تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

بإسلام أزواجهن ويصرن ذمة بذمة الأزواج ؛ فإذا كان كذلك ـ فليس في قتلهن حياة ؛ ألا ترى أنه روى أنه فلانا أسلم وأسلم معه كذا وكذا نسوة؟! والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) : والحق ما ذكرنا ، وقوله : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) يحتمل بالإسلام ، أو بالذمّة بإعطاء الجزية ، وإلا بالحق : ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً).

قيل : سلطانا ، أي : تسلطا وقهرا. وقال بعضهم : سلطانا ، أي : حجة على القتل فيما يستوجب به القصاص.

ثم ذكر أنه جعل لولى القتيل سلطانا ، ولم يذكر أي ولىّ ؛ فيشبه أن يكون المراد من الولى الذي يخلف الميت في التركة ، وهم الورثة ؛ إذ هو حقّ كغيره من الحقوق ؛ فذلك إلى الورثة ، فعلى ذلك حق الدم ، فكأنه قال : ومن قتل مظلوما قد جعلنا لورثته سلطانا ، أي : حجة فيما يستوجب. وفي ظاهر هذه الآية دلالة أن للواحد من الورثة القيام باستيفاء الدم ؛ إذ لو كان للكل الاستيفاء لدخل في ذلك الإسراف الذي ذكر : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) ؛ إذ لو ضرّ به كل الورثة لصار في ذلك مثله ، وقد منعوا عن ذلك ، فإذا كان ما ذكرنا كان في ذلك دلالة لقول أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ، حيث قال ـ : إن الورثة إذا كان بعضهم صغارا وبعضهم كبارا كان للكبار أن يقوموا بالاستيفاء دون أن ينتظروا بلوغ الصغار ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ).

قال بعضهم (١) : لا يقتل غير قاتل ؛ وذلك إذ كان من عادة العرب قتل غير القاتل.

وقال بعضهم : [قوله](٢) : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) [أي : لا يجاوز الحد الذي جعل له في القصاص من المثلة والقطع والجراحات.

وقال بعضهم : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) ، أي : في القتل](٣) الأول ؛ حيث قتل نفسا بغير حق ، فذلك إسراف ؛ كما قال : (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢].

__________________

(١) قاله طلق بن حبيب ، أخرجه ابن جرير (٢٢٢٩٠) و (٢٢٢٩١) وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢٧) ، وهو قول سعيد بن جبير والضحاك والحسن وقتادة وغيرهم.

(٢) سقط في أ.

(٣) ما بين المعقوفين سقط في أ.

٤١

وقوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) هذا يحتمل أن يكون خاطب به ولي القتيل فقال : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) ، أي : لا يجاوز الحدّ الذي جعل له ؛ على ما روي : «إذا قتلت فأحسن القتل» (١) ، والثاني خاطب به القاتل : يقول له لا تقتل ؛ فإنه إسراف ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً).

قال بعضهم (٢) : إن المقتول كان منصورا بالولي ينصره الولي ؛ بقوله : (فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً). ويحتمل منصورا بالمسلمين ، أي : على المسلمين وغيرهم دفع ذلك القتل عنه ؛ هذا على تأويل من يتأول في قوله : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) ـ قتل غير قاتل وليه ، أو يزيد في جراحاته ، ويمثل مثلا بقول : احذروا ذلك ؛ فإن على المسلمين دفع ذلك عنه ، أو كان منصورا في الآخرة.

وفي ظاهر هذه الآية دلالة أن القصاص واجب بين الأحرار والعبيد ، وبين أهل الإسلام وأهل الذمة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ قال : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ) ؛ فكانت أنفس أهل الذمة والعبيد داخلة في هذه الآية ؛ لأنها محرمة وفيه ما ذكرنا أن للكبير من الورثة قتله ، وإن كان فيهم صغار.

وروي أن الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ قتل قاتل أبيه فلانا (٣) ، وفي الورثة صغار لم يدركوا يومئذ.

ويحتمل أن يكون (إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً) في ظاهر هذا : أن القاتل هو كان منصورا ، [ثم

__________________

(١) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٤٨) كتاب : الصيد والذبائح ، باب : الأمر بإحسان الذبح ، والقتل ، وتحديد الشفرة ، حديث (٥٧ / ١٩٥٥) ، والطيالسي (١ / ٣٤١ ، ٣٤٢) كتاب : الصيد والذبائح ، باب : ما جاء في نحر الإبل وذبح غيرها ، حديث (١٧٤٠) ، وأحمد (٤ / ١٢٣ ، ١٢٤ ، ١٢٥) ، وأبو داود (٣ / ٢٤٤) كتاب : الأضاحي ، باب : في النهي أن تصبر البهائم والرفق بالذبيحة ، حديث (٢٨١٥) ، والترمذي (٤ / ٢٣) كتاب : الديات ، باب : ما جاء في النهي عن المثلة ، حديث (١٤٠٩) ، والنسائي (٧ / ٢٢٩) كتاب : الضحايا ، باب : حسن الذبح ، وابن ماجه (٢ / ١٠٥٨) كتاب : الذبائح ، باب : إذا ذبحتم فأحسنوا الذبح ، حديث (٣١٧٠) ، وابن الجارود ص (٣٠١) باب ما جاء في الذبائح ، حديث (٨٩٩) ، والدارمي (٢ / ٨٢) كتاب : الأضاحي ، باب : في حسن الذبيحة ، وعبد الرزاق (٤ / ٤٩٢) رقم (٨٦٠٣ ، ٨٦٠٤) ، وابن حبان (٥٨٥٣ ـ الإحسان) ، والطبراني في الكبير (٧ / رقم ٧١١٤) ، وفي الصغير (٢ / ١٠٥) ، والسهمي في تاريخ جرجان (ص ـ ٣٨٦) ، والخطيب في «تاريخه» (٥ / ٢٧٨) ، والبيهقي (٨ / ٦٠) ، والبغوي في شرح السنة (٦ / ٢١) من طريق أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله كتب الإحسان على كل مسلم ، فإذا قتلتم ، فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته».

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٢٣٠٠) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢٧).

(٣) انظر : الطبقات الكبرى لابن سعد (٣ / ٢٨ ، ٢٩).

