليس فيه أنه أجازه لبلوغه ، ولم يجزه لأنه لم يبلغ ؛ جائز إجازته في العام الثاني لقوته وطاقته على القتال ، ولم يجزه في العام الأول لضعفه ووهنه وعجزه عن القتال.

واحتج بعض مشايخنا ـ رحمهم‌الله ـ لقول أبي حنيفة في تحديده بثماني عشرة سنة لبلوغ الغلام إذا لم يحتلم ، قال : لأن الوسط من احتلام الغلمان أن يبلغوا خمس عشرة سنة ، وربما احتلموا قبل ذلك ، وربما تأخر احتلامهم عنه ، ووجد المعروف فيمن نقصت سنه عن اثنتي عشرة ألا يحتلم ، فإذا بلغها فربما احتلم ، فجعل حدّ الزيادة على الخمس عشرة سنة التي هي وسط بين المختلفين ـ ثلاث سنين ، كما كان مقدار النقصان عنها ثلاث سنين ، وهذا القول من قوله استحسان ، والله أعلم.

وقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) قوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) أعلامه ؛ أي : يبين لكم الأعلام التي تحتاجون إليها وتعرفون ما يسع لكم مما لا يسع وما يؤتى مما يتقى.

وقال بعضهم : آياته ـ هاهنا ـ : أمره ونهيه ، والله أعلم.

وقوله : (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً) قال أهل التأويل : قوله : (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) لا يريدون نكاحا ، لكن الأشبه أن يكون قوله (٣) : (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) أي : لا يطمعن

__________________

(١) أخرجه أحمد (٦ / ١٠٠ ، ١٠١) ، والدارمي (٢ / ١٧١) كتاب : الحدود ، باب : رفع القلم عن ثلاثة ، وأبو داود (٤ / ٥٥٨) كتاب : الحدود ، باب : في المجنون يسرق ، الحديث (٤٣٩٨) ، والنسائي (٦ / ١٥٦) كتاب : الطلاق ، باب : من لا يقع طلاقه من الأزواج ، وابن ماجه (١ / ٦٥٧) كتاب : الطلاق ، باب : طلاق المعتوه والصغير والنائم ، الحديث (٢٠٤١) ، وابن الجارود (ص ٥٩) ، باب : فرض الصلوات الخمس وأبحاثها ، الحديث (١٤٨) كلهم من رواية حماد بن سلمة ، عن حماد بن أبي سليمان ، عن إبراهيم ، عن الأسود ، عن عائشة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يعقل».

(٢) أخرجه البخاري (٥ / ٣٢٧) ، كتاب الشهادات باب بلوغ الصبيان وشهادتهم (٢٦٦٤) ، ومسلم (٣ / ١٤٩٠) ، كتاب الإمارة : باب بيان سن البلوغ (٩١ / ١٨٦٨) ، والشافعي في المسند (٢ / ١٢٨) ، والبغوي في شرح السنة (٥ / ٢٤١).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٠٥).

٥٩٢

أن يرغب فيهن الرجال لكبرهن ، وإلا كن يردن النكاح ، وإن كبرن وعجزن.

وقوله : (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) قال بعضهم : ثيابهن : الرداء ، وكذلك روي في حرف ابن مسعود (١) أنه قرأ : أن يضعن من ثيابهن وهو الرداء.

وقال بعضهم (٢) : هو الجلباب ؛ يقال : الجلباب : هو القناع الذي يكون فوق الخمار ؛ فلا بأس أن تضع ذلك عند أجنبي وغيره بعد أن يكون عليها خمار صفيق (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) يقول ـ والله أعلم ـ : من غير أن تكون وضعت الرداء أو الجلباب تريد بذلك إظهار الزينة والتبرج.

وقوله : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) أي : وألا يضعن ما ذكرنا من الثياب خير لهن من أن يضعن.

وقال بعضهم (٣) : الخمار. لكنه لا يحتمل ؛ لأنه معلوم أن المرأة وإن كبرت وعجزت لا تكشف عورتها لأحد.

