تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

كذلك ـ لا يحتمل أن يجعل لهم كل هذه النعم التي ذكرها وأنشأها لهم ، ثم لا يمتحنهم بالشكر على ذلك ولا يأمرهم بأوامر ولا ينهاهم بمناه ؛ فدل ما أنشأ لهم من النعم وسخر لهم من الأشياء أنهم يبعثون ويرجعون إليه ؛ حتى يجزون جميعا : المحسن جزاء [الإحسان والمسىء جزاء] الإساءة ؛ إذ في العقول التفرقة بين الولي والعدو ، وبين المحسن والمسيء وبين الشاكر والكافر ، ثم رأيناهم جميعا في هذه الدنيا عاشوا على سواء في الضيق والسعة ، لم نر ما يفصل بين الولي والعدوّ ، وبين المحسن والمسيء ، وبين الشاكر والكافر ؛ فدل ما لم يكن من التفرقة ما ذكرنا في هذه الدنيا على أن هنالك دارا أخرى دار الجزاء ، هناك يفصل بين ما ذكرنا في الجزاء ، والله الموفق.

(لا تُرْجَعُونَ) : لا تبعثون.

وقيل : لا ترجعون إليه بالأعمال التي عملتموها ، كقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) [الانشقاق : ٦] ، وقوله : (فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ) [فصلت : ٦].

وقوله : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ).

أي : يتعالى الله عن أن يكون خلق الخلق منه عبثا ، أو يتعالى أن يكون خلق الخلق لا لحكمة. (الْمَلِكُ الْحَقُ). قال الحسن : الحق : اسم من أسماء الله ، أو الملك الذي خلق الخلق للحكمة.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : تنزيه وتبرئه عن جميع ما قالوا فيه.

وقوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) يشبه أن يكون على الأوّل : يتعالى الملك الحق وربّ الملك الكريم عن أن يخلقهم لا للحكمة أو للبعث.

وقالت الباطنية : العرش : القيامة.

ونحن [نقول :] يشبه أن يكون العرش القيامة ، على ما قالوا هم ، إلا أنهم يقولون : هو قائم الزمان ، وقلنا نحن : هي القيامة المعروفة وهي الساعة ، ربّ القيامة وهي الملك الذي ذكرنا ؛ كقوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦] : خص ذلك اليوم بالملك له ، وإن كان الملك له في الدارين جميعا ؛ لما لا يتنازع في ملكه يومئذ ، [و] قد نوزع في الدنيا ، فخلص له ملك ذلك اليوم وصفا له يومئذ.

وقال بعض أهل التأويل : العرش : السرير ، أضافه إلى نفسه ؛ لمنزلته عند الله ، والكريم : هو نعت ذلك السرير ، أي : الحسن ؛ كقولهم : (رجل كريم) ، أي : حسن ، وهكذا يوصف كل كريم بالحسن.

وقال بعضهم : هو نعت الرب ، أي : ذو عفو وصفح ، والله أعلم.

٥٠١

قوله تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (١١٧) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ)(١١٨)

وقوله : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ).

ظاهر هذا يوحي أن هنالك إلها آخر ؛ لأنه قال : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ، لكنه يخرج على وجهين :

أحدهما : لا يحتمل مع الله إلها آخر ؛ كقوله : (وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) [الذاريات : ٥١].

والثاني : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) ، أي : من يسم مع الله إلها آخر ؛ إذ كانوا يسمون الأصنام التي كانوا يعبدونها : آلهة ، على هذين الوجهين يخرج تأويل الآية.

وقوله : (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ).

أي : لا حجة لهم بذلك ؛ لأن الحجة إنما تكون بوجوه ثلاثة :

إما بالأخبار التي يجوز الشهادة على صدقها وصحتها.

وأما العقول السليمة.

وأما من جهة الحس يدل على ذلك ؛ فلم يكن لهم واحد من هذه الوجوه.

ثم الحسّ يكون بالدلالة من وجهين : إما بوقوع الحس عليه بالبديهة أو بآثار تدل على الألوهية ؛ فلا كان في ظاهر وقوع الحس دلالة ذلك ، ولا كان بها آثار تدل على ذلك ، بل فيها آثار العبودة والذل ، فضلا أن يكون لها آثار الألوهية ، فلا عذر لهم في ذلك ؛ لأن العبادة لآخر إنما تكون : إما للنعم والأيادي تكون منه إليه ؛ فيعبده شكرا لما أنعم عليه وأحسن إليه ، وإما لحوائج يطمع قضاءها له ، وإما لما يرى له في نفسه من آثار العبودة له ؛ فإذا لم يكن واحد من هذه الوجوه التي ذكرنا فلا عذر لهم في عبادة تلك الأصنام.

فإن قالوا : لنا برهان وحجة في ذلك.

قيل : قطع حجاجكم بما ذكر من قوله : (إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ ...) الآية [الزمر : ٣٨] ، وقوله : (فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) [الإسراء : ٥٦] ، ونحو ذلك من الآيات : فيها قطع حجاجهم.

وفي حرف حفصة : (لا بُرْهانَ لَهُ) ، أي : لا سلطان له به.

وقوله : (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ).

قال قائلون : (حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) هو قوله : (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ)(١) ، وقال

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٢٧٣).

٥٠٢

بعضهم : (حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) أي : جزاؤه عند ربه ؛ كقوله : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) [الغاشية : ٢٥ ، ٢٦].

وقوله : (وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ).

جائز أن يكون هذا تعظيما من الله لكل أحد سؤال المغفرة والرحمة ، وقيل : هو لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : حكمته وعدله ألا يرحم ولا يغفر أحدا ، وإن كان في فضله ورحمته أن يرحم ويغفر.

والثاني : يجعل له العصمة والرحمة بهذا الدعاء.

أو أن يكون العصمة تزيد في الخوف ، كقول إبراهيم : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] ، وقوله : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) [آل عمران : ٨].

وقوله : (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ؛ لأن رحمته إذا أدركت أحدا أغنته عن رحمة غيره ، ورحمة غيره لا تغنيه عن رحمته ، والله الموفق ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين.

* * *

٥٠٣

سورة النور ، كلها مدنية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)(١)

. قوله ـ عزوجل ـ : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها).

سماها سورة ، وجعل تلاوتها سورة ، ولم يجعل لغيرها من السور التلاوة سورة ، كما جعل لها ، ذلك جائز ؛ لكثرة ما فيها من الأحكام : من الفرائض ، والآداب : ما بالناس إلى ذلك حاجة ، أو لمعنى لم يذكره ، أو لا لمعنى ، ولكنه ذكر هكذا ، وله الخلق والأمر.

قال أبو عوسجة : السورة : القطعة من كل شيء ؛ تقول : سورت الشيء ، أي : قطعته.

وقال بعض العلماء : إنما سمي القرآن لجماعة السور ، وسميت السورة مقطوعة من الأخرى ، فلما قرن بعضها إلى بعض سمي قرآنا ؛ كقوله : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) [القيامة : ١٧] ، أي : تأليف بعضها إلى بعض ، (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) [القيامة : ١٨] ، أي : فإذا جمعناه وألفناه ، فاتبع قرآنه ، أي : ما جمع فيه فاعمل به : من أمر أو نهي ، ويقال : ليس لشعره قرآن ، أي : نظم وتأليف ، ويقال للمرأة : ما قرأت سلى قط ، أي : لم تجمع في بطنها ولدا.