٤٢

إنه قال : (كانَ مَنْصُوراً)](١) و (٢) لم يقل : هو منصور ، فجائز أن يقول : (كانَ مَنْصُوراً) ، قبل : قتل هذا إذا كان على المسلمين مضرة ، فلما قتل كان غير منصور ، إلا أن يقال : إن الولى صار منصورا ، وذلك جائز. وفي قوله : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) : يحتمل النهي عن نفس الزنى ، ويحتمل أسباب الزنى : من نحو القبلة ، والمسّ ، وغيره ؛ على ما ذكر : «العينان تزنيان ، واليدان تزنيان ، والفرج يصدّق ذلك كلّه أو يكذّب» (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

قوله : (أَحْسَنُ) : هو أفعل ، فإن كان في الأشكال فهو على غاية الحسن ، وإن كان في الجوهرين فهو على طلب الحسن ؛ كقوله : (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الزمر : ٥٥] أي : اتبعوا ما هو طاعة ؛ كأنه قال : ولا تقربوا مال اليتيم إلا ما هو خير له وحسن ، وهو ما قال : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا) ، يقول : لا تأكلوا إسرافا وبدارا ، ولكن اقربوا ما هو خير له. وإن كان على طلب الغاية من الحسن ، فهو ما قال أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ : إذا قرب مال اليتيم لمنفعة نفسه فلا يقربه إلا لمنفعة حاضرة لليتيم ، لا يقرب ماله لمنفعة مرجوة ، وإذا قرب مال اليتيم لليتيم فإنه يجوز أن يقربه لمنفعة مرجوة له ، وإن لم يكن فيه منفعة حاضرة ، وقد ذكرنا تأويله وما فيه من الدلالة بقول أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ فيما تقدم في سورة الأنعام.

ثم من الناس من احتج بهذه الآية لقول أبي حنيفة حيث قال : إن للوصي أن يبيع مال اليتيم من نفسه إذا كان خيرا له ؛ لأن له أن يبيع من غيره بمثل قيمته ؛ فدلّ أن ذكر الخير له إذا كان يبيع من نفسه.

وقوله : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : كأنه على الإضمار ، أي : لا تقربوا مال اليتيم إلا بالوجوه التي هي أحسن له وأنفع ، وهو الحفظ له وطلب الربح والنماء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).

أي : حتى يستحكم عقله ، ويستتم (٤) تدبيره في ماله وأمره ؛ فعند ذلك يكون الأمر

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : أو.

(٣) أخرجه البخاري (١٢ / ٢٨٩) ، كتاب الاستئذان باب : زنى الجوارح دون الفرج (٦٢٤٣) ، ومسلم (٤ / ٢٠٤٧) ، كتاب القدر : باب قدر على ابن آدم حظه من الزنى وغيره (٢١ / ٢٦٥٧) ، من حديث ابن عباس.

(٤) في أ : ويشتد.

٤٣

إليه ، وليس فيه أنه لا يكون بعد ذلك الأمر إلى الوصي إن كان ؛ ولكن بإذنه يبيع ويشترى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً).

يحتمل أن يكون قوله : (بِالْعَهْدِ) ـ العهود والمواثيق التي بين الناس أمروا بوفاء ذلك ، ويحتمل الأمر بوفاء العهد ما ذكر في هذه الآيات من الأمر والنهي : من نحو ما قال : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الإسراء : ٢٣] إلى هذا الموضع ، أي : وأوفوا بذلك كله ؛ فإن ذلك كله كان مسئولا يسأل عنه : وفاء كان ذلك أو نقضا.

وقال بعضهم : (إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً) ، أي : ناقض العهد كان مسئولا ، ثم إن العهد على وجوه :

أحدها : عهد خلقة ، أو العهد الذي أخذ عليهم على ألسن الرسل أو العهد الذي يجري بين الناس ؛ والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ).

أمر بتوفير الكيل إذا كالوا والوزن إذا وزنوا لهم ، وإيفاء حقوقهم (١) ، وهو ما قال : (وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) [هود : ٨٥] إن من عادتهم إذا كالوا أو وزنوا يبخسون الناس أشياءهم ، ولم يوفروا حقوقهم ؛ فنهاهم عن ذلك ، وأوعدهم بالوعيد الشديد ، وهو قوله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين : ١ ـ ٣] : ذكر تخصيص للكيلي والوزني من بين سائر الأشياء يحتمل وجهين :

أحدهما : لما بهما يجري عامّة معاملة الناس ؛ فأمرهم بإيفاء ذلك.

والثاني : لخوف الربا ؛ لأن الكيلي والوزني هما اللذان يكونان دينا في الذمة ؛ فإذا أخذ شيء منهما أخذ عما كان دينا في الذمّة ، فإن نقص أو زاد فيكون ربا ؛ لذلك خصّ ، وإن كان غيره من الأشياء يؤمر بالإيفاء والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ).

قال بعضهم : القسطاس : حرف أخذ من الكتب السالفة ليس بمعرفة ، وقال بعضهم (٢) : هو العدل ، أي : زنوا بالعدل ، وقال بعضهم (٣) : هو الميزان ؛ كقوله : (وَأَوْفُوا

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٢ / ٣٧٩).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٢٣٠٥) ، والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢٨) ، وهو قول قتادة أيضا.

(٣) قاله سعيد بن جبير أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢٨).

٤٤

الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ) ، وقال بعضهم (١) : (بِالْقِسْطاسِ) : القبان ؛ فكيفما كان ففيه ما ذكرنا : من الأمر بتوفير الكيل والوزن ، والإيفاء لحقوقهم ، والنهي عن البخس والنقصان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً).

يحتمل قوله : (ذلِكَ خَيْرٌ) ـ ما ذكر من توفير الكيل والوزن وإيفاء الحقوق ـ خير في الدنيا ؛ لما فيه أمن لهم من الناس.

(وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) ، أي : أحسن عاقبة في الآخرة ، ويحتمل قوله ذلك ـ ما ذكر في هذه الآيات من أولها إلى آخرها : إذا عملوا بها خير لهم في الدنيا وأحسن تأويلا ، أي : عاقبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ).

قيل (٢) : لا تقف ، أي : لا تقل ، وقيل (٣) : لا ترم ، وقيل (٤) : لا تتبع ؛ فكيفما كان ـ ففيه النهي عن القول والرمي فيما لا علم له به ، ولا ترم ما ليس لك به علم ، ولا تقل ما ليس لك به علم.

(إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً).

قال بعضهم (٥) : (كُلُّ أُولئِكَ) يعني : السّمع والبصر والفؤاد ـ يسأل عما عمل صاحبه ؛ كقوله : (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ ...) الآية [يس : ٦٥] ، وقوله : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ) [فصلت : ٢٠] تسأل هؤلاء عما عمل (٦) صاحبها ؛ فيشهدون عليه.

وقال بعضهم : هو عن كل أولئك كان مسئولا ، أي : يسأل المرء عما استعمل هذه الجوارح؟ وأنه : فيم استعملها؟

وقال بعضهم ، قوله : (أُولئِكَ) : يعني الخلائق جميعا ، (عَنْهُ) : يعنى عما ذكر من السمع والبصر والفؤاد ، (مَسْؤُلاً).

وقال بعضهم (٧) في قوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، يقول : لا تقل : رأيت ،

__________________

(١) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٣٠٤) ، وهو قول الضحاك.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٢٣٠٨) ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢٩) ، وهو قول قتادة ايضا.

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٣١٢) ، وهو قول مجاهد أيضا.

