تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

بأدب الله ، وروي في بعض الأخبار : (أن من دخل بيتا بغير إذن قال له الملك الموكل به : عصيت وآذيت فيسمع صوته الخلق كله غير الثقلين ، ويصعد صوته إلى السماء الدنيا ، فيقول ملائكة السماء : إن فلانا عصى ربه وأذى).

وقوله : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ) هذا يدل على أن الاستئذان وطلب الإذن لا لحيث أنفسهم خاصة ولكن لأنفسهم ولما لهم في البيوت من الأموال ؛ لأنه قال : (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها) لم يأذن لهم بالدخول فيها وإن لم يكن فيها أحد حتى يأذن أرباب الأموال والمنازل بالدخول فيها ؛ ليعلم أن النهي عن الدخول للأنفس والأموال جميعا ؛ لأن الناس يتخذون البيوت والمنازل صونا للأنفس والأموال جميعا ، فكما يكرهون اطلاع غيرهم على أنفسهم وعيالاتهم فلا يطيب أنفسهم أيضا [باطلاع غيرهم] على أموالهم وأمتعتهم فلا يدخل إلا بإذن من أهلها (١) ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ) ذكر في بعض الأخبار أن الاستئذان ثلاث من لم يأذن له فيهن فليرجع ؛ أما الأولى : فيستمع الحي ، وأمّا الثانية : فيأخذون حذرهم ، وأما الثالثة : فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا (٢).

وقيل (٣) : لا تقعدن على باب قوم ردوك عن بابهم ؛ فإن للناس حاجات ولهم أشغال ، والله أعذر بالعذر.

وفي بعضها : وما تنقم من شيء بابن آدم هو أزكى لكم.

وقوله : (هُوَ أَزْكى لَكُمْ) ؛ لأنه إذا لم يؤذن بالدخول فقعدوا على بابهم ولم يرجعوا ، أورث ذلك معاني تكره :

أحدها : تهمة على أهل الدار على ما يقعد على أبواب أهل التهم من الشرطي وغيره فذلك مكروه عند الناس.

والثاني : يكون للناس أشغال وحاجات في منازلهم وخارج المنازل ، فإن انتظر وقعد على بابهم ضاق بذلك ذرعهم وشغل قلوبهم ذلك فلعل حاجاتهم لا تلتئم لشغلهم به ؛ لذلك كان الرجوع أزكى لهم وخيرا لهم من القعود على الباب والانتظار ، والله أعلم.

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فيهن وإلا فارجع» (٤).

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٣٤٥ ، ٣٤٦).

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ٣٤٤).

(٣) أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن قتادة ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧١).

(٤) أخرجه البخاري (١٢ / ٢٩٠ ، ٢٩١) ، كتاب الاستئذان : باب التسليم والاستئذان ثلاثا (٦٢٤٥) ، ومسلم (٣ / ١٦٩٤) ، كتاب الآداب : باب الاستئذان (٣٣ / ٢١٥٣) ، وأبو داود (٢ / ٧٦٦ ، ٧٦٧) ، كتاب الأدب : باب كم مرة يسلم الرجل في الاستئذان (٥١٨٠).

٥٤١

وقال بعضهم : معنى (وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) : يقول : إن سكت عنكم فلم يؤذن لكم فقد قيل لكم : ارجعوا ، وإن لم يقولوا بألسنتهم : ارجعوا.

وقوله : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) وعيد ؛ كقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) [النحل : ١٩].

ثم الاستئذان على محارمه لازم ، وإن كان يجوز له أن ينظر إلى شعر ذات محرمه ووجهها فإنه منهي عن النظر إلى ما سوى ذلك من عورتها ؛ لما يخشى أن يبدو من عورة المرأة إن دخل عليها بدون إذن.

روي أن رجلا سأل نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أنا أخدم أمي وأفرشتها أستأذن عليها؟ قال : «نعم». فسأله ثلاثا ؛ فقال له : «أيسرك أن تراها عريانة؟!» قال : لا قال : «فاستأذن عليها» (١).

وكذلك روي عن حذيفة أن رجلا سأله فقال : أستأذن على أختي؟ فقال : إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوؤك.

وكذلك قال ابن مسعود (٢) وابن عباس (٣) عن أحدهما في الأم وعن الآخر في الأخت.

لكن أمره في الاستئذان على هؤلاء أسهل وأيسر من أمر الأجنبي ؛ إذ كان مطلقا له أن ينظر إلى شعر محرمه ووجهها ، والله أعلم.

وقوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) يحتمل قوله : (بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) وجهين :

أحدهما : بيوتا غير محتملة للسكنى ، وهي الخربات ، والمواضع التي يقضى فيها الحوائج ، وكذلك ذكر في حرف حفصة : بيوتا غير معمورة لكم فيها منافع.

والثاني : بيوتا مسكونة محتملة للسكنى إلا أن أهلها لم يسكنوها ؛ لنزول الناس فيها ، وهي نحو الخانات والرباط التي تكون للمارة ، وعلى ذلك روي في الخبر أنه لما نزلت آية الاستئذان قال أبو بكر : يا رسول الله ، فكيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة وبين المدينة والشام ليس فيها مساكن؟ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ).

وذكر في حرف ابن مسعود : ليس عليكم جناح في بيت ليس فيه ساكن أن تدخلوه.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٩٨) ، عن عطاء بن يسار مرسلا.

(٢) أخرجه ابن جرير (٩ / ٢٩٨) ، والبيهقي ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٠).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٥٩٢٦).

٥٤٢

وقوله : (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) إن كان ذلك البيوت الخانات والبيوت التي ينزل فيها أهل السفر فيكون قوله : (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي : فيها منفعة لكم من الدفء في الشتاء ، والظل في الصيف ، ودفع الحرّ في أيام الحرّ ، ودفع البرد في أيام البرد.

وإن كان البيوت هي الخربات وقباب وأمتعات التي كانوا يضعون في الطهور لقضاء الحوائج ، فيكون قوله : (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) أي : الخلاء والبول ، والله أعلم.

وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) قال : ما تبدون من السلام ، وما تخفون منه ، أو في كل شيء ؛ كقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ) يذكر هذا لنكونن أبدا على حذر وخوف ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(٣١)

وقوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا علي إن لك كنزا في الجنة ، وإنك ذو قرنيها فلا تتبع النظرة النظرة ؛ فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» (١). وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ [قال] : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا بن آدم لك أول نظرة فإياك الثانية».

وعن جرير قال : سألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري (٢).

وعن ابن عباس قال : يغضوا أبصارهم عن شهواتهم فيما يكره الله (٣).

ثم يحتمل قوله : (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) وجوها ثلاثة :

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٥٩) ، والدارمي (٢ / ٢٩٨) ، والطحاوي في شرح المعاني (٣ / ١٤ ، ١٥) والحاكم (٣ / ١٢٣) ، وصححه ووافقه الذهبي.