وقال بعضهم : سورة ـ بلا همز ـ أي : المنزلة والرفعة ، وبالهمز : سؤرة : البقية ، ومنه سمي : سؤر الكلب ، وسؤر الهر ، وسؤر الطائر ، أي : بقيته والقطعة منه.

ثم قرئت بالنصب : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) ، والرفع جميعا : (سُورَةٌ) ، وهي القراءة الظاهرة.

فمن قرأها بالنصب أوقع الفعل عليها ، أي : أنزلنا سورة ، والفعل إذا وقع على شيء انتصب ـ تقدم الفعل أو تأخر ـ كقولك : زيدا ضربناه ، وضربنا زيدا.

وقال بعضهم : إنما انتصب لإضمار فيه كأنه قال : اتبعوا سورة ، أو : اذكروا سورة أنزلناها ؛ كقوله : (ناقَةَ اللهِ) [الشمس : ١٣] ، أي : احذروا ناقة الله.

ومن قرأ بالرفع : على الابتداء ، فكل ما يبتدأ به فهو رفع.

وقال بعضهم : رفع على إضمار : هذه سورة أنزلناها ، وذلك كله جائز في اللغة ، والله أعلم.

وقوله : (وَفَرَضْناها).

قرئ بالتخفيف : وفرضنها ، وبالتشديد : وفرضنها ، قال الزجاج (١) : قوله (وَفَرَضْناها) ، بالتشديد ، يخرج على وجهين :

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٤ / ٢٧).

٥٠٤

أحدهما ، أي : كثرنا فيها الفرائض والأحكام.

والثاني : (وَفَرَضْناها) ، أي : فصلنا فيها بين ما يؤتى وبين ما يتقى ، وبين ما أمر فيها وبين ما نهي.

وقال : وأما التخفيف : (وَفَرَضْناها) ، أي : الزموا ما فيها من الفرائض وآدابها.

وقال القتبي (١) : فرضنا ، بالتخفيف ، أي : بينا فيها الفرائض.

وقال أبو عوسجة : من قرأها بالتخفيف : وفرضنها ، أي : أنزلنا فيها فرائض مختلفة ، ومن قرأها : (وَفَرَضْناها) ، بالتشديد ، يقول : فرضناها عليكم وعلى من بعدكم ؛ على التكثير ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ).

يحتمل قوله : (آياتٍ بَيِّناتٍ) ، أي : حججا بينة يفهمها ويعرفها كل أحد بالبديهة والتأمل.

أو أن يريد بالآيات : الآيات التي جمع فيها أشياء وتتلى ؛ لأن الآية إنما تستحق اسم الآية إذا جمع فيها كلمات وحروف ، فأما كلمة واحدة [وحرف] واحد فلا يسمى بهذا الاسم.

أو أن يكون قوله : (آياتٍ بَيِّناتٍ) : ما ذكر فيها وبين مما يؤتى ويتقى ، وبين ما يحل وما يحرم ؛ فذلك كله مبين ، والله أعلم.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، أي : تتعظون بما ذكر فيها من المواعظ ، وبين فيها ما يزجر عن المعاودة ، وهي الحدود التي ذكر فيها ؛ لأن سبب الاتعاظ أحد شيئين : المواعظ التي تلين القلوب ، والحدود التي تزجر.

قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(٣)

وقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ).

لو كان الخطاب يجب اعتقاده على ظاهر المخرج والعموم على ما قاله بعض الناس ، لكان لكل أحد أن يقيم على آخر حدّا بظاهر قوله : (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ؛ فيقول : الله أمرني بذلك بقوله : (فَاجْلِدُوا) ، أو أن يضربوا جميعا واحدا من الزنا بظاهر قوله : (فَاجْلِدُوا) ؛ فيزداد الضرب والحدّ على ما حدّ الله أضعافا مضاعفة ؛ فدل أن

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٣٠١).

٥٠٥

اعتقادهم العموم فاسد بظاهر المخرج.

أو أن يقول قائل : روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «العينان تزنيان ، واليدان تزنيان ، والرجلان تزنيان ، والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه» (١) : سمى الناظر إلى ما لا يحل نظره إليه زانيا ، والماس لها : كذلك ؛ فيلزمه الحدّ بظاهر قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ؛ فإذا لم يفهم من ظاهر قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ما ذكرنا كله ؛ دل أن الاعتقاد على عموم المخرج فاسد ، وأن المراد بقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ـ راجع إلى الخصوص : إلى مقيم دون مقيم ، وإلى زان دون زان ، وهو الزاني الذي يجمع في فعل الزنا جميع بدنه : العين ، واليد ، والرجل ، والفرج ، وجميع بدنه.

ورجع الخطاب به إلى البكرين الحرين والثيبين الحرين الذين لم يستجمعا جميعا أحكام الإحصان.

فأما من استجمع جميع أسباب الإحصان فإن حدّه الرجم على اتفاق القول منهم جميعا ، إلا أن طائفة من أهل العلم أوجبوا عليه مع الرجم الجلد ، وفي البكر مع الجلد تغريب عام.

والدليل على أن المراد راجع إلى الحرين البكرين أو الثيبين اللذين لم يستجمعا أسباب الإحصان ما ذكرنا من القول المتفق.

وقوله : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) ، دل إيجاب نصف ما على المحصنات على الإماء على أنه أراد بالمحصنات : الحرائر اللاتي لم يستجمعن جميع أسباب الإحصان ، وأن الخطاب بقوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) إلى آخر ما ذكر راجع إلى الحرين اللذين ذكرناهما.

ثم لم يضرب في الزنا الذي به زنا ، وهو الفرج ، وقطع في السرقة الذي به سرق : وهو اليد ؛ فهو ـ والله أعلم ـ لما جعل الحدود زواجر عن المعاودة ـ لم تجعل دافعة مذهبة إمكان ذلك الفعل من الأصل ، وفي ضرب الفرج ذهاب إمكان الفعل من الأصل ، ولا كذلك في قطع اليد في السرقة ؛ إذ تبقى أخرى : بها يأخذ ، وبها يقبض ؛ لذلك افترقا.

أو أن يقال : في ضرب الفرج خوف هلاكه في الأغلب ، وليس ذلك في قطع اليد ؛ بل يبقى حيّا في الغالب ، وقد ذكرنا أن الحدود لم تجعل مهلكة متلفة ؛ ولكن جعلت زواجر

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٢٨) كتاب الاستئذان : باب زنا الجوارح (٦٢٤٣) ، وفي (١١ / ٥١١) ، كتاب القدر : باب «حرام على قرية أهلكناها ...» (٦٦١٢) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٧) ، كتاب القدر : باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا (٢١ / ٢٦٥٧) ، عن أبي هريرة.

٥٠٦

عن المعاودة ؛ لذلك افترقا.

وفي قوله : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) دلالة على أن النفي ليس من عذاب الزانيين ولا من عقوبتهما ؛ لأنه قال : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، والنفي مما لا يحتمل أن يؤمر بشهوده ؛ لأنه لا يمكن ؛ فدل أنه ليس من عذابهما.