(٤) قاله ابن جرير (٨ / ٨٠) ، ونقله البغوي (٣ / ١١٤) عن القتبي.

(٥) قاله عكرمة وعمرو بن قيس ، أخرجه ابن أبي حاتم عنهما ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢٩).

(٦) في أ : يعمل.

(٧) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٢٣٠٩) و (٢٢٣١٠) ، وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢٩).

٤٥

ولم تر ، وسمعت ، ولم تسمع ، وعلمت ، ولم تعلم.

ومنهم من قال (١) : في شهادة الزور ؛ فإن احتج محتج بهذا في إبطال القياس والاجتهاد ؛ فيقول : إذا قاس الرجل فقد قال ما ليس له به علم ، لكن ليس كذا ؛ لأن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد تكلموا في الحوادث بآرائهم ، وشاوروا في أمورهم ، وولى أبو بكر عمر (٢) ـ رضوان الله عليهما ـ الخلافة بغير نصّ من الرسول عليها ، وجعلها عمر شورى بينهم (٣) ، ولم يرو ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا نقول : إنهم فعلوا ذلك بغير علم ، ولا : قالوا ما لم يعلموا ؛ فدلّ ما ذكرنا أن معنى قول الله ـ تعالى ـ : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ـ ليس يدخل فيه الاجتهاد في الأحكام ، وتشبيهه الفرع الحادث بالأصل المنصوص عليه ، والله أعلم.

وقال القتبي : (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) ، أي : يتناهى في الثبات إلى حال الرجال ، ويقال : ثماني عشرة سنة (٤) ، وقال : أشدّ اليتيم غير أشدّ الرجل في قوله : (حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) ، والأشد ما ذكرنا من استحكام عقله وتدبيره إلى ألا يؤخذ بالنقصان ، وهو إذا جاوز أربعين يأخذ في النقصان ، وإلى أربعين يكون على الزيادة والنماء.

ويحتمل قوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ) ، أي : لا تقف ما ليس لك به علم بأسباب العلم ، وهو ما ذكر من السمع والبصر ، وجائز أن يكون : (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً) : يسأل عن شكر هذه الأشياء ، أو يسأل عما امتحن بهذه الأشياء.

وفي قوله : (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) ـ دلالة جواز الاجتهاد ؛ لأنه أمر بإيفاء الكيل والوزن ، ولا يقدر على ذلك إلا باجتهاد الكائل والوازن ؛ لأن كيل الرجل يزيد على كيل غيره وينقص ، وربما كال الرجل الشيء ثم يعيد كيله هو بنفسه فيزيد أو ينقص ، ولا يكاد يستوي الكيلان وإن كانا من رجل واحد ، وإنما يكلف الاجتهاد في كيله وترك التعمد للزيادة أو النقصان [فيه](٥) ؛ فإذا فعل ذلك فقد وفر الكيل وأدى الواجب ،

__________________

(١) قاله ابن الحنيفة ، أخرجه ابن جرير (٢٢٣١١) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢٩).

(٢) انظر : الطبقات الكبرى لابن سعد (٣ / ١٤٨ ، ١٤٩).

(٣) انظر : صحيح البخاري (٧ / ٤١٩ ، ٤٢١) ، كتاب فضائل أصحاب النبي : باب قصة البيعة (٣٧٠٠).

(٤) انظر : غريب القرآن ص (٢٥٤) ، لابن قتيبة.

(٥) سقط في أ.

٤٦

وهذا عندنا أصل الاجتهاد والاستحسان ؛ لأن الكائل إنما يجتهد في توفيته الحق ، ولا يعلم يقينا أنه وفى ما كان عليه من الكيل الذي سمياه في العقد ؛ فعلى ذلك الاستحسان إنما هو اجتهاد العالم في اختيار أحسن ما يقدر عليه إذا لم يكن للحادثة أصل يردها عليه ويشبهها به ، والله أعلم.

قوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً).

ليس النهي عن المشي نفسه ؛ إنما النهي للمشي المرح ، ثم النهي عن الشيء يوجب ضدّه ، وكذلك الأمر ، ثمّ إن النهي عن الشيء يوجب الأمر بضده ؛ [والأمر بالشيء يوجب النهي بضده](١) وهاهنا نهي عن المرح ؛ فيكون أمرا بما ذكر ؛ كقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣] ، وقال بعضهم (٢) : مرحا : بطرا وأشرا ، وقيل : متعظما متكبرا بالخيلاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً).

قال بعضهم : ذكر خرق الأرض وبلوغ الجبال طولا ؛ لأن من الخلائق من يخرق الأرض ويدخلها ، ويبلغ طول الجبال ، وهم الملائكة ، ثم لم يتكبّروا على الله ولا تعظموا عليه ولا على رسوله ؛ بل خضعوا له ؛ فمن لم يبلغ في القوة والشدّة ذلك ـ أحرى أن يخضع له ويتواضع ولا يتكبر.

ويحتمل أن يكون ذكر هذا ؛ لما أنهم كانوا يسعون في إطفاء هذا الدين ، وقهر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيقول : كما لم يتهيأ لكم خرق الأرض وبلوغ الجبال طولا ـ لم يتهيأ لكم إطفاء دين الله ، وقهر رسوله ، وهو ما ذكر : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر : ٥٦] ، أو يذكر هذا يقول : إنك لن تبلغ بكبرك وعظمتك مرتبة الرؤساء والقادة ومنزلتهم ، على هذا التمثيل يحتمل أن يخرج ، والله أعلم.

أو يقول : إنك لن تخرق الأرض ، أي : لا تقدر أن تخرق [الأرض](٣) ؛ فتستخرج ما فيها من الكنوز والمنافع ؛ فتنتفع بها ، ولا تقدر أن تبلغ الجبال طولا ؛ فتنتفع بما في رءوس الجبال من المنافع ، وكيف تتكبر وتمرح على غيرك ، وهو مثلك في القوّة والشدّة. وأصل الكبر أن من عرف نفسه على ما هي عليه من الأحداث والآفات وأنواع الحوائج ـ لم يتكبّر على مثله ، والله أعلم.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) قاله البغوي (٣ / ١١٥).

(٣) سقط في أ.

٤٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلُّ ذلِكَ)

أي : كل ما أمر الله به ونهى عنه في هؤلاء الآيات.

(كانَ سَيِّئُهُ).

بالعقل.

(عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) :

مسخوطا ، وفيه دلالة أن الأمر الّذى أمر في هذه الآيات ونهاهم عنه ـ لم يكن أمر أدب ولا نهي أدب ، ولكن أمر حتم وحكم ؛ حيث ذكر أن ذلك عند ربك : (مَكْرُوهاً) ؛ إذ لو كان أدبا لم يكره أي شيء ما ذكر في مكروه عند ربّك ، وهو كقوله : (فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) [الزمر : ١٨] ، أي : يسمعون [الكل ؛ فيتبعون أحسنه](١) ، ويتركون غيره ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ).