(٢) أخرجه مسلم (٣ / ١٦٩٩) ، كتاب الآداب : باب نظر الفجاءة (٤٥ / ٢١٥٩) ، وأحمد (٤ / ٣٥٨ ، ٣٦١) ، والدارمي (٢ / ٢٧٨) ، والترمذي (٤ / ٤٨٠) ، كتاب الأدب : باب ما جاء في نظرة الفجاءة (٢٧٧٦) ، وأبو داود (١ / ٦٥٢) ، كتاب النكاح : باب فيما يؤمر به من غض البصر (٢١٤٨) ، وابن حبان (٥٥٧١) ، والحاكم (٢ / ٣٩٦) ، والبيهقي (٧ / ٨٩ ، ٩٠).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٥٩٤٩) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٢).

٥٤٣

أحدها : غضوا أبصارهم لكي يحفظوا فروجهم ؛ فإن حفظ الفرج إنما يكون بغض البصر وحفظه.

والثاني : يغضوا أبصارهم عن النظر إلى من لا تحل من الأجنبيات ؛ لأن النظر إلى المحارم يحل ، ويحفظوا فروجهم عن الكل من المحارم والأجنبيات إلا الذين استثناهم في آية أخرى.

والثالث : غضوا أبصارهم عما في أيدي الخلق ، ولا تفتحوها إلى ما في أيديهم ؛ كقوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ ...) الآية [طه : ١٣١].

وقوله : (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) أي : أطهر لهم ، وأدعى لهم إلى الصلاح من النظر.

وعلى هذه يخرج قوله : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ).

وقوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) روي عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : (إِلَّا ما ظَهَرَ)(١) : الرداء والثياب.

وعن ابن عباس قال : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) : الكحل والخاتم (٢).

وفي رواية أخرى : الكف والوجه (٣).

وعن عائشة قالت : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) : القلب والفتخة (٤) ، وهي خاتم إصبع الرجل.

وعن عبد : الله الزينة زينتان :

زينة باطنة لا يراها إلا الزوج.

وأما الزينة الظاهرة فالثياب.

والباطنة كالإكليل والسوار والخاتم (٥).

فإن كان التأويل ما روي عن ابن مسعود حيث جعلها من الثياب وغيره ، ففيه دلالة ألا يحل النظر إلى وجه امرأة أجنبية.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٥٩٥١ ، ٢٥٩٥٥ ، ٢٥٩٥٨ ، ٢٥٩٥٩) ، وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٤).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٥٩٦٠ ، ٢٥٩٦١ ، ٢٥٩٦٢) ، وسعيد بن منصور وابن المنذر وعبد بن حميد والبيهقي ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٥) ، وذكر له طرق أخرى فانظرها.

(٣) أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم من طريقين عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٥).

(٤) أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في سننه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٥) ، وثبت في حاشية أ : الفتخة ـ بالتحريك ـ حلقة من فضلة لا فص فيها ، فإذا كان فيها فص فهي الخاتم ، والجمع : فتخ ، وفتخات ، وربما جعلتها المرأة في أصابع رجليها. صحاح.

(٥) أخرجه ابن جرير (٢٥٩٥١) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٤).

٥٤٤

وإن كان ما قال ابن عباس ففيه دلالة حل النظر إلى وجه المرأة لا بشهوة.

وإن كان ما قالت عائشة من القلب والفتحة ففيه دلالة جواز النظر إلى الكفين والقدمين ؛ لأنهما ظاهرتان باديتان ؛ ألا ترى أنهما من الظواهر في فرض غسل الوضوء ، وإن كان ذلك ففيه دلالة جواز صلاتها مع ظهور القدم.

وجائز أن يكون النظر إلى وجه المرأة حلالا إذا لم يكن بشهوة ، لكن غض البصر وترك النظر أرفق وأزكى ، كقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) [الأحزاب : ٥٩] أنهن حرائر (فَلا يُؤْذَيْنَ) كما تؤذى الإماء.

والذي يدل أن للمرأة ألا تغطي وجهها ، ولا ينبغي للرجل أن يتعمد النظر إلى وجه المرأة إلا عند الحاجة إليه ـ قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي ـ رضي الله عنه ـ : «إنما لك الأولى وليست لك الآخرة» ، وفي بعضها : «الأولى لك والآخرة عليك» (١) ؛ لأنه كأنه إنما كرر النظر في الثانية ؛ لشهوة تحدث في قلبه.

وإذنه للذي يريد أن يتزوج امرأة أن ينظر إليها يدل على أن نظر الرجل إلى وجه المرأة غير حرام ؛ لأنه لو كان حراما لم يأذن فيه النبي لأحد.

ونرى ـ والله أعلم ـ أن النظر إلى وجه المرأة ليس بحرام إذا لم يقع في قلب الرجل من ذلك شهوة ، فإذا وجد لذلك شهوة ، ولم يأمن أن يؤدي به ذلك إلى ما يكره فمحظور عليه أن ينظر إليها إلا أن يريد به معرفتها والنكاح فإنه قد رخص في ذلك ؛ روي أن المغيرة أراد أن يتزوج امرأة فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اذهب فانظر إليها ، فإنه أحرى أن يؤدم بينكما» (٢).

وقال في بعض الأخبار : «إذا خطب أحدكم المرأة فلا بأس أن ينظر إليها ؛ إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة (٣) ، وإن كانت لا تعلم».

وأحسن للشابة وأفضل لها أن تستر وجهها ويديها عن الرجال ليس لأن ذلك حرام وإليها معصية ، ولكن لما يخاف في ذلك من حدوث الشهوة ، ووقوع الفتنة بها ، فإذا لم

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه الترمذي (٣ / ٣٩٧) ، كتاب النكاح : باب ما جاء في النظر إلى المخطوبة (١٠٨٧) ، والنسائي (٦ / ٦٩ ، ٧٠) كتاب النكاح : باب إباحة النظر قبل التزويج وابن ماجه (١ / ٥٩٩) ، كتاب النكاح : باب النظر إلى المرأة (١٨٦٥) ، وأحمد (٤ / ٢٤٦) ، والدارمي (٢ / ١٣٤) ، والحاكم (٢ / ١٦٥) ، وابن الجارود (٦٧٥) ، والدارقطني (٢ / ٢٥٢) ، والبيهقي (٧ / ٨٤).

(٣) أخرجه أبو داود (٢ / ٥٦٥) ، كتاب النكاح : باب في الرجل ينظر إلى المرأة وهو يريد تزويجها (٢٠٨٢) ، وأحمد (٣ / ٣٣٤) ، والحاكم (٢ / ١٦٥) ، والبيهقي (٧ / ٨٥).

٥٤٥

يكن للناظر في ذلك شهوة بأن كان شيخا كبيرا ، أو كانت المرأة دميمة ، أو عجوزا فإنه لا يحظر النظر إلى وجوه أمثالهن ، ولا ينظر إلى ما سوى ذلك ، وأصله قول الله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ) [الأحزاب : ٥٩].

ومما يدل على أن الوجه والكفين جائز ألا يكون بعورة أن المرأة لا تصلي وعورتها مكشوفة ، ويجوز أن تصلي ووجهها ويداها ورجلاها مكشوفة.

فإذا كان كذلك دل ذلك على أن النظر إلى ذلك جائز إذا لم يكن ذلك لشهوة ؛ دخل في ذلك معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «العينان تزنيان» (١) ؛ لأن زناء العين لا يكون إلا النظر للشهوة ، فإذا كان لشهوة دخل في ذلك معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروي في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يدل على أن الوجه والكفين ليسا بعورة ، [وهو] ما روي عن عائشة قالت : دخلت عليّ أختي أسماء وعليها ثياب شامية رقاق ، وهي اليوم عندكم صفاق ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذه ثياب لا تحبها سورة النور فأمر بها فأخرجت» ، فقلت : يا رسول الله ، زارتني أختي فقلت لها ما قلت ، فقال : «يا عائش ، إن الحرة إذا حاضت لا ينبغي أن يرى إلا وجهها وكفاها» (٢) ، فإن ثبت هذا عنه فهو يبين ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ) قد ذكرنا أن المرأة يكره لها النظر إلى الرجال من غير محرمها كما يكره للرجل [النظر] إلى المرأة الأجنبية ؛ ألا ترى أنه روي أن أعميين دخلا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعض أزواجه عنده ـ عائشة وأخرى ـ فقال لهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قوما» ، فقالتا : إنهما أعميان يا رسول الله!! فقال لهما : «هما وإن كانا أعميين فأنتما لستما بأعميين» (٣) ، أو كلام نحو هذا ، فدل أنه ما ذكرنا.

__________________

(١) تقدم.

(٢) قلت : أدرج المصنف حديثين فجعلهما حديثا واحدا :

فالأول : أخرجه أبو داود (٢ / ٤٦٠) ، كتاب اللباس : باب فيما تبدي المرأة من زينتها (٤١٠٤) ، والبيهقي (٧ / ٨٦) ، عن عائشة أم المؤمنين أن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنها ـ دخلت عليها وعندها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ثياب شامية رقاق فضرب رسول الله إلى الأرض ببصره قال : ما هذا يا أسماء؟! إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا ، وهذا ، وأشار إلى كفه ووجهه.

والثاني : أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه كما في الدر المنثور (٥ / ٧٦) ، عن عائشة : أن امرأة دخلت عليها وعليها خمار رقيق يشف جنبيها فأخذته عائشة فشقته ، ثم قالت : ألا تعلمين ما أنزل الله في سورة النور؟ فدعت لها بخمار فكستها إياه.

(٣) أخرجه أحمد (٦ / ٢٩٦) ، وأبو داود (٢ / ٤٦٢) ، كتاب اللباس : باب في قوله تعالى : (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ) (٤١١٢) ، والترمذي (٤ / ٤٨٢) ، كتاب الأدب : باب ما جاء في احتجاب النساء من الرجال (٢٧٧٨) ، والنسائي في الكبرى ، كما في تحفة الأشراف (١٣ / ١٨٢٢٢) ، وأبو يعلى (٦٩٢٢) ، وابن حبان (٥٥٧٥) ، والطبراني في الكبير (٢٣ / ٦٧٨) ، (٩٥٦) والبيهقي (٧ / ٩١).

٥٤٦

وعلى ذلك أخبار : روي عن خالد بن معدان قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم [الآخر] أن تبيت في مكان تسمع فيه نفس رجل ليس بمحرم ، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت في مكان يسمع فيه نفس امرأة ليست له بمحرم».

وفي بعض الأخبار : أنه لم يرخص للمرأة أن يرى غير ذي محرم منها إلا الوجه والكف وما ظهر ، وقبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على كوع عائشة وقال : «هذا».

وعن الحسن أنه قال في قوله : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) : الوجه وما ظهر من الثياب (١).

فإن ثبت ما ذكرنا من المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث رخص النظر إلى الوجه والكف ؛ لقوله : «إلا الوجه والكف» فاستثنى الوجه والكف من بين سائر الجوارح ـ كان ذلك تفسيرا لقوله : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) كأنه قال : «ولا يبدين زينتهن للأجنبيين إلا ما ظهر منها وهو الكحل والخاتم» ، ثم الكحل يكون في الوجه والخاتم في اليد فذكر الزينة يكون كناية عن موضعها ؛ لأن النظر إلى الزينة حلال لكل أحد إذا كان المراد بالزينة الحلي وما ذكره القوم ، فدل أن المراد بذكر الزينة موضع الزينة لا نفس الزينة والحلي ، ثم رخص للأجنبيين النظر إلى بعض مواضع الزينة وهو ما ظهر منها من الوجه والكف ولم يرخص ما خفي منها وما بطن.

ثم استثنى المحارم منها ، ورخص لهم النظر إلى ذلك بقوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَ) إلى آخر ما ذكر.

ثم مواضع الزينة الخفية منها الصدر ، ومنها الأذنان وهما في الرأس ، ومنها الساق.

ثم جمع بين الأب ومن سمى معه وبين الزوج في النظر إلى زينة المرأة ، ولا خلاف في أن الأب لا يجوز له أن ينظر من عورة ابنته إلا إلى رأسها وفي الرأس الأذنان ، وقد يكون فيهما القرط ونحوه ، وإذا جاز له أن ينظر إلى رأسها ولا خمار عليها ؛ فله أن ينظر إلى صدرها وهو موضع الزينة ؛ لأنه مما يغطيه الخمار ، وينظر إلى ذراعيها وموضع الخلخال من قدميها ورجليها ، وهي مواضع الزينة الباطنة التي لا يجوز للأجنبي النظر إليها.

ثم النظر إلى الوجه أحق أن يحرم النظر إليه للأجنبي من الرأس وغيره من مواضع الزينة ؛ لأن الوجه يجمع فيه جميع المحاسن وغيره من مواضع الزينة ليس فيها محاسن لكن إنما حرم النظر إلى هذه المواضع ؛ لأنها عورة في نفسها ؛ فالنظر إلى العورة حرام للأجنبي ؛ ولأن النظر إليها ـ أعني : مواضع الزينة ـ لا يكون إلا للشهوة والنظر إليها للشهوة حرام.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٥٩٧٦).

٥٤٧

فأما المحارم منها فإنهم لا ينظرون إلى هذه المواضع منها لشهوة ولا يقصدون به ذلك البتة ؛ فأبيح لهم النظر إليها لحاجة.

وكل من يخشى من المحارم النظر إليها لشهوة لا ينظر إليها ، وكذلك الأجنبي حيث أبيح النظر إلى الزينة الظاهرة فإن خشي به الشهوة لم ينظر إليها.

ثم غيرها من الزينة لا يحل لأحد النظر إليها : الأب وغيره ـ إلا للزوج خاصة وللمولى إلى مملوكته وهو ما قال : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٥ ، ٦] استثنى الأزواج والموالي من بين غيرهم ؛ لأن النظر إلى ذلك لا يكون إلا للشهوة لا يقع فيه حاجة فلا يباح ذلك إلا لمن له قضاء الشهوة والوطء وهو الزوج والمولى.

فانقسمت العورة إلى جهتين :

جهة يحل للمحارم منها النظر إليها لحاجة وضرورة تقع لهم.

وجهة لا تحل لهم إلا للأزواج لما لا يقع لهم حاجة ولا ضرورة بالنظر إلى ذلك ؛ ألا ترى أن الأمة ينظر إلى شعرها وذراعيها وساقيها وصدرها إذا أراد شرائها ولا ينظر إلى ما سوى ذلك ، فإذا جاز للأجنبى أن ينظر إليه من الأمة جاز لمحرمها النظر إلى ذلك من المرأة للحاجة التي ذكرنا.

ثم ذكر في الآية المحارم جميعا عدا الأعمام والأخوال ، قال بعضهم : إنما لم يذكرا في هذه الآية ؛ لأنها تحل لبنيهما بالنكاح فكره أن يصفاها لبنيهما ؛ ولهذا كره من كره للمرأة المسلمة إبداء الزينة الخفية للكافرة من اليهودية والنصرانية لما لعلها تصف ذلك للمشركين ، فيرغبون فيها ، ويتكلفون ذلك ، وصرف قوله : (أَوْ نِسائِهِنَ) إلى المسلمات. لكن جائز عندنا أن العم والخال إنما لم يذكرهما للكثرة والتطويل لما يكثر ذلك من أجناسهم وأمثالهم ، فذكر الرخصة في أمثالهم كافية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ نِسائِهِنَ) يحتمل وجوها :

يحتمل النساء [اللاتى] يختلطن بهن ، أو نساء قرابتهن وأرحامهن ، أو النساء اللاتي توافقهن في دينهن ، وهن المسلمات على ما قاله أولئك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ).

قال قائلون : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) كقوله : (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٦] ونحوه.

وقال قائلون : الإماء والعبيد جميعا.

فإن كان المراد به الإماء فهو ظاهر.

٥٤٨

وإن كان المراد به الأمة والعبد ، ففيه إباحة نظر العبد إلى شعر مولاته على ما يقوله بعض الناس.

والأشبه أن يكون المراد به والله أعلم الإماء دون العبيد ؛ لما ذكر في آخر الآية (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) والعبد من الرجال.

أو ذكر التابع والمتابع وإن كان خصيّا أو عنينا أو معتوها على ما قالوا ، فإنه لا يحل لهؤلاء النظر إلى تلك المواضع على حال فعلى ذلك العبد ؛ فيكون الدخول عليهن مضمر في الآية ، وكن النساء متأهبات وقت دخول العبيد والتابعين عليهن ؛ لأنه ذكر المتابعين وهم تابعو الأزواج ، ووقت دخول هؤلاء يكون معلوما عندهن فيتأهبن لهم ويستترن ، والله أعلم بذلك ؛ ألا ترى [أنه] لا يحل للمرأة أن تسافر بعبدها ، دل أنه ليس بمحرم لها ؛ لذلك لم يحل له النظر إلى شعر مولاته.

فإن قيل : ما معنى ذكر إمائهن ونسائهن وكل النساء يجوز لهن النظر إلى المرأة وإلى هذه المواضع التي ذكرنا؟

قيل : خصّ الله ـ عزوجل ـ بالذكر إماءهن ونساءهن دون النساء الأجنبيات ؛ تأديبا لا حظرا ، وذلك أن المرأة قد يضيق عليها أن تستتر من أمتها ونساء أهل بيتها ، لكثرة رؤيتهن لها ، وقد تقدر أن تستر من الأجنبية محاسنها وزينتها ؛ لقلة رؤيتها لها ؛ ألا ترى أنه قد نهى المرأة أن تضرب برجلها ؛ ليعلم ما تخفي من زينتها ، وفي ذلك صيانة للرجل والمرأة وإبعاد لهما عما يحذر عليهما ويخاف ؛ فليس ببعيد أن يجعل نهيه المرأة أن تظهر زينتها ومحاسنها للأجنبية ؛ لما يخاف على الأجنبية من فساد قلبها وحدوث الشهوات لها ؛ صيانة للنساء والرجال جميعا ، وإبعادا لهم عن الزينة ، ولئلا تصفها لرجل يفتتن بها ، ويتكلف الوصول إليها. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : «لما نزلت هذه الآية ، أخذ النساء أزرهن فشققنها من قبل الحواشي ، فاختمرن بها» (١) ، وعن ابن عباس : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) يقول : وليشددن

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٤٣٤) ، كتاب التفسير : باب (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ) (٤٧٥٩) ، وأحمد (٦ / ١٨٨) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ٤١٩) ، (١١٣٦٣) ، وابن جرير (٢٥٩٧٧) ، من طريق صفية بنت شيبة عنها.

وأخرجه أبو داود (٢ / ٤٥٩) ، كتاب اللباس : باب قول الله تعالى : (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ) (٤١٠٢ ، ٤١٠٣) ، وابن جرير (٢٥٩٧٨) ، من طريق عروة عنها.

٥٤٩

بخمرهن على جيوبهن ، يقول : ليرخين بخمرهن على الصدر والنحر فلا يرين منها شيئا (١).

قال : وكن النساء قبل هذه الآية إنما يسدلن خمرهن سدلا من ورائهن كما يصنع النبط ، فلما نزلت هذه الآية شددن الخمر على النحر والصدر.

وفي الآية دلالة أن دروع النساء كانت جيب ؛ لأن الجيب إنما تكون للدروع ، وذلك كان لباس النساء ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نهى الرجال عن لبسة النساء ، وأنه لعن المتشبهين من الرجال بالنساء (٢).

وروي أنه لعن الرجل يلبس لبسة المرأة ، والمرأة تلبس لبسة الرجل (٣).

وعن ابن عباس : «لعن النبي المؤنثين من الرجال والمذكرات من النساء» (٤). وكأنه مكروه للرجل ـ والله أعلم ـ أن يلبس فراعة وحدها لا قميص تحتها ؛ لأن ذلك لباس النساء إلا أن يكون لها شق ذيل ، فخرجت من لبس النساء ، ولم تكره للرجال ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) جائز أن يكون قوله : (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) : إنما يباح النظر إلى الوجه للحاجة ، وأما على غير الحاجة فلا يباح ؛ لما ذكرنا من قوله : (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ...) الآية [الأحزاب : ٥٩] ، وقوله : (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) ؛ فعلى ذلك ترك النظر إلى وجه المرأة أطهر للنساء وللناس جميعا ؛ فلا يباح ذلك إلا عند الحاجة إليه ، وهو معرفتها ؛ ليقيم به الشهادة.

فإن قيل : أليس النظر يسع إلى مواضع الزينة الخفية للأجنبي ؛ للتداوي بها؟

قيل : يسع ذلك للضرورة وأما للحاجة فلا ، ومسألتنا في الحاجة ليست في الضرورة.

ثم قوله : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) إلى آخره ما ذكر : جائز أن يكون المراد برخصة النظر إلى الزينة لهؤلاء المسمين في الآية رخصة النظر إلى نفس الزينة لا موضع

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير بنحوه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٦).

(٢) أخرجه البخاري (١١ / ٥٢١) ، كتاب اللباس : باب المتشبهين بالنساء (٥٨٨٥) ، وأحمد (١ / ٢٢٥ ، ٢٢٧) ، والترمذي (٤ / ٤٨٦) ، كتاب الأدب : باب ما جاء في المتشبهات بالرجال من النساء (٢٧٨٤) ، وأبو داود (٢ / ٤٥٨) ، كتاب اللباس : باب لباس العشاء (٤٠٩٧) ، وابن ماجه (٣ / ٣٤٤) ، كتاب النكاح : باب في المخنثين (١٩٠٤).

(٣) أخرجه أبو داود (٢ / ٤٥٨) ، كتاب اللباس : باب لباس النساء (٤٠٩٨) ، وابن حبان في الموارد (٣٥١) ، وأحمد (٢ / ٣٢٥) ، والحاكم (٤ / ١٩٤).

(٤) أخرجه البخاري (١١ / ٥٢٢) ، كتاب اللباس : باب إخراج المتشبهين بالنساء من البيوت (٥٨٨٦) ، والترمذي (٢٧٨٥) ، في المصدر السابق.

٥٥٠

الزينة ؛ فيدخل في هذه الرخصة من ذكر من التابعين غير [أولي] الإربة من الرجال ونحوه ؛ لأن الزينة في الصدر وما ذكر إنما تكون من وراء ثياب تكون على الصدر ، ثم رخص النظر للمحارم إلى مواضع الزينة الخفية بغير هذه الآية.

أو أن يكون رخصة النظر للمحارم إلى مواضع الزينة ولغير المحارم من المماليك والتابعين غير أولي الإربة ومن ذكر ـ رخصة الدخول عليهن ؛ فيكون في الآية إضمار الدخول ؛ كأنه قال : ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن ومن ذكر من المحارم ، ولا يدخل عليهن إلا العبيد والتابعون ومن ذكر من غير أولي الإربة ، فيكن في وقت دخول هؤلاء متأهبات ؛ لأن وقت دخول هؤلاء يكون معلوما يعرفن فيتأهبن لهم ؛ لأن العبيد إنما يدخلون على ساداتهم ومواليهم عند حاجتهن إليهم ، والتابعون ومن ذكر إنما يدخلون إذا دخل أزواجهن عليهن فيتأهبن لذلك ، ومثل هذا الإضمار جائز في الكلام يتبين ذلك بالثنيا كقوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) [المائدة : ١] ، دل قوله : (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ) أنه قد كان الصيد مذكورا فيه مرادا ؛ إذ لو لم يكن مذكورا لم يكن استثنى منه ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون في الأول إضمار الدخول فيه لهؤلاء الذين لا يحل لهم النظر إلى مواضع الزينة منهن ورخصة الإبداء للمحارم ، أو أن يكون ما ذكرنا فيما تقدم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) قال بعضهم (١) : الشيخ الكبير الذي لا حاجة له في النساء.

وقال بعضهم (٢) : المعتوه الأحمق الذي لا يشتهي النساء ، ولا يغار عليه الأزواج.

وقال بعضهم (٣) : العنين والخصي ، وهؤلاء الذين لا يطيقون الجماع.

لكن عندنا لا يسع للعنين ولا للخصي أن يخلو بامرأة أجنبية (٤).

وقال الحسن (٥) : (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ) هم المخنثون ؛ روي عن عائشة قالت :

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٨).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٥٩٨٨ ، ٢٥٩٨٩) ، وابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور.

وعن مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٥٩٩٥ ، ٢٥٩٩٦ ، ٢٥٩٩٧) ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٧٨) ، وعن الزهري أخرجه ابن جرير (٢٦٠٠٢) ، وعن طاوس أخرجه ابن جرير (٢٦٠٠٣) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٨).

(٣) قاله الكلبي أخرجه ابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٨).

(٤) ينظر : اللباب (١٤ / ٣٦٠).

(٥) أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٨).

وأخرجه ابن جرير (٢٦٠٠٧) عن عكرمة.

٥٥١

كان يدخل على أزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مخنث ، وكانوا يعدونه من غير أولي الإربة ، قالت : فدخل النبي ذات يوم وهو ينعت امرأة ، فقال : «لا أرى هذا يعلم ما هاهنا ؛ لا يدخلن عليكم» ؛ فحجبوه (١).

وعن أم سلمة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها وعندها مخنث ، فأقبل على أخي أم سلمة فقال : يا عبد الله ، إن فتح الله لكم غدا الطائف دللتك على بنت غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، فقال : «لا أرى [هذا] يعرف ما هاهنا ؛ لا يدخلن عليكم» (٢).

وقال بعضهم (٣) : (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) الذين لا تهمهم ولا يخافون على النساء ، وكله واحد ، وهم الذين ليست لهم الحاجة إلى النساء.

قال أبو عوسجة : الإربة : الحاجة : والإرب جمع ، وكذلك قال القتبي (٤).

وقال ابن عباس (٥) : هو الذي لا يستحي منه النساء.

وقوله : (أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) قال بعضهم (٦) : هو الاطلاع ، أي : لم يطلعوا ، ولم يعلموا ، ولم يدروا ما هو من الصغر.

وقال بعضهم (٧) : لم يظهروا على عورات النساء ، أي : لم يبلغوا الحلم.

والأول أشبه عندنا ؛ وذلك أن الطفل الذي لم يحتلم قد أمر بالاستئذان في بعض الأوقات ؛ لقوله : (لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ) [النور : ٥٨] فالذي يؤمر بالاستئذان هو الطفل الذي لم يحتلم ، وقد يطلع على عورات النساء ، والذي لا يؤمر بالاستئذان هو أصغر من ذلك ، وهو الذي لا يطلع على عورات النساء لصغره ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ١٧١٦) ، كتاب السلام : باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب (٣٣ / ٢١٨١) ، وأبو داود (٢ / ٤٦٠) ، كتاب اللباس : باب في قوله : (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) (٤١٠٧) ، وابن جرير (٤٦٠٠٦).

(٢) أخرجه البخاري (١١ / ٥٢٢) ، كتاب اللباس : باب إخراج المتشبهين بالنساء (٥٨٨٧) ، ومسلم (٣٢ / ٢١٨٠) ، في المصدر السابق.

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٩٩٠) ، وعن مجاهد (٢٥٩٩١ ، ٢٥٩٩٢ ، ٢٥٩٩٣).

(٤) ينظر : غريب القرآن ص (٣٠٣).

(٥) أخرجه ابن جرير (٢٥٩٩٨) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٨).

(٦) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٦٠٠٨ ، ٢٦٠٠٩) ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في سننه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٨ ، ٧٩).

(٧) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، وعن قتادة أخرجه عبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ٧٩).

٥٥٢

وقوله : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) أي : لا تضربن إحدى رجليها على الأخرى ليقرع الخلخال بالخلخال.

(لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) أي : ما يواري الثياب من الزينة وهو الخلخال قد أخفاه الثياب ؛ نهيت المرأة عن ضرب رجلها ؛ ليعلم الرجال ما تخفي من زينتها ، وذلك محظور عليها ، لما يخرج ذلك مخرج ترغيب الناس وحثهم عليها ، فالزينة في الأصل ما جعلت إلا للترغيب والتحريض على أنفسهم ، وهي الداعية إلى النظر والشهوة ، وفي ترك ذلك وترك المرأة الزينة صيانتها ، وصيانة الرجال ، وإبعادهم جميعا من الزينة ، والرغبة ، فكشف الشابة عن وجهها ، ونظر الرجل بشهوة إليها أحرى أن يكون محظورا عليه ، منهيّا عنه (١) ، والله أعلم بالصواب.

وقوله : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) هذا يحتمل وجهين :

يحتمل قوله : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ) أي : ارجعوا إلى الله بالطاعة له والخضوع ؛ لتكونوا مفلحين.

أو أن يكون قوله : (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ) ارجعوا عما قدمتم من المعاصي والمساوئ ، واجعلوا مكان ذلك طاعة له ؛ ليعفوا عنكم ما قدمتم من المعاصي ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)(٣٤)

وقوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) الأمر بالإنكاح وإن خرج مخرج أمر واحد في الظاهر فهو في الحقيقة على أقسام :

الأمر في تزويج الإماء والعبيد يخرج مخرج الترغيب والتحريض.

وفي الأحرار يخرج مخرج المعونة والتقوية ؛ لأن من بلغ ولده النكاح ذكرا أو أنثى استثار أقرباءه ، وأهل أنسابه ، والمتصلين به في ذلك ، واستعانهم على ذلك ، ولا كذلك السادات في المماليك ؛ دل أن الأمر في أحدهما يخرج على المعونة ، وفي الآخر على

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٣٦٢).

٥٥٣

الترغيب.

ثم تزويج العبد يخرج كأنه فعل المعروف ؛ إذ في ذلك إلزام مؤن بلا عوض يحصل له ؛ ألا ترى أنه لا يملكه إلا من يملك المعروف من نحو الوصي والأب والمكاتب والعبد المأذون له في التجارة؟ ولا كذلك تزويج الإماء ؛ إذ يملك هؤلاء ذلك ، وكل مكتسب خير له لنفسه أو لغيره.

ثم جرى الوفاق بينهم : أن للولي أن يزوج أمته شاءت هي أو أبت ، واختلفوا في تزويج العبد امرأة :

قال بعضهم : [ليس] له ذلك إلا برضاء العبد.

وقال بعضهم : له ذلك شاء أو أبى.

ثم الناس اختلفوا في قوله : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) قال بعضهم : الأيامى منهن : الإناث من الأحرار دون الذكور ، واستدلوا ببطلان النكاح وفساده إذا كان بغير إذن الولي بهذه الآية ؛ لأن الله تعالى أمر الأولياء وخاطبهم أن يزوجوهن ؛ كما أمر المولى بتزويج أمته ، فأوجب للمولى الولاية كما أوجبها للولى وإن كانا مختلفين في الولاية.

لكن عندنا لو كانت الآية خرجت على التفسير على ما يقول خصومنا (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) الإناث ـ لم يكن فيه دليل على ما قالوا هم ، ويخرج ذلك على وجوه :

أحدها : على الترغيب في إنكاحهن لما [لا] يتولى هن النكاح بأنفسهن حياء ، ويستحيين التكلم بذلك حتى من فعلت ذلك منهن بنفسها صارت مطعونة عندهن.

أو أن يخرج ذلك مخرج المعونة لهن على ما ذكرنا ؛ ألا ترى إلى ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنه من بلغ ولده النكاح وعنده ما ينكحه فأحدث ، فالإثم بينهما» (١) ، فهذا يدل ـ والله أعلم ـ على وجه المعونة في تزويج الأب الابن البالغ ، فإذا كان الأب مأمورا من جهة التأديب على المعونة بتزويج ابنه ، ولا يوجب ذلك عليه ولاية إذا كره ذلك ؛ فكذلك يكون مأمورا بتزويج ابنه من طريق المعونة ، أو جهة الحياء ، أو أن يخرج ذلك على ما قال خصومنا من إيجاب الولاية له عليها.

ثم رأينا أنها إذا رغبت في النكاح ورضيت به وكره وليها ذلك ، جبر الولي على الإنكاح ، وإن هي كرهت النكاح وأبت ، ورغب الولي في ذلك وشاء ، لم تجبر هي على ذلك ؛ دل ذلك على أن الحق لها عليه دون أن يكون الحق في ذلك له عليها ، فإذا كان

__________________

(١) أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن ابن عباس ، كما في كنز العمال للهندي (٤٥٣٣٧).

٥٥٤

الحق لها عليه جاز ذلك إذا تولت بنفسها ؛ لما ذكرنا أن الخطاب للأولياء يخرج على الوجوه التي ذكرنا (١) ، والله أعلم.

هذا إذا كان في الآية ذكر الإناث دون الذكور ، فكيف أن ليس في الآية ذكر تخصيص الإناث دون الذكور ، واسم «الأيم» يقع على الإناث والذكور جميعا ؛ ألا ترى أنه روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : «لما نزلت هذه الآية ما رأيت مثل ما يلتمس بعد هذه الآية إنما التمسوا الغناء في الباءة» (٢).

وما روي عن نجدة : أن عمر دعانا إلى أن ينكح من أيمنا وفي الشعر :

لله در بني على أيم منهم وناكح

وفي بعضها :

وأيم تأبى من القوم أيماه.

جمع فيها اسم «الأيم» : الرجال والنساء.

ومن الدليل ـ أيضا ـ على ذلك قوله : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) فدل ذلك على أنه حث على تزويج البالغين من الأحرار رجالهم ونسائهم.

فإن قيل : فما وجه أمره بتزويج الرجال والأمر إليهم؟

فجواب ذلك ما ذكرنا من المعونة ، والترغيب فيه.

ثم قوله : (وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ) جائز أن يكون قوله : (وَالصَّالِحِينَ) أي : المؤمنين.

وجائز أن يكون الصالحين : من طلب منكم الصلاح والعفة.

أو ذكر الصالحين لما كانت العادة في الملوك أنهم يخاطبون أهل الصلاح منهم والأخيار ، لا على إخراج غيرهم من حكم ذلك الخطاب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الناس من استدل بهذه الآية [على] أن العبد يملك ؛ لأنه ذكر العبيد والأحرار جميعا ، ثم ذكر في آخره الغناء دل أنه يملك.

ويستدل بقوله : (فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) [النساء : ٢٥] أضاف الأجور والإيتاء إليهن ؛ دل أنهن يملكن ، لكن عندنا أن المماليك يملكون ملك التوسيع ، وملك التصرف ، ويقع لهم غناء التوسيع وغناء التصرف ، ولا يقع لهم التمليك ، ولا حقيقة الملك ، والدلالة على ذلك قوله : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٣٦٥).

(٢) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٠ ، ٨١).

٥٥٥

فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) [النحل : ٧١] لو كان ما ملكت أيمانهم يملكون ما يملك الموالي والسادات لكان المماليك يفضلون على السادات ، في الملك ؛ إذ هم الذين يتصرفون ويكتسبون الأموال دون السادات ، فدل ذكر تفضيل بعض على بعض أنهم لا يملكون ما يملك الموالي.

والثاني قوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ ...) الآية [الزمر : ٢٩] ، ولو كانوا يملكون على ما يملك السادات ، لكانوا لهم فيه شركاء ، دل أنهم لا يملكون حقيقة الملك ، ولكن يملكون ملك التوسيع والتصرف.

أو أن يكون قوله : (يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) راجعا إلى الأحرار منهم دون المماليك ، وذلك جائز في اللسان كقوله [](١) ثم روي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة حق على الله تعالى أن يغنيهم : المجاهد في سبيل الله ، والناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء» (٢).

وعن عمر قال : «ما رأيت مثل الرجل لا يلتمس الغناء في الباءة» والله تعالى يقول : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)(٣).

وروي في الخبر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ؛ فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» (٤) ، وروي في الخبر عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لعمر بن الخطاب : «ما فعلت ببناتك؟» قال : هن عندي يا رسول الله. قال : «وقد حضن؟» قال : نعم. قال : «إنك لم تحبس واحدة منهن عن كفؤ إلا نقص من أجرك كل يوم قيراط» ، وفي بعض الأخبار : «من بلغ ولده النكاح ، وعنده ما ينكحه ، فأحدث فالإثم بينهما» (٥).

وقوله : (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) الاستعفاف : هو طلب العفاف ؛ كأنه قال : يطلب الأسباب التي تمنعه عن الزنا ، وتصيره عفيفا حتى يغنيه الله من فضله ، وأسباب العفة تكون أشياء :

__________________

(١) بياض في أ.

(٢) أخرجه الترمذي (٤ / ١٥٧) ، فضائل الجهاد : باب ما جاء في المجاهد والناكح والمكاتب (١٦٥٥) ، والنسائي (٦ / ٦١) ، كتاب النكاح : باب معونة الله الناكح يريد العفاف ، وابن ماجه (٢ / ٤٨١) ، كتاب العتق : باب المكاتب (٢٥١٨) ، والحاكم (٢ / ١٦٠) ، والبغوي (٥ / ٦).

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه البخاري (٩ / ١١٢) كتاب النكاح : باب من لم يستطع الباءة فليصم (٥٠٦٦) ، ومسلم (٢ / ١٠١٨) كتاب النكاح : باب استحباب النكاح (١ / ١٤٠٠).

(٥) تقدم.

٥٥٦

أحدها : ما روي عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم ؛ فإنه له وجاء» (١) ونحوه ، يطلب أسباب العفة إن لم يكن عنده ما ينكح حتى لا يقع في الزنا إلى أن أغناه الله ، كقوله عليه‌السلام : «من استعف أعفه الله» (٢).

وجائز أن يكون قوله : (وَلْيَسْتَعْفِفِ) أي : يتعفف الذين لا يجدون نكاحا ، لم يجعل الله ـ عزوجل ـ للذي عجز عن النكاح استباحة الفروج والاستمتاع بها زنا إذا لم يكن عنده ما ينكح ، كما جعل في الأموال وغيرها ـ رخصة التناول في ملك غيره عند الحاجة والضرورة ببدل ؛ لوجوه :

أن رخصة التناول في ملك غيره إنما تكون عند الضرورة ، والضرورات لا تقع في الفروج ، وفي الاستمتاع بها بحال ؛ لذلك لم تبح.

والثاني : الاستمتاع بالنساء في الأصل كأنه إنما جعل وأبيح لبقاء النسل والتوالد ، لا لحاجة أنفسهم وقضاء الشهوة ، فإذا لم يكن عنده ما ينكح ارتفع عنه إبقاء النسل والتوالد. والثالث : أن السعة والغناء وأنواع النعم هي الداعية إلى الحاجة ، وقضاء الشهوة ، فإذا كان فقيرا لا يجد ما ينكح زال عنه الأسباب التي تدعو إلى ذلك ؛ لذلك لم يبح ، وأما الحاجات والضرورات وما ذكرنا كلها تقع في الأموال ، وإنما الحاجة في التناول منها لأنفسهم ولإبقائها ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم.

ثم في قوله : (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، وقوله : (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) وجهان من المعتبر على نقض قول المعتزلة :

أحدهما : أنه أضاف الإغناء إلى نفسه ، وهو ليس يعطي أحدا شيئا يطرحه ويلقيه في يده بلا سبب ، ولكن إنما يغنيه ويعطيه بأسباب تجعل لهم ؛ فدل إضافة الإغناء إلى نفسه على أن له في تلك الأسباب التي فيها لهم غناء صنعا وفعلا ، ليس على ما تقوله المعتزلة أن لا صنع لله في أفعال عباده.

والثاني : فيه دلالة : أن غناهم وسعتهم فضل منه ورحمة لا شيء يستوجبون هم بأنفسهم ذلك قبله ، لكن إفضالا منه لهم وإحسانا ؛ إذ لو كان عليه ذلك كان منه عدلا لا فضلا ؛ فدل تسمية الفضل ذلك على أن من أعطاه الله يقال : ذلك أعطاه فضلا منه وإنعاما

__________________

(١) تقدم.

(٢) طرف من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه البخاري (٤ / ٩٧) ، كتاب الزكاة : باب الاستعفاف في المسألة (١٤٦٩) ، ومسلم (٢ / ٧٢٩) ، كتاب الزكاة : باب فضل التعفف والصبر (١٢٤ / ١٠٥٣).

٥٥٧

لا استيجابا واستحقاقا ، وذلك رد عليهم في الأصلح في الدين.

ثم من الناس من استدل بهذه الآية بقوله : (يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) : حتى يغنيهم الله من فضله على تفضيل الغناء على الفقر قالوا : لأنه سماه فضلا بقوله : (مِنْ فَضْلِهِ) وسماه في غير آي من القرآن : رحمة وحسنة ، وسماه : خيرا أيضا في غير موضع ، وسمى الفقر والضيق : بلاء مرة ، و : سيئة ثانيا ، و : ضرّا و : شدة بقوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] ، وقال : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] وقوله : (هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ) [الزمر : ٣٨] وغير ذلك من الآيات ، وكأن ما سمى من البلاء والشدة والشر والضر والسيئة كله عبارة وكناية عن الضيق والفقر ، وما ذكر من الخير والحسنة والرحمة ونحوه ، كله عبارة عن السعة والغناء ؛ فدل تسمية الغناء خيرا وحسنة ورحمة على أنه أفضل ؛ إذ لا شك أن الخير والحسنة والرحمة خير من الشر والسيئة والبلاء ؛ لذلك كان الغناء أفضل من الفقر.

فيقال لهم : هو كما قلتم : إنها خير مما ذكرتم ، إلا أن هذه الأسباب التي ذكرتم هي الداعية إلى الفساد ، الباعثة على قضاء الحاجات ، والشهوات ، وأنواع المعاصي في أنواع المحرمات ، ولا كذلك الفقر والضيق والشدة ، بل هي أسباب تمنع صاحبها عن التعاطي في أنواع المعاصي والمحرمات ؛ فضلا أن تدعوه وتبعثه إلى ذلك ، فقولنا : إنه أفضل ؛ للمعنى الذي ذكرنا ، لا لمعنى فهمتموه أنتم.

أو أن يكون ما ذكر وسمي : خيرا : السعة عند الناس ، وكذلك ما ذكر من الضيق شرّا وسيئة عندهم ؛ لأنه كذلك عند الناس لا أنهما في الحقيقة كذلك ؛ لما يحتمل أن يكون الغناء والسعة سبب الفساد ، والضيق والفقر سبب منعه عن الفساد.

أو ألا يتكلم في تفضيل أحدهما على الآخر ؛ إذ هما محنتان يمتحن بهما العباد : هؤلاء بالصبر على الفقر والضيق ، وهؤلاء بشكرهم على الغناء والسعة ، فالتكلم في فضل أحدهما على الآخر فضل ، والله أعلم.

وقوله : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ) : ظاهر هذا ليس على الكناية ، ولكن على الكتاب المعروف وهو كتاب الله ـ تعالى ـ لأن الكتاب المطلق هو كتاب الله تعالى ، يسألون ساداتهم تعليم الكتاب لهم ، إلا أن الناس لم يفهموا من هذا هذا ، ولكن فهموا كتابة العبيد والإماء حيث صرفوا الآية إليها.

ثم قوله : (فَكاتِبُوهُمْ) ليس على الوجوب والإلزام ، ولكن على الترغيب فيها والحث ؛ دليله ترك الأمة المماليك بعد موتهم دون مكاتبتهم من لدن رسول الله إلى يومنا هذا ، ولو

٥٥٨

كان على الوجوب واللزوم لم يكونوا يتركون لازما واجبا عليهم ؛ فدل تركهم المكاتبة على أنه خرج مخرج الترغيب عليها ، والحث لا على الوجوب (١) ، والله أعلم.

وقوله : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) اختلف فيه :

قال بعضهم : أي : كاتبوهم إن علمتم أنهم يرغبون في أنواع الخير ، وإقامة الصلاة ، وأنواع الصلاح ، وفرغوا أنفسهم لذلك.

قال بعضهم : إن علمتم فيهم خيرا ، أي : وفاء وأمانة وصلاحا ، وهو قول الحسن (٢).

وتأويل هذا : أي : كاتبوهم ؛ إن علمتم أنهم يقدرون على وفاء ما كوتبوا ، وأداء ذلك.

وقال قائلون : (خَيْراً) أي : حيلة (٣).

وقال قائلون : مالا (٤).

وقال قائلون : (خَيْراً) ، أي : حرفة ، ورووا في ذلك خبرا عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مفسرا عن يحيى بن كثير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن علمتم فيهم خيرا ـ أي : حرفة ـ ولا ترسلوهم كلا على الناس» (٥). إن ثبت هذا لا نحتاج إلى غيره من التفسير ، ولو كان قال : إن علمتم لهم خيرا ، جاز أن يقال : معنى (خَيْراً) مالا ، ولكنه قال : (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) [الجاه الذي](٦) والمال لا يكون فيهم ، وإنما يكون لهم ؛ فأشبه ذلك ـ والله أعلم ـ أن يكون الخير حرفة في الخير أو وفاءه ، وأمانته ، ثم في الآية دلالة أن العبيد لا يملكون شيئا ؛ لأنهم لو كانوا يملكون لكان يرغبهم ويحثهم على العتاق دون الكتابة ، فدل ترغيبه إياهم عليها أنهم لا يملكون حتى تجعل الكتابة الكسب لهم والخدمة دون المولى.

وفي الكتابة أيضا نظر للموالي ؛ لأنهم إن قدروا على وفاء ما قبلوا أداءه ، وإلا كان للموالي ردهم إلى منافع أنفسهم ، ولو كان عتقا لم يملكوا ردهم إلى منافع أنفسهم ،

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٣٧٢).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٦٠٢٨) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٢).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٦٠٢٥) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٢).

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٦٠٣٦ ، ٢٦٠٣٧) ، وعبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي كما في الدر المنثور (٥ / ٨٢).

وعن مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٦٠٣٨ ، ٢٦٠٤٢ ، ٢٦٠٤٤) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٢).

وعن عطاء أخرجه ابن جرير (٢٦٠٤٣ ، ٢٦٠٤٥) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٢).

(٥) أخرجه أبو داود في المراسيل والبيهقي في سننه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٢).

(٦) غير واضحة في أ.

٥٥٩

ويبطل حقهم بلا شيء يصل إليهم ، والله أعلم.

وفي قوله : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) دلالة القول بعلم العمل على ظاهر الأسباب دون تحقيق العلم به ، حيث قال : (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) وإنما يوصل ما ذكر من الخير بأسباب تكون لهم على نحو ما ذكروا فيه من الحرفة والوفاء وأداء الأمانة وأمثاله ، وذلك أسباب توصل إلى الخير على أكبر الظن والعلم لا على الحقيقة.

وفيه دلالة العمل بالاجتهاد على ما يرى بهم من ظاهر الأسباب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) اختلف في خطابه :

قال الحسن وغيره : هو شيء حث الناس عليه مولاه وغيره ، فيخرج ذلك على وجهين :

أحدهما : ما جعل الله من الحق للمكاتبين في الصدقات ؛ لقوله : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) [التوبة : ٦٠] إلى قوله : (وَفِي الرِّقابِ) وهم المكاتبون ، أمر أرباب الأموال بدفع الصدقات للمكاتبين ، وجعلهم أهلا لها ، ليستعينوا بها على أداء ما عليهم من الكتابة.

فإن كان ذلك فذلك حق لهم.

والثاني : جائز أن يأمر الناس بمعونة هؤلاء المكاتبين على أداء ما عليهم من الكتابة بأموالهم سوى الصدقات ؛ ليفكوا رقابهم عن ذل الرق والكسب.

وقال قائلون : إنما الخطاب للموالي خاصة ؛ لما أن أوّل الخطاب بالكتابة راجع إلى الموالى ؛ فعلى ذلك هذا.

ثمّ اختلفوا فيه : روي عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال : «يترك المولي الثلث من مكاتبته له».

وروي عنه أنه قال : «ربع المكاتبة» (١).

وروي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه كاتب غلاما له ، فحطّ عنه أول نجمه ، وقال له : حط عني آخره ، فقال عمر : «لعلي لا أصل إليه» ، أو كلام نحو هذا ، ثم تلا هذه الآية (٢) ، قوله : (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ ...) الآية.

وروي عن غلام لعثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قال : «كاتبني عثمان ، ولم يحطّ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٦٠٤٦ ، ٢٦٠٥١) ، وعبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٣).

(٢) أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم والبيهقي ، كما في الدر المنثور (٥ / ٨٣).

٥٦٠