تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

وكابروا واستكبروا ولم يخضعوا له ؛ أنفا واستكبارا ؛ أو لا ترى أنه إذا قرع أسماعهم قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] ، وقوله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ...) الآية [الإسراء : ٨٨] لا يحتمل ألا يدبروا فيه ؛ دل أنهم قد تدبروا فيه وعرفوه ، إلا أنهم تعاندوا وكابروا واستكبروا ؛ أنفا منهم واستكبارا واستنكافا عن اتباعه والخضوع له.

قال أبو عوسجة : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) ، أي : يستغيثون (١) ، قال : وأصله من الصياح. وقال بعضهم : (يَجْأَرُونَ) : يصرخون.

وقيل : يصيحون.

وقيل : (سامِراً تَهْجُرُونَ) ما ذكرنا من الحديث بالليل ، (تَهْجُرُونَ) ، أي : تهذون كما يهذي النائم والمريض الشديد المرض.

قال : وأهجر يهجر ، من الهجر : وهو الفحش ، وهجّر يهجّر : إذا سار في الهاجرة ، وهي شدة الحرّ.

وقوله : (تَنْكِصُونَ) : قال بعضهم : ترجعون ، وقال بعضهم (٢) : تستأخرون ؛ كقوله : (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) [الأنفال : ٨٤] : ترجعون ، وتستأخرون واحد.

وقوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) : قد ذكرنا أنه يخرج على وجهين :

أحدهما : على ترك التدبر فيه والتفكر ، والإعراض عنه ، أي : لم يدبّروا فيه ، ولم يتفكروا.

والثاني : على إيجاب حقيقة التدبر فيه والتفكر ، أي : قد تدبّروا فيه ، وعرفوا أنه منزل من الله ، لكنهم تركوا متابعته ؛ عنادا وتمردا [و] إشفاقا على ذهاب رياستهم ، وطمعا في إبقائها ودوام مأكلتهم ، فأي الوجهين كان ، ففيه لزوم حجج الله وبراهينه على من جهلها ولم يعرفها ؛ بالإعراض عنها وترك التدبر فيها ، حيث استوجبوا عذاب الله ومقته لجهلهم بها : بترك التدبر فيها بعد أن كان لهم سبيل الوصول إلى معرفتها.

وظاهر قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا) استفهام ، إلا أنه في الحقيقة : إيجاب لها ؛ لا يجوز أن يستفهم الله أحدا ؛ فهو على الإيجاب لأنه علام الغيوب.

وقوله : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) أي : قد جاءهم ما جاء آباءهم الأولين من

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٥٥٨٠) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣).

(٢) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٥٨٨) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٣).

٤٨١

الرسل ، ثم [لم] يأت هؤلاء شيء إلا ما أتى آباءهم ، لم يخصوا هم بالرسول ؛ فكيف أنكروه؟! ألا ترى أنهم قالوا : (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) [فاطر : ٤٢] : قد أقرّوا أن في الأمم المتقدمة رسولا ؛ حيث قالوا : (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ).

وعلى ذلك يخرج قوله :

(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ).

أي : قد عرفوا رسولهم ، لكنهم أنكروه وتركوا اتباعه ؛ لما ذكرنا في القرآن من أحد الوجهين ؛ عنادا وتكبرا ؛ إشفاقا على رياستهم لكي تبقى ؛ ألا ترى أنه قال : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ...) الآية [البقرة : ١٤٦].

وعلى هذا ، (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ).

أي : قد عرفوا أنه ليس به جنة.

وجائز أن يكون قوله : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) : جاء هؤلاء ما لم يأت آباءهم ، وخصّ هؤلاء ما لم يخص آباءهم. وكذلك قال ابن عباس : لعمري لقد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين.

وجائز أن يكون قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) : إلى ما ذكر من قوله : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) ؛ لأنه يخرج على الأمر بالتدبر فيه ، ومعرفة الرسول أنه ليس كما يصفونه من الجنون وغيره ؛ كقوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) [الروم : ٨] ، أي : تفكروا فيه ؛ فإنه ليس به جنة على ما يصفونه ، أو على ما ذكرنا : أنهم تفكروا وعرفوا : أنه ليس به جنون ، ولا شيء مما وصفوا به ؛ لكنهم أرادوا أن يلبسوا أمره على أتباعهم وسفلتهم ؛ إشفاقا على إبقاء ما ذكرنا.