أي : ذلك الذي أمر الله به ونهى عنه في هؤلاء الآيات من الحكمة ـ ليس من السفه ، أي : ما أمر فيها هو حكمة وما نهى عنه [إنما نهى عنه ؛ لأنه سفه](٢).

وقال بعضهم (٣) : الحكمة ـ هاهنا ـ القرآن ، قوله : (ذلِكَ) ، أي ذلك الذي أوحى إليك هو حكمة ، وقال بعضهم : الحكمة : الإصابة ، أي : ذلك الذي أوحى إليك صواب. وقوله : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) ، أي : ما ذكر في هذه الآيات وأمر به ونهى عنه ـ هو من الحكمة ، والحكمة : هي وضع الشيء موضعه ، [يقول : حكمه : وضع الشيء موضعه ، لا](٤) وضع الشيء غير موضعه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً).

معلوم أن رسول الله لا يجعل معه إلها آخر ؛ إذ عصمه واختاره لرسالته ، لكنّه ذكر هذا ليعلم أنه لو كان منه ذلك فيفعل به ما ذكر ؛ فمن هو دونه أحق أن يفعل به ما ذكر ، وهو ما قال في الملائكة : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ...) الآية [الأنبياء : ٢٩]. أنه عصمهم حتى أخبر أنهم : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] ؛ فمن لم يكن معصوما ـ لم يوصف أنه لا يسبق بالقول ؛ فعلى ذلك قوله : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً) : عند الله ، أو عند نفسك ، أو عند الخلق.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٣١٨).

(٤) سقط في ب.

٤٨

(مَدْحُوراً) :

مبعدا مطرودا من رحمته في النار ، أو : خاطب به رسوله ، وأراد به غيره ؛ على ما ذكرنا في غير موضع ، والله أعلم.

قوله تعالى : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً)(٤٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً).

يخبر من سفه مشركي العرب أنهم نسبوا إلى الله البنات ، والبنين إلى أنفسهم ـ بقوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) [النحل : ٥٧] ، والذي حملهم على ذلك قول أهل الكتاب ؛ حيث وصفوا الله بالولد ؛ فرأوا أن ما يكون له الولد يكون له البنات ؛ فقال : (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً).

لم يزد على هذا العظيم ما قالوا في الله ؛ فلم يضرب لقولهم ذلك مثلا ؛ لما ليس وراء ذلك مثل يضرب ؛ لأنه ضرب مثل ما قالوا بالولد له بانفطار السماء ، وانشقاق الأرض ، وخرور الجبال ؛ حيث قال : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا ...) الآية [مريم : ٩٠] : أخبر أنّ السّماوات وما ذكر كادت أن تنقلب عن وجهها ؛ لعظيم ما قالوا في الله من الولد. وقال في الشريك : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ ...) الآية [الحج : ٣١] ، فهذا غاية ما ذكر من الأمثال لمن قال له بالولد والشريك ؛ فليس وراء هذا يذكر لمن قال له البنات ، ولكن قال : (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) لم يزد على ذلك ؛ لأن الذي قالوا له ونسبوا إليه نهاية في السفه والسرف في القول ، تعالى الله عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

أو يقول : (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) : في عقولكم ، لو تفكرتم وتدبرتم لعلمتم أن ما قلتم في الله ـ سبحانه وتعالى ـ عظيم.

قال أبو عوسجة : (أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ) ، أي : أعطاكم ربكم ؛ يقال : أصفيته : [أي:](١) أعطيته ، وأصفاكم ، أي : اختاركم (٢).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) قاله البغوي (٣ / ١١٦).

٤٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا).

قال الحسن : قوله : (صَرَّفْنا) ـ يقول : بيّنا في هذا القرآن ما نزل بمكذبي الرسل من الأمم الخالية ؛ بتكذيبهم الرسل أمّة قائمة ؛ (لِيَذَّكَّرُوا) : ما نزل بهم ؛ فينتهوا عن تكذيبهم الرسل ، (وَما يَزِيدُهُمْ) : ما بين لهم. (إِلَّا نُفُوراً) أي : تكذيبا للرسل.

وقال بعضهم : ولقد صرّفنا [في](١) هذا القرآن ، أي : بيّنا في هذا القرآن والآيات التي تقدم ذكرها ـ جميع ما يؤتى ويتقى ، وما لهم وما عليهم ؛ ليعتبروا [به](٢) فيؤمنوا ، وما يزيدهم القرآن إلا تباعدا من الإيمان به ، وهو ما ذكر : (ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ ...) الآية [الإسراء : ٣٩].

وقال بعضهم : صرّفنا في هذا القرآن من المواعيد الشديدة أنه ما ينزل بهم في الآخرة من العذاب والعقوبة ؛ بصنيعهم وتكذيبهم الرسل ، لكن إذ لم يؤمنوا بالآخرة ، لم يزدهم ذلك الوعيد إلّا نفورا وبعدا ؛ فإن الله قد ذكر في القرآن المواعظ الكثيرة : ما لو نظروا فيه وتأملوا لكانت تمنعهم وتزجرهم عن مثل صنيعهم ، لكن لم ينظروا إليه بالتعظيم ؛ ولكن نظروا إليه بالاستهزاء والاستخفاف به ؛ لذلك أضيف زيادة النفور إليه ، أو أضاف ذلك إليه ؛ لما أحدثوا بنزوله الكفر والتكذيب له ؛ فأضاف ذلك إليه لما ازداد لهم التكذيب ، وحدث لهم الكفر به إذا نزل ، كما كان لأهل الإسلام يزداد لهم الإيمان واليقين إذا نزل.

وجائز أن يكون قوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا) ، أي : يشرفوا ؛ كقوله : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ) [الأنبياء : ١٠] ، أي : شرفكم ، أو ليذكروا ما نسوا وتركوا وغفلوا عنه. ثم قوله : (صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا) ، معناه ـ والله أعلم ـ : أنزله ؛ ليلزمهم الذكر ، أو ليكون عليهم ، أو ليأمرهم بالذكر ، وهو ما ذكرنا في قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الآية [الذاريات : ٥٦] ، وقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) [النساء : ٦٤] ، أي : ليلزمهم العبادة والطاعة ، أو ليأمرهم بالعبادة والطاعة ، أو أرسل وخلق لمن علم منه العبادة والطاعة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَذَّكَّرُوا) ، أي ليكون لهم الذكرى بذلك ؛ لأنه لا يحتمل أن يبيّن لهم ويجعل لهم بيانا ؛ ليذكرّوا ، ثم لا يكون ؛ ولكن ما ذكرنا ليكون لهم الذكرى ، وقد كانت لكن لم تنفعهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً) :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

٥٠

ليس القرآن بالذى يزيدهم نفورا ، ولكن لما نظروا إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء زاد لهم بذلك نفورا عندهم وتكذيبا ، وإلّا : القرآن لا يزيد إلا هدى ورشدا ؛ على ما وصفه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً).

