تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

عني شيئا» (١) ، دل ما روي عن عثمان أنه لم يحط عنه شيئا على أن الأمر بالإيتاء للمكاتبين من الأموال والحطّ عنهم إنما هو على الاختيار والإفضال ليس على الوجوب واللزوم ؛ لأنه لو كان على الوجوب ، لكان عثمان بن عفان لا يحتمل ألا يحط عنه شيئا.

ومن جعل ذلك واجبا على المولى أن يؤتيه من ماله ، ويعجله له كان ذلك خارجا عما روي عن الصحابة ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين ـ خلافا لهم ؛ لأنه روي عن بعضهم الحط عنهم ، والوضع دون الإيتاء من ماله.

وروي عن بعضهم : الاستيفاء على الكمال لا حطّ فيه ولا إيتاء ؛ دل أن قول من يأمرهم بالإيتاء من أموالهم دون الكتابة خارج عن قولهم جملة.

ثم يبطل ذلك من وجهين :

أحدهما : أن من قال لعبده : «إذا أديت إليّ كذا فأنت حر» ، فحط عنه بعض ذلك ، فأدّى البقية ـ لم يعتق حتى يؤدي الكل ؛ فدل أن قوله : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) ليس على الوجوب ، ولكن على الاختيار.

والثاني : أنه لا يسمى بعد الأداء : مكاتبا ، وإنما هو حرّ ، وإنما ذكر الإيتاء إياهم وهم مكاتبون حيث قال : (فَكاتِبُوهُمْ) ، ثم قال : (وَآتُوهُمْ) ، فلو كان على ما يقوله قوم ، لكان ذلك باطلا ؛ للوجهين اللذين ذكرناهما ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً).

ليس قوله : (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) بشرط فيه ؛ لأنهن لا يكرهن على البغاء وإن لم يردن التحصن ، دل أن ذلك ليس بشرط فيه ، ولا يمكن الإكراه فيه إذا كن أطعن فيه ، لكنه خرج ذلك على ما ذكر في القصة : كانوا يكرهونهن على الزنا ابتغاء المال ، وهنّ كنّ يردن التحصن ، فخرج الخطاب والنهي على فعلهم ، دون أن يكون ذلك شرطا فيه.

أو أن يكون ذلك إكراها إذا كن مطاوعات في ذلك.

وفيه دلالة بطلان المتعة وفسادها ؛ لأنهم كانوا يكرهون إماءهم على أن يؤاجروا أنفسهن للزنا ابتغاء الأجر ، وليست المتعة إلا كذلك.

وقال أهل التأويل : إن الآية نزلت في نفر من المنافقين عبد الله بن أبي وفلان وفلان كانوا يكرهون فتياتهم على الزنا ابتغاء عرض الدنيا (٢) ، فإن كان ما ذكروا ، ففيه دلالة أن

__________________

(١) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (١٠ / ٣٢٠ ، ٣٢١).

(٢) قاله جابر بن عبد الله أخرجه مسلم.

وابن جرير (٢٦٠٧٣) ، وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والبزار والدارقطني وابن المنذر وابن ـ

٥٦١

الزنا حرام في الأديان كلها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) هذا يحتمل وجهين :

[أحدهما :] يرجع إلى الإماء يقول : فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهن ، وكذلك روي في بعض الحروف أنه قرئ : فإن الله من بعد إكراههن لهن غفور رحيم (١).

والثاني : يرجع إلى السادات ؛ فإن الله لهم غفور رحيم إذا تابوا ، وأصلحوا. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) بخفض الياء ونصبها ، ثم يحتمل أن يكون المراد بالآيات : آيات القرآن جميعا ، وقوله : (مُبَيِّناتٍ) بالخفض ، أي : تبين للخلق ما لهم ، وما عليهم ، وما لله عليهم ، وما لبعضهم على بعض.

(مُبَيِّناتٍ) بالنصب ، أي : مبينات أنها من عند الله.

وجائز أن يكون المراد بالآيات : الحجج والبراهين ، فإن كان هذا ، فقوله : (مُبَيِّناتٍ) بالخفض ، أي : تبين وحدانية الله ـ تعالى ـ وعلم رسالة رسوله و (مُبَيِّناتٍ) بالنصب ، أي : واضحات بينات أنها حجج وبراهين.

وقوله : (وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) أي : أنزلنا إليكم أيضا مثل الذين خلوا من قبلكم ما حل بهم ، ونزل بالمكذبين من العذاب ، وموعظة ما يتعظ المتقون ، أو جعل لكم فيما أنزل من الآيات عليكم أمثالا من الذين خلوا من قبلكم ؛ لتتعظوا به والله أعلم.

قوله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ)(٣٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال بعضهم (٢) : الله هادي السموات

__________________

ـ أبي حاتم وابن مردويه من طريق أبي سفيان عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٣) ، وذكر له طرق أخرى فانظرها.

(١) وهي قراءة سعيد بن جبير أخرجه ابن جرير (٢٦٠٧٧) ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٥).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٦٠٨٥) وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٧).

٥٦٢

والأرض ، ثم انقطع الكلام فأخذ في نعت محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما ضرب له من الأمثال ، فقال : (مَثَلُ نُورِهِ) ، يقول : نور محمد إذ كان في صلب أبيه (كَمِشْكاةٍ) أي : كوة ـ بلغة الحبش ـ غير نافذة (فِيها مِصْباحٌ) أي : سراج المصباح.

يقول ـ والله أعلم ـ : ذلك السراج المضيء ضوؤه (فِي زُجاجَةٍ) ، الزجاجة نعتها الصافية التامة الصفاء ، والمشكاة : صلب أبيه عبد الله ، والزجاجة وصفاؤها : محمد رسول الله ، وطهره من الأدناس والمعاصي ، والمصباح : نوره ، وصفاؤه : قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وما فيه من الإيمان ، والحكمة ، والنبوة ، (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) أي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكره مع أسماء الأنبياء ، والرسل في اللوح المحفوظ عند الله في الفضيلة على تلك الأنبياء والرسل عليهم‌السلام كفضل الكوكب الدري ـ أي : المضيء ، وهي الزهرة ـ على سائر الكواكب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) يقول ـ والله أعلم ـ : استنار نور محمد من نور إبراهيم ؛ لأن محمدا على دين إبراهيم وعلى سنته ومنهاجه ، فمثل إبراهيم مثل الشجرة المباركة ، وأصل محمد من نسل إبراهيم ، صلوات الله عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) والزيتونة : المحاسن وطاعة إبراهيم لربه ؛ فنفعه الله بحسن طاعته يوم القيامة ، وفي غيره من المواطن ، كما تنفع الزيتونة أهلها في الدنيا ، فهي فاكهة وطعام ، وهي إدام وهو الصباغ والدهن والدباغة يعني : زيتونة (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) يقول : إن إبراهيم صلوات الله عليه لم يكن نصرانيّا لقول النصارى : هو نصراني يصلي قبلة النصارى من قبل المشرق ، ولا يهوديّا لقول اليهود : إنه كان على ديننا يصلي قبل المغرب ببيت المقدس ، يقول الله تعالى : لم يكن كما قال هؤلاء ، ولكن كان حنيفا مسلما مصلّيا إلى الكعبة ، وهي قبلته وإليها حج.