وقال بعضهم : قوله : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) : من البراءة من العذاب.

وقوله : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ).

بالرسالة والقرآن من عند الله ، وجعل العبادة [له] من دون الأصنام التي عبدوها.

[وقوله :](وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ).

كرهوا الحق ؛ لما ظنوا أن في اتباعه ذهاب الرئاسة والأسباب التي كانت لهم على أتباعهم ، بعد معرفتهم أنه حق ، أو كرهوا ؛ لما لم يعرفوا في الحقيقة أنه حق ، وإلا [لا] أحد ممن يوصف بصحة العقل وسلامته يكره الحق ويترك اتباعه ؛ إلا للوجهين اللذين ذكرناهما ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ).

٤٨٢

قال عامة أهل التأويل (١) : الحق ـ هاهنا ـ هو الله ، أي : لو تبع الله أهواءهم في كفرهم وشركهم (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) ، وتأويل هذا أن الكفر والشرك مما لا عاقبة له ، وكل شيء لا عاقبة له فهو في الحكمة والعقل فاسد باطل غير مستحسن.

وقال بعضهم : الحق ـ هاهنا ـ كتاب الله ، وهو القرآن على ما يهوون هم ؛ ليفسد ما ذكر ؛ لأنه يكون خارجا عن الحكمة.

وجائز أن يوصل قوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) الحق الذي سبق ذكره ، وهو قوله : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) ، أي : لو اتبع ذلك الحق أهواءهم وجاء على ما هوته أنفسهم واشتهت من عبادة غير الله ، وتسميتهم إياها آلهة ، وإنكارهم البعث والتوحيد ، وغير ذلك من الأفعال التي كانوا اختاروها وعملوها ـ لفسدت السموات والأرض وما ذكر ؛ لأنه يكون خلقهم وخلق ما ذكر من السموات والأرض وما فيهن ـ لا لما توجبه الحكمة والعقل ؛ إذ خلقهم وخلق ما ذكر لأفعالهم التي يفعلون ؛ فإذا خرج أفعالهم على غير ما توجبه الحكمة والعقل ، بل على السفه والجهل ـ خرج الذي لها خلق ، [و] من أجلها أنشئ ، كذلك ؛ إذ خلق الشيء وفعله لا لعاقبة تقصد ـ خارج عن الحكمة ، والله أعلم بذلك.

وجائز أن يكون الحق هو رسول الله ، أي : رسول الله لو اتبع أهواءهم لفسد ما ذكر.

وقوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ).

قال أهل التأويل : لشرفهم وذكرهم ؛ كقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤].

[وقوله :](بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ).

أي : عن شرفهم معرضون.

وجائز أن يكون الذكر هو الحق الذي تقدم ذكره ، أي : لو قبلوا ذلك الحق الذي [جاءهم] وأقبلوا نحوه يكون في ذلك ذكرهم من بعد هلاكهم ؛ كما يذكر أصحاب رسول الله من بعد ما ماتوا ؛ ألا ترى أولادهم بذكر آباءهم يتعيشون يقولون : أنا من بني فلان ؛ فيبرّهم الناس بذلك ويكرمونهم ، وأما أولئك فإنهم لا يذكرون بشيء من ذلك ؛ فذلك يدل على ما ذكرنا.

ويحتمل قوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) الثناء عليهم أن لو آمنوا ؛ كقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ...) الآية [آل عمران : ١١٠] ، وقوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)

__________________

(١) قاله أبو صالح أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٦٢٣ ، ٢٥٦٢٤) ، وعن ابن جريج (٢٥٦٥٢) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٥).

٤٨٣

[البقرة : ١٤٣] ، وقوله : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ ...) الآية [التوبة : ١٠٠] ، ونحو ذلك مما أثنى الله على من آمن منهم ؛ فهم لو آمنوا استوجبوا بذلك الثناء.