ثم الزينة ربما تكشف للمحارم ، ولا تكشف للغريب ، وهو الرأس والصدر ونحوه ، فإذا بلغت في السن مبلغا لا تطمع أن يرغب في نكاحها لا تتزين ، ومع ما لا تفعل لا يحل للأجنبي أن ينظر إلى شعرها ، ولا إلى صدرها ، ولا إلى ساقها ، وإنها وإن صلت ورأسها مكشوف فصلاتها فاسدة ، وإذا كان كذلك فليس يجوز أن يجعل تأويل وضع الثياب الخمار ؛ لما ذكرنا ، ولكن الرداء والجلباب الذي يلبس إذا خرجن من منازلهن.

فإن قيل : إنما أطلق لها بهذه الآية أن تضع خمارها عن رأسها ؛ إذا لم يرها أحد.

قيل : الشابة ـ أيضا ـ يجوز لها أن تضع الخمار عن رأسها إذا خلت في البيت ؛ فذلك يدل على أن العجوز أذن لها أن تضع ثوبها وهو الجلباب أو الملاءة التي كانت تغطي بها وجهها إذا خرجت ، وإذا كان المطلق لها هذا فالواجب على الشابة ألا تظهر وجهها إذا كانت تشتهى ولا يديها ، فإذا كان كذلك كان قوله : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) [النور : ٣١] هو الزينة التي لا يمكن سترها بحال ، وهو الكحل ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٦٢٠٦ ، ٢٦٢٠٧ ، ٢٦٢١١) ، وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والبيهقي في السنن ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٠٤).

(٢) قاله ابن مسعود ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٢٠٩ ، ٢٦٢١٠) ، وعن الضحاك (٢٦٢٠٣) ، ومجاهد (٢٦٢٠٤ ، ٢٦٢١٤ ، ٢٦٢١٥) ، والشعبي (٢٦٢١٣) ، وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٠٤).

(٣) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٢٠٥).

٥٩٣

وقوله : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) قال بعضهم : أي : غير مظهرات محاسنهن.

وقال بعضهم : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ) أي : غير متزينات بزينة ، والمتبرجة : المتزينة ؛ لإظهار الزينة ، والزينة : هي الداعية المرغبة إلى النظر إليها وقضاء الشهوة ، فكأنه أباح لها وضع الثياب إذا كانت غير متزينة ، وإذا كانت متزينة فلا ، وأباح لها ـ أيضا ـ إذا لم يكن بها محاسن يرغب فيها ، وإذا كان بها ذلك لم يبح.

وقوله : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَ) يحتمل وجهين :

[أحدهما :] يحتمل : وإن يستعففن ولا يبدين محاسنهن خير لهن من أن يبدين.

والثاني : وإن يستعففن ولا يضعن ثيابهن حتى يكون ذلك علما بين معرفة الحرة من الأمة خير لهن من الوضع ؛ كقوله : (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) أن يعرفن أنهن حرائر فلا يؤذين كما تؤذى الإماء ، والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) كأن قوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) هاهنا صلة قوله : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) وإلا ليس في هذه الآية ما يوصل به.

أو أن يكون جوابا له.

قال القتبي (١) : القواعد من النساء : هن العجزة ، واحدها : قاعد ، ويقال : إنما قيل لها : قاعد ؛ لقعودها من الحيض والولد ، ومثلها لا ترجو النكاح ، أي : تطمع فيه ، ولا أراها سميت قاعدا بالقعود عما ذكر ، إلا أنها إذا أسنت عجزت عن التصرف وكثرة الحركة ، وأطالت القعود ، فقيل لها : قاعد ، بلا هاء ؛ ليدل بحذف الهاء على أنه قعود كبر ، كما قالوا : امرأة حامل بلا هاء ؛ ليعرف على أنه حمل حبل ، وقالوا في غير ذلك : قاعدة في بيتها ، وحاملة علي ظهرها ، وقال : والعرب تقول : امرأة واضع : إذا كبرت فوضعت الثياب ، ولا يكون هذا إلا في الهرمة.

وقال أبو عوسجة : (غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ) كل واحد من الحرفين يكون معناه معنى الآخر ؛ كقوله : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) إذا كن محصنات كن غير مسافحات ، وإذا كن غير مسافحات كن محصنات ؛ فعلى ذلك قوله : (لا يَرْجُونَ نِكاحاً) ، إذا كن لا يرجون النكاح كن غير متبرجات ـ والله أعلم ـ لأن التزين إنما يكون منهن طمعا في النكاح والناس مع ما لا يرجون النكاح يتزين ويتبرجن ، فقال : (فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ) غير مظهرات الزينة.

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٠٧).

٥٩٤

على هذين الوجهين جائز أن يخرج تأويل الآية.

وقوله : (وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ) عن ذلك كله (خَيْرٌ لَهُنَ) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٦١)

وقوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ...) الآية.

اختلف في تأويله : قال بعضهم (١) : إن الرجل الصحيح كان يتحرج من مؤاكلة الأعمى والأعرج والمريض ؛ إشفاقا عليهم ورحمة ؛ يقول : إنه لا يبصر طيب الطعام ، فلعله يأكل الخبيث وأنا آكل الطيب ، ويقول : إن الأعرج لا يستوي جالسا إذا قعد فلا يقدر أن يتناول فيما أتناول أنا ، وإن المريض لا يأكل مثل ما يأكل الصحيح.

وكان الرجل لا يأكل من بيت أبيه ، ولا من بيت أمه إذا لم يكونا فيه ، وكذلك ما ذكر ... إلى آخره ، حتى يكونوا فيه ، وكذلك الصديق وهؤلاء ، فأنزل الله هذه الآية في رخصة ذلك كله.

وقال بعضهم (٢) : إن هؤلاء الزمنى والعميان والعرجى والمرضى وأولي الحاجة منهم يستتبعهم رجال إلى بيوتهم ويستضيفونهم ، فإن لم يجدوا لهم طعاما أو شيئا يأكلونه ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم ومن عدّد معهم ، فكره ذلك المستتبعون التناول من غير بيوت أولئك بلا دعوة ولا إذن سبق منهم ؛ فأنزل الله في ذلك إباحة لهم ورخصة ، وأحل لهم الطعام حيث وجدوه.

وقال [بعضهم] : إن الأعمى والأعرج والمريض وهؤلاء الذين كانت بهم زمانة كانوا يتحرجون من مؤاكلة الأصحاء ؛ مخافة أن يتقذذوا منهم ويستقذروا ؛ يقول الأعرج : لا أؤاكل الناس ؛ لأني آخذ من المجلس مكان رجلين وأضيق عليهم ، وقال الأعمى : إنّي أفسد عليهم طعامهم ، وكذلك المريض منهم يقول مثل ذلك ؛ فأنزل الله الرخصة في ذلك

__________________

(١) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير (٢٦٢٢٠) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٠٦).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٢٢١ ، ٢٦٢٢٢) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٠٦).

٥٩٥

ورفع عنهم الجناح في مؤاكلتهم ، فيقول : إن الحق عليهم أن يرجوكم ؛ لما بكم من الزمانة وأن يدعوا لكم بالرفع عنكم ، لا التقذذ والاستقذار عنكم.

وقال بعضهم (١) : إن الرجل الغني كان يدخل على الرجل الفقير والزمن فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأجنح وأحرج أن آكل من طعامك وأنا غني وأنت فقير ؛ فأنزل الله في ذلك : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ ...) إلى آخر الآية.

وقال بعضهم (٢) : كان هذا في أهل الجهاد ، وأن الرجل كان يخرج إلى الجهاد فيخلف آخر في منزله في حفظ ماله وأهله ، والقيام بكفايتهم ، فكان يحرج ولا يأكل من ماله شيئا ولا من طعامه لما لم يسبق منه الإذن في ذلك ؛ فأنزل الله في ذلك رخصة إباحة التناول من ذلك.

إلى هذا انتهت أقاويل (٣) أهل التأويل وتأويلهم.

والأشبه عندنا أن يكون تأويل الآية في غير ما ذهبوا هم إليه ، وهو أن يكون قوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي : ليس على هؤلاء حرج أن يأكلوا من بيوت آبائهم وأمهاتهم ، أو بيوت إخوانهم ، أو بيوت أخواتهم ، أو بيوت أعمامهم إلى قوله : (أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) ؛ لأنهم إنما يأكلون بالحق ؛ لأن من كان به زمانة كان له التناول من أموال من ذكر من الآباء والأمهات والقرابات ؛ إذ تفرض لهم النفقة في أموالهم ؛ فيكون في ذلك دلالة وجوب النفقة لهم في أموالهم ، ويكون (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي : لا بأس أن تأكلوا من بيوتكم ، أو ما ملكتم مفاتحه ، أو من بيوت صديقكم ؛ إذ ليس يباح للرجل التناول من مال نفسه ومن مال صديقه في حال عذر ، ولا يباح في حال الصحة والسلامة ؛ بل يباح في الأحوال كلها دل أن التأويل الذي ذكرنا أشبه ، فيصرف تناول الزمنى في أموال القرابات بحق النفقة والحق ، ومن ليس به زمانة في ماله ومال صديقه بحق الملك والصداقة ؛ لأن الزمانة ترفع الصداقة من بينهم ، وكذلك وجوب النفقة في مال الصديق يرفع الصداقة ، ولا يرفع القرابة ، ولا تزول صلتها.

ثم اختلف في قوله : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) قال بعضهم : من بيوت أولادكم.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٢٣٢).

(٢) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٢٢٥).

(٣) في أ : تآويل.

٥٩٦

وقال بعضهم : من بيوت أزواجهم ونسائهم.

وقال بعضهم : من بيوت أنفسهم ، وهو ما يجد الرجل في بيته من طعام فإنه لا بأس أن يأكله ، وكذلك لا بأس للرجل أن يتناول من بيت زوجته ؛ لأنه لم يذكر في الآية الولد وبيت الزوجة على الإشارة والتفسير ، فيصرفون تأويل قوله : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) إلى هؤلاء.

وقوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) أي : خزائنه ؛ يحتمل : العبيد ؛ لأن السيد يملك مال عبده.

ويحتمل : الوكيل والخازن أن يأكل من طعامه وأدمه بغير إذن السيد.

ويحتمل قوله : (أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ) السيد نفسه صاحب الخزانة ومالكها.

ثم ذكر الأكل من بيوت من ذكر على التأويل الذي ذكرنا ، واستدللنا على إيجاب النفقة لهؤلاء الزمنى في أموال من ذكرنا من القربات يخرج على وجهين :

أحدهما : ذكر البيوت ؛ لأنهم إذا كانوا زمنى يستوجبون السكنى ـ أيضا ـ مع النفقة ، فذكر البيوت لكونهم فيها وسكناهم معهم.

والثاني : ذكر الأكل من بيوتهم ، لئلا يفهم من الأكل الأخذ منها ؛ لأنه ذكر في آيات الأكل ، والمراد المفهوم منه : الأخذ ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [النساء : ٢٩] وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] وقوله : (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) [آل عمران : ١٣٠] مفهوم المراد من الأكل المذكور في هذه الآيات : الأخذ ، لا الأكل نفسه ، فذكر ـ هاهنا ـ الأكل من بيوتهم ؛ لئلا يفهم منه الأخذ كما فهم من ذلك.

وعلى تأويل أهل التأويل يستقيم ظاهر ذكر البيوت ؛ إذ لا يجعلون ذلك الأكل والتناول منه أكلا وتناولا بحق.

وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً) قال بعضهم (١) : ذكر هذا لأن قوما كانوا لا يأكلون وحدهم ، ولا يرون ذلك حسنا في الخلق ، ويتحرجون من ذلك حتى يكون معهم غير ، فرخص الله ـ تعالى ـ لهم ذلك ورفع عنهم الحرج ، فقال : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً).

وعلى تأويل من يقول : إنهم استضافوا قوما فلم يجدوا في بيتهم شيئا يأكلون ذهبوا بهم إلى بيوت هؤلاء ، فتحرج أولئك الأضياف [من] الأكل من بيوت من ذكر وأرباب البيوت

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٢٣٣) ، وعن ابن جريج (٢٦٢٣٤) ، والضحاك (٢٦٢٣٥) ، وغيرهم.

٥٩٧

ليسوا فيها فرخص لهم في ذلك.

وعلى تأويل من يقول : إنهم كانوا يتحرجون الأكل مع الأعمى ومن ذكر ؛ إشفاقا عليهم وترحما ؛ لما لا يبصرون طيب الطعام ، ولا يأكلون ما يأكل الصحيح ، فرفع عنهم ذلك الحرج ، ورخص لهم في ذلك.

وعلى تأويل من يقول : إنهم كانوا يتحرجون الأكل مع هؤلاء تقذذا واستقذارا ، يرغبهم في الأكل مع أولئك ، وترك التقذذ من ذلك.

ويدل للتأويل الأول ما روي عن أصحاب رسول الله ؛ روي عن محمد بن علي قال : كان أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يرى أحدهم أنه أحق بالدنانير والدراهم من أخيه المسلم ، قال : وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليأتين على الناس زمان يكون الدينار والدرهم أحبّ إلى الرجل من أخيه المسلم».

وعن ابن عمر قال : «لقد رأيتني وما الرجل المسلم أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم».

وقوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) يحتمل قوله : (فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) أي : يسلم بعضكم على بعض ، فيصير المسلمين أجمع بعضهم لبعض كأنفسهم ؛ كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [النساء : ٢٩] أي : لا يقتل بعضكم بعضا ، وقوله : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [النساء : ٢٩] ونحو ذلك من الآيات ، فصيّر بعضهم لبعض كأنفسهم ؛ لأنهم كشيء واحد ، يتألم بعضهم بألم بعض ، ويحزن بعضهم بحزن بعض ، ويسرّ بعضهم بسرور بعض ، ونحوه ؛ فهم جميعا كشيء واحد ، وأنفسهم جميعا كنفس واحدة ؛ لذلك جعل سلام بعضهم على بعض في حق السلام واحدا.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن بعضهم إذا سلم على بعض يرد عليه مثله ؛ فيصير كأنه هو يسلم على نفسه ، وكذلك قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) أي : لا يقتل أحد آخر فيقتل به ؛ فيكون قاتل نفسه ؛ إذ لو لا قتله إياه لم يقتل به ، وكذلك قوله : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [النساء : ٢٩] أنه إذا أكل مال غيره بغير رضاه ضمنه ، فإذا ضمنه فكأنه أكل مال نفسه بالباطل.

ويحتمل أنه أراد به السلام على أنفسهم ؛ أي : يسلم كل على نفسه إن لم يكن فيه أحد ، وكذلك روي عن ابن عباس (١) قال : أراد المساجد : إذا دخلتها فقل : السلام علينا

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٦٢٤٦) ، وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي كما في الدر المنثور (٥ / ١٠٨).

٥٩٨

وعلى عباد الله الصالحين ، وعلى ذلك رويت الأخبار : «من دخل بيتا أو مسجدا ليس فيه أحد فليقل : السلام علينا من ربنا ، والسلام على عباد الله الصالحين» (١) ؛ وعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) بترك الإنفاق عليها وغيره ، وكذلك قوله : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) وجائز أن يريد بالأنفس : أهلهم ؛ أي : سلموا على أهليكم ، وهو الأولى.

ثم اختلف في السلام : قال بعضهم : السلام : من السلامة ؛ أي : عليك السلامة من جميع الآفات والنكبات.

وقال بعضهم : السلام هو اسم من أسماء الله ؛ فتأويله : عليك اسم الله الذي لا يضرك معه شيء ، ولا يلحقك به أذى ، وفي الخبر : «باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء» (٢).

وقوله : (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) التحية كأنها الكرامة ، كأنه قال : كرامة من الله لكم.

وقوله : (مُبارَكَةً) المبارك : هو الذي ينال به كل خير وبرّ.

أو أن تسمي مباركة ؛ لما بها ينمو الشيء ويزكو وقوله : (طَيِّبَةً) أي : يستطيب بها كل أحد.

وقال بعضهم : طيبة : أي : حسنة ، فتأويله : ما يستحسن به كل أحد.

وقال بعضهم قوله : (تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ) يقول : تحية من أمر الله لكم ، مباركة بالأجر ، طيبة بالمغفرة ، والله أعلم.

وقوله : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ) أي : مثل الذين يبين الله (لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : كي تعقلوا ما لكم وما عليكم ، وما لله عليكم ، وما لبعضكم على بعض (٣).

وقوله (بُيُوتِكُمْ) : ما ذكرنا.

قال بعضهم (٤) : المساجد.

وقال بعضهم : البيوت المسكونة ؛ كقوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٢٧].

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن أبي مالك (٢٦٢٥٠) ، وماهان (٢٦٢٥١) ، وإبراهيم (٢٦٢٥٢) ، ونافع (٢٦٢٥٣) ، بنحوه.

(٢) أخرجه أحمد (١ / ٦٢ ، ٦٦) ، والبخاري في الأدب المفرد (٦٦٠) ، والترمذي (٥ / ٣٩٦) ، أبواب الدعوات : باب ما جاء في الدعاء (٣٣٨٨) ، وأبو داود (٢ / ٧٤٤ ، ٧٤٥) ، كتاب الأدب : باب ما يقول إذا أصبح (٥٠٨٨ ، ٥٠٨٩) ، وابن ماجه (٥ / ٣٨٣) ، كتاب الدعاء : باب ما يدعو به الرجل إذا أصبح وإذا أمسى (٣٨٦٩) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ٧) ، في كتاب عمل اليوم والليلة.

(٣) ينظر : اللباب (١٤ / ٤٥٧ ، ٤٥٨).

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٢٤٦).

٥٩٩

قوله تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(٦٤)

وقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) ، [و] قال في آية أخرى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا ...) الآية [الحجرات : ١٥] ، وقال في آية أخرى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) [الأنفال : ٢] هذا ـ والله أعلم ـ ليس أن ما ذكر من الاستئذان وترك الارتياب من حقيقة الإيمان بالتلاوة ، ونحوه من شرط الإيمان ، ولكن ـ والله أعلم ـ أن الأولى بالمؤمنين هذا ألا يذهبوا حتى يستأذنوا رسوله وألا يرتابوا ، وأن يجاهدوا ، وأن تزداد لهم التلاوة [و] ما ذكر ، ليس على جعله شرطا للإيمان ، ولكن ما ذكرنا من الأولى بهم والاختيار ما ذكر ، والله أعلم.

ثم ذكر في هذه الآية : أن المؤمنين لا يذهبون عنه ولا يفارقونه إلا بالاستئذان منهم من رسول الله ، وذكر أن المنافقين يذهبون ويفارقونه تسللا ولو اذا ؛ حيث قال : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) وقال في آية أخرى : (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٤٤] ذكر أنهم لا يستأذنوك ، وإنما يستأذنك المنافقون بقوله : (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فهذه الآيات في ظاهر المخرج مختلفة وإن كانت في المعاني المدرجة فيها موافقة ، فهذا سبيل من يحتج بظاهر المخرج ؛ إذ للملاحدة أن تقول : هو مختلف في الظاهر وأنه من عند غير الله بقوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] فدل ما ذكرنا أن الاحتجاج بظاهر المخرج باطل ، والاعتقاد به فاسد خيال.

وجائز أن يكون ما ذكر من استئذان المؤمنين وترك استئذان أولئك للخروج منه ؛ لما لا يستأذنه المؤمنون للخروج من القتال إلا لعذر ، وأولئك يستأذنونه للخروج لا للعذر ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) [الأحزاب : ١٣] ونحوه ، وأمّا المؤمنون فلا يستأذنونه إلا بعذر.

أو أن يكون ذلك في نوازل مختلفة ، أو في فرق ، أو أن يكون المؤمنون يظهرون له

٦٠٠