وقوله : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) يقول ـ والله أعلم ـ : لو أن إبراهيم لم يكن نبيّا لأصاب بحسن طاعة الله في الدنيا الفضل مع الأنبياء والرسل في الدنيا والدرجات العلى في الآخرة.

وقوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ) ؛ لأن محمدا وما جاء به من الدين والكتاب أصل نوره من قبل إبراهيم ؛ لأنه على دينه وسنته وكتابه ومنهاجه.

ثم قال : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) الذي جاء [به] محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو النور ، وهو القرآن [يهدي إليه] من يشاء ممن سبق [له] في علمه السعادة ، ويضل عنه من يشاء ممن

٥٦٣

سبق له في علمه الشقاء.

ثم قال : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) يعني : ويصف الله الأمثال للناس ؛ ليؤمنوا بالله ويوحدوه ويعرفوا نور نبيه من صنيعه ، ويصدقوا بإبراهيم ومحمد ـ عليهما أفضل الصلوات ـ أنهما رسولا الرب ، وهو تأويل مقاتل.

وقال أهل الكلام : قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : أنار الله لأهل السموات والأرض ، مثل نوره الذي به أنار ما ذكر مثل المشكاة التي ذكر إلى آخره.

وجائز أن يكون قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : بالله نور أهل السموات وأهل الأرض ؛ ألا ترى أنه قال : (مَثَلُ نُورِهِ) كذا ، ولم يقل : مثله ، ولو كان النور هو الله على ما قاله قوم وفهموه ، لقال : «الله نور السموات والأرض مثله كذا» ، ولم يقل : (مَثَلُ نُورِهِ) ، فدل قوله : (مَثَلُ نُورِهِ) كذا أنه لم يرد بالنور نفسه ، ولكن ما ذكرنا أنه به نور أهل السموات وأهل الأرض ؛ ألا ترى أنه قال في آخره : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أنه لم يرد بالنور ما فهموا ، (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) دل أنه ليس على ما فهموه به : أنه نور كسائر الأنوار التي عاينوها ويشاهدوها وهم المشبهة ، على هذا يخرج تأويل ابن عباس حيث قال : الله هادي أهل السموات والأرض.

وقوله : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) جائز أن يكون قوله : (مَثَلُ نُورِهِ) أي : مثل نور المؤمن الذي في قلبه مثل مشكاة فيها مصباح ؛ لأن المشكاة هي الكوة التي لا منفذ لها يدخل فيها الأنوار ، فتكون مظلمة ، فإذا جعل فيها المصباح أضاء ذلك كله وأناره حتى لا يبقى فيها ناحية إلا وقد أصابها الضياء والنور ، فعلى ذلك القلب ، وهو مظلم إذ ليس له منفذ يدخل فيه النور من الخارج ، فإذا أنار الله قلبه بإيمانه ظهر ذلك النور وأثره في جميع نواحيه وجوارحه ، وهو ما قال : «أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه» ، أخبر أن من شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ، فهذا يدل أن قوله : (مَثَلُ نُورِهِ) إنما هو مثل نور المؤمن ، وعلى ذلك روي في حرف أبي بن كعب أنه قرأ : مثل نور المؤمن كمشكاة (١) ، وفي حرف ابن مسعود : مثل نوره في قلب المؤمن.

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد وابن الأنباري في المصاحف ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٦).

٥٦٤

وقال الحسن (١) : (مَثَلُ نُورِهِ) قال : مثل القرآن في قلب المؤمن (كَمِشْكاةٍ) كوة (فِيها مِصْباحٌ) ، أو أن يكون قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : به تنجلي الظلمات ، وتنكشف الحجب والسواتر ؛ إذ النور إنما سمي : نورا ؛ لما به تنجلي الظلمات ، وتنكشف السواتر ، والحجب ، لا أنه نور ، ألا ترى أنه سمى القرآن : نورا ، والرسول : نورا ؛ لما به تنجلي الشبهة والظلمات ، وبه ترتفع السواتر والحجب وإن كانا في أنفسهما ليسا بنور سميا : نورا ؛ لما ذكرنا من تجلي الأشياء بهما وارتفاع السواتر ، فعلى ذلك جائز أن يسمى الله : نورا ؛ لما به يكون تجلي الظلمات والشبه ، وانكشاف السواتر ، وارتفاع الحجب ، لا أنه نور.

وقوله : (مَثَلُ نُورِهِ) قال بعضهم : مثل نور المؤمن على ما ذكرنا فيما تقدم.

وقال بعضهم (٢) : (مَثَلُ نُورِهِ) في صدر المؤمن.

وقال بعضهم (٣) : مثل نور محمد على ما ذكر مقاتل وغيره.

وقال بعضهم (٤) : مثل نور القرآن.

وقوله : (كَمِشْكاةٍ) قال : الكوة التي لا منفذ لها للنور على ما ذكرنا.

وقال بعضهم (٥) : موضع الفتيلة من القنديل.

وقال بعضهم (٦) : الحدائد التي تعلق بها القنديل.

وقوله : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : بعضهم (٧) : هي شجرة مصحرة تطلع عليها الشمس إذا طلعت وتغرب عليها إذا غربت ، وهو أجود الزيت.

وقال بعضهم (٨) : هي شجرة في كنّ لا تطلع عليها الشمس إذا طلعت ، ولا تغرب عليها إذا غربت.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٩٠٩٦) ، وعبد بن حميد كما في الدر المنثور (٥ / ٨٨).

(٢) قاله أبي بن كعب أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٠٨٩ ، ٢٦٠٩٠) ، وعن سعيد بن جبير (٢٦٠٩١) والضحاك (٢٦٠٩٢).

(٣) قاله كعب الأحبار وسعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٦٠٩ ، ٢٦٠٩٤).

(٤) قاله الحسن وابن زيد وزيد بن أسلم ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٦٠٩٦ ، ٢٦٠٩٧ ، ٢٦٠٩٨).

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦١٠١) ، وعن محمد بن كعب ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٨).

(٦) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦١١٦).

(٧) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦١١٧) ، وعن ابن عباس ومجاهد (٢٦١١٨).

(٨) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٩).

٥٦٥

وقال بعضهم (١) : ليست شرقية : لا غرب لها ، ولا غربية : لا شرق لها ، ولكنها شرقية غربية.

فكيفما كان فإنما ذكر الزيت لصفائه وخلوصه ؛ فيجب أن يسأل أهله فيقال : أي الزيت أجود وأصفى الذي تصيبه الشمس أو الذي لا تصيبه ، أو الذي تصيبه في وقت ولا تصيبه في وقت؟

وقال بعضهم : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) هو الله سبحانه هادي أهل السموات وأهل الأرض ، كما هداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضيء ؛ قالوا : هو زيت كلما مسته النار ازداد ضوءا على ضوء ، كذلك يكون قلب المؤمن يعمل الهدى قبل أن يأتيه العلم [فإذا أتاه العلم] ازداد هدى على هدى ونورا على نور ، وعن أبيّ بن كعب قال في قوله : (مَثَلُ نُورِهِ) : يقول : مثل نور المؤمن ، وكذلك يقرؤها : مثل نور المؤمن على ما ذكرنا (٢) من قبل. قال : فهو عبد قد جعل القرآن والإيمان في صدره.