وجائز أن يكون قوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) ، أي : يدعى لهم ، وهو ما دعا الملائكة والرسل للمؤمنين ، كقوله : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية [غافر : ٧] ، وقوله : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [غافر : ٥٥] ، وقول نوح : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ ...) الآية [نوح : ٢٨] ، وقول إبراهيم ودعائه لهم : لو آمنوا استوجبوا دعاء هؤلاء الملائكة والرسل جميعا ، أو أن يكون ما ذكرنا من إبقاء ذكرهم إلى يوم القيامة ؛ كما بقي ذكر أولئك الذين آمنوا به وصدقوه ؛ فيكون في ذلك كله شرفهم وقدرهم ؛ على ما قاله أهل التأويل ، والله أعلم.

وقوله : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ).

جائز أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) ، أي : قد عرفوا رسولهم ، (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) ، أي : ليس به جنة ، أي : ليس به شيء يمنعهم عن الإجابة والإيمان به بما يعذرونهم في ترك الإيمان به ؛ فعلى ذلك قوله : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً) ، أي : لم تسألهم أجرا على ما تدعوهم إليه حتى يمنعهم ثقل ذلك الأجر عن إجابته وتصديقه ؛ كقوله ـ أيضا ـ : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) [الطور : ٤٠] يقطع ما ذكر جميع أعذارهم وحجاجهم ، وإن لم يكن عذر ولا حجة في ترك الإجابة له.

وقال بعضهم : الخراج : الرزق ، أي : لا تسألهم رزقا ، ثم أخبر : (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

قوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (٧٦) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ)(٧٧)

وقوله : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

المستقيم : القائم بالآيات والحجج ، ليس كالسبيل التي يسلكون هم بلا آيات ولا حجج ولا برهان.

وقوله : (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أن إنكارهم البعث والآخرة هو الذي حملهم على العدول عن الصراط المستقيم.

٤٨٤

والثاني : الصراط الذي في الدنيا هو المجعول للآخرة ؛ فإذا تركوا سلوكه ؛ لشهوات منعتهم عن ذلك ـ أنكروا الآخرة ، أو كلام نحو هذا ، وقوله : (لَناكِبُونَ) ، أي : لعادلون ، من العدول عنه والمجانبة والميل إلى غيره.

وقوله : (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

ذكر الضر ، ولم يذكر أي شيء كان ، وليس لنا أن نقول : كان الجوع أو كذا إلا بثبت ، وفيه وجهان من المعتبر :

أحدهما : أن رفع المحن التي امتحنهم من البلايا والشدائد إنما يكون برحمة منه وفضل ، لا على ما قاله بعض الناس بالاستحقاق ؛ حيث ذكر رحمته بكشف ذلك عنهم.

والثاني : فيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أخبر أنه ، إن كشف ذلك الضر عنهم ، (لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) ؛ فكشف عنهم ذلك فلجوا في طغيانهم على ما أخبر ؛ فدل أنه بالله عرف ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ).

يخبر عن سفههم وجهلهم بالله ، وقسوة قلوبهم ، وتمردهم وعنادهم ؛ حيث أخبر أنهم وإن أخذوا بالعذاب لم يتضرعوا إليه ، وما استكانوا له بجهلهم بعذاب الله ؛ حيث أخبر أنهم ، وإن أخذوا [لم يستكينوا].

[وقوله :](حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ).

اختلف في قوله : (مُبْلِسُونَ) :

قال بعضهم : المبلس : الآيس من كل خير ، وهو ما وصفهم أنهم : (لَيَؤُسٌ كَفُورٌ) [هود : ٩] ، و (فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ) [فصلت : ٤٩] ، ونحوه.

وقال الزجاج (١) : المبلس : الساكن المتحير لا يدري ما يعمل به فعلى ذلك هم كانوا حيارى لما نزل بهم العذاب ، لا يدرون ما يعملون به في دفع ذلك عنهم.

وقال الكسائي : المبلس : المقطع السيئ الظن ، قال : ومنه سمي إبليس ؛ لأنه أيس من رحمة الله ، وانقطع رجاؤه عنده.

وقال أبو عوسجة : [المبلس] البائس الحزين ، ويقال : أبلس الرجل ، أي : أيس فحزن ، وأبلس غيره أيضا ، وإنما سمي إبليس إبليس ؛ لأنه يئس عن رحمة الله فحزن.

قال : وقوله : (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) ، أي : لم يذلوا لربهم بالطاعة له ، والخضوع لما ذكرنا.

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٤ / ٢٠).