ويدل عليه ـ أيضا ـ قوله : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) ؛ لأنهم أجمعوا على أن لا نفي على الإماء إذا زنين ، وقد أوجب عليهن إذا زنين : نصف ما على المحصنات.

أو إن ثبت النفي فهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه أراد به قطع الشّين الذي لحقهما بفعل الزنا ؛ لأنه ليس جرم من الإجرام أكثر شينا وأشد من فعل الزنا ؛ فأراد أن ينقطع ذلك من بين الناس.

أو أن يكون أراد به قطع الشهوة ، التي حملتهم على الزنا : بذل السفر وذلة الغربة.

أو صار منسوخا لما شدد في الضرب بقوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) ، وفيما ذكر النفي ، لم يذكر فيه الشدة ؛ إنما ذكر فيه الجلد فحسب بقوله ـ عليه‌السلام ـ : «أما على ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام» (١) ؛ فجائز أن يكون الضرب كان بالتخفيف وفيه نفي ، فلما شدد في الضرب ارتفع النفي ، وقد جاء عن عمر (٢) ـ رضي الله عنه ـ أنه نفى رجلا فارتد عن الإسلام ولحق بالروم ؛ فقال : كفى بالنفي فتنة ، وقال : لا أنفي بعد هذا أبدا. وكذلك روي عن علي ـ رضي الله عنه ـ والله أعلم.

وقوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ).

قال بعضهم (٣) : لا تأخذكم بهما رأفة في تخفيفها ؛ فهو ـ والله أعلم ـ لأنه من أعظم الإجرام في الشين.

ثم للمعتزلة تعلق بظاهر قوله : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) ؛ قالوا : إن الله وصف نفسه بالرحمة بقوله : (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١١٧] ، ووصف المؤمنين بالرحمة فيما

__________________

(١) طرف من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني :

أخرجه البخاري (١٢ / ١٧٩) ، كتاب الحدود : باب إذا رمى امرأته أو امرأة غيره بالزنا (٦٨٤٢ ، ٦٨٤٣) ، ومسلم (٣ / ١٣٢٤ ، ١٣٢٥) ، كتاب الحدود : باب من اعترف على نفسه بالزنى (٢٥ / ١٦٩٧ ، ١٦٩٨) ، ومالك (٢ / ٨٢٢) ، كتاب الحدود : باب ما جاء في الرجم (٦).

(٢) انظر : مصنف ابن أبي شيبة (٥ / ٥٤٩) ، (٢٨٨٦١).

(٣) قاله الحسن وسعيد بن المسيب معا وحماد والزهري ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٥٧٢٢ ، ٢٥٧٢٣ ، ٢٥٧٢٤) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٣٦).

٥٠٧

بينهم ، والشدة على الكفار بقوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] ، ثم نهاهم أن تأخذهم رأفة على الزانيين وقت إقامة الحدّ عليهم ؛ دل أن الزاني قد خرج بفعله من الإيمان ؛ لما ذكرنا من رفع الرأفة والرحمة عنهما.

لكن عندنا في الآية دلالة أنه ليس على ما ذهبوا إليه ؛ لأن الزاني لو كان يخرج من الإيمان بفعل الزنا لكان لا يحتاج إلى أن يقول : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ) ؛ لأنهم كانوا على ما وصفهم الله بالشدة على غير المؤمنين بقوله : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) ، دل أن الزنا لم يخرجه عن الإيمان ؛ فنهى ألا تأخذ بهما رأفة الإيمان والدين في تعطيل الحدّ أو تخفيفه.

أو أن يكون النهي عن أخذ الرأفة ؛ ليتحمل ذلك الحدّ ، وإلا : لم ينتفع به في الآخرة ، وهو ألا يعذب به ؛ ألا ترى أنه قال : (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ، وفائدته ما ذكرنا : أنه لا تأخذكم بهما رأفة في إضاعة الحدّ ؛ لما يتأمل من النفع في الآخرة ، نحو : من يشرب الأدوية الكريهة ، ويفتصد ، ويحتجم ؛ لما يطمع البرء به والنفع ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون النهي عن أخذ الرأفة في حد الزاني ؛ ليقام ذلك عليه ؛ فينجو في الآخرة عن عذابه ، والله أعلم.

وقوله : (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ).

وقال بعضهم (١) : الطائفة : واحد واثنان فصاعدا ، وكذلك قالوا في قوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) [الحجرات : ٩] ، هما رجلان اقتتلا ؛ دل على ذلك قوله : (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) [الحجرات : ١٠] ، وهما اثنان في الظاهر ، لكن أن ينضم إلى كل واحد منهما جماعة من عشيرته ؛ فيكون الطائفة جماعة لا واحدا.

وقال بعضهم الطائفة : جماعة من العشيرة فصاعدا.

ثم يجب أن ينظر لأي معنى أمر أن يشهد عذابهما طائفة من بين سائر الإجرام ؛ فهو ـ والله أعلم ـ يحتمل وجوها :

أحدها : المحنة ، أراد أن يمتحن من حضر ذلك ، أو المرء قد يتألم على ضرب آخر ، وما يحل لغيره ؛ لينزجر عن مثله.

والثاني : لانتشار الخبر في الناس ؛ لينزجروا عن مثله.

والثالث : لئلا يتعدى الضارب ـ والمقيم ـ ذلك الحدّ ويجاوزه على الحدّ الذي جعل له ؛ فإن هو تعدى منعه من حضره عن المجاوزة والتعدي.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٨) ، وعن مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٥٧٢٥ ، ٢٥٧٢٦ ، ٢٥٧٢٧).

٥٠٨

والرابع : لدفع التهمة عن الحاكم ؛ لئلا يتهمه الناس أنه إنما أقام عليه الحدّ بلا سبب كان منه ، ولا جرم.

فإن كان الأمر بشهود الطائفة عذابهما هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا : من انتشار الخبر ، ودفع التهمة عنه ، ومنع المجاوزة ، فالطائفة تحتاج أن تكون جماعة ؛ لأن الواحد غير كاف لذلك.

وإن كان الأول ـ وهو المحنة ـ فالواحد وما فوقه يكون يمتحن كلا في نفسه بحضور ذلك الحدّ ؛ ليتألم به.

وقد ذكرنا أن بعض أهل العلم قالوا : إنه يجمع مع الرجم والجلد ؛ واحتجوا بما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الثيب بالثيب : جلد مائة ورجم الحجارة ، والبكر بالبكر : جلد مائة وتغريب عام» (١) : فأما الجلد فلا خلاف في أنه حد البكر ، وأما النفي فمما اختلفوا [فيه] : فمنهم من رآه واجبا ، ومنهم من رآه عقوبة لهم يضم إلى الحدّ.