قال عامّة أهل التأويل (١) : في الأصنام والأوثان التي كانوا يعبدونها ، أي : لو كانت هي آلهة معه كما تقولون إذا لابتغوا التقرب والزّلفى إلى ذي العرش سبيلا.

وقال بعضهم : لو كانت لهم عقول لابتغت ، وأمكن لها من الطاعة والعبادة إذا لابتغت إلى ذي العرش سبيلا بالطاعة له والعبادة ، وهو ما قال في الملائكة : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ) الآية [الإسراء : ٥٧] ، لكن الأشبه أن يكون الله ـ تعالى ـ ألا يقول في الأصنام مثل هذا : لو كان معه آلهة ، إنما هي خشب ، لكن قال فيها ما قال : لا تسمع ولا تعقل ولا تبصر ، وما ذكر في آية أخرى : (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) [مريم : ٤٢] ، وما قال : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ...) الآية [الحج : ٧٣] : مثل هذا أن يقال في الأصنام ، وأمّا ما ذكر : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ ...) الآية ، معلوم أنها ليست من أهل الابتغاء ، إلا أن يقال ما ذكر بعضهم ، أي : لو كانت الأصنام التي تعبدونها آلهة ؛ على ما تزعمون ، إذا لابتغوا إلى الله سبيلا ، [بالطاعة لو لم يكن لهم ذلك ، وكانوا من أهلها ، لكن الأشبه ـ إن كان ـ فهو في الذين يعبدون الملائكة](٢) ويتخذونهم معبودا أو في الذين يقولون بالعدد الذين لهم تدبير ، أو الذين يقولون بقدم العالم وأصوله ؛ فهو يخرج على وجوه ، فنقول ـ والله أعلم ـ : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا) ، أي : إذا لأظهروا دلالة ربوبيتهم وألوهيتهم بإنشاء الخلائق ، كما أظهر الله ـ سبحانه ـ ألوهيته وربوبيته بما أنشأ الخلائق ، ولم يظهر ممن يدعون لهم ألوهيته إنشاء شيء من ذلك فدلّ أنه ليس هنالك إله غيره.

وقال بعضهم : (لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا) ، أي : صاروا كهؤلاء : يعنى الله ، أي : في الإنشاء والإفناء والتدبير ، ومنعوه عن إنفاذ الأمر له : في خلقه ، والمشيئة له فيهم ، واتساق التدبير ؛ فإذ لم يكن ذلك منهم دل أنه لا إله معه سواه ؛ ويكون كقوله : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ...) الآية [المؤمنون : ٩١].

وقال بعضهم (٣) : لو كان معه آلهة كما يزعمون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا (٤) ،

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٣٢٢) ، (٢٢٣٢٣).

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٣) قاله البغوي (٣ / ١١٦).

(٤) زاد في ب : في المناصبة والمغالبة : إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً.

٥١

في القهر والغلبة ؛ على ما عرف من عادة الملوك بالأرض : أنه يسعى كل منهم في غلبة غيره وقهر آخر ويناصبه ؛ كقوله : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١] ، أي : غلب وقهر وناصب.

ويحتمل غير هذا ، وهو أن يمنع كل منهم أن يكون لله الواحد بالخلق دلالة ألوهية وربوبية ، وجهة الاستدلال [له](١) بذلك ؛ فإذا لم يمنعوا ذلك دلّ أنه لا ألوهية لسواه ، وهو الأوّل بعينه.

وقال بعض أهل التأويل (٢) : لعرفوا فضله ومرتبته عليهم ، ولابتغوا ما يقربهم إليه ، وقيل : ولابتغت الحوائج إليه ، وهذا هو الذي ذكرناه بدءا من طلب الطاعة له.

وقوله : (سُبْحانَهُ).

نزه نفسه وبرأها عما يقول الملحدة فيه ووصفوه بالشركاء والأشباه والولد وما لا يليق به ؛ فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً).

ثم قال : (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ).

ثم يحتمل تسبيح ما ذكر وجهين :

أحدهما : جعل الله ـ تعالى ـ في خلقه السموات والأرض وما ذكر دلالة على وحدانية الله وألوهيته ، وشاهدة له أنه واحد لا شريك له ولا شبيه ؛ فإن كان على هذا فيدخل فيه كل شىء : ذو الروح وغيره ؛ فيكون قوله : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) : الكفرة خاصّة ، وأمّا أهل الإسلام يفقهون ذلك.

والثاني : أنه جعل الله في سرّية هذه الأشياء ما ذكر من التسبيح والتنزيه ، لكن لا نفقه نحن ذلك ولا نفهمه ؛ على ما أخبر : (وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ). وهي لا تعرف ـ أيضا ـ أن ذلك تسبيح على ما جعل في الجوارح والأعضاء تسبيحا وعبادة له ، وإن كانت هي لا تعرف ذلك أنه تسبيح.

والثالث : أنه جعل صوت هذه الأشياء تسبيحا له حقيقة على معرفة هذه الأشياء أنه تسبيح ، وإن كان لا يعرف ذلك إلّا خواص من الناس ، وهم الأنبياء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً).

الحليم : هو ضد السفيه (٣) ، والثاني : يقال حليم : ليس بعجول ، أي : لا يعجل بالعقوبة.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) هو قول قتادة ، كما سبق.

(٣) زاد في ب : وهو الحكيم.

٥٢

(غَفُوراً) إذا تابوا ، أو (غَفُوراً) حيث ستر عليهم فضائحهم ، الحلم ما ذكرنا : ضدّ السفه والعجلة. ذكر هاهنا على أثر ما ذكر منهم من القول الوخش فيه والعظيم أنه حليم ؛ ليعلموا أنه عن علم لم يأخذهم بالعقوبة عاجلا ، و (غَفُوراً) ؛ ليعلموا أنهم ، وإن أعظموا القول فيه ؛ يغفر لهم ويتجاوز عنهم إن رجعوا وتابوا.

فإن قال لنا ملحد : إنكم تصفون ربكم بالحلم والرحمة ، ثم تقولون : إنه يعذب أبد الآبدين في النار بكفر كان منه ؛ فأنى يكون فيه رحمة أو حلم؟!

قيل : إنكم لا تعرفون ما الحلم وما الرحمة ، ولو عرفتم ـ ما قلتم ذلك ، ولو لم يعذب على الكفر أبد الآبدين لم يكن حليما ولكن سفيها ، وكذلك الرحمة ، وليس خروج الشيء على غير موافقة الطبع بالذي يخرج صاحبه عن حد الحكمة والرحمة ، فأنتم إنما تصورتم الحكمة والرحمة على موافقة طباعكم ، وليس كذا.

وكذلك يقال للمعتزلة ؛ حيث قالوا : إنه لا يعقل إلا ما هو أصلح لنا في الدين ؛ لأنه جواد ؛ فلو منع الأصلح والأخير لم يكن جوادا موصوفا بالجود ، وإنما قدرتم وقلتم على ما وافق طباعكم وأنفسكم ، ولو عرفتم حقيقة الجود ما قلتم ذا ولا خطر على بالكم شيء من ذلك ، وإنما على الله أن يختار لكل ما علم منه أنه يختار ويؤثر ؛ لأنه لا يجوز أن يختار الولاية لمن علم منه أنه يختار عداوته ، وكذلك لا يجوز أن يختار العداوة لمن علم منه أنه يختار ولايته ، وليس على الله ـ تعالى ـ حفظ الأصلح لأحد في الدّين ؛ بل عليه حفظ ما يوجبه الحكمة والرّبوبيّة.

وفي ذكر تسبيح ما ذكر من جميع الموات على أثر ما ذكر من قول أولئك الكفرة من وصف الله ـ تعالى ـ بالولد والشركاء ، ونحوه يخرج على وجوه :

أحدها : يذكر سفههم ؛ أنهم مع ادعائهم العقل والعلم والتمييز والسؤدد ـ وصفوا الله بالذي لا يليق به ، وما يسقط الألوهية والرّبوبيّة عنه ، على زعمهم ، فالذين ليس لهم شيء من ذلك التمييز والفهم والعقل نزهوه عن ذلك كله وبرءوه عن جميع ذلك.

والثاني : ذكر تسبيحهم على أثر ذلك ؛ ليعلم أنه لا حاجة إلى تسبيحهم ، ولا منفعة له في ذلك أن سبح له جميع الخلائق سواهم ؛ بل منفعة تسبيحهم ترجع إليهم.

والثالث : ذكره لإثبات الرسالة للرسل ؛ لأنهم ذكروا تسبيح الموات ، ولا يفهم ذلك ولا يعقل إلا بوحي من السماء ؛ فذلك يدلّ على الرسالة.

فعلى هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرنا يجوز ذكر تسبيح ما ذكر على أثر ما ذكر ، وكذلك ذكر سجود الموات يخرج على هذه الوجوه التي ذكرناها ، والله أعلم.

٥٣

قوله تعالى : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً)(٤٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً).

قال بعضهم : إن الكفرة كانوا يمنعون رسول الله عن تبليغ الرسالة إلى الناس وقراءة ما أنزل إليه من القرآن عليهم ، وقد أمر بتبليغ الرسالة ، فأنزل الله عليه هذه الآية ، فأخبر أنّه جعل بينه وبين أولئك حجابا مستورا ، ومكن له التبليغ إليهم بالحجاب الذي ذكر ، ثم اختلف في ذلك الحجاب :

قال بعضهم : شغلهم في أنفسهم بأمور وأشغال حتى بلغ إليهم.

ومنهم من يقول : ألقى في قلوبهم الرعب والخوف حتى لم يقدروا على منع ذلك.

ومنهم من يقول : صيرهم بحيث كانوا لا يرونه ، ويستمعون قراءته وتلاوته ، ولم يقدروا على أذاهم به والضرر عليه ؛ فبلغهم.

وجائز أن يكون ما ذكر من الحجاب هو حجاب الفهم ؛ وذلك أنهم كانوا ينظرون إليه بالاستخفاف والاستهزاء به ، فحجبوا عن فهم ما فيه ، وهو كقوله (سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ ...) الآية [الأعراف : ١٤٦] ، يدلّ على ذلك قوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ...) الآية [الأنعام : ٢٥].

ثم قال الحسن في قوله : (جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) ، أي : طبع على قلوبهم حتى لا يؤمنوا ومذهبه في هذا أنه يقول : إن للكفر حدّا إذا بلغ الكافر ذلك الحدّ طبع على قلبه فلا يؤمن أبدا ، واستوجب بذلك العقوبة والإهلاك بالذي كان منهم ، إلا أن الله بفضله أبقاهم ؛ لما علم أنه يولد منهم من يؤمن ، أو يبقيهم لمنافع غيره ، وإلا قد استوجب الهلاك ، فيقول الحسن : أضاف ذلك إلى نفسه لما استوجبوا هم بفعلهم.

وقال أبو بكر الأصم : أضاف ذلك إليه ؛ لأنهم أنفوا عن اتباع الرسل وتكبروا عليهم فاستكبروا ، لكن نقول له : الاستكبار الذي ذكرت فعلهم ، لا فعل الله ؛ فما معنى إضافة ذلك إليه؟! فهو خيال وفرار عما يلزمهم في مذهبهم.

وقال جعفر بن حرب : في الآية إضمار ؛ لما هم أضافوا ذلك إليه أنه هو جعل كذلك ،

٥٤

وهو ما قالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) ، و (قُلُوبُنا غُلْفٌ) [البقرة : ٨٨] ونحوه من الخيال ؛ فلو جاز صرف هذه الآيات إلى ما ذكروا من الخيال لجاز لغيرهم صرف الكل إلى مثله ؛ فهذا بعيد ، ولكن عندنا أن إضافة ذلك إلى نفسه تدل على أن له فيه صنعا وفعلا ، وهو أن يخذلهم باختيار ما اختاروا هم ، أو أضاف ذلك إليه ؛ لما خلق ظلمة الكفر في قلوبهم ، وهذا معروف في الناس : أن من اعتقد الكفر يضيق صدره ويحرج قلبه ؛ حتى لا يبصر غيره ، وهو ليس يعتقد الكفر لئلا يبصر غيره ولا يهتدي إلى غيره ، لكن لا يبصر غيره ، فيدل هذا أنه يصير كذلك ؛ لصنع له فيه. وكذلك من اعتقد الإيمان يبصر بنوره أشياء ، وهو ليس يعتقد الإيمان ليبصر بنوره أشياء غابت عنه ؛ دلّ أنه بغيره أدرك ذلك ، وكذلك المعروف في الخلق أن من اعتقد عداوة آخر ، يضيق صدره بذلك ، وكذلك من اعتقد ولاية آخر ينشرح صدره له بأشياء.

فهذا كله يدلّ أن لغيره في ذلك فعلا ، وهو ما ذكرنا من الخذلان والتوفيق ، أو خلق ذلك منهم ـ والله أعلم ـ فيدخل فيما ذكرنا في قوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ...) الآية [الأنعام : ٢٥] ، وأصله أن ما ذكر من الحجاب والغلاف والأكنة إنما هو على العقوبة لهم لعنادهم ومكابرتهم الحق ؛ لأنهم كلما ازدادوا عنادا وتمردا ازدادت قلوبهم ظلمة وعمى ، وهو ما ذكر في غير آية ؛ [حيث](١) قال : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ ...) الآية [الصف : ٥] ، وقال : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [التوبة : ١٢٧] ، وقال : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين : ١٤] : أخبر أن ما ران على قلوبهم بكسبهم الذي كسبوا ، وأزاغ قلوبهم باختيارهم الزيغ ، وصرف قلوبهم باختيارهم الانصراف ؛ فعلى ذلك ما ذكر من جعل الحجاب والأكنة عليها بما كان منهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً).

قال بعضهم : الشيطان إذا ذكر الله ولى عنه [وأعرض](٢) وفرّ منه ، وهو ما ذكر : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ ...) الآية [الأعراف : ٢٠٠] ، وقال : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا ...) الآية [الأعراف : ٢٠١].

وقال بعضهم : (وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) : الإنس ، أي : ولوا عما دعوهم إليه ، وأقبلوا نحو أصنامهم التي عبدوها.

وقوله : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ) يحتمل : وإذا ذكرت دلالة وحدانية ربك

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

٥٥

وألوهيته وربوبيّته ، أو ذكرت دلالة رسالاتك أو دلالة البعث ، يحتمل ذكر دلالة هذه الأشياء الثلاثة ؛ لأنهم كانوا منكرين لهذه الأشياء ؛ فعند [ذلك](١) ذكرها.

يولّون على أدبارهم نفورا : يحتمل الهرب والإعراض ، ويحتمل الكناية عن الإنكار والتكذيب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى).

كأنهم يستمعون إلى القرآن : إما لما يستحلون نظمه ورصفه (٢) ، أو يستمعون إليه ؛ لما فيه من الأنباء العجيبة ، أو يستمعون إليه ؛ ليجدوا موضع الطعن فيه ، فإن كان استماعهم للوجهين الأولين فإذا [جاء](٣) موضع الخلاف والتنازع ، وهو ما يذكر فيه من دلالة الوحدانية ودلالة الرسالة ودلالة البعث ، عند ذلك كانوا يولون الأدبار نافرين ؛ لإنكارهم ، وإن كان الاستماع لطلب الطعن ـ فهو محتمل أيضا.

واختلف في قوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ).

قيل : كانوا يستمعون إليه ليكذبوا عليه ؛ كقوله : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ. عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ) [المعارج : ٣٦ ، ٣٧] ، كانوا يسرعون إلى استماع ما يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليكذبوا عليه.

وقال بعضهم : كانوا يستمعون إليه ؛ ليجدوا موضع الطعن فيه.

وقال بعضهم : استمعوا إليه ليروا الضعفة والأتباع أنهم إنما يطعنون فيه بعد ما استمعوا إليه وعرفوه ؛ فيقع عندهم أن الطعن كان في موضع الطعن ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِذْ هُمْ نَجْوى).

قيل (٤) : أي : يتناجون فيما بينهم أنه مسحور وأنه مجنون وأنه كاهن ، ثم أخبر الله نبيّه ما أسرّوا فيه وتناجوا بينهم ؛ ليدلهم على رسالته وأنه إنما عرف بالله ، وسماهم ظالمين ؛ لما علموا أنه ليس بمجنون ولا مسحور ولكن قالوا ذلك له ونسبوه إلى ما نسبوه من السحر والجنون ، على علم منهم أنه ليس كذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ).

بالمجانين والسحرة والكهنة ؛ (فَضَلُّوا) ، أو ضربوا لك الأسباب التي تزجر الناس وتمنعهم عن الاقتداء بك مما وصفوا له ونسبوه إليه من السحر والجنون والكهانة ؛ فذلك

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في ب : وصرفه.

(٣) سقط في أ.

(٤) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٣٤٢).

٥٦

كان يمنعهم عن إجابة من أراد إجابته والاقتداء به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً).

اختلف فيه :

قال بعضهم : لا يستطيعون إلى ما قصدوا من منع الناس عنك وصدّهم سبيلا.

وقال بعضهم : لا يستطيعون إلى المكر به والكيد له سبيلا ؛ لأنهم قصدوا به ذلك.

وقال بعضهم : لا يستطيعون إلى ما نسبوه إليه سبيلا.

وقال الحسن : لا يجدون إلى الهدى والإيمان سبيلا ؛ لما طبع على قلوبهم وجعلها في أكنة وغلف.

ويحتمل أن يكون قوله : فلا يستطيعون إلى الاحتجاج على الحجج والدلالات التي أقامها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التوحيد والرسالة والبعث سبيلا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً)(٥٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً)

أي : أإذا كنا عظاما بالية ناخرة و (وَرُفاتاً) ، قيل (١) : ترابا ، وقيل (٢) : غبارا ، وقيل (وَرُفاتاً) : أي : بالية ؛ حتى إذا فتتت ـ تكسرت وذهبت ، كقوله : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً. قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) [النازعات : ١١ ، ١٢] ، أي : غير كائنة ، قالوا ذلك كله : إنكارا للبعث واستهزاء به أنهم يبعثون ويجزون بأعمالهم ، وهذا كأنهم قالوا ذلك على التعجب ، والاستبعاد عن كون ذلك ، والاستهزاء بذلك ، والجهل به هو الذي حملهم على التعجب والاستهزاء بما ذكر.

أنكر هؤلاء الكفرة قدرة الله على البعث كما أنكر المعتزلة قدرته على خلق أفعال العباد ، وليس لهم الاحتجاج على أولئك الكفرة بإنشاء الأوّل ؛ لأن لهم أن يقولوا : إنكم تقرون بالقدرة على خلق الأول ، وتنكرون خلق أفعالهم ، وليس لكم الاحتجاج.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ).

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن أبي شيبة ، وابن جرير (٢٢٣٤٥) و (٢٢٣٤٦) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٣٩).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٢٣٤٧) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٣٩).

٥٧

قال بعض أهل التأويل : أي : لو كنتم حجارة أو حديدا فيميتكم ، لكن هذا بعيد ؛ لأنهم لم يكونوا ينكرون الموت ؛ إذ كانوا يشاهدون الموت ؛ فلا يحتمل الإنكار ، ولكن كانوا ينكرون البعث بعد الموت وبعد ما صاروا ترابا ورفاتا ، إلا أن يقال : إنكم لو كنتم بحيث لا تبعثون ولا تجزون بأعمالكم لكنتم حجارة أو حديدا ، لم تكونوا بشرا ؛ لأن الحجارة والحديد ونحو ذلك غير ممتحن ، ولا مأمور بشيء ، ولا منهي عن شيء ، وأما البشر فإنهم لم ينشئوا إلا للامتحان بأنواع المحن والأمر والنهي والحل والحرمة ، فلا بد من الامتحان ؛ فإذا امتحنوا بأشياء لا بدّ من البعث للجزاء والعقاب ، فإذا لم تكونوا ما ذكر ولكن كنتم بشرا فاعلموا أنكم تبعثون وتجزون بأعمالكم على هذا يحتمل أن يصرف تأويلهم ، لا إلى ما قالوا ؛ وإلا ظاهر ما قالوا وتأولوا لا يحتمل ؛ لما لا أحد أنكر الموت.

ويحتمل قوله : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً. أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ) ، أي : لو كنتم ما ذكر حجارة أو حديدا أو أشدّ ما يكون من الخلق لقدر أن ينشئكم بشرا من ذلك ؛ فكيف إذا كنتم بشرا في الابتداء؟! أي : يعيدكم بشرا على ما كنتم كما أنشأكم في الابتداء من ماء وتراب ، وليس في ذلك الماء والتراب من آثار بشر شيء من العظام واللحوم والعصب والجلد وغيرها ؛ فمن قدر على إنشاء [هذا قدر على إنشاء](١) البشر بعد الموت وبعد ما صار ترابا ورفاتا ، على هذا يجوز أن يتأول.

ووجه آخر أن يقال : ظنوا أن لو كنتم حجارة أو حديدا أو ما ذكر لبعثكم ؛ فكيف تظنون أنه لا يبعثكم إذا كنتم ترابا ورفاتا أو كلام نحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ).

ذكروا هذا وكل ما يكبر في صدورهم على ما ذكر.

(فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا).

استهزاء منهم به.

(قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

إنهم ، وإن قالوا ما قالوا استهزاء به وسخرية ، فقد أمر الله ـ تعالى ـ أولياءه المؤمنين أن يحاجّوهم محاجة العقلاء والحكماء مع الحجج والبراهين ، وإن كانوا قالوا سفها واستهزاء ، وعلى ذلك عاملهم الله ، وإن كانوا سفهاء في قولهم مستهزءين ، وكذلك أمر رسله أن يعاملوا قومهم أحسن المعاملة ؛ حيث قال : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، وقال : (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء : ٥٣] وإنما ذكر الله

__________________

(١) سقط في أ.

٥٨

هذه الآيات ؛ ليحاجّ بها هؤلاء ، ويعلم أن كيف المعاملة مع هؤلاء ؛ إذ قد أقام الله ـ تعالى ـ من الآيات والحجج على بعثهم وإحيائهم حججا كافية ما لم يحتج إلى مثل هذا ، لكنّه ذكر هذا ؛ لما ذكرنا ـ والله أعلم ـ : كأن الذي حملهم على إنكار ذلك وجوه من الاعتبار :

أحدها : أنهم لم يروا من الحكمة إماتتهم ثم الإحياء على مثل ذلك إذ لو كان يحييهم ثانيا ـ لكان لا يميتهم ؛ كنقض البناء على قصد بناء مثله.

والثاني : لما رأوا أقواما قد ماتوا منذ زمن طويل ثم لم يبعثوا ؛ فيقال لهم : إنه قد تأخر كونكم وإنشاؤكم ، ثم لم يدلّ تأخركم على أنكم لا تكونون ؛ فعلى ذلك لا يدلّ تأخر البعث على أنه لا يكون.

وأما جواب الأوّل فإنه يقال لهم : إنكم تقرون أنه أنشأكم أوّل مرة وأنه يميتكم ، فليس من الحكمة إنشاء ثم الإماتة ؛ لأنه يكون كمن بنى بناء للنقض والإفناء ؛ فإذا كان [الأول] حكمة كان الثانى ـ أيضا ـ حكمة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

أي : يعيدكم الذي خلقكم أوّل مرة ولم تكونوا شيئا على ما ذكرنا وإعادة الشيء [في عقولكم أهون وأيسر من ابتدائه ؛ إذ لا أحد في الشاهد يتكلف تعلم إعادة الشيء](١) ومعرفته ، وإنما يتكلفون تعلم ابتداء الصناعات ومعرفتها ، ثم يعرفون إعادة [ذلك](٢) بمعرفة ابتدائية ؛ فدلّ [ذلك](٣) أنه أهون وأيسر ، وهو ما قال : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ، أي : في عقولكم ذلك أهون وأيسر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ).

أي : يحركون رءوسهم ؛ استهزاء به وهزوا.

(وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ).

على الاستهزاء أيضا ، أي : لا يكون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ) : قالوا ذلك جهلا به وإنكارا ، وإلّا لو علموا أنه كائن لا محالة لكانوا لا يقولون ذلك ؛ بل يخافون كما خاف الذين آمنوا به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في أ.

٥٩

و (عسى) من الله واجب ، أي : يكون لا محالة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَرِيباً) ، أي : كائنا ، القريب يقال على الكون ، أي : كائنا ، ويقال على القريب والبعيد كذلك يقال على الإنكار رأسا ، ويقال على الاستبعاد ؛ كقوله : (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً* وَنَراهُ قَرِيباً) [المعارج : ٦ ، ٧] ، أي : هم لا يرونه كائنا ، ونراه نحن كائنا ؛ كقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ) [الشورى : ١٨] : كانوا (١) يستعجلون بها ؛ لما لم يكونوا يرونه كائنا والمؤمنون يرونه كائنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ).

يحتمل هذا الدعاء ، والإجابة : دعاء الخلقة ، وإجابة الخلقة ؛ لما كانت خلقتهم تعظم ربهم ، وتحمده في كل وقت ، وتنبئ على ما ذكرنا في غير آية من القرآن.

ويحتمل دعاء القول وإجابة القول والعمل ؛ لما كانوا عاينوا قدرته وعظمته أجابوا له بحمده وثنائه ؛ كقوله : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) [القمر : ٨] [ونحوه](٢) أو أن يكون قوله : (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ) : يوم القيامة ـ كقوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ ...) الآية [القمر : ٦].

وقوله : (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ ...) الآية [إبراهيم : ٤٣] : أخبر أنهم يجيبون داعيهم يومئذ ويثنون على الله ؛ لما رأوا من الأهوال من ترك الإجابة له في الدّنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) ، أي : تجيبون داعيه بثنائه وبحمده ، أي : تثنون على الله وتحمدونه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً).

قال الحسن : قوله : (وَتَظُنُّونَ) أي : تعلمون وتيقنون أنكم ما لبثتم في الدّنيا إلا قليلا ، وكذلك قال قتادة ، أي : يستحقرون الدنيا ويصغرونها ؛ لما عاينوا القيامة وأهوالها (٣).

[وجائز أن يكون قوله : (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) في القبر وجائز أن يكون في الدنيا يستقصرون المقام فيها لطول مقام الآخرة وأهوالها](٤) ثم من أنكر عذاب القبر احتج بظاهر هذه الآية ؛ حيث قال : (وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) ، وقوله : (لَبِثْنا يَوْماً) [الكهف : ١٩] ، ومثله قالوا في العذاب والشدة : لم يكونوا يستقصرون ويستصغرون المقام فيه ؛ إذ كل من كان في عذاب وبلاء وشدة ـ يستعظم ذلك ويستكثر ولا ينساه أبدا ، هذا المعروف عند الناس فإذا هم استقلوا ذلك واستصغروه حتى قالوا : (يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [الكهف : ١٩] ، وقالوا :

__________________

(١) في ب : فيما كانوا.

(٢) سقط في أ.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٢٣٦٩) ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٤ / ٣٤٠).

(٤) ما بين المعقوفين سقط في أ.

٦٠