٤٨٥

قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (٧٨) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٧٩) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٨٠) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (٨١) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٨٢) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(٨٣)

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ).

يذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم ؛ ليتأدى بذلك الشكر له عليها ، لكنّه ذكر هنا أمهات النعم ، لم يذكر غيرها ، وهو السمع والبصر والفؤاد الذي ذكر ، إذ بها يوصل إلى معرفة : كل نافع وضار ، وكل طيب وخبيث ، وكل لين وخشن ، وكل سهل وشديد ، وكل حلو ومر ، وكان الإنسان مطبوعا على حب النافع والطيب واللين والسهل ، واختياره على أضداده ، والهرب من كل ضار ومؤذ ، والفرار عن أضداد ما ذكرنا من المختارات عنده ؛ فأخبر أنه أعطى لهم ما يعرفون به : النافع من الضار ، والطيب والخبيث ، ونحوه شهادة وخبرا ، وما به يميزون ذا من ذا ، ويختارون ما هو المختار عندهم من غيره ، وما ينفعهم مما يضرهم ؛ ليتأدى بذلك شكره.

[و] يذكرهم في قوله : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ).

أي : جعلكم سكان الأرض بقدرته وسلطانه ، وأخبر أنه لم يخلقكم عبثا ؛ ولكن للبعث بعد الموت ، والحشر إليه ؛ لما ذكرنا في غير موضع : أن خلق الخلق للفناء خاصّة لا للبعث والإحياء بعد الموت ـ عبث ولعب ، وأخبر عن قدرته وسلطانه ؛ حيث قال : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ).

أي : من قدر ـ والله أعلم ـ على إحياء الموتى وإماتة الحيّ لقادر على البعث ، ومن ملك على إنشاء الليل بعد ما ذهب أثر النهار وإنشاء النهار بعد ما ذهب أثر الليل لقادر على الإحياء والبعث بعد الموت.

ثم قال : (أَفَلا تَعْقِلُونَ).

أي : أفلا تعقلون أنه كذلك ؛ فكيف تنكرون قدرته على البعث والإحياء بعد ما صرتم رمادا وترابا؟! وكيف تشكرون غيره في عبادتكم إياه وتصرفون الشكر إلى غيره فيما أنعم عليكم.

وأهل التأويل صرفوا قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) إلى آخره إلى الكفار ، وهم يكفرون بنعمته التي ذكر وينكرونها ، وهم لا يشكرون رأسا ؛ بقوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ، إلا أن يقال : إنهم في بعض الأحايين ربما يشكرون الله ويتضرعون إليه ؛ نحو قوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ...) الآية [العنكبوت : ٦٥] ، ونحوه من الآيات التي ذكر فيها دعاءهم وتضرعهم إلى الله عند ما أصابهم الضرّ ؛ فذلك منهم شكر ، أو أن يقال : إن

٤٨٦

قوله : (قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ) ، أي : قليلا ما تشكرون رأسا ؛ كقول الرجل : لآخر قليلا ما تفعل كذا ، أي : لا تفعل ؛ فعلى ذلك هنا إن كان المراد منها والخطاب بها أولئك الكفرة ، وإلا : الخطاب بها يجيء أن يكون راجعا إلى المؤمنين الذين يقومون بفرض الشكر لنعمه وقليله ، وأما الكفرة فهم يكفرونها وينكرون رأسا.

وقوله : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ. قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً).

يخبر ـ جل وعلا ـ رسوله : سفه قومه ، وقولهم الذي قالوا له بعد ما تبين لهم حكمته في خلقهم وإنشاء ما أنشأ لهم ، وذكرهم نعمه التي أنعم عليهم ، وذكر قدرته وسلطانه فيما ذكر من قوله : (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) ، وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) : ذكرهم ما ذكر في هؤلاء الآيات خلقهم وقدرته في إنشاء ما أنشأ لهم ، وعرفهم ذلك ؛ حتى عرفوا ذلك كله ، ثم بين سفههم في جوابهم رسوله ، فقال : (بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ) : يخبر رسوله أن هؤلاء ليسوا بأوّل مكذبي الرسل ؛ ولكن كان لهم شركاء وأصحاب في التكذيب فقلد هؤلاء أولئك الأولين ، يصبر رسوله على سفه هؤلاء ، وأذاهم ؛ ليصبر على ذلك كما صبر إخوانه الذين كانوا من قبل ؛ إذ يذكر لرسوله سبيل بعض ما تداخل فيه بتركهم إجابته ، وخوضهم فيما فيه هلاكهم ؛ لأنه كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاد أن تهلك نفسه لذلك ؛ حتى قال : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ، (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الكهف : ٦] : فبين ما قالوا : (قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ).