ونحن قد ذكرنا المعنى في ذلك ـ إن ثبت ـ ما يغنينا عن تكراره ، ونزيد ـ أيضا ـ نكتة ، وهي أن الحدود ذوو نهايات للمقدار وغايات ، ولذلك سميت حدودا ؛ لأن لها نهاية وغاية ، كما يقال : هذا حد فلان ، وحدّ الدارين أنه منتهاها وآخرها ، فلما لم يكن للنفي حد ينتهى الزاني إليه دل أنه ليس بحدّ ؛ ولكن أراد به الوجوه التي ذكرنا ، إما حبسا كما يحبس الزانى حتى يحدث توبة ، أو قطع الشين والذكر الذي يتحدث الناس به ؛ لينسى ذلك ويترك ، أو قطع الشهوات التي حملتهم على ذلك بذل السفر والغربة ، أو أن كان ثم صار منسوخا بما يشدد فيه الضرب ، والله أعلم.

وأما قول أصحابنا : يفهم أنه لم يكن الجلد عن الثيب إذا كان محصنا ؛ بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «اغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها» (٢) ، ولم يذكر جلدا.

وذهبوا أيضا إلى أن حديث ماعز بن مالك ، لما رجمه النبي ـ عليه‌السلام ـ باعترافه ، ولم يذكر جلدا ، وروي أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ قال له ـ لما اعترف ثلاثا ـ : «لو اعترفت في المرة الرابعة لرجمك» (٣) ، ولم يقل : جلدك : علم أنه ينفي الرجم الجلد. وما روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه أمر برجم امرأة زنت ، ولم يجلدها (٤).

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٣١٦) كتاب الحدود : باب حد الزنى (١٢ / ١٦٩٠) ، وأبو داود (٤ / ٥٦٩) كتاب الحدود ، باب في الرجم (٤٤١٥).

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه أحمد (١ / ٨) ، وأبو يعلى (١ / ٤٢ ، ٤٣) رقم (٤٠ ، ٤١) ، والبزار (٢ / ٢١٧ ـ كشف).

(٤) أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار (٣ / ١٤٠ ، ١٤١).

٥٠٩

وروي عن ابن عمر عن عمر مثله. إلى كل هذه الأخبار ذهب أصحابنا رحمهم‌الله ، ويقولون : لا يجتمع على رجل في فعل واحد حدّان : الجلد والرجم جميعا ؛ كما لا يجتمع في غيره من الإجرام في فعل واحد حدّان أو عقوبتان.

وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «الثيب بالثيب : يجلد ويرجم» (١) يحتمل الجلد جلد البكر المحصن ، ويرجم ثيبا آخر محصنا ، أو يجلد ثيبا في حال ويرجم ثيبا في حال ، وقد ذكرنا هذه المسألة في سورة النساء.

[وقوله :](الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ).

في ظاهر الآية ألا يحل للزاني أن ينكح إلا الزانية من المؤمنات أو مشركة ، وكذلك الزانية من المؤمنات لا ينكحها العفيف من المؤمنين ؛ وإنما ينكحها الزاني منهم والمشرك.

وفي ظاهر الآية النهي للزاني عن نكاح العفائف ، وإباحة نكاح الزانيات والمشركات (٢) ؛ فإن كان ذلك ، فكان قوله : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) [البقرة : ٢٢١] إلا الزناة منكم ؛ فإنه يحل لهم أن ينكحوا المشركات ، وكذلك قوله : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ٢٢١] إلا الزانيات ؛ فإنه يحل هذا ظاهرا ، لكنهم أجمعوا على ألا يحل للمؤمن ـ وإن كان زانيا ـ أن ينكح المشركة ، وكذلك لا يحل للمشركة أن تتزوج بالزاني من أهل الإيمان.

ثم اختلف أهل التأويل في تأويله :

قال مقاتل ، ومحمد بن إسحاق ، وهؤلاء : الزاني من أهل الكتاب لا ينكح ـ أي : لا يتزوج ـ إلا زانية من أهل الكتاب ، أو مشركة [من] غير أهل الكتاب ، والزانية من أهل الكتاب : لا ينكحها إلا زان من أهل الكتاب أو مشرك من غير أهل الكتاب يزنين علانية.

وعن ابن عباس (٣) ـ رضي الله عنهما ـ قال : نزلت الآية في نفر من أهل مكة هاجروا إلى المدينة وكانوا ذوي عسرة ، وكان بالمدينة بغايا يبغين بأنفسهن ظاهرات بالفجور ، وكن مخصبات أو مخاصيب البيوت ، فهمّ أولئك المهاجرون أن يتزوجوا بأولئك البغايا ؛ ليصيبوا من خصبهن وسعتهن ، فذكروا ذلك لرسول الله واستأذنوه في ذلك ؛ فنزلت الآية في شأنهم : (الزَّانِي) من أهل القبلة المعلن به (لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً) من اليهود (أَوْ مُشْرِكَةً)

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ٢٨٦ ، ٢٨٧).

(٣) قاله مقاتل بنحوه ، أخرجه ابن أبي حاتم ، وعن سعيد بن جبير ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم ، والبيهقي ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٨ ، ٤٠).

٥١٠

الآية.

(وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

لكن هذا يصلح أن لو كان أولئك المهاجرون مثلهن زناة ، فأما إن كانوا مهاجرين أهل إيمان وعفة ـ فلا يصلح أن يقال فيهم : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً) ، وهم لم يكونوا زناة ؛ إلا أن يقال على الابتداء : إنه لا يفعل ذلك.

وقال بعضهم (١) : قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ) ، أي : لا يجامع ، ولا يزني إلا بزانية مثله ، وكذلك الزانية لا تزني إلا بزان مثلها أو مشرك لا يحرم الزنا ، وهو قول الضحاك وهؤلاء.

وقال سعيد بن المسيب (٢) : نسخت هذه الآية : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) ، قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ...) الآية.

وسئل ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ عن رجل يزني بامرأة ثم يتزوجها؟ قال : هما زانيان ما اصطحبا (٣).

وجائز أن يكون النهي عن نكاح الزانية والزاني ـ نهيا عن الزنا نفسه لا عن النكاح ؛ كأنه قال : لا تزنوا ؛ فإنكم إذا زنيتم وصرتم معروفين به لا تجدون أن تنكحوا إلا زانية أو مشركة التي لا تحرم الزنا ؛ لأن العفائف منهن لا يرغبن في نكاح من صار معلن الزنا ، فإذا لم يرغبن لم يجدوا إلا من ذكر ، وهو ما قال : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) ، ليس النهي عن قربان الصلاة ؛ ولكن النهي عن السكر وشرب المسكر.

وكذلك ما روي أنه قال : «لا صلاة للمرأة الناشزة ولا للعبد الآبق» (٤) : إنما نهى عن نشوزها وعن إباقه ؛ ليس عن الصلاة ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) : إنما نهى عن الزنا ، أي : لا تزنوا ؛ ليرغب العفائف من المؤمنات فيكم ، ولا يزني النساء ؛ ليرغب أهل العفاف من المؤمنين ؛ فإنكم إذا زنيتم وصرتم معروفين به معلنين لا تجدوا إلا نكاح من ذكر من الزانية أو

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٧٦٤) ، وعن سعيد بن جبير (٢٥٧٦٥) ، وعكرمة (٢٥٧٦٦) ومجاهد (٢٥٧٦٧) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٣٩).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٥٧٧٢ ـ ٢٥٧٧٦) ، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود وأبو عبيد معا في التاريخ وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤١).

(٣) من طريق الحاكم أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (٧ / ١٥٦) ، (١ / ٣٨٥) أبواب الصلاة : باب ما جاء من أمّ قوما وهم له كارهون (٣٥٨).

(٤) أخرجه الترمذي والطبراني (٨ / ٨٠٩٠ ، ٨٠٩٨) ، والبغوي في شرح السنة (٢ / ٤٠٢) ، عن أبي أمامة بلفظ : «ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم : العبد الآبق حتى يرجع ، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط ، وإمام قوم وهم له كارهون».

٥١١

المشركة.

أو أن يكون ما ذكرنا : لا يرغب الزاني إلا في نكاح زانية أو مشركة ، وكذلك المرأة الزانية لا ترغب إلا في نكاح زان مثلها أو مشرك.

أو لا يرغب الزاني في الزنا إلا بزانية أو مشركة لا تحرم الزنا ، وكذلك الزانية لا ترغب في الزنا إلا بزان مثلها أو مشرك لا يحرم الزنا.

(وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ).

وحرم الزنا على المؤمنين.

أو إن كان على النكاح ؛ فيكون تأويل قوله : (وَحُرِّمَ) أي : منع عن ذلك المؤمنين ، أعني : نكاح الزانيات والزناة.

قال أبو عوسجة : الزانية والزاني يقال منه : زنى يزني زنا ، وأما زنأ يزنأ زنئا ، أي : ارتقى يرتقي ؛ ويقال : الزناء : الضيق ، ويقال : زننته أزنه زنا ، أي : ظننت به ظنا ، والقذف : التهمة ، والرمي أشد من القذف.

ومن جعل الآية في الزانيين المسلمين ، وجعل قوله : (لا يَنْكِحُ) : على التزويج ـ لزمه أن يجيز للزانية المسلمة أن تتزوج الزاني المسلم والمشرك على ما ذكرنا بدءا ، وهذا لا يقوله أحد ، وفي بطلان هذا القول بيان أن الآية إن كان المراد بها عقد النكاح فإنها نزلت في الزانية المشركة يريد المسلم أن يتزوجها ، كما ذكر في حديث مرثد ، وإن كان المراد به بذكر النكاح منها : الوطء ، فهو كما قال ابن عباس في إحدى الروايتين عنه : إنه الجماع ، ليس تحتمل الآية غير هذين الحالين ، والله أعلم بما أراد.

وقد زعم قوم أن المرأة إذا زنت حرمت على زوجها ؛ فكأنهم ذهبوا إلى أنه لما لا يحل له أن يطأها ؛ لأنها إذا كانت زانية لم يحل المقام عليها إذا زنت وهي زوجة.

لكن أهل التأويل في الآية على خلاف ما توهم أولئك بما وصفنا ؛ فلا وجه لتحريمهم الزانية على زوجها ، ولو كان أهل التأويل على ما توهموه فوجب أن تحرم الزانية على زوجها من غير أن كان ممنوعا من تزويجها ؛ ألا ترى أنه لا يجوز للرجل أن يتزوج امرأة في عدة من غيره ، ولو أن رجلا وطئ [امرأة] رجل بشبهة فوجب عليها منه عدة لم تحرم على زوجها ، أفلا ترى أن العدة إذا كانت على النكاح مخالفة للنكاح في العدة.

واحتجوا ـ أيضا ـ بأن الرجل إذا قذف امرأته لوعن بينهما وفرق.

لكن الوجه فيه ما ذكرنا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً

٥١٢

أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ)(١٠)

وقوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ).

ذكر الرمي ولم يذكر بم؟ فيعرف ذلك بالنازلة ، ولقوله : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) ، وذكر الأربعة الشهود ، والزنا هو المخصوص بالشهود الأربعة دون غيره من الإجرام ؛ فدل ذكر ذلك على أثر ذلك على أن الرمي المذكور فيه هو الزنا.

ثم قوله : (الْمُحْصَناتِ) : هن الحرائر في هذا الموضع لا العفائف ؛ لأن قاذف الأمة يلزمه التعزير ؛ ألا ترى أنه قال : (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ ...) الآية [النساء : ٢٥] ؛ [و] ألا ترى أنه أوجب على الإماء نصف ما على المحصنات وهن الحرائر.

ولأنا لو جعلنا (الْمُحْصَناتِ) عبارة وكناية عن العفائف دون الحرائر لأسقطنا شهادة الشهود ؛ لأن العفة تكذبها.

وكذلك يدل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ) ، الغافلات : عبارة عن العفائف ؛ فدل أن المحصنات عبارة عن الحرائر ، ثم أدخل المحصنين في حكم هذه الآية في الرمي والقذف (١) وغيره ، وإن لم يذكروا في الآية.

ثم شدد الله ـ تعالى ـ في الزنا وغلظ في أمره ما لم يشدد ولم يغلظ في غيره من الإجرام مثله :

منها : ما نهى عن تعطيل الحدّ فيه وإضاعته وتخفيفه ؛ حيث قال : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ).

ومنها : ما أمر برجمه إذا كان محصنا مثل ما يرجم الكلب ويقتل بالحجارة.

ومنها : ما أوجب على الرامي به من الحدّ إذا لم يأت بأربعة شهداء.

والزنا بهذا كله مخصوص من بين غيره من الإجرام ؛ وذلك ـ والله أعلم ـ لقبحه في العقل والطبع جميعا ، وكذلك في الشرع.

والدليل أنه قبيح في الطبع والعقل جميعا ما ينفر عنه طبع كل مسلم وينفر عنه كل عقل

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٢٩١ ، ٢٩٢).

٥١٣

سليم.

فإن قيل : لو كان ينفر عنه لكان لا يرتكبه ولا يأتيه.

قيل : ينفر عنه إلا أن الشهوة التي مكنت فيه وركبت تغلبه وتمنعه عن النفار عنه ؛ ألا ترى أنه لو تفكر مثله في المتصلات به من الأم والابنة وجميع المحارم ، لم يحتمل قلبه ذلك ، وبمثله روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن رجلا أتاه فقال له : ائذن لي في الزنا ؛ فقال : «أرأيت لو فعل بابنتك وأمّك مثله : أكنت تكره؟ فقال : نعم ؛ فقال له : اكره لغيرك ما تكره لنفسك» (١) : دل ذلك أنه قبيح في الطبع والعقل جميعا إلا أن الشهوة تمنعه عن النفار عنه.

وفيه اشتباه الأنساب والمعارف التي جعلت فيما بين الخلق ؛ حتى لا يهتدي أحد إلى معلم يعلمه الحكمة والآداب ومعالم السنن ولا الدعاء بالآباء ، وارتفع التواصل وحفظ الحقوق التي يقوم بعض لبعض ، والشفقة التي جعل لبعض على بعض : من التربية في الصغار ، وحقوق المحارم وغيرهم ، وبها امتحن البشر والعالم الصغير ، وبطل خلق ما ذكر من الإنشاء لهذا العالم ، وتسخير ما ذكر ما في السموات والأرض لهم ؛ فهذا كله يدلّ على قبح الزنا ونهايته في الفحش والمنكر ؛ حتى لا يعرف هذا العالم قبحه ونهاية فحشه ، وإنما يعرفه العالم الروحاني الذي لم يكن فيهم هذه الشهوة ولم يمتحنوا بها ، وأمّا هذا العالم الذي جعلت فيهم الشهوة لا يعرفون قدر قبحه وفحشه ؛ لما تغلبهم وتمنعهم عن النفار عنه والنظر في معرفة قبحه ؛ لهذا ـ والله أعلم ـ ما شدّد الله ـ تعالى ـ أمر الزنا وغلظ في أحكامه ما لم يغلظ بمثله في غيره من الإجرام وعظم شأنه من بين سائر الآثام.

ثم الذكر إنما جرى في الحرائر بما ذكرنا فهو بالرجال من الأحرار إن لم يكن أكثر فما يكون دونه ؛ لأن العذر فيهن أكثر وهي الشهوة التي تغلب وتمنع عن النفار عنه ، وفي الرجال أقل ؛ فالعذر فيهم أقل ؛ ألا ترى أنه ذكر الحدّ في الإماء بقوله : (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) ، ولم يذكر في العبيد شيئا ؛ فيلزم للعبد ذلك الحدّ إذا ارتكبه ؛ فعلى ذلك ما ذكر من الحدّ في النساء والقذف ، فهو في الرجال مثله.

ثم أجمعوا على أن على قاذف الأمة التعزير ولا حدّ عليه ، وقد سمى الزوجة وإن كانت محصنة أمة ، وقال : (فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) ، وقال : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) ، سمّى ملك اليمين :

__________________

(١) أخرجه أحمد (٥ / ٢٥٦ ، ٢٥٧) ، والطبراني في الكبير ، كما في كنز العمال (٤٦٦١٠) ، عن أمامة في سياق طويل.

٥١٤

محصنة بقوله : (أُحْصِنَ) ، أي : تزوجن ، وقوله : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ) ، أي : الحرائر ؛ فقد بان بهذه الآية أن الإحصان قد يكون بالحرية ، ويكون بالزوج ، وإن كانت الزوجة أمة إذا كان لها زوج ، وسمّى الطيعة من النساء محصنة ، قال ـ تعالى ـ : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) ، يعني : العفائف ، فالإحصان على ثلاثة أوجه ؛ وإنما يجب الحدّ على قاذف الحر المسلم والحرة المسلمة ؛ فإن كان حرّا أو حرة فعليهما الحدّ ثمانين ، وإن كان عبدا أو أمة فعليه الحد أربعين سوطا على ما ذكرنا.

وقوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً).

فظاهر هذا أنه لا يقع عند حضرة القذف ، ولكن له أن يأتي إلى وقت إياسه وهو الموت ، كمن يحلف بيمين ولم يوقت لها وقتا ، فإنما وقعت إلى وقت إياسه فحنث عند ذلك ؛ فعلى ذلك يجيء على ظاهره أن يقع على الأبد ليس عند حضرة القذف ، لكن لو وقع على الأبد لكان فيه سقوطه ؛ إذ لا يقام الحد بعد الموت.

أو إن أراد بذكر الشهود الأربع زجره عن قذف المحصنات ؛ لما لا يجد الشهود على الحلال ؛ فالذي هو أخفى وأسر أبعد.

والثاني : أن الحدّ قد لزمه بالقذف ، فإن أراد إسقاطه لم يسقط إلا ببينة تقوم حضرة ذلك ، كمن يقر بقصاص أو حق من الحقوق ، ثم ادعى العفو في ذلك أو إسقاط ما أقر له والخروج منه ، لم يصدق إلا ببينة تقوم على حضرة ذلك ، فعلى ذلك قوله : (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) : وقع ذلك على حضرة القذف ، فإن أتى به وإلا حدّ ، والله أعلم.

ثم المسألة بأنه إذا أتى بأربعة فساق درأ عن نفسه الحدّ عندنا ، والقياس ألا يطالب بشهود عدول ؛ لأن العدول لا يشهدون ذلك المشهد ، ولا ينظرون إليه ؛ إنما يشهده الفساق [فالفساق] أحق أن يدرأ بهم الحد عنه من العدول ، وليس كالشهادة على إقامة حدّ الزنا ؛ لأن قصدهم بالنظر إلى ذلك المكان ـ قصد إقامة الشهادة وإيجاب الحدّ على فاعل ذلك ؛ لذلك لم يصيروا فسقة ، ولأنهم لا يشهدون بذلك إلا عن توبة تكون منهم إذ يملكون التوبة ، ولأن الفساق من أهل الشهادة ليس كالكفار والعبيد ، وهؤلاء وإن كانت لا تقبل شهادة الفساق فهم من أهل الشهادة ؛ ألا ترى أن من قذف فاسقا أو كانت امرأة فقذفها زوجها ـ وهو فاسق ـ أنا نحدّ قاذف الفاسق ، ونلاعن بين الزوج وبين امرأته ، وإن قذف مسلم كافرا أو قذف حرّ عبدا ، لم يحد ، وإن قذف أحدهما زوجته لم يلاعن بينهما ، فمن خالفنا في هذا اللعان فليس يخالفنا في أن الحرّ إذا قذف العبد ، والمسلم إذا قذف الكافر فلا حدّ على واحد منهما ؛ فهذا كله يدل أن الفساق من أهل الشهادة والكافر والعبد

٥١٥

والمحدود في القذف ليسوا من أهل الشهادة ، فإذا كانوا من أهل الشهادة ـ وإن لم تقبل شهادتهم في غيره ـ فأوجب ذلك الشبهة ، والحدود مما يدرأ بالشبهات ؛ لذلك درئ عنه الحدّ ، وأما الكافر والعبد والمحدود في قذف فإن لم يكونوا من أهل الشهادة ـ لم يجب شبهة في درء الحدّ عنه ؛ لذلك افترقا.

ثم المسألة إذا جاء الشهود متفرقين حدّوا ، ولم تقبل شهادتهم ، والقياس عندنا ألا يحدّوا ؛ لأنهم إنما يقومون في الشهادة محتسبين لا يقصدون به قذفه ولا شتمه ، وأمّا الرامي فإنه يقصد قصد شتمه وقذفه ، ولأن الشاهد يقول : رأيته فعل كذا ، والرامي يقول : أنت كذا ؛ فكان كمن يقول الآخر : رأيته كفر ، لم يضرب بهذا القول ، ولو قال : يا كافر ، ضرب ؛ لأن هذا خرج مخرج الشتم ، والأول لا ؛ فعلى ذلك الأول ، لكنهم أقاموا الحد على الشهود إذا جاءوا متفرقين ؛ لأن الله أكّد الشهادة بالزنا بأمرين :

أحدهما : ألا يقبل فيها أقل من أربعة ، وألا يقبل حتى يقولوا : زنى بها ، فيأتون هذه اللفظة ويصفوا بأكثر مما يوصف غيره من النكاح وغيره ؛ فالشهادة بالزنا أحوج إلى اجتماع الشهود في موطن واحد من اجتماع الشهود على النكاح ، ومن قولهم : إن النكاح إذا عقد بشاهدين متفرقين لم يكن نكاحا ؛ فالزنا الذي كان أمره أوكد والحاجة إليه أحوج وأكثر أحق ألا يقبل.

والثاني : ما جاء عن عمر أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا وفيهم أبو بكرة ، فجلدهم عمر جميعا ؛ لما لم يشهد الرابع كما شهدوا هم ، وكان ذلك بحضرة أصحاب النبي فلم ينكر ذلك عليه أحد ؛ فكان ذلك إجماعا ؛ ألا ترى أن أبا بكرة قال بعد ذلك : أنا أشهد ؛ فهمّ عمر أن يجلده ؛ فقال له على ـ رضي الله عنه ـ : إن جلدت هذا فارجم صاحبك (١) ، فلم ينكر عليه على جلده إياهم إذا لم يتم أربعة ؛ إنما أنكر إذا تم ، والله أعلم ؛ لذلك قلنا : إنهم إذا جاءوا فرادى متفرقين صاروا قذفة ولا ينتظر به حضور من بقي منهم ؛ كما لم ينتظر عمر.

ثم مسألة أخرى : أنه إذا جاء أربعة وأحدهم زوج قبل عندنا ودرئ عنه الحدّ ؛ لما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وغيره من السلف ، ولأن الشهادة عليها وشهادة الزوج على امرأته تقبل ، وإنما ترد إذا شهد لها ؛ ألا ترى أنه لو شهد عليها في الديون والقصاص

__________________

(١) علقه البخاري في كتاب الشهادات : باب شهادة القاذف والسارق والزاني (٥ / ٥٨٢) ، ووصله الحاكم (٣ / ٤٤٨ ، ٤٤٩) ، والبيهقي (٨ / ٢٣٤ ، ٢٣٥) ، وابن جرير (٢٥٧٨٠) و (٢٥٧٨١) ، والطبراني كما في فتح الباري (٥ / ٥٨٤) ، وحسن الحافظ إسناده.

٥١٦

والسرقة وغير ذلك من الحقوق لقبل ؛ فعلى ذلك في هذا.

فإن قيل : إن الزوج إنما يشهد لنفسه وفيه منفعة له ؛ لأن حدّه اللعان إذا قذفها ؛ فهو يريد أن يزيل اللعان عن نفسه.

قيل : إنما يكون حدّ الزوج اللعان إذا قذفها قبل أن يرتفعا إلى الحاكم ، فإذا فعل ذلك ثم شهد مع ثلاثة آخرين لم تجز شهادته ، وأما إذا كان أوّل ما بدأ به إن جاء مع ثلاثة فشهدوا عليها بالزنا فليس يبطل بشهادته عن نفسه شيئا وجب عليه ؛ ألا ترى أن الأجنبي إذا قذف امرأة ثم جاء ليشهد بذلك عليها مع ثلاثة أن شهادته لا تجوز ؛ لأن الحدّ قد لزمه قبل شهادته ؛ فهو يدفع الحدّ الذي وجب عليه بشهادته ؛ فلا تقبل ، وأنه لو جاء مع ثلاثة ، وكان أول أمرهم أن يشهدوا عليها بالزنا فشهادتهم جائزة ، ولا يقال : إن أحدا منهم يدفع عن نفسه شيئا وجب عليه ؛ فعلى ذلك الزوج.

وقوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

تسمية الفسق لهم : لا تخلو إما أن كان لما رموا وقذفوا به بريئا من ذلك ، أو لما هتكوا عليه الستر من غير أن هتك هو على نفسه ؛ فإن كان الأول فذلك لا يعلمه إلا الله ؛ فعلى ذلك توبته لا تظهر عندنا ؛ فإنما ذلك فيما بينه وبين ربه ؛ فكأنه قال : وأولئك هم الفاسقون عند الله إلا الذين تابوا.

وإن كان الثاني فإنا نعلمه ؛ فكأنه قال : وأولئك هم الفاسقون عندكم.

(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا).

لا تظهر توبته عندنا ؛ لأن توبته هو أن يعزم ألا يهتك على آخر ستره ، أو يعزم ألا يقذف بريئا من الزنا أبدا ؛ فأيّ الوجهين كان تسميته فسقهم فإن التوبة من ذلك لا تظهر عند الناس لذلك لم تقبل ؛ ولذلك قال ابن عباس : وإنما توبته فيما بينه وبين الله : إذا تاب غفر الله له ذنبه : الفرية ، وكذلك روي عن غير واحد من السلف : من نحو الحسن (١) وإبراهيم (٢) وأمثالهم ، قالوا : توبته فيما بينه وبين ربه (٣).

وقوله : (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) ليس ثمة شهادة رفعت إلى الحاكم فردّها ؛ ولكن : لا تقبلوا لهم شهادة يرفعونها إلى الحكام ؛ فالحرج على كل شهادة يرفعون من بعد ، ثم إذا شهد بعد ما قذف وقبل أن يجلد قبلت شهادته وهو قاذف ؛ فدل أن شهادته إنما ترد بعد ما جلد لما اتهمه الحاكم ، وكل شهادة ردّت لتهمة فهي لا تقبل أبدا ، والتهمة التي بها جلد

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد عنه وعن سعيد بن المسيب ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢).

(٢) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٢).

(٣) ينظر : اللباب (١٤ / ٣٠٠).

٥١٧

القاذف هي لا تزول أبدا.

أو أن يكون توبته قوله : «فقد كذبت فيما قذفت» ؛ فكنا نردّ شهادته ؛ لتهمة الكذب ، فإذا أكذب نفسه نقبلها ؛ لتحقق الكذب ؛ فهذا بعيد.

وأصله أن كل توبة كانت بعد التمكين فهي لا ترفع الحكم الذي جعل له والحدّ ، وكل توبة كانت قبل التمكين فهي ترفع العقوبات ، كقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٣٤] ؛ فلو لم يرفعوا عنهم تلك العقوبات لكانوا يتمادون في السعي في الأرض بالفساد ، وأمّا فيما نحن فيه فليس في ذلك التمادي فيه.

وزعم الشافعي أن حاله قبل الحدّ وبعد ذلك سواء ، هذا خلاف ما نصّ الله عليه ؛ قال الله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً ...) الآية ، وقال : (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) [النور : ١٣] ؛ فجعلهم كاذبين عند العجز عن إقامة الشهداء ، وكان أمرهم قبل ذلك موقوفا ؛ فالواجب أن يجعلهم كاذبين عند عجزهم عن تصحيح ما قالوا ، وهي الحال التي جعلهم الله فيها كاذبين ؛ فبان بما وصفنا أن من جعل حال المحدود بعد أن ضرب الحدّ كحاله قبل ذلك مخطئ.

ودل ما وصفنا على أنه لا يجب أن يستدل بجواز شهادته قبل أن يجلد على جواز شهادته إذا تاب بعد الجلد على ما ذكرنا ؛ لأنا بالجلد علمنا أنه قاذف ، لا بما كان من رميه المرأة قبل أن يجلد.

ومن الدليل على اختلاف الحالين أن عمر لما جلد أبا بكرة قال له : إن تبت قبلت شهادتك ، وأنه قبل أن يجلده لم يرد شهادته ؛ لأنه لو كان عنده مجروحا بالقذف لم يسمع شهادته ، ولا أعلم بين أهل العلم خلافا أنه لا يقبل شهادته بعد الجلد ما لم يتب ؛ وإنما يختلفون في شهادته بعد التوبة ، وأن شهادته قبل الجلد مقبولة ؛ فكيف يشتبه الحالتان مع [ما] وصف؟!

وقال غيرهم : التوبة تزيل فسقه ولا يجوز شهادته ، قالوا : الاستثناء على آخر الكلام على الذي يليه ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يدل على بطلان شهادته ، وإن تاب : ما روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف» (١).

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ١٨١ ، ٢٠٤ ، ٢٠٨ ، ٢٢٥) ، وأبو داود (٢ / ٣٢٩ ، ٣٣٠) ، كتاب الأقضية : باب من ترد شهادته (٣٦٠٠ ، ٣٦٠١) ، وابن ماجه (٤ / ٤٣ ، ٤٤) ، كتاب الأحكام : باب من لا تجوز شهادته (٢٣٦٦) ، والدارقطني (٤ / ٢٤٤) ، والبيهقي (١٠ / ٢٠٠) ، بلفظ : «لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ، ولا محدود ، في الإسلام ، ولا ذي غمر على أخيه».

٥١٨

وعن ابن عباس قال : لما نزل قوله : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) ، وذكر حديث فيه طول ، وفيه : «لم يلبثوا إلا قليلا حتى جاء هلال بن أمية ، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم ، قال : يا رسول الله ، لقد رأيت فلانا مع أهلي ؛ فقال رسول الله : ما تقول يا هلال؟! قال : والله يا رسول الله ، لقد رأيته وسمعته بأذني ، قال : فشق على رسول الله للذي جاء به ، ثم قال : أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين؟! فاشتد ذلك على رسول الله ، وجعل يقول : أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين (١)؟!

وقول رسول الله : «يضرب هلال وتبطل شهادته في المسلمين» ، وما ظهر من غمه بذلك وجزعه يدلان على أن المحدود لا تقبل شهادته بعد توبته ؛ لأن توبته لو قبلت ، وكان كسائر الأشياء التي إذا تيب منها ، جازت شهادته ، لقال النبي : «تبطل شهادته في المسلمين إلا أن يتوب» ؛ لأنه لا يقال في شيء من المعاصي : فلان فعل كذا وكذا ؛ فبطلت شهادته في المسلمين ؛ حتى يقرن إلى ذلك : إلا أن يتوب.

وقد ذكرنا عن ابن عباس في قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) ، قال : فتاب الله عليهم من الفسق ، فأما الشهادة فلا تجوز.

وكذلك روي عن كثير من السلف أنهم قالوا : توبته فيما بينه وبين ربّه.

وفيه وجه آخر ، وهو أن القاذف إذا ضرب الحدّ فهو يقول ما لم يرجع : أنا صادق في نفسي ولم يلزمني الحدّ فيما بيني وبين ربي ؛ وإنما لزمني في ذلك الحكم ، فإذا تاب فهو يقول : كان الحدّ واجبا علي فيما بيني وبين ربي وفي الحكم ؛ فذلك أحرى ألا يزول عنه من إبطال شهادته بذلك الحدّ.

ووجه آخر : وهو أن القاذف لم تبطل شهادته بقوله : فلان زان ؛ لأنه مدّع ـ بقوله هذا ـ شيئا قد يجوز أن يكون حقّا ، ولكنه يصير قاذفا إذا عجز عن إقامة البينة وضربه الحاكم الحد ، فإذا كانت شهادته إنما بطلت بحكم حاكم لم يزل ذلك الحكم إلا بحكم حاكم ؛ فإن حكم حاكم : بجواز شهادته في شيء جازت شهادته فيه.

فإن قيل : يلزمكم على هذا أن تقولوا : إن قال حاكم : قد أجزت شهادته في كل شيء أن تجوز ؛ لأن الحاكم قد رفع ما لزم من بطلان شهادته بالحكم الأول.

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١ / ٦٨٥ ، ٦٨٦) ، كتاب الطلاق : باب في اللعان (٢٢٥٦) ، وأحمد وعبد الرزاق والطيالسي وعبد بن حميد وابن جرير (٢٥٨٢٨) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٤٣).

٥١٩

قيل : قول الحاكم : قد أجزت شهادته ، ليس بحكم ؛ إنما هو فتوى ، والحكم إنما يكون فيما تقام له البينة ، أو يقع به الإقرار.

فإن قيل : فما تقولون في رجل زنى فحدّه الحاكم : هل تجوز شهادته إن تاب؟ قيل : بلى.

فإن قيل : قد بطلت شهادته بحكم آخر ، وتوبته مقبولة بغير حكم حاكم ؛ فما منع أن يكون القذف مثل ذلك وما الفرق؟

قيل : الزنا فعل ظاهر يعرف به الزاني وإن لم يحد ، والقذف لا يعلم كذب القاذف فيه من صدقه ؛ لأنه شيء يدعيه على غيره ، وإنما يعلم أنه كاذب في قذفه بما ينفذ عليه من حكم الحاكم ؛ فلذلك افترقا.

ومن الدليل ـ أيضا ـ على أن شهادة القاذف إذا حدّ لا تقبل ـ وإن تاب ـ أنه إذا قال : تبت من قذفي فلانا ، وكنت في ذلك كاذبا ؛ فلسنا ندري هل هو صادق في قوله : كنت كاذبا أم هو في قوله ذلك كاذب ؛ لأن المقذوف إن كان في الحقيقة زانيا فقول القاذف : «كنت في قذفي إياه كاذبا» [كذب] منه ، وهو في ذلك آثم ؛ فإذا كنا لا نقف بتكذيبه نفسه على كذبه فيه من صدقه لم نجعله توبة ؛ لأن التوبة إنما تكون أن يظهر عند الحكم من الأفعال ما يعلم بنفسها أنها طاعة وأنه فيها على خلاف ما ظهر من نفسه في الوقت الأول ؛ فلما لم يعرف كذب المكذب لنفسه من صدقه لم يجعل ذلك من توبة.

وقلنا : توبته فيما بينه وبين ربه ؛ لأن الله يعلم هل هو كاذب في تكذيبه نفسه أو صادق ، ونحن لا نعلم ولا دليل لنا من الظاهر عليه ؛ فلم نجعل توبته توبة في الحكم ، وقلنا : حالك الآن كحالك قبل ذلك.

ودليل آخر : أنا قد علمنا كذبه بقول الله : (فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) ، فإذا قال : كذبت في قذفي ، قلنا له : لم تفدنا بتكذيبك نفسك فائدة لم نعرفها ، فأنت في هذا الوقت كاذب ؛ فإنك في الوقت الأول تعلمنا أنك كاذب ؛ فحالك الآن في شهادتك كحالك قبل ذلك ، على ما ذكرنا.

على أن الشافعي يقول : لا ترجع الملاعنة إلى زوجها ، وإن تاب ، فإذا كانت توبته لا تبطل ما لزمها من الحكم في رجوعها إليه فكذلك لا يبطل ما لزمه من الحكم في بطلان شهادته ، والله أعلم.

وقوله : (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) ، إن كان الجلد مأخوذا من الجلود فجائز أن يستخرج منه حدّ الضرب ، وهو ألا يجاوز الجلود ؛ ولكن يضرب مقدار ما يتألم به ويتوجع ، ولا

٥٢٠