قال : (كَمِشْكاةٍ) قال : المشكاة : صدره (فِيها مِصْباحٌ) : قال : المصباح : القرآن والإيمان الذي جعل في صدره.

قال : (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) فالزجاجة : قلبه.

قال : (الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) يقول : كوكب مضيء.

(يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) قال : الشجرة المباركة أصله ، فالمبارك : الإخلاص لله وحده لا يشرك به.

قال : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : فمثله كمثل شجرة ، جعله كالشجرة فهي خضراء ناعمة لا تصيبها الشمس على أيّ حال كانت : لا إذا طلعت ، ولا إذا غربت ، وكذلك هذا المؤمن قد أجير عن أن يصيبه شيء من الفتن وقد ابتلي بها ، فثبته الله فيها ، فهو بين أربع خلال : إن ابتلي صبر ، وإن أعطي شكر ، وإن قال صدق ، وإن حكم عدل ؛ فهو في سائر الناس كالرجل الحي يمشي في قبور الأموات.

قال : (نُورٌ عَلى نُورٍ) قال : فهو يتقلب في خمسة من النور : كلامه نور ، وعلمه نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره النور إلى يوم القيامة إلى الجنة.

قال : ثم ضرب مثل الكافر فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) وهو يحسبه عند الله خيرا فلا يجده ، فيدخله الله النار ، وقال في آية أخرى له مثلا فقال : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٩).

(٢) تقدم.

٥٦٦

لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ) [النور : ٤٠] فهو يتقلب في ظلمات.

وقال بعضهم (١) : في قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : بنوره يهتدي من في السموات ومن في الأرض على ما ذكرناه (مَثَلُ نُورِهِ) في قلب المؤمن (كَمِشْكاةٍ) وهي الكوة غير النافذة على ما ذكرنا (فِيها مِصْباحٌ) أي : سراج (كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) : مضيء ، أي : منسوب إلى الدرّ ؛ وهو قول القتبي (٢).

وقال أبو عوسجة : (كَمِشْكاةٍ) : الكوة التي تكون في الحائط ؛ ومثال جماعته : الكوة ، و (كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) : مثل لسانه وصدره وقلبه (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) قال : يكاد محمد يبين للناس وإن لم ينطق.

وعن الضحاك بن مزاحم (٣)(كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) قال : خلقت الكواكب من نار يقال لها : دري ؛ فمن ثمة قال : (كَوْكَبٌ دُرِّيٌ).

وقد ذكرنا قولهم في المشكاة :

قال بعضهم : الكوة : التي لا منفذ لها.

وقال بعضهم : الفتيلة.

وقال بعضهم : الفتيلة التي في جوف القنديل نفسه.

وقال بعضهم : القائم في وسط القنديل ، وهو موضع الفتيلة.

وقال بعضهم : هي الحدائد التي يعلق بها القنديل.

وأما الزجاجة فهي القنديل.

ثم إن كان قوله : (مَثَلُ نُورِهِ) أي : نور المؤمن ، فليس ذلك وصف كل مؤمن ونعته ، ولكن وصف المؤمن الذي يجتمع فيه جميع شرائط الإيمان وجميع الأخلاق الحسنة والآداب ؛ لأنه وصفه بطهارة نفسه وجسده وقلبه وجميع أعماله وأفعاله ؛ لأنه قال : (كَمِشْكاةٍ) ، وهي قلبه (فِيها مِصْباحٌ) وهو صدره الذي في قلبه المصباح والزجاجة وهو الإيمان الذي في صدره ، ثم نعت الزجاجة فقال : (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) أي : مضيء.

وقال بعضهم : من الدر ، فوصف الكل بالضياء والنور وطهارة الداخل منه والخارج ونقاوته ، فهو المؤمن الذي يجتمع فيه جميع الشرائط والخصال المحمودة ، وأما كل مؤمن فلا يحتمل ، وهذا أشبه ؛ ألا ترى أنه ذكر نعت الكافر من بعد وخبثه حيث قال :

__________________

(١) قاله أنس بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٠٨٦).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٣٠٥).

(٣) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم بنحوه (٥ / ٨٩).

٥٦٧

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ).

وإن كان وصف محمد ، ففيه جميع ما ذكر ونعته ، وإن كان القرآن فهو كذلك أيضا.

وقوله : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ) الذي ذكرنا يحتمل المؤمن ويحتمل محمدا ويحتمل إبراهيم في كلهم (نُورٌ عَلى نُورٍ) ، وقوله : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) يحتمل : يهدي الله لنور محمد ، ويحتمل : القرآن ، ويحتمل : الإيمان والهدى.

وقال بعضهم : (نُورٌ عَلى نُورٍ) قال : فالزيت نور ، والمصباح نور ، والقنديل نور ، وقال : المؤمن نور ، وعمله نور ، وكلامه نور.

ويحتمل قوله : (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ) أي : بنوره.

وقال بعضهم : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يقول : بنوره أضاء السموات والأرض على ما ذكرنا : (مَثَلُ نُورِهِ) يقول : في قلب المؤمن ، وهو في حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : في قلب المؤمن ، وهذا مثل ضربه للإيمان والقرآن ، والقلب حين يدخله الإيمان والقرآن (كَمِشْكاةٍ) يعني : الكوة ، (فِيها مِصْباحٌ) يعني : الإيمان ، والقرآن (فِي زُجاجَةٍ) يعني : القلب ، والمشكاة : الصدر ، فكما دخل هذا المصباح في الزجاجة فأضاء ؛ فكذلك أضاء القلب ، ثم خرج من الزجاجة ، فأضاءت المشكاة ، فكذلك أضاء الصدر ، ثم نزل الضوء من الكوة ، فأضاء البيت ، فكذلك نزل النور من الصدر فأضاء الجوف كله ؛ فلم يدخله حرام ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ) يحتمل ضرب الأمثال لهم وجهين :

أحدهما : ضرب لأفعالهم وأقوالهم مثلا ؛ ليعرفوا مقاديرها في الحسن والجمال ؛ ليعلموا قدرها من الجزاء والثواب ، أو ضرب الأمثال لهم للأنفس المكرمين المعظمين المستوجبين كل خير ؛ ليرغبوا في مثل ذلك فيستوجبوا ما استوجب أولئك ، وكان ضرب مثل الإيمان أو القرآن أو محمدا وما كان على اختلاف ما قالوا بالأنوار التي ضربها ـ والله أعلم ـ لما أنه قد أقام الحجج والبراهين على الإيمان والقرآن ومحمد حتى صاروا كالأنوار التي شبههم بها من الحسن والجمال والضياء إليها حتى يعرف حسن هذه الأنوار وبهاءها كل أحد ؛ فعلى ذلك المضروب به المثل صار في الحسن والبهاء والضياء بالحجج والبراهين كالأنوار التي لا يخفى حسنها وبهاؤها على أحد ، ولا ينكرها إلا معاند ومكابر ، وكان مثل الكفر والعناد من القبح والفساد والبطلان كالظلمات التي ذكر بعضها فوق بعض وكالسراب والزبد الذي ذكر حيث قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) ، وكالظلمات التي ذكر حيث قال : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ ...) الآية [النور : ٤٠](وَمَنْ لَمْ

٥٦٨

يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : (كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ) قال : الأنجم الخمسة دري : زهرة ، وعطارد ، والمشترى ، وبهرام ، والزحل.

قال قتادة (١) : الدري : الضخم المنير.

قال الكسائي : من همز «دريء» فهو حسنه وظهوره وارتفاعه ، تقول : درأ النجم ، وهو فاش ظاهر في كلام العرب ، ومن رفع الدال ومن لم يهمز فهو ينسبه إلى الدر ، ومنهم من يرفع الدال ويهمز وأظنها لغة.

وقال أبو عمرو بن العلاء : الدري : النجم الذي تراه يتلألأ كأنه يجيء ويذهب.

وقد روي في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الرجل من أهل عليين ليشرف على أهل الجنة ؛ فتضيء الجنة بوجهه كأنه كوكب دري» ، [و] روي أن أبا بكر وعمر (٢) ـ رضي الله عنهما ـ لمنهم ، وأنعم.

وأيضا روي دري بالرفع.

وفي خبر آخر عنه : «إن أول زمرة تدخل الجنة وجوههم على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على أضوأ كوكب دري في السماء ، لكل امرئ منهم زوجتان اثنتان آدميتان يري مخ سوقهما من وراء اللحم ، والذي نفس محمد بيده ما فيها غرب» (٣).

وقوله : (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) اختلف في قراءته :

قرأه بعضهم : (يُوقَدُ) بالياء ورفعها ونصب القاف ، يقول : المصباح يوقد.

ومن قرأها بالتاء ورفع الدال ونصب التاء رده على الزجاجة أراد تتوقد ، ثم طرح إحدى التاءين.

ومن قرأ بالتاء ورفعها يعني : الزجاجة التي توقد.

و [قرأ] أهل مكة : توقد بنصب التاء وتشديد القاف ، يعني : المصباح توقد ؛ فلذلك انتصب.

ومن قرأ : (يُوقَدُ) يعني : الكوكب أو المصباح.

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٩).

(٢) أخرجه الحميدي (٧٥٥) ، وأحمد (٣ / ٢٧ ، ٥٠) ، وعبد بن حميد (٨٨٧) ، وأبو داود (٢ / ٤٣٠) ، كتاب الحروف والقراءات (٣٩٨٧) ، واللفظ له.

وابن ماجه (١ / ١١٦) ، في المقدمة : باب في فضائل أصحاب رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ((٩٦) ، والترمذي (٦ / ٣٩) ، كتاب المناقب : باب مناقب أبي بكر الصديق (٣٦٥٨).

(٣) أخرجه أحمد (٣ / ١٦) ، والترمذي (٤ / ٢٨٨) ، أبواب صفة القيامة والرقاق والورع (٢٥٢٢) ، عن أبي سعيد الخدري.

٥٦٩

وقوله : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قد ذكرنا بعض أقاويلهم فيما تقدم ، لكنا نزيد فيها شيئا.

قال قائل : هي شجرة ضاحية من حين تطلع الشمس إلى أن تغرب ، ليس لها ظل شرقي ولا غربي ، وزيتها أصفى الزيت وأعذبه وأطيبه.

وقال قائل : ليست بشرقية يحوزها المشرق دون المغرب ، وليست بغربية يحوزها المغرب دون المشرق ، ولكنها بارزة في صحراء أو في رأس جبل تصيبها الشمس النهار كله ، وهو مثل الأول.

وقال الكسائي : ليست بشرقية وحدها ، ولا بغربية وحدها ولكنها شرقية وغربية ، كما تقول : لا آتيك ولا آتي فلانا ، له معنيان : إن شئت كان معناه : لا تأتي واحدا منهما ، وإن شئت كان معناه : أنك [لا] تأتيهما معا ، ومثله : والله لا آكل ولا يأكل زيد معنيان ، وكان يقال : رجل لا يرجو الجنة ولا يخاف النار ويحب الفتنة : إنه رجل صالح : أما الفتنة فالمال والولد ، قال الله تعالى : (إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [التغابن : ١٥] وهو يرجو الجنة ويخاف النار على ما فسرنا.

وقال بعضهم : (لا شَرْقِيَّةٍ) يقول : لا تضحى للشمس من أول النهار إلى آخره ، ولا غربية عليها ظل من أوّل النهار إلى آخره ، ولكنها شرقية وغربية يصيبها الشمس والظل ، والعرب تقول : لا خير في شجرة في مضآة ، ولا خير في شجرة في مضحاة.

وقائل يقول : لا تطلع الشمس ولا تغرب.

وقائل يقول : هي شجرة بالشام ليست بالمشرق وليست بالمغرب.

والحسن يقول : والله لو كانت هذه الزيتونة في الأرض ، لكانت شرقية أو غربية ، والله ما هي في الأرض ، ولكن هذا مثل ضربه الله تعالى لنوره وهو هذا القرآن.

وأما قوله : (نُورٌ عَلى نُورٍ) قال بعضهم : إيمان المؤمن نور ، وعلمه نور ، فهو نور على نور.

قال بعضهم : نور النار على نور الزيت ، فذلك نور على نور ، وهو بجودته يعني : الزيت.

وقال بعضهم (١) : نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا ، ولا يضيء واحد بغير صاحبه ، كذلك نور القرآن ونور الإيمان إذا اجتمعا لا يكون أحدهما مضيئا إلا بصاحبه.

وقال بعضهم : ما ذكرنا من نور الإيمان والعلم.

__________________

(١) قاله ابن أبي حاتم أخرجه السدي عنه كما في الدر المنثور (٥ / ٩٠) ، وعن مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٥١٢٦).

٥٧٠

ثم معنى تشبيه ما ذكر بالزيت ؛ لأن الزيت أصفى شيء وأطهر وأطيب شيء وأضوأ للسراج ، وكل المنافع من الإدام والدواء وغيره [منه] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) اختلف فيه :

قال بعضهم (١) : قوله : (أَنْ تُرْفَعَ) أي : تعظم ، ويرفع قدرها ـ وهي المساجد ـ على غيرها من البيوت المسكونة بذكر اسم الله فيها ، والتسبيح والتنزيه من الأقذار ، والأنجاس ، ومن الأمور الدنيوية.

وقال بعضهم (٢) : قوله : (أَنْ تُرْفَعَ) أي : تبنى وتتخذ.

فإن كان التأويل هذا ، ففيه الأمر ببناء المساجد واتخاذها.

وإن كان الأول ، ففيه الأمر بتعظيم المساجد ورفع قدرها بما ذكر من ذكر الله والتسبيح فيها.

ثم الإذن في هذا الأمر لوجهين :

أحدهما : بحق إقامة الجماعات فيها في هذه الصلوات المعروفة ؛ إذ الأرض كلها في الأصل جعلت مسجدا ؛ حيث قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» (٣).

فهي من حق جواز الصلاة مسجد ، فيخرج الأمر به مخرج الأمر ببنائها لإقامة الجماعات.

__________________

(١) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير (٢٦١٤١) ، وعبد الرزاق عنه ، كما في الدر المنثور (٦ / ٩١).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٦١٣١ ، ٢٦١٣٢ ، ٢٦١٣٣) ، وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ٩١).

(٣) ورد هذا الحديث عن جماعة من الصحابة ، وهم : جابر ، وحذيفة ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمرو ، وابن عمر ، وأبو ذر الغفاري ، وابن عباس ، وأبو موسى ، وأبو الدرداء ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو أمامة الباهلي ، والسائب بن يزيد :

حديث جابر : أخرجه البخاري (١ / ٤٣٥ ـ ٤٣٦) كتاب : التيمم حديث (٣٣٥) ، ومسلم (١ / ٣٧٠ ـ ٣٧١) كتاب : المساجد ، حديث (٣ / ٥٢١) ، والنسائي (١ / ٢١٠ ـ ٢١١) كتاب : الطهارة ، باب : التيمم بالصعيد ، حديث (٤٣٢) ، والدارمي (١ / ٣٢٢) ، والبيهقي (١ / ٢١٢) ، وأحمد (٣ / ٣٠٤) عن جابر بن عبد الله ، مرفوعا بلفظ : «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي ...» ، فذكر منها : «وبعثت إلى الناس عامة».

حديث حذيفة : أخرجه مسلم (١ / ٣٧١) كتاب : المساجد ، حديث (٤ / ٥٢٢) ، وابن أبي شيبة (١ / ١٥٧) ، والطيالسي (ص ٥٦) رقم (٤١٨) ، والنسائي في الكبرى (٥ / ١٥) كتاب : فضائل القرآن ، باب : الآيتان في آخر سورة البقرة رقم (٨٠٢٢) ، وابن خزيمة (١ / ١٣٣) رقم (٢٥٦) ، وابن عبد البر في التمهيد (٥ / ٢٢١) ، والدارقطني (١ / ١٧٥ ـ ١٧٦) ، والبيهقي (١ / ٢١٣) ، من طريق ربعي بن خراش عنه ، مرفوعا بلفظ : «فضلنا على الناس بثلاث» فذكر منها : «وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا وترابها طهورا».

حديث علي : أخرجه أحمد (١ / ٩٨) ، والبيهقي (١ / ٢١٣ ـ ٢١٤) ، من طريق زهير بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن محمد بن علي ، عنه بلفظ : «أعطيت ما لم يعط أحد ...» ـ

٥٧١

__________________

ـ وذكر منها : «وجعل التراب لي طهورا».

وهذا الطريق رجحه أبو زرعة وقال : وهذا عندي الصحيح ، كما في العلل (٢ / ٣٩٩) ، والحديث ذكره الهيثمي في المجمع (١ / ٢٦٥ ـ ٢٦٦) وقال : رواه أحمد ، وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل وهو سيئ الحفظ ، قال الترمذي : صدوق وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه ، وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول : كان أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم ، والحميدى يحتجون بحديث ابن عقيل. قلت : فالحديث حسن ، والله أعلم.

حديث أبي هريرة : أخرجه مسلم (١ / ٣٧١) كتاب : المساجد ، حديث (٥ / ٥٢٣) ، والترمذي (١ / ١٠٥) كتاب : السير ، باب : ما جاء في الغنيمة ، حديث (١٥٥٣) ، وأحمد (٢ / ٤١٢) ، وأبو عوانة (١ / ٣٩٥) ، والبيهقي (٢ / ٤٣٢) ، وفي دلائل النبوة (٥ / ٤٧٢) ، والبغوي في شرح السنة (٧ / ٦) ، من طريق العلاء بن عبد الرحمن ، عنه بلفظ : «فضلت على الأنبياء بست ...» فذكر منها : «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».

حديث عبد الله بن عمرو : أخرجه أحمد (٢ / ٢٢٢) بلفظ : «لقد أعطيت الليلة خمسا ما أعطيهن أحد قبلي ...» فذكر منها : «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (١٠ / ٣٧٠) ، وقال : رواه أحمد ورجاله ثقات.

حديث ابن عمر : أخرجه البزار (١ / ١٥٧ ـ ١٥٨ ـ كشف) : ثنا إبراهيم بن إسماعيل بن سلمة ابن كهيل ، ثنا أبي ، عن أبيه ، عن سلمة بن كهيل ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، مرفوعا ولفظه : «أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي ...» فذكر منها : «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».

وقال البزار : لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد ، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (١ / ٢٦٦) وقال : رواه البزار ، والطبراني ... وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن كهيل ، وهو ضعيف ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وقال : في روايته عن أبيه بعض المناكير.

حديث أبي ذر : أخرجه أبو داود (١ / ١٨٦) كتاب : الصلاة ، باب : في المواضع التي لا تجوز فيها الصلاة ، حديث (٤٨٩) ، وأحمد (٥ / ١٤٥) ، والدارمي (٢ / ٢٢٤) ولفظه : «أعطيت خمسا ...» ، وفيها : «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا». وصححه ابن حبان (٢٠٠ ـ موارد). ولفظ أبي داود «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا».

حديث ابن عباس : أخرجه أحمد (١ / ٢٥٠) وفيه : «وجعلت لى الأرض مسجدا وطهورا» ، وذكره الهيثمي في المجمع (٨ / ٢٦١) وقال : رواه أحمد والبزار ، والطبراني بنحوه ... ورجال أحمد رجال الصحيح غير يزيد بن أبي زياد ، وهو حسن الحديث.

وله طريق آخر عن ابن عباس :

أخرجه البزار (٢٤٤١ ـ كشف) ، وذكره الهيثمي في المجمع (٨ / ٢٦١) وقال : وفيه من لم أعرفهم.

حديث أبي موسى : أخرجه أحمد (٤ / ٤١٦) عنه بلفظ : «أعطيت خمسا : بعثت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لى الأرض طهورا».

وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٨ / ٢٦١) وقال : رواه أحمد متصلا ، ومرسلا ، والطبراني ورجاله رجال الصحيح.

حديث أبي الدرداء : ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٢ / ٩٣) بلفظ : «فضلت بأربع خصال» وفيها : «وجعلت لي الأرض مسجدا» ، وقال الهيثمي : رواه الطبراني وإسناده منقطع.

حديث أبي سعيد : ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (٨ / ٢٧٢) ، وفيه : «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا». وقال الهيثمي : رواه الطبراني في الأوسط ، وإسناده حسن. ـ

٥٧٢

والثاني : أمر بها خصوصا للمساجد ؛ إذ غيرها من البيوت المسكونة إنما اتخذت وبنيت بالإذن والإباحة ، فخص المساجد بالإذن ببنائها خصوصا لها ؛ إذ لو كان إذنا على ظاهر ما ذكر ، لكان المساجد وغيرها من البيوت سواء ، والله أعلم.

وقوله : (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) فإن كان تأويل قوله : (أَنْ تُرْفَعَ) أي : تعظم ويرفع قدرها ؛ فيكون قوله : (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ) تفسيرا لذلك التعظيم والقدر الذي أمر ، أي : أمر أن تعظم ، ويرفع قدرها بذكر اسم الله فيها ، وما ذكر من التسبيح.

وإن كان التأويل هو الأمر بالبناء يكون قوله : (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها) كذا على الابتداء ، أي : أمر أن نبني سويا مساجد ، وأمر أن يذكر فيها اسمه ، ويسبح له فيها بالغدو والآصال.

ثم اختلف في تلاوة قوله : (يُسَبِّحُ لَهُ) :

قرأ بعضهم (يُسَبِّحُ) بنصب الباء.

وقرأ بعضهم (يُسَبِّحُ) بخفض الباء.

فمن قرأها بالنصب صيره على الأول (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ، ثم ابتدأ فقال : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ).

ومن قرأها بالخفض ـ أعني : خفض الباء ـ صيره مقطوعا من الأول مبتدأ به ، أي : يسبح له فيها رجال بالغدو والآصال ، ثم ابتدأ من قوله : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ) ثم قوله : (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) جائز أن يراد بذكر اسمه : الصلاة ، وكذلك التسبيح.

ويحتمل أن يريد بذكر اسمه : جميع أنواع الأذكار من الخير.

ويراد بالتسبيح بالغدو والآصال : الصلاة المفروضة.

ثم قال بعضهم : الغدو : صلاة الغداة ، والآصال : صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء ؛ فيجعل الأصيل عبارة عن هذه الصلوات في أوقاتها.

وقال بعضهم : الآصال : صلاة العصر خاصة ، وأما غيرها من الصلوات فإنما عرف لا بهذا ولكن بشيء آخر ، والغدو هو صلاة الفجر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ) ، أي : لا تشغلهم تجارة ولا بيع ، ذكر

__________________

ـ حديث أبي أمامة : أخرجه أحمد (٥ / ٢٤٨ ، ٢٥٦) ، وذكره الهيثمي في المجمع (٨ / ٢٦٢) ولفظه : «فضلت بأربع : جعلت الأرض لأمتي مسجدا وطهورا».

وقال الهيثمي : رواه أحمد والطبراني بنحوه ، ورجال أحمد ثقات.

حديث السائب بن يزيد : رواه الطبراني في الكبير كما في المجمع (٨ / ٢٦٢) ، وقال الهيثمي : «وفيه إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة وهو متروك».

٥٧٣

التجارة والبيع ، والبيع تجارة ، ولكن كان اسم التجارة يجمع كل أنواع التقلب ، واسم البيع يقع على خاص ، وكذلك يقال للذي يجمع أنواع التقلب : تاجر ، وللذي يبيع شيئا خاصّا : بائع.

أخبر أنه لا يشغلهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله (١).

ثم جائز أن يكون قوله : (لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) أي : لا يشتغلون بالتجارة والبيع ، ولكن فرغوا أنفسهم لذكر الله ، وإقامة الصلاة ، وما ذكر.

وجائز أن يكون يتجرون ويبيعون لكن تجارتهم وبيعهم لا تشغلهم ، ولا تمنعهم عن ذكر الله ، يكونون أبدا في ذكر الله.

ثم قوله : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) يحتمل الصلاة.

وقوله : (وَإِقامِ الصَّلاةِ) أي : تمام الصلاة بركوعها ، وسجودها ، وقراءتها ، وجميع أسبابها ، وشرائطها.

وجائز أن يكون قوله : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) جميع أنواع الأذكار (وَإِقامِ الصَّلاةِ) وإقامة الصلاة بنفسها وإيتاء الزكاة.

وقال بعضهم : جائز أن يكون قوله : (عَنْ ذِكْرِ اللهِ) الخطبة (وَإِقامِ الصَّلاةِ) صلاة الجمعة ؛ لأنه قال : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً ...) الآية [الجمعة : ١١] ، وقال : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ) [الجمعة : ٩] وهي الخطبة. [وهذا القول] غير مسموع من أهل التأويل ، ولكنه يحتمل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) وهو يوم القيامة يخبر عن شدة هول ذلك اليوم وخوفه إذ لا تثبت القلوب والأبصار فزعا منه وخوفا ، كقوله : (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ ...) الآية [إبراهيم : ٤٣] ، وكقوله : (إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ) [غافر : ١٨].

وجائز أن يكون قوله : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) يعرفون مرة ، ويجهلون تارة ، ويعتبرون يومئذ بما لم يعتبروا في الدنيا ، ويقرون بما لم يقروا.

وقال بعضهم (٢) : (يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ) ، حين زالت عن أماكنها من الصدور ، فنشبت في حلوقهم عند الحناجر ، ثم قال : (وَالْأَبْصارُ) أي : تتقلب أبصارهم فيكونون زرقا ، وهو قول مقاتل.

وقوله : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) يحتمل قوله : (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا) أي :

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٣٩٦).

(٢) قاله الضحاك أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٩٤).

٥٧٤

يجزيهم الله جزاء إحسانهم ، ويكفر عنهم مساويهم ، ولا يجزيهم بها كقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا ...) الآية [الأحقاف : ١٦] ، وكقوله : (وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) [الزمر : ٣٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على قدر حسناتهم ، (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) قال بعضهم : ليس فوقه ملك يحاسبه فهو لذلك يرزق من يشاء بغير حساب لا يخاف من أحد يحاسبه كقوله (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣].

ويحتمل قوله : (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : يعطيهم بلا حساب يحاسبهم ، ويدخلهم الجنة بلا محاسبة.

وجائز أن يكون (بِغَيْرِ حِسابٍ) أي : يعطيهم بلا حساب أضعافا مضاعفة ما لا يحصى لا على قدر أعمالهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (٤٠)

وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) جائز أن يكون ضرب مثل أعمال الكفرة بالسراب الذي ذكر من وجهين :

أحدهما : أنهم قد عملوا في الظاهر أعمالا طمعوا أن يصلوا إليها في الآخرة ، وينتفعوا بها من نحو الصدقات ، والنفقات ، وصلة الأرحام ، ونحوه مما هي في الظاهر أعمال الخير ، فإذا هم حرموا أجرها ولم يجدوا شيئا كالذي يرى السراب من بعيد يحسبه ماء فسار إليه ، فإذا هو لا شيء ؛ فعلى ذلك الكفار عملوا تلك الأعمال على طمع منهم أنهم ينتفعون بها ، فإذا هم على لا شيء كالعطشان الذي يرى [السراب] فحسبه أنه ماء ، فإذا هو سراب.

والثاني : ضرب مثل أعمالهم بالسراب الذي ذكر ، وذلك أنهم قد عبدوا الأصنام والأوثان رجاء أن ينتفعوا بشفاعتهم في الآخرة ؛ كقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] وقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] وكانت عبادتهم لما ذكروا من شفاعتهم عند الله ثم لم ينتفعوا فصاروا كالعطشان الذي يرى السراب يحسب أنه ماء ؛ فإذا جاءه وجده سرابا ؛ لم يجده ماء كما حسبه ، إلى هذا تمام المثل.

ثم ابتدأ فقال : (وَوَجَدَ اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) أي : وجد الله يوفيه حساب عمله وجزاءه.

٥٧٥

أو يقول : قدم على عمله يوم القيامة لم يجد عمله الذي عمل في الدنيا شيئا إلا كما وجد هذا العطشان هذا السراب ، ووجد الله عنده فوفاه حسابه ، يقول : قدم على الله فوفاه حسابه ؛ أي : عمله.

وقال بعضهم : هذا المثل ضرب للكفار ؛ وذلك أنهم يبعثون يوم القيامة وقد تقطعت أعناقهم من العطش ، فيرفع لهم سراب بقيعة من الأرض ؛ فإذا نظروا إليه حسبوه ماء ؛ فأتوه ليشربوا منه فلم يجدوا شيئا ، ويؤخذون ثمة فيحاسبون ، وكذلك أعمالهم تضمحل يوم القيامة فلا يصيبون منها خيرا.

وقوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ).

هذا مثل آخر ضربه الله لأحوال الكافر ؛ أو (كَظُلُماتٍ) جسده ، شبهه بظلمات ؛ وذلك أن البحر إذا كان عميقا كان أشدّ لظلمته ؛ فقال : والبحر اللجي : قلب الكافر ، (يَغْشاهُ مَوْجٌ) : فوق الماء (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ) : فهو ظلمة الموج ، وظلمة الليل ، وظلمة السحاب ، هذه ظلمات (بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) ، فكذا الكافر قلبه مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم ، لا يبصر الإيمان كما أن صاحب البحر [إذا] أخرج يده في تلك الظلمة لم يكد يراها ؛ أي : لم يرها البتة.

أو أن يكون ضرب المثل بظلمات ثلاث بظلمات أحوال لا يزال يزداد ظلمة كفره في كل وقت وفي كل حال بعمله الذي يعمله ؛ كالظلمات التي ذكرها ؛ فكان كضرب المثل الذي سبق لأنوار أحوال المؤمن ؛ حيث قال : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) والنور جسده وصدره وقلبه.

ثم قوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ) : ليس هو حرف شك ، ولكنه كأنه قال : إن ضربت مثل عمله بالسراب فمستقيم ، وإن ضربته بالظلمات التي ذكرها فمستقيم ، بأيهما ضربت فمستقيم صحيح ، لا أنه ذا أو ذا.

ثم ذكر في أعمال الكفرة مثلين : أحدهما : السراب ، والثاني : الظلمات. فجائز أن يكون في المؤمن أيضا مثلين : الظلمة التي ذكر مقابل النور الذي ذكر في المؤمن ، والسراب الذي ذكر لأعمالهم مقابل ما ذكر من أعمال المؤمنين (١) ؛ حيث قال : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ...) إلى قوله : (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

وقوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ).

قال بعضهم : من لم يجعل الله له إيمانا فما له من إيمان.

وقيل : هدى ، فما له من هدى ، وهما واحد.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٤٠٨).

٥٧٦

والآية على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : لم يجعل الله للمؤمن من النور إلا وقد جعل مثله للكافر ، وفي الآية إخبار أنه لم يجعل للكافر النور ؛ إذ لو كان جعل للكافر كما جعل للمؤمن لم يكن لقوله : (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) ـ معنى ؛ دل أنه لم يجعل للكافر النور.

وقوله : (فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) يقول : فجازاه بعمله فلم يظلمه.

وقوله : (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) قد ذكرناه في غير موضع.

قال القتبي (١) : السراب : ما رأيته من الشمس كالماء نصف النهار ، والآل : ما رأيته في أوّل النهار وآخره ؛ الذي يرفع كل شيء ، والقيعة : القاع.

وقال أبو عوسجة : السراب الذي يثيره الحرّ فتراه كأنه ماء يجري وهو الذي يكون نصف النهار إلى السماء ، والآل في أوّل النهار إلى قريب من نصف النهار ، والقيعة : القاع ؛ وهي الأرض اليابسة الطيبة التي يستنقع فيها الماء ، وقاع واحد ، وقيعان جمع ، والظمآن : العطشان ، وقوم ظماء ، وامرأة ظمأى ، ونسوة ظماء ، وأظمأته : أعطشته ، وظمأته أيضا.

(بَحْرٍ لُجِّيٍ) اللجي : الكثير الماء ، واللجة : وسط البحر (يَغْشاهُ مَوْجٌ) ؛ أي : يصير فوقه ، قال : الموج طرائق في الماء تكون إذا هبت الريح.

وقال الكسائي : الظمآن والصديان والعطشان واحد ، قيل : والسراب : الزوال ، والآل : بعد الزوال ؛ وهو أرفع من السراب ، والرواق بعد العصر.

وقال بعضهم في قوله : (إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) : يقول : لم يقاربه البصر ؛ كقوله : الرجل لم يصب ولم يقارب.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٤٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤) وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤٥)

وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٠٥).

٥٧٧

قوله : (أَلَمْ تَرَ) ، و (أَلَمْ تَعْلَمْ) ، ونحوه في الظاهر حرف تعجيب واستفهام ، يقول الرجل لآخر : ألم تر كذا ، وأ لم تعلم كذا ؛ على التعجيب أو على الاستفهام ، لكنه يخرج من الله على وجهين :

أحدهما : أي : قد رأيت وعلمت ؛ إذ الاستفهام لا يجوز عنه.

والثاني : على الأمر ؛ أي : اعلم وره ؛ على ما ذكرنا في غير موضع.

وقوله : (يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

يحتمل تسبيح من ذكر وجهين :

أحدهما : تسبيح خلقة وصنعة ؛ إذ في خلقة كل أحد دلالة وحدانيته وتعاليه عن الأشباه وتنزيهه ، والشهادة له بالربوبية ، والتفرد بالألوهية له.

والثاني : يجعل الله ـ تعالى ـ في هذه الخلائق من الطيور والدوابّ وغيرها معنى يسبحون له بذلك ، يفهمون هم ذلك من أنفسهم ، ويعرفون أنه تسبيح ؛ وإن لم يفهم غيرهم من الخلائق ، نحو ما ذكر من تسبيح الجبال والطير في قصة سليمان في قوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) [سبأ : ١٠] ، وقال في آية أخرى : (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ* وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) [ص : ١٨ ، ١٩].

ولو كان التسبيح ممن ذكر تسبيح خلقة لكان سليمان وغيره من الناس في ذلك شرعا سواء ؛ والعشي وغيره من الأوقات سواء ، فدل تخصيص سليمان في ذلك ، وتخصيص الأوقات من بين غيرهم على أن تسبيح هذه الأشياء ليس بتسبيح خلقة ؛ ولكنه تسبيح عبادة بالمعنى الذي جعل له فيه ، وإن لم يفهم غيره من الخلائق تسبيحهم ؛ ألا ترى أن الله تعالى أخبر عن قول النملة ؛ حيث قال : (قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ ...) الآية [النمل : ١٨] ، ثم معلوم أنه لم يكن حقيقة قوله كقول المميز والممتحن ، ولكنه معنى ، فهموا منها ذلك ، فعلى ذلك الأول ؛ ألا ترى أنه أخبر عن نظر الجوارح وشهادتها عليه يومئذ ؛ حيث قال : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ...) الآية [النور : ٢٤] وقال : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ ...) الآية [فصلت : ٢٠] فيفهم هؤلاء من شهادة الجوارح عليهم ما لم يفهمه غيرهم حتى أنكروا عليها ؛ دل ذلك أنه ما ذكرنا.

وذلك جائز أن يكون لمعنى فيهم فهموه هم ولا يفهمه غيرهم ؛ ألا ترى أن الله جعل في سرّية الماء معنى يحيا به كل شيء إذا أصابه ووصل إليه ، وذلك المعنى لا يعلمه إلا الله أو من أطلعه الله عليه وارتضاه لنفسه رسولا ، فعلى ذلك تسبيح من في السموات والأرض والطير وغيره ، جعل في سرّيتهم معنى يعرفون هم من أنفسهم ذلك تسبيحا له

٥٧٨

وتنزيها ؛ وإن لم يفهمه غيرهم ، والله أعلم ؛ كقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤].

وقوله : ـ عزوجل ـ : (يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ).

حرف «من» إنما يعبر به عن التمييز وحرف «ما» يعبر به [عن] المميز.

وقوله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ).

قال بعضهم : كل من فيها قد علم صلاته وتسبيحه ؛ من الملائكة وغيرهم ؛ بلغته ولسانه غير كفار الإنس والجن.

وجائز أن يكون قوله : (كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) ما ذكرنا أن كلا منهم يعرف ويفهم أنه يسبح له ، وإن لم يفهم غيره ، كأنه يذكر سلطانه وملكه وغناه عن عبادة هؤلاء والتسبيح ؛ لأن من سبح له كل شيء في السموات والأرض ، فترك عبادة هؤلاء له وعبادته بمحل واحد لا ينفع ولا يضر.

أو أن يقول : من له ملك السموات والأرض لا يقع له الحاجة إلى عبادة أحد ولا طاعته ، وإنما الحاجة والمنفعة في الطاعة والعبادة لهم دون الله ؛ ولذلك قال : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) على أثر ذلك.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ) جائز أن يكون هذا على الأول ؛ أي : عليم بما يفعل من ذكر من التسبيح وغيره ، أو أن يكون على ابتداء وعيد للخلق ؛ أي : عليم بجميع ما يفعلون.

وقوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) قد ذكر في غير موضع.

وقوله : (وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ) أي : قد صفت أجنحتها في الطيران ، وكذلك قال أبو عوسجة ، أي : صفت أجنحتها في الهواء فلا تحركها.

وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) قيل (١) : يسوق سحابا (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي : بعضه إلى بعض (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) قال : فيها تقدم وتأخير (ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً) أي : قطعا يحمل بعضه على أثر بعض (ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) أي : يضم السحاب بعضه إلى بعض بعد الركام.

وقال بعضهم : قوله : (يُزْجِي) أي : يخرجه من الأرض فيسخره بين السماء والأرض ثم يجعله ركاما.

وقوله : (فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) وقيل : «خلله» (٢) ؛ أي : من خلال السحاب (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ) قال بعضهم : جبال من ثلج ينزل الله على السحاب

__________________

(١) قاله ابن جرير (٩ / ٣٣٧).

(٢) قرأ ابن عباس (خلاله): (خلله) ، أخرجه ابن جرير (٢٦١٧١ ، ٢٦١٧٢) ، وعن الضحاك (٢٦١٧٠).

٥٧٩

منها الثلج والبرد.

وقال بعضهم : جبال خلقها الله من برد في السماء ثم ينزل.

وليس في الآية بيان أن الجبال التي ذكر أنها من السماء أنها من ثلج أو برد ، سوى أنه أخبر أن فيها بردا ؛ فالأشياء تشبه بالجبال وتنسب إليها ؛ إما للكثرة ، وإما للشدة والغلظ والعظم ثانيا ؛ كقوله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ...) الآية [النمل : ٨٨] ؛ فجائز أن تكون الجبال المذكورة في هذه الآية هي الجبال التي أخبر أنه ينزلها ، أو لا يدري أين هي : في السماء أو فيما بين السماء والأرض؟

وقوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) في نفسه أو زرعه أو ثمره فيضره ، (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) فلا يصيبه ، وإن كان على هذا فهو يخرج على (١) التعذيب ، وكذلك عمل البرد يفسد في مكان ، ويترك مكانا لا يعمه ، ولكن يصيب مكانا ويخطئ مكانا.

وجائز أن يكون قوله : (فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ) من بركته (وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ) من بركته ، (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ) قيل : ضوء برقه ، كاد أن يقارب أن يذهب ضوء البرق بالأبصار من شدة نوره ، (يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) تقليبه الليل والنهار واختلافهما : يأتي بهذا ويذهب بالآخر.

يذكر هذا ـ والله أعلم ـ صلة قوله : (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية ؛ يخبر عن سلطانه ، وقدرته ، وتدبيره ، وعلمه ، وحكمته ، ووحدانيته ، وقدرته ، ما ذكر من سوق السحاب بين السماء والأرض ، وتسخيره ، وضم بعضه إلى بعض ـ دل ذلك أنه قادر بذاته ، لا يعجزه شيء ، ودل نزول المطر وإصابته في مكان دون مكان ، وتخطيه موضعا دون موضع مع اتصال السحاب وانضمام بعض على بعض على السواء أنه على التدبير والعلم كان ذلك ، لا بطباع السحاب ، أو على جزاف.

ودل جريان الأمر واتساق التدبير فيما ذكرنا ، وفي اختلاف الليل والنهار ، وتقليبهما من حال إلى حال ، من النقصان إلى الزيادة ، ومن الزيادة إلى النقصان ، واتصال منافع السماء بمنافع الأرض على بعد ما بينهما ـ أنّه تدبير واحد ، لا عدد ؛ إذ لو كان تدبير عدد ، لمنع بعض بعضا عما يريد من التدبير والنفع ، دل ذلك كله على أنه واحد ، عليم ، قادر ، مدبّر ، لا يعجزه شيء ؛ ولذلك قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) ؛ لما ذكرنا فيه من وجوه الاستدلال والاعتبار.

قال القتبي (٢) وأبو عوسجة : (يُزْجِي) أي : يسوق (رُكاماً) بعضه فوق بعض (فَتَرَى

__________________

(١) في أ : عن.

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٠٦).

٥٨٠