يقولون : قد وعد آباؤنا بمثل ما وعدنا نحن ، فلم ينزل بهم ما وعدوا من العذاب ؛ ولا ينزل ـ أيضا ـ بنا ما تعدنا ، وهو أساطير الأولين ، أي : أحاديث الأولين ، ثم أمر رسوله أن يسألهم ما يلزمهم الإيمان والاعتراف بما كانوا ينكرون ، فقال : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

قوله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٩٠) مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (٩١) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٩٢)

وقوله تعالى : (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

٤٨٧

فقالوا : لله ، لم يجدوا بدّا من أن يقولوا : لله وأن يقروا ؛ لأنهم لو أنكروا ذلك لظهر جهلهم عند كل الخلائق ؛ فقالوا : لله ؛ فيقول : فإذا عرفتم أن ذلك كله له ، وهو خالقهم ، فكيف تركتم طاعته ، وأنا لست أدعوكم إلا إلى ذلك : أن تجعلوا الأرض وما فيها كله لله ؛ أفلا تتعظون وتقرون بما أدعوكم إليه ؛ وعلى ذلك قوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ. سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) لا بد لهم من أن يقروا بذلك ، فإذا عرفتم بذلك وأقررتم به : (أَفَلا تَتَّقُونَ) : مخالفته ، وتتقون نقمته.

وكذلك ما قال : (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ).

فإذا عرفتم ذلك ، وأقررتم به ، (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) :

قيل : فأنى تصرفون عن ذلك.

وقال بعضهم : فأنى تخدعون وتفرون في ذلك ؛ إذا عرفتم أن ذلك كله لله.

وجائز أن يكون قوله : (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقولون : إنه ساحر كذاب ، وهو ليس يدعوكم إلا إلى ما أقررتم واعترفتم به ؛ فأنى تنسبونه إلى السحر ، والله أعلم.

وقوله : (مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) : قد ذكرناه فيما تقدم.

قوله : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ).

أي : هو يؤمن كل خائف ، ولا يقدر أحد أن يؤمن من أخافه هو ، وهو كقوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ ...) الآية [يونس : ١٠٧].

قال أبو عوسجة : قوله : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) ، أي : لا يمنع ، (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) ، أي : لا يقدر أحد أن يمنع منه أحدا ؛ (فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) ، أي : تغرون وتخدعون ، تقول : سحرت ، أي : خدعت وغررت ، وقال : تسحرون ، أي : تخدعون وتصرفون عن هذا ، وسمي السحر من هذا.

وقوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ).

قد ذكرنا أنه يحتمل وجوها :

أحدها : بالحق ، أي : بوحدانية الله ، وألوهيته ، وتعاليه عن الشركاء والولد ، وعما وصفوه.

أو أن يكون قوله : (بِالْحَقِ) ، أي : بالقرآن الذي عرفوه أنه حق ، وأنه من عند الله.

أو أن يريد (بِالْحَقِ) : محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم عرفوا أنه حق وأنه رسول الله إليهم.

أو أن يكون (بِالْحَقِ) ما ذكر : من ذكرهم ، وما فيه شرفهم ومنزلتهم.

٤٨٨

و (بِالْحَقِ) الذي يكون لله عليهم ، وما لبعضهم على بعض من الحقوق ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ).

في وصفهم ربهم ما وصفوه بما لا يليق وصفه به.

أو كاذبون [في قولهم بأن] القرآن مفترى مختلق من عند الله.

أو كاذبون في قولهم : بأنه ساحر ، وأنه مجنون ، وأنه ليس برسول ؛ كذبوا في جميع ما أنكروا ، والله أعلم.

وقوله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ).

جائز أن يكون كل حرف من هذه الحروف موصولا بعضه ببعض لما تقدم.

وجائز أن يكون كل حرف من هذه الