تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

يمزق به الجلود ولا يخرقها.

ونستخرج منه التفريق في الأعضاء كلها والجوارح ؛ لأنه لو ضرب في مكان واحد لخرقه ومزقه ، سوى الرأس والوجه والمذاكير ؛ لما فيه من التأثير والمجاوزة.

فإن كان كذلك ففيه حجة لأبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ في قوله : إن الشهود إذا شهدوا على حد ، فضرب به الإمام فأصابه الجراحات ، ثم رجعوا لا يضمنون ما أصابه من الجراحات ؛ لأنهم لم يشهدوا على ضرب يجرح ويؤثر فيه ما أصابه ؛ لذلك لم يضمنوا.

وقول عمر لأبي بكرة : «تقبل شهادتك إن تبت» ، فهو يحتمل ، أي : تقبل روايتك عن رسول الله ومشاهدك التي شهدتها.

وقد ذكر أن الحكم والحدّ في الآية إنما جرى في قذف المحصنات دون المحصنين بقوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ...) الآية ، لكن قذف المحصن وشتمه إن لم يكن أكثر في الشين وأعظم في الوزر لا يكون دونه ، فالذكر وإن جرى في المحصنات فأمكن وجود المعنى الذي به جرى ذلك في المحصنات في المحصن ، وهو ما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ، وهو الإيمان والإحصان والعفة ؛ لذلك لزم الحكم في هذا كما لزم في المحصنات.

وقد ذكرنا فيما تقدم ألا يجلد من قذف مملوكة أو مملوكا أو قذف كافرة : أما المملوك فلقوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) ، وقد ذكرنا الدليل على أن المراد بالمحصنات الحرائر دون غيرهن ؛ لذلك لم يجلد قاذف المملوك.

ولأنا لو أوجبنا جلد ثمانين ؛ فهو لو أتى بفعل الزنا حدّ خمسين ؛ فلا يجوز أن نوجب على قاذفه مما به قذف من الجلد أكثر مما نوجبه في عين ذلك الفعل لو أتى به ؛ فيسقط بما ذكرنا الجلد على قاذف المملوك.

وأما الكافر والكافرة : فسقط عن قاذفهما الحدّ ؛ لما ذكرنا من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) : شرط فيه الإيمان والإحصان والعفة ، فإذا فقد واحد مما ذكرنا ـ لم يقم.

ولأنا لو أوجبنا الحدّ وحددنا ، لحد بقذف عدو الله ، ولا يجوز أن يجلد مسلم بقذف عدو من أعداء الله ، مع ما فيما ذكرنا من المسائل إجماع بين أهل العلم في ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ).

روي عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية قال عاصم بن عدي الأنصاري : [إن]

٥٢١

دخل منا رجل بيته فوجد رجلا على بطن امرأته ، [و] أراد أن يخرج فيجيء بأربعة رجال شهود ؛ ليشهدوا على ذلك ـ قضى الرجل حاجته وخرج ، وإن هو عجل فقتل قتل به ، وإن هو قال : وجدت فلانا مع فلانة ، ضرب به الحدّ ، ولاعن امرأته ، وإن سكت سكت على غيظ!!». فذكر أنه ابتلي بذلك من بين الناس ؛ فأتى رسول الله فأخبره بذلك ، وقال : وجدت فلانا على بطنها ؛ فأرسل رسول الله إلى امرأته وإلى فلان ، فجمع بينهما وبين عاصم فقال للمرأة : ويحك ، ما يقول زوجك؟! قالت : يا رسول الله ، إنه لكاذب ؛ ما رأى شيئا من ذلك ، ولكنه رجل غيور ؛ فذلك الذي حمله على أن يتكلم بالذي تكلم ، فكان فلان ضيفا عنده يدخل ويخرج علي وهو يعلم ذلك ، فلم ينهني عن ذلك ساعة من ليل ونهار أن يدخل علي ؛ فسأله عن ذلك فقال : يا عاصم ، اتق الله في حليلتك ، ولا تقل إلا حقّا!! قال : يا رسول الله ، أقسم بالله ما قلت إلا حقّا ، ولقد رأيته يغشى على بطنها ، وهي حبلى وما قربتها منذ كذا وكذا ؛ فأمرهما رسول الله أن يتلاعنا عند ذلك ، وقال : يا عاصم ، قم فاشهد أربع شهادات بالله أنه لكما قلت ، وأنك لمن الصادقين في قولك عليها ، ثم قال : والخامسة : أن لعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين ؛ ففعل ما ذكر ، ثم قال للمرأة مثل ذلك ؛ فشهدت أربع شهادات بالله : إنه لمن الكاذبين عليها ، والخامسة : أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين في قوله ، فلما تلاعنا وفرغا من اللعان فرق بينهما ، ثم قال للمرأة : إذا ولدت فلا ترضعيه حتى تأتيني به ، فلما انصرفوا عنه قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن ولدته أحيمر مثل الينعة فهو الذي يشبه أباه الذي نفاه ، وإن ولدته أسود أدعج جعدا قططا فهو يشبه الذي رميت به ، فلما وضعت أتت به رسول الله ، فنظر إليه فإذا هو أسود أدعج جعد قطط على ما نعته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشبه الذي رميت به ؛ فقال رسول الله : لو لا اللعان والأيمان التي سلفت لكان لي فيها رأي (١).

وفي بعض الأخبار أنه لما جمع بينهما قال لها : بعد أن تلاعنا : «فإن الله يعلم أن أحدكما كاذب ؛ فهل منكما تائب؟!» (٢) ، [و] قال : «عذاب الآخرة أشد من عذاب

__________________

(١) أخرجه البخاري (١٠ / ٥٦٩) ، كتاب الطلاق : باب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو كنت راجما بغير بينة» (٥٣١٠) ، ومسلم (٢ / ١١٣٤) ، كتاب اللعان (١٢ / ١٤٩٧) ، والنسائي (٦ / ١٧٤) ، كتاب الطلاق : باب قول الإمام : اللهم بيّن ، وابن ماجه (٤ / ١٧٢) ، كتاب الحدود : باب من أظهر الفاحشة (٢٥٦٠) ، وأحمد (١ / ٣٣٥ ، ٣٣٦ ، ٣٥٧ ، ٣٦٥) بنحوه.

(٢) أخرجه البخاري (٩ / ٣٨١) كتاب التفسير : باب «ويدرأ عنها العذاب ...» الآية (٤٧٤٧) ، وأحمد (١ / ٢٣٨ ، ٢٤٥ ، ٢٧٣) ، وأبو داود (٢ / ٦٨٤) ، كتاب الطلاق : باب في اللعان (٢٢٥٤) ، (٢٢٥٦) ، والترمذي (٥ / ٢٣٩ ، ٢٤٠) ، كتاب التفسير : باب (ومن سورة النور) ، (٣١٧٩) ، وأحمد (١ / ٢٣٨ ، ٢٤٥ ، ٢٧٣).

٥٢٢

الدنيا» ، وفي بعض الأخبار : «أن الآية نزلت في لعان هلال بن أمية (١) ، فذكر فيه ما ذكرنا (٢) ، والله أعلم.

ثم في هذا مسائل :

إحداها : أنه ذكر قذف الأزواج وذكر فيه الأيمان ولم يبين ؛ فظاهر الآية : الزوج والزوجة : كافران أو مسلمان ، حران أو مملوكان ، أو كيف [كانا]؟! فعندنا أنه إذا كان أحدهما حرّا والآخر مملوكا ، أو كانا جميعا مملوكين لم يكن بينهما لعان إلا أن يكونا جميعا من أهل الشهادة.

وحجتهم في ذلك أن الله جعل على الأجنبي الحر إذا قذف أجنبية حرة الحدّ ثمانين ، وجعل حدّ الزوج إذا قذف زوجته وهما حران مسلمان اللعان ، ثم قد ذكرنا إجماعهم على أن الحرّ إذا قذف أمة أو يهودية فلا حدّ عليه ؛ فلما لم يكن على الحرّ القاذف للأمة من الحدّ ما على القاذف الحرّ إذا قذف حرة لم يكن على زوج الأمة من اللعان ما على زوج الحرة.

وأصل هذا : أن الله ذكر الشهادة في رمي الأجنبية المحصنة وأبرأ القاذف من الحد إذا أتى بها ، وأمر بإقامة الحدّ إذا عجز عن إقامتها ، ثم استثنى من الشهداء الذين ذكر في قذف الأجنبية شهادة الزوجين بقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ) ؛ فإذا لم يدخلا في تلك الشهادة إذا كانا مملوكين أو كافرين أو أحدهما لم يدخلا فيما استثنى ؛ إذ الثنيا استخراج من تلك الجملة المستثناة وتحصيل منها ؛ لذلك بطل اللعان.

ووجه آخر في الكافرة : وهو أن المرأة تقول في الخامسة : عليها غضب الله إن كان من الصادقين ، وغضب الله يكون عليها بغير شرط ؛ فمحال أن يقول القاضي لها : عليك غضب الله بشرط إن كان الزوج صادقا ، وهو يعلم أن غضبه عليها في كل حال ؛ لذلك بطل.

والمخالف لنا أولى بإبطال اللعان بين الحرة والأمة والمسلم والذمية منا ؛ لأنهم يزعمون أن العبد ليس بكفء للحر ولا الكافر بكفء للمسلم في القصاص في النفس وفيما دون النفس ؛ فكيف جعلوهما في أيمانهما أكفاء لأيمان الأحرار المسلمين؟! كان يجب أن يقولوا مثل يمين الكافر يصححان (٣) به ليمين المسلم ؛ فلا يوجبون بينهما لعانا ، والوجه فيه ما ذكرنا بدءا.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ٣٠٦ ، ٣٠٧).

(٣) هكذا بالمخطوط وفيه اضطراب.

٥٢٣

ثم المسألة في إباء الأيمان : إذا أبي أحدهم حدّ عند بعض أهل العلم وهو قول الشافعي ، وعندنا أنه لا يحد بالإباء ؛ فذهب من أوجب الجلد بالإباء إلى ظاهر قوله : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ) : أوجب الجلد في قذف الأجنبي إذا عجز عن إقامة الشهود ، ودرأ عنه الحدّ إذا أتى بأربعة يشهدون ؛ فعلى ذلك درأ عن الزوجين الحدّ إذا شهد كل واحد منهما أربع شهادات بالله ، فوجب إذا أبي أحدهما الأيمان أن يحد ؛ إذ بالأيمان يدرأ الحد ويوجب اللعان.

والثاني : ما قال : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ) : جعل الأيمان سبب درء الحدّ عنها ؛ فإذا أبت ذلك لزم الحدّ.

وعندنا أنه لا يحدّ بالإباء ؛ لأنه ليس في الإباء ظهور الكذب ؛ إذ ليس كل من أبي اليمين يظهر كذبه فيه ؛ وإنما يحدّ لظهور كذبه في القذف ، وهو لا يعلم ، [و] لا يظهر بالإباء ، وإنما حدّ في الأجنبية إذا لم يأت بأربعة شهداء ؛ لأنه في الظاهر عند الناس كاذب ؛ لأنه ليس بينه وبين الأجنبية سبب ولا معنى يبعثه على إظهار ما ذكر ، وأمّا فيما بينه وبين زوجته سبب ومعنى يحمله على إظهار ذلك ، وهو الغيرة ، فإذا كان كذلك فهو في قذف الزوجة في الظاهر صادق عند الناس ؛ للسبب الذي ذكرنا ؛ لأنه طالب حق قبلها ؛ على ما روي : لا يوطئن فرشهن من يكره الأزواج ؛ فلا يزال صدقه بإباء اليمين ، وأما من قذف أجنبية فهو كاذب في الظاهر ؛ لعدم السبب الحامل على إظهار ذلك الكذب ، حتى يأتي ما يزيل الكذب وهو الشهود ، وفي الزوجة : على الصدق ، حتى يظهر بالأيمان ؛ لذلك افترقا ، ولأن الحدّ لا يقام بالإباء البتة.

ولأن الأيمان لا تقابل بشهادة العدول بحال ؛ ألا ترى أن من شهد عليه شاهدا عدل بحق ، فحلف هو بأيمان لم تقابل الأيمان بتلك الشهادة في سقوط الحق.

وأما قوله : (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ) : جائز أن يكون ذلك في تلك المرأة التي في أمرها نزلت الآية ، علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كذبها بالوحي ؛ ألا ترى أنه قال : إذا جاءت بكذا فهو لكذا ، وإذا جاءت بكذا فهو لكذا ، ثم إذا [بها] قد جاءت شبيها بالذي رميت به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا الأيمان لكان [لي] ولها شأن» (١) كذّبها ؛ حيث قال : «لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن» ، فدرأت تلك المرأة العذاب عنها بالأيمان.

أو أن يكون العذاب الذي درئ عنها الحبس ؛ إذ من قولنا : أيهما أبي اليمين حبس ،

__________________

(١) تقدم.

٥٢٤

حتى يشهد أربع شهادات بالله ، أو تقر بالزنا ، أو يكذب نفسه ؛ فدرأ الحبس عنها بالأيمان التي ذكر.

وإنما لم يحد بالإباء ؛ لأن الإباء لا تظهر الكذب كالإقرار ، ولأن الإباء في الحقيقة إباحة.

ولو أن إنسانا أباح للحاكم أن يقيم عليه الحدّ لم يقم ؛ فعلى ذلك هذا ، أو لما يجوز أن يأبى عن الأيمان ؛ صونا لنفسه عن اللعن والغضب الّذي ذكر فلم يحدّ ؛ لما ذكرنا.

ثم مسألتان في هذا نذكرهما وإن لم يكونا في ظاهر هذه الآية :

إحداهما : في إلحاق الولد أمّه.

والأخرى في تفريق الحاكم بينهما إذا تلاعنا.

قال بعض أهل العلم : إذا فرغ الزوج من لعانه لحق الولد أمه ، وإن لم تلتعن المرأة ، والقياس في لحوق الولد ما قال أولئك : إنّه يلحق بفراغ الزوج من اللعان.

والقياس في وقوع الفرقة : ما قال أصحابنا : إنه لا يقع إلا بعد فراغ الزوجين جميعا وتفريق الحاكم بينهما ؛ لأن الزوج إذا شهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصّادقين قد ألزم امرأته الزنا في الظاهر ؛ فإذا ظهر أن الولد ليس منه فجائز لحوقه بالأم بفراغه من اللعان.

وأما الفرقة فإنها لا تقع بظهور الزنا ؛ ألا ترى أن امرأة الرجل إذا زنت لا يقع بينهما الفرقة ، [و] ألا ترى أن دعوى المرأة باقية بعد فراغ الزوج من أيمانه ؛ لذلك افترقا.

والأخبار تدل لمذهب أصحابنا في المسألتين جميعا ؛ لأنه روي عن نافع ، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلا لاعن امرأته في زمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانتفى من ولدها ؛ ففرق رسول الله بينهما ، وألحق الولد بالمرأة.

وعن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما لاعن بينهما فرق بينهما.

وروي في الأخبار : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهما : «الله يعلم أنّ أحدكما كاذب ؛ فهل منكما تائب؟» (١) ، قال ذلك لهما ثلاثا ، فأبيا ؛ ففرق بينهما.

وفي بعض الأخبار قال : «حسابكما على الله ، أحدكما كاذب ، لا سبيل لك عليها».

فإن قيل : إنما فرق بينهما النبي ؛ لأن الفرقة قد وقعت بينهما ؛ فأخبره النبي أنه لا تحل له ، وقال : «لا سبيل لك عليها» (٢).

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه البخاري (١٠ / ٥٧٢) ، كتاب الطلاق : باب صداق الملاعنة (٥٣١١) ، ومسلم (٢ / ١١٣١ ، ١١٣٢) ، كتاب اللعان (٥ / ١٤٩٤) ، وأحمد (٢ / ١١) ، والحميدي (٦٧١) ، وأبو داود (١ / ٦٨٦) ، كتاب الطلاق : باب في اللعان (٢٢٥٧) ، والنسائي (٦ / ١٧٧) ، كتاب الطلاق : باب استتابة المتلاعنين بعد اللعان.

٥٢٥

قيل : قولكم : إن الفرقة قد وقعت بينهما باللعان دعوى منكم ، وظاهر الأخبار يشهد لنا وعلى وهم الخصم.

ثم يقال لهم : ألستم تقولون في المولى إذا مضت مدته فارتفعا إلى الحاكم : هل تقع الفرقة بينهما إذا امتنع من قربانها وطلاقها ما لم يقل القاضي : قد فرقت بينكما؟!

فإن قيل : فرقة الإيلاء طلاق وفرقة اللعان غير طلاق عندنا.

قيل : هما عندنا طلاق.

فإن قيل : إنكم تزعمون أن فرقة الإيلاء تقع بمضي الأجل ؛ فما منع أن يقع الفرقة باللعان بتمام اللعان؟!

قيل : لم يكن للحاكم في الإيلاء صنع ؛ فلا يحتاج إلى حكمه ، وفي الآخر : لا يتم اللعان إلا بالقاضي ؛ فلا تقع الفرقة إلا بالقاضي.

ويقال لهم : ما تقولون في رجل ادعى حقّا فأقام عليه شاهدين عند قاض : هل يلزم الحكم قبل أن يقول القاضي : قد حكمت بذلك؟ فإن قالوا : لا يلزم الحكم حتى يقول : قد حكمت ؛ فيقال : ما منع أن [يكون] اللعان مثله؟!

ويقال لهم أيضا : ما تقولون في العنين : أجّله الحاكم [أيفرق] بينهما؟ فإن قالوا : لا تقع حتى يفرق الحاكم بينهما ، قيل : ما منع في فرقة اللعان أنه كذلك؟!

فإن قالوا : إنما صارت الفرقة لا تقع في العنين والمولى حتى يوقعها الحاكم ، يقول : طلقها أو فئ إليها ، ويقول لامرأة العنين : اختاري في الفرقة أو المقام معه ؛ فلما كان الحاكم ينتظر ما يقول المولى وامرأة العنين ، لم تقع الفرقة حتى يوقعها ، وليس في اللعان شيء ينتظره الحاكم ؛ لذلك افترقا.

فقيل : بل ينتظر الحاكم تكذيب المرأة نفسها ؛ فيحدها وتكون امرأته ، وكذلك إن أكذب الزوج نفسه حدّه وترك عنده امرأته.

وأصله أنه لا تقع الفرقة إلا بعد التعانهما جميعا وتفريق الحاكم بينهما ؛ لأنهما إذا التعنا جميعا عند ذلك يكون أحدهما ملعونا أيهما كذب ، والانتفاع بالملعون حرام ؛ ألا ترى أنه روي في الخبر أنها موجبة ، أي : اللعنة التي ذكرت ؛ فإنما يلحق اللعن أحدهما إذا التعنا جميعا ، فأما بالتعان الزوج خاصة فلا يقع ؛ فإذا كان كذلك فيحتاج إلى أن يفرق الحاكم بينهما ويطرد أحدهما من صاحبه ؛ إذ اللعن هو الطرد في اللغة ، وهو عندنا كالعقود التي تفسخ : لا يكون إلا بالحاكم ، نحو ما ذكرنا من العنين ، والذي يأبى الإسلام ، وغيرها من العقود ؛ فإنه لا يقع بينهما الفرقة إلا بالحاكم ؛ فعلى ذلك هذا.

٥٢٦

وروي عن عمر أنه قال : المتلاعنان يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا.

ثم مسألة أخرى : أنه إذا فرق بينهما باللعان فأكذب الملاعن نفسه : يجوز له أن يتزوجها أم لا؟

فعند بعض أهل العلم : ليس له أن يتزوجها ؛ احتجوا بما روي عن عمر وعلي ـ رضي الله عنهما ـ : «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» ، وعن عبد الله كذلك.

وعند أبي حنيفة ومحمد ـ رحمهما‌الله ـ : له أن يتزوجها إذا أكذب نفسه ، وليس في الخبر : «لا يجتمعان أبدا» (١) ، وإن تاب وأكذب نفسه فجائز أن يكون قوله : «لا يجتمعان أبدا» ما داما في تلاعنهما وما أقام على قوله ولم يكذب نفسه ، وإن كان فيه حجة لمن قال إذا قال : «لا يجتمعان» قبل التوبة وبعدها ، يدل على ما ذكرنا قوله : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) ، وقوله : (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) ما داموا في ملتهم ، فأمّا إذا انقلعوا منها فقد أفلحوا ؛ فعلى ذلك : لا يجتمعان أبدا ما داموا في تلاعنهما وما أقام الزوج على قوله ، فأمّا إذا رجع عن ذلك لهما الاجتماع ، واجتمعوا : أنه إذا أكذب نفسه وادعى الولد ألحق به ؛ فعلى ذلك هي.

والثاني : لو أكذب الزوج نفسه بعد اللعان قبل الفرقة ، وجب أن يحدّ ، ويكونان على نكاحهما ، فيجب إذا أكذب نفسه بعد اللعان فجلد ـ فله أن يتزوجها.

ثم فرقة اللعان عندنا طلاق ، وهي تطليقة بائنة ؛ لما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما لا عن بين عويمر (٢) وامرأته ـ قال : «كذبت عليها إن أمسكتها ؛ هي طالق ثلاثا» ؛ فصارت سنة في المتلاعنين ، فإذا كانت سنة الفرقة بين المتلاعنين الطلاق الذي أوقعه عويمر ؛ فواجب أن يكون كل فرقة تقع باللعان : طلاقا.

ومن الدليل على ذلك أن قذف الزوج كان سبب هذه الفرقة ، وكل فرقة تكون من الزوج ، أو أن يكون الزوج سببها ، وتقع بقوله فإنها طلاق : كالعنين ، والخلع ، والإيلاء ونحوه ؛ فعلى ذلك فرقة اللعان تطليقة بائنة ؛ لأن الزوج سببها وتقع به ، وعلى ذلك جاءت الآثار عن السلف أن كل فرقة وقعت من قبل الرجال بقول ، فهي طلاق ، من نحو إبراهيم ، والحسن ، وسعيد وقتادة وهؤلاء ، وكذلك يقول أصحابنا : إن كل فرقة جاءت من الرجال بقول ـ فهي تطليقة.

فإن عورض بأفعال تكون من الرجال ، فتقع بها الفرقة والحرمة : من نحو الجماع

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٦٨٣) ، كتاب الطلاق : باب في اللعان (٢٢٥٠) ، عن سهل بن سعد.

(٢) تقدم.

٥٢٧

ونحوه ـ فذلك ليس بمعارضة لما ذكرنا ، والله أعلم.

ثم قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ).

هذا الحرف مما يقتضي الجواب ، ثم يحتمل أن يكون جوابه : لو لا فضل الله عليكم ورحمته لأظهر الكاذب منهما من الصادق ، والمذنب من غيره.

ويحتمل : لو لا فضل الله عليكم ورحمته لأظهر الملعون منهما من غيره ، لكن لا ينتفع بأحدهما مما لحقه اللعن الّذي ذكر ، ولا يحل الانتفاع بالملعون ؛ ألا ترى أنه روي في الخبر : أن امرأة ركبت ناقتها فلعنتها فاستجيب ؛ فأمرت أن ترفع ثيابها وتخلي سبيلها. لكن بفضله ورحمته ستر على الملعون حتى يجوز لغيره أن ينتفع به ، وإن كان لا يجوز لواحد منهما أن ينتفع بصاحبه ما دامت اللعنة فيها قائمة.

وجائز أن يكون وجه آخر : وهو أن يقال : لو لا فضل الله عليكم ورحمته لأظهر الملعون منهما ، وإلا جعل العقوبة بين الزوجين كهي في الأجنبيين : وهي الحدّ ، ولأظهر الزاني ، لكن بفضله لم يجعل ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ).

جائز أن يكون (تَوَّابٌ) : يقبل التوبة إذا تاب وأكذب نفسه ؛ فيرفع اللعن عنهما بالتوبة ؛ فإذا رفع اللعن جاز لهما الانتفاع والاجتماع بينهما ؛ ففيه حجة لقول أبي حنيفة ومحمد ـ رحمهما‌الله ـ في جواز نكاحهما إذا أكذب نفسه.

(حَكِيمٌ) : حيث حكم بالحكمة بين المتلاعنين ، أو (حَكِيمٌ) : وضع كل شيء موضعه.

وفيه نقض قول المعتزلة في قولهم : إن الله لا يفعل بأحد إلا ما هو أصلح له في الدين وأخير ؛ إذ لو لم يكن له أن يفعل غير الذي فعل لم يكن لتسمية ما فعل فضلا ورحمة ـ معنى ؛ فدل أن له أن [يفعل] غير الأصلح في الدّين.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ

٥٢٨

هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢٠)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ).

أي : بالكذب (١).

(عُصْبَةٌ مِنْكُمْ).

أي : جماعة منكم.

ثم اختلف في قوله : (مِنْكُمْ).

قال قائلون (٢) : كانوا من أصحاب عائشة رموها بما ذكر في الآية.

وقال بعضهم (٣) : كانوا منافقين ، من نحو : عبد الله بن أبي رأس المنافقين ، وحسان ابن ثابت ، وغيرهما.

وقال بعضهم : كان ذلك من الفريقين جميعا : من أصحاب أبي بكر وأقربائه ، والمنافقين أيضا.

فإن كان ذلك من أصحاب عائشة ـ رضي الله عنها ـ وقراباتها فذلك يخرج منهن على الغفلة والعثرة ، ليس على الانتقام والحقد ؛ لأن القرابات والمتصلين بالرحم لا يقصد بعضهم ببعض الانتقام والحقد بمثله ؛ فإذا كان كذلك فيخرج ذلك منهم إن كان مخرج الغفلة والزلة لا مخرج الانتقام.

وإن كان ذلك من المنافقين فهو على الانتقام وطلب الشين منهم لها ، وكأن في ظاهر الآية دلالة افتراء الإفك من المنافقين ، ثم تسامع المؤمنون بعد ذلك ، ويتلقى بعضهم من بعض ؛ حيث قال : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) ؛ فإن كان ذلك فهو على ما وصفنا : أن ذلك من المؤمنين غفلة وزلّة وعثرة ، ومن المنافقين انتقام وطلب شين ، والله أعلم.

وقوله : (لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٣١٨).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٨٤٢).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٨٣٨) ، وعن الضحاك (٢٥٨٣٩) ، وابن زيد (٢٥٨٤٠) ، ومجاهد (٢٥٨٤٢).

٥٢٩

قال بعضهم (١) : لا تحسبوه شرّا لكم ؛ لأنكم تؤجرون وتثابون على ما قيل فيكم من الفحش والقذف بما قرفوا به ؛ بل هو خير لكم في الآخرة ؛ على ما ذكرنا من الأجر.

ويحتمل قوله : (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) في الدنيا ؛ لما برأه الله مما قرفوا به ، ودفع عنهم تمكين ما قرفوا به ، ووعد لهم الجنة بقوله : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) [النور : ٢٦] ، وكان قبل نزول هذه الآية موهوم عند الناس فيها متمكن احتمال ذلك الفعل ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) [الأحزاب : ٣٠] ، وقال : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ...) الآية [الأحزاب : ٣١] كانت كالمؤمنات جميعا موهوم عنهن عند الناس ، محتمل ذلك ؛ فلما قرفت ـ رفع الله ما كان موهوما عند الناس قبل ذلك ، ووعد لهم الأجر الكريم والرزق الحسن بقوله : (أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) : فلا شك أن ذلك خير لهم في الدنيا وشر لأولئك الذين رموها حتى لم يتجاسر أحد بعد ذلك ، ولا اجترأ أن يظن فيها ظن السوء ، فضلا عن أن يقول فيها سوءا ، وقصّة عائشة (٢) ـ رضي الله عنها ـ طويلة ، لكنا نذكر ما كان بنا إلى ذلك حاجة.

أو أن يقال : بل هو خير لكم لما أنزل الله ـ تعالى ـ فيهم آيات فيها براءتهم عما قرفوا به تتلى تلك الآيات إلى يوم القيامة ، وذلك خير لهم ، والله أعلم.

وقوله : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ).

إثمه : ما قرفها به.

(وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ).

هو ذلك المنافق الذي ألقى ذلك في الناس ، (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) : فيه دلالة أنه يموت على نفاقه ، وكذلك مات على نفاقه ؛ فلحقه ذلك الوعيد ، قيل : هو عبد الله بن أبي ابن سلول ، والله أعلم. وقال بعضهم (٣) : (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) ، أي عظمه من المعصية ، يعني : عبد الله بن أبي ابن سلول (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) ؛ لأنه كان منافقا.

وقوله : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً).

قال بعضهم : هلا إذ سمعتموه قذف عائشة ـ رضي الله عنها ـ بصفوان كذبتم أنتم

__________________

(١) قاله ابن جرير بنحوه (٩ / ٢٧٥).

(٢) حديث الإفك أخرجه البخاري (٥ / ٦٠١) ، كتاب الشهادات : باب تعديل النساء بعضهن بعضا (٢٦٦١) ، ومسلم (٤ / ٢١٢٩ ، ٢١٣٧) ، كتاب التوبة : باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف (٥٦ / ٢٧٧٠).

(٣) قالته عائشة ، أخرجه ابن جرير عنها (٢٥٨٤٧ ، ٢٥٨٤٨ ، ٢٥٨٤٩) ، وعن ابن عباس (٢٥٨٥٠) ، وابن زيد (٢٥٨٥٢) وغيرهم.

٥٣٠

أولئك القذفة ، يقول : ألا ظن بعضهم ببعض خيرا ، وهلا قالوا : (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ) ، يقول الله : هلا قالوا : القذف كذب مبين ، وعلى هذا يخرج ـ أيضا ـ قوله : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) ، أي : هلا قالوا لهم : جيئوا بأربعة شهداء على قذفكم إياهم ؛ فإذا هم (لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ).

ويحتمل أن يكون قوله : لو لا إذ سمعتموه ظننتم بهم ظنا : ما يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا دون أن قالوا : (إِفْكٌ مُبِينٌ).

أو أن يكون التأويل : إن لم يظن أحد منكم بنفسه إذا كان مع أزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ذلك] ، فكيف ظن بصفوان ذلك إذا كان هو مع أزواجه؟!

أو أن يقال : إذا لم يكن يظن أحد منكم بأمهاته ومحارمه ذلك ، فكيف ظنّ بأزواج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهن أمّهاتكم وأمّهات جميع المؤمنين؟! والله أعلم.

وقوله : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ).

أي : لم يكن لهم بما قذفوا شهداء ، ولا يجدون على ذلك شهداء.

وجائز أن يكون قوله : (لَوْ لا) ، أي : لم يكن ؛ كقوله : (فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ) [هود : ١١٦] ، أي : لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية (يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً) [هود : ١١٦]. وإلا على تأويل (هلا) يبعد ؛ لأنّه لم يكن لهم شهداء على ذلك ؛ فكيف يأتون؟!.

وقوله : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ).

وإن أتوا بالشهداء على أمر عائشة كانوا كاذبين أيضا ؛ فدل أن تأويل قوله : (لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) ، أي : لم يكن شهداء ؛ فكيف قذفوها؟! والله أعلم.

وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ).

هذا يحتمل وجهين :

[أحدهما] : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) : حيث أنزل في قذفكم عائشة بصفوان آيات في براءتهما حتى تبتم عن ذلك ، وإلا لمسّكم العذاب في الآخرة بذلك.

والثاني : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لمسكم العذاب ، ولعاقبكم بما قلتم في عائشة في الدنيا ؛ على هذا التأويل : العذاب الموعود : في الدنيا ، وعلى التأويل الأول : الوعيد في الآخرة ، لكن بفضله ورحمته دفع عنكم ، والله أعلم.

٥٣١

وقوله : (فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ) ، أي : خضتم فيه.

وقال بعضهم في قوله : (بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) ، أي : بأمثالهم خيرا ، تأويله : لو لا ظن المؤمنون بأمثالهم خيرا دون أن يظنوا بهم شرا.

وفيما عظم الله ـ عزوجل ـ أمر القذف وشدد فيه ما لم يشدد في غيره ولم يعظم وجوه :

أحدها : قطع طمع أهل الفجور والريبة فيهن ، لئلا يطمع أحد منهم في المحصنات وأولاد الكرام ذلك الفضل ، فقطع طمعهم بما شدّد فيه ؛ لئلا يقرفن بذلك ، ولا يطمع فيهن ذلك.

والثاني : بترك الناس الرغبة في مناكحة المحصنات وأولاد الكرام ، ويرغبون فيمن دونهن ، ويحدث أيضا الضغائن والعداوة بين القذفة وبين المتصلين بالمقذوفات.

وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) لكان كذا : هذا من الله على الإيجاب ، أي : قد كان منه ذلك ، وإذا كان مضافا إلى الخلق فهو على أنه لم يكن ذلك ؛ ولذلك تأولوه : هلا.

وعن ابن عباس أنّه قال في قوله : (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ) ، يقول : قال للمؤمنين : (لَوْ لا) : هلا إذ بلغكم عن عائشة وصفوان (ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) ، يقول : فظننتم بعائشة ظنكم بأنفسكم ، وعلمتم أن أمكم لا تفعل ذلك ، وكذلك المؤمنة لا تفعل ذلك ، وقلتم : هذا إفك مبين.

(لَوْ لا) : هلا جاءوا عليه بأربعة شهداء على قولهم ، ويصدّقوهم على مقالتهم ، فإذا لم يأتوا بالشهداء كذبتموهم ؛ فأولئك عند الله هم الكاذبون ، وهو قريب مما ذكرنا فيما تقدم.

وقوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) بالتشديد ، أي : تقبلونه ، وتلقونه ـ بالتخفيف ـ أي : تأخذونه من الولق ، وهو الكذب ، وكذلك قرأت عائشة (١).

وقال أبو عوسجة : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) ، أي : تقولونه ، قال : تلقيت الكلام ، ولقنت وتلقنت :

واحد.

وقوله : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) من غيركم.

(وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ) فيما بينكم.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٩ / ٤٢٥) ، كتاب التفسير (٤٧٥٢) ، وابن جرير (٢٥٨٦٥ ، ٢٥٨٦٦) ، وابن المنذر والطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٦١).

٥٣٢

وجائز أن يكونا جميعا واحدا ، أي : تتكلمون بألسنتكم ، وتقولون بأفواهكم (ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) أي : من غير أن تعلموا أن الّذي قلتم من القذف قد كان ، والله أعلم.

وقوله : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) قال بعضهم : تحسبون القذف ذنبا هينا.

(وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ) في الوزر.

وجائز أن يكون قوله : (وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) : في الدّين ؛ لأن القذف يحدث نقصانا في الدين ، والنقصان في الدين عظيم عند الله وتحسبونه أنتم هينا.

ثم وعظ الذين خاضوا في أمر عائشة فقال : (لَوْ لا) يقول : [هلا](إِذْ سَمِعْتُمُوهُ) أي : القذف ، (قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا) أي : ما ينبغي لنا أن نتكلم بهذا الأمر ، وهلا قلتم : (سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) لعظم ما قالوا فيها ، والبهتان : الذي يبهت ، فيقول : ما لم يكن من قذف أو غيره.

وقال أبو عوسجة : البهتان : الكذب ، يقال : بهت أي : كذب.

(يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً) أي : القذف أبدا.

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) في بيان ذلك وبراءتهم ، أو يبين أوامره ونواهيه.

(وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي : عليم بكل شيء من قول أو فعل ، حكيم يضع كل شيء موضعه.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) كان أصل النفاق هم الذين أحبوا أن تشيع الفاحشة ، وإلا أهل الإسلام لا يحبون ذلك في المؤمنين (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة ؛ لنفاقهم وقرف عائشة.

وأما في المؤمنين فهو ما قال : (يَعِظُكُمُ اللهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ). وروي عن عمرة عن عائشة قالت : لما نزل عذري قام رسول الله على المنبر ، فذكر ذلك ، وتلا القرآن ، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدّهم (١).

وعن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضرب عبد الله بن أبي ، وحسان ، ومسطح بن أثاثة الحد ، وفي بعض الأخبار : وامرأة أيضا ، وقيل : خمسة ، لكل واحد ثمانين جلدة.

ثم ما ذكر من قذف عائشة أنه بهتان عظيم وقوله : (وَتَحْسَبُونَهُ وَهُوَ عِنْدَ اللهِ) ونحوه فجائز أن يكون في قذف كل محصنة بريئة دون أن يكون ذلك خصوصا لعائشة ، وهو كما

__________________

(١) أخرجه أحمد (٦ / ٣٥ ، ٦١) ، وأبو داود (٢ / ٥٦٧ ، ٥٦٨) ، كتاب الحدود : باب في حد القذف (٤٤٧٤) ، والترمذي (٥ / ٢٤٤) ، في التفسير باب : ومن سورة النور (٣١٨١) ، وابن ماجه (٤ / ١٧٧) ، كتاب الحدود : باب حد القذف (٢٥٦٧).

٥٣٣

ذكر في قذف المحصنات : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ).

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : يشيعون الفاحشة ويذيعونها في الذين آمنوا هم الذين تولوا إشاعتها وإذاعتها فيهم لهم ما ذكر من العذاب الأليم.

والثاني : يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا ؛ ليكون ذلك ذريعة لهم في المؤمنين فيقولون : إن دينكم لم يمنعكم عن الفواحش والمنكر.

(لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) ؛ لأنهم كانوا منافقين [و] منهم كان أول بدء القذف ، وبهم شاع ؛ لذلك كان لهم هذا الوعيد.

وقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أي : والله يعلم حقائق الأشياء وأنتم لا تعلمون حقائقها.

وفيه دلالة تعليق الحكم بالظواهر دون تعليقه بالحقائق.

وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) لم يذكر جواب قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) ، فجوابه ما ذكر في قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) بفضله يزكو من زكا ، وبرحمته يصلح من صلح ، لا يصنع من نفسه.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)(٢٦)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) نهى المؤمنين أن يتبعوا خطوات الشيطان ، ولم يبين ما خطوات الشيطان ، لكنه قال : (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) فجوابه أن يقول : فإن خطواته كذا ، ولم يقل أيضا : ومن يتبع خطوات الشيطان يفعل الفاحشة ، ولكنه قال : (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) ، لكن جوابه ما قال في آية أخرى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ

٥٣٤

عَدُوٌّ مُبِينٌ* إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ ...) الآية [البقرة : ١٦٨ ، ١٦٩] أخبر [أن] من اتبعه أمره بالفحشاء. والخطوات : من الخطوة والخطوة وهما من رفع القدم ووضعه ، وأصله نهي عن اتباع آثاره.

وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) التزكية تحتمل التوفيق ، والعصمة ؛ يزكون بما أعطى لهم من التوفيق والعصمة.

أو يزكون بما أرسل إليهم من الكتب والرسل والعصمة ، [وهو] أشبه.

وفيه نقض قول المعتزلة ؛ لأنه أخبر أن من زكا إنما يزكو بفضله ورحمته ، وهم يقولون : لو فعل بهم غير الذي فعل كان جائزا عندهم فعلى قولهم ليس بمفضل ولكن عادل ؛ لأنه فعل ما عليه أن يفعل ؛ فعلى قولهم لا يكون مفضلا ، ولكن عادلا ؛ إذ لم يسم في الشاهد من فعل ما عليه أن يفعل : مفضلا ؛ وعلى قولهم : إنه قد أعطى كلا ما به يزكون ويصلحون ، لكنهم لم يزكوا هم ؛ فعلى قولهم لم يزك من زكا به ، ولكنه إنما زكا بما أعطاه له ، فقد أخبر أن من زكا إنما زكا به ، وأنه قد أبقى عنده ما لو أعطاهم ذلك لزكوا ، وقد أعطى ذلك من زكا وصلح ، ولم يعط من لم يزك.

وقوله : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي : سميع لأقوالهم وعليم لأفعالهم ، وأصله ما ذكر : يعلم ما يسرون وما يعلنون.

وقوله : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) قال بعضهم (١) : قوله : (وَلا يَأْتَلِ) أي : ولا يحلف ، وهو (يفتعل) من الإيلاء.

وقال أبو عوسجة : لا يأتل ، أي : لا يعجز ، ولا يقصر ، يقال : ائتلى يأتلي ، وألا يألو ألوا ، وهو التقصير ، وترك المبالغة.

ثم يحتمل قوله : (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ) أي : من له الفضل والسعة.

ويحتمل (أُولُوا الْفَضْلِ) من له الأفضال والمعروف وبر أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله.

ذكر أهل التأويل أن أبا بكر كان حلف ألا ينفع مسطحا بنافعة وكان قريبه بما تكلم في عائشة ؛ فأنزل الله النهي عن ذلك فقال : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ).

لكن الآية وإن نزلت في أمر ومعنى كان من أبي بكر ، فإن غيره من الناس يشترك في معنى ذلك ، وفي ذلك النهي ، وكذلك ما قال في آية أخرى ، وهو قوله : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ

__________________

(١) قاله ابن عباس بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٨٧٦ ، ٢٥٨٧٧) ، وعن الضحاك (٢٥٨٧٨) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٦٢ ، ٦٣).

٥٣٥

عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ ...) الآية [البقرة : ٢٢٤] ، ذكر أن قوما كانوا يحلفون ألا يبروا الناس ، ولا يصلحوا بذلك أن يكون حلفهم في ذلك عذرا لهم في ترك الإنفاق عليهم ، والتعاون ، والإصلاح بين الناس ، فنهوا عن ذلك ، وذلك اليمين لهم ، ولمن كان في معناهم ، ليس لهم خاصة ؛ فعلى ذلك قوله : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ ...) الآية ، وإن كان في أبي بكر فهو فيه (١) وفي الذين في معناه.

وإن كان حلف هذا بترك الإنفاق لإساءة كانت منهم إليهم ، والأول على الابتداء لإساءة كانت منهم إليهم ، وكذلك هذه الآيات نزلت لنازلة كانت في عائشة وصفوان فإنما نزلت لتلك النازلة لمعنى لا نزلت لأنها كانت عائشة أو أبو بكر ، لكن لمعنى بكل من وجد ذلك المعنى فيه شرك في ذلك ، ويجعل كأن هذه الآيات كلها نزلت فيه ، وهو ما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) فكل محصنة مؤمنة غافلة بريئة مما رميت به دخلت في الآية ، وكل رام محصن مؤمن غافل بريء مما رمي به في الآية ؛ لوجود المعنى الذي نزلت الآية.

وعلى ذلك القرآن إذا نزل بسبب بالمرء أو نازلة لمعنى ، يشترك من وجد فيه ذلك المعنى فيه شرك في ذلك الحكم ؛ فعلى ذلك ما نزل في أبي بكر من النهي بترك الإنفاق ، وما عوده من اصطناع المعروف إليه لما كان منه إليه من الإساءة ، ثم أمره بالعفو والصفح ، وهو قوله : (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) ، أي : اعفوا عن إساءته واصفحوا أي : لا تذكروا عفوكم إياه عن إساءة ، ولا تذكروا زلته أيضا ؛ لأن ذكر العفو يخرج مخرج الامتنان كقوله : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] ؛ لأن المن والأذى يبطل الصدقة ، وذكر الزلة يخرج مخرج التعيير والتوبيخ ، فأمره بالعفو وهو ظاهر والصفح ما ذكرنا من ترك ذكر العفو والزلة والإساءة جميعا ، والله أعلم.

وقوله : (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) أي : قد تحبون أن يغفر الله لكم ما كان منكم إليه من الإساءة ، فإن أحببتم ذلك فاعفوا عمن أساء إليكم ، والله غفور رحيم.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) : قد ذكرنا أن المحصنات هاهنا : هن الحرائر ، والغافلات : هن بريئات من الفاحشة ، والمؤمنات ظاهر.

وقوله : (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) كأن الآية نزلت في المنافقين الذين كان منهم ابتداء القذف وإشاعته في الناس ؛ لذلك ذكر فيهم اللعن ؛ فهو كما قال : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) والمؤمن لا

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٣٣٥).

٥٣٦

يحب أن تشيع الفواحش في المؤمنين ، إنما ذلك عادة المنافقين.

ثم اللعن في الدنيا هو الحدّ الذي ضرب ، وفي الآخرة العذاب الأليم في الدنيا والآخرة ، وعظيم كأنه ذكر اللعن والعذاب الأليم إذا لم يتوبوا ، وماتوا على النفاق ، فعند ذلك يكون لهم ما ذكر ؛ ويدل لما ذكرنا أن الآية في المنافقين قوله : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ ...) الآية ، وإنما تشهد هذه الجوارح على الكافر لإنكاره باللسان ، وأمّا المؤمن فإنه مقر بذلك كله لا يحتاج إلى أن تشهد عليه الجوارح ، وهو ما قال : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ...) الآية [يس : ٦٥] ونحوه ، كأنهم ينكرون ذلك في الآخرة كما أنكروا في الدنيا كقوله : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ) [المجادلة : ١٨] أخبر أنهم يحلفون لله في الآخرة كما كانوا يحلفون لرسول الله في الدنيا ، فجائز : أن ألسنتهم تشهد عليهم بعد ما أنكروا ، وتشهد عليهم سائر الجوارح إذا أنكروا ، وهو ما قال في آية أخرى : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ ...) الآية [فصلت : ٢٠].

(وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا ...) الآية [فصلت : ٢١] تكون شهادة الألسن بعد ما أنكروا هم ذلك ، وحلفوا ؛ فعند ذلك تشهد عليهم ألسنتهم ، والله أعلم (١).

وقوله : (يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَ) يؤمنون به جميعا يومئذ ، ويقرون بالحق ، لكن لا ينفعهم إيمانهم يومئذ ؛ كقوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) ، (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) ، أي : يعلمون أن ما دعاهم الرسول إليه من توحيد الله ، والإقرار بالربوبية له والألوهية هو الحق المبين ، أي : تبين ذلك ، والحق المبين : ما يبين ما يؤتى وما يتقى ، وما يحل مما يحرم.

وقوله : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ) اختلف فيه :

قال بعضهم (٢) : الخبيثات من الكلمات والقول [للخبيثين من الناس والخبيثون من الناس للخبيثات من الكلمات والقول] ، والطيبات من الكلمات للطيبين من الناس ، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات.

وقال مجاهد : هو القول السيئ والقول الحسن ، فالحسن للمؤمنين والسيئ للكافرين. وذلك ما قال الكافرون من كلمة طيبة فهي للمؤمنين ، وما قال المؤمنون من كلمة خبيثة

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : وأما إذا تابوا عن النفاق وعما وجد منهم من القذف ، فإن الله غفور رحيم ، ومما يدل على أن الآية في المنافقين ما ذكر على أثره ، وهو قوله : «يوم تشهد ...» شرح.

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٨٩١) وعن مجاهد (٢٥٨٩٢ ، ٢٥٨٩٣ ، ٢٥٨٩٥) ، والضحاك (٢٥٨٩٨ ، ٢٥٨٩٩) ، وسعيد بن جبير (٢٥٩٠١ ، ٢٥٩٠٢) ، وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٦٦).

٥٣٧

فهي للكافرين كل بريء مما ليس له ، [و] نحوه من الكلام.

ثم قال (١) : (أُولئِكَ) يعني : عائشة وصفوان.

(مُبَرَّؤُنَ) مما يقول أولئك القذفة.

(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي : حسن ؛ فابن عباس صرف الآية إلى عائشة وصفوان وإلى قذفتهم ، وذلك محتمل ، وهو قريب من الأول.

وقال بعضهم (٢) : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء ، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، لكن هذا يتوجه إلى النكاح شرعا ووجودا ، أما الشرع : فنهيه المؤمنين عن نكاح المشركات بقوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) [البقرة : ٢٢١] ، وقوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) فالمشركات من الخبيثات فهن للخبيثين منهم ، وهم المشركون ، وكذلك الزانيات للزناة منهم ، والمؤمنات هن الطيبات فهن للمؤمنين ، وكذلك المحصنات الغافلات هن الطيبات فهن للمحصنين من أهل العفاف والصلاح ؛ هذا هو الشرع.

وأما الوجود : فهو ما صبر أزواج المنافقين والكفرة على كفر أزواجهن ، والسب لرسول الله ، والأذى له ، وذلك لخبثهن وكفرهن ، وموافقة أزواجهن ، فلو كنّ طيبات لكن لا يصبرن على ذلك كما لا تصبر المؤمنة بكفر زوجها ، والزوج بكفر امرأته ، ومن صبر على ذلك إنما صبر لخبثه ، فبعضهم لبعض أكفاء : الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات ، وكذلك الطيبات والطيبون ، والله أعلم.

وعن عبد الله بن مسعود (٣) ـ رضي الله عنه ـ قال : «إن الكلمة الخبيثة لتكون في جوف الرجل الصالح فلا يكون لها في قلبه مستقر حتى يلفظها ، فيسمعها الرجل الخبيث فيضمها إلى ما عنده من الشر ، وإن الكلمة الصالحة لتكون في جوف الرجل الخبيث فلا يكون لها في قلبه مستقر حتى يلفظها ، فيسمعها الرجل الصالح ، فيضمها إلى ما عنده من الخير. ثم تلا عبد الله (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ ...) الآية».

وجائز أن يكون الخبيثات هي الدركات التي تكون في النار للذين عملوا أعمالا خبيثة

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٩٠٦).

(٢) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير (٢٥٩٠٥) ، وابن أبي حاتم والطبراني عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٦٧).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٦٦).

٥٣٨

في الدنيا ، والطيبات هي الدرجات التي تكون في الجنة للطيبين الذين عملوا في الدنيا أعمالا طيبة ، فالدرجات في الجنة للطيبين الذين عملوا الطيبات في الدنيا ، والدركات في النار للذين عملوا الخبائث والمعاصي في الدنيا.

وقال بعضهم (١) : قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) إلى قوله : (وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) أنزلت في المنافقين الذين قذفوا عائشة : عبد الله بن أبي وأصحابه ، وكان قذفها منافقون ومؤمنون ، وهو ما ذكرنا لم يقصدوا به قذفها ، ولكن كان ذلك زلة منهم أو غفلة ، وأمّا المنافقون فقد قصدوا به القذف والفرية ؛ فأوجب للمنافقين الحدّ واللعن والعذاب العظيم على ما ذكر (لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ولهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة ، وأمّا المؤمنون فقال لهم : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النور : ١٤].

وقال بعضهم : فضله : الإسلام ، ورحمته : القرآن ، أي : لو لا ذلك لعذبكم كما عذب أولئك. ثم قال : الخبيثات من القول للخبيثين من الناس نحو ما ذكر أولئك إلا أنه زاد فيه من القول والعمل ، وذلك كله قريب بعضه ببعض ، والله أعلم بذلك.

وقال : إن الرجل الصالح يتكلم بالكلمة العوراء فيقول القائل : قال فلان : كذا وكذا ، فيقول الآخر : ما هذا من كلام فلان.

وروي عن كعب بمثل قيل عبد الله [بن مسعود] فقال : إن الكلمة الخبيثة تخرج من لسان العبد فتصعد إلى السماء فلا يفتح لها أبواب السماء ، وترجع إلى الأرض فلا تجد لها مستقرّا ، وتذهب إلى البحور فلا تجد لها فيها مكانا ، فتقول : ما أجد لي موضعا أسكنه غير الموضع الذي خرجت منه ، فترجع إلى صاحبها. ثم تلا كعب هذه الآية : (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ ...) الآية.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ)(٢٩)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٦٤) ، وعن سعيد بن جبير أخرجه ابن جرير (٢٥٨٨١) ، وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني كما في المصدر السابق.

٥٣٩

أَهْلِها) روي عن عبد الله بن عباس أنه كان يقرؤها : حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها. وقال : (تَسْتَأْنِسُوا) وهم من الكاتب (١) (٢).

وقال بعضهم (٣) : الاستئناس : الاستئذان.

وقال بعضهم (٤) : الاستئناس : الاستعلام ، وهو أن يطلب من أهل البيت الإذن بالدخول ، والاستئذان هو طلب الإذن منهم للدخول.

وروي عن أبي أيوب قال : قلنا : يا رسول الله ، هذا السلام قد عرفناه فما الاستئذان؟ قال : «أن يرفع صوته بالتحميد أو بالتسبيح أو بالتكبير ليؤذن للدخول» (٥). فإن ثبت هذا فهو إلى الاستعلام أقرب وهو كقوله : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً) [النساء : ٦] أي : علمتم.

ثم قال بعضهم : قوله : حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها على التقديم والتأخير ، أي : حتى تسلموا وتستأنسوا ، وهو أن يبدأ فيقول : السلام عليكم ورحمة الله! أدخل أو لا؟ ثم يستأذن ، وهو ما روي : «السلام قبل الكلام».

ولكن عندنا أن الاستئذان للدخول فإذا أذن بالدخول فدخل فعند ذلك يسلم عليهم كقوله : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً) [النور : ٦١] فإنما أمر بالسلام بعد الدخول ؛ فعلى ذلك هذا يستأذن للدخول فإذا أذن له فدخل فبعد الدخول يسلم عليهم ؛ لأنه لو سلم أولا ثم استأذن احتاج إلى أن يسلم ثانيا إذا دخل ؛ فهذا الذي ذكرنا أشبه بعمل الناس وظاهر الآية ، والله أعلم.

ثم قوله : (لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ) لم يرجع إلى المساجد ونحوه بل يرجع ذلك إلى بيوت مسكونة ؛ فذلك يدل لقولنا : إن من حلف ألا يدخل بيتا فدخل المسجد لم يحنث.

وقوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي : ذلك الاستئذان والتسليم خير لكم من ترك الاستئذان ؛ لأنه ترك التأدب بما أدبه الله وعلمه (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، أي : تتعظون

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٥٩٠٨ ، ٢٥٩١٣ ، ٢٥٩١٥ ، ٢٥٩١٨) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٦٩).

(٢) هو قول ابن عباس ، انظر التخريج السابق.

(٣) روي في معناه حديث أخرجه ابن جرير (٢٥٩١٧) ، عن عمرو بن سعيد الثقفي أن رجلا استأذن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فقال : ألج؟ أو أنلج؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأمة له يقال لها روضة : «قومي إلى هذا فكلميه فإنه لا يحسن يستأذن فقولي له يقول : السلام عليكم ، أدخل؟

فسمعها الرجل فقالها فقال : ادخل» وانظر : الدر المنثور (٥ / ٩٦).

(٤) أخرجه ابن أبي شيبة والحكيم الترمذي والطبراني وابن أبي حاتم وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٩٦).

٥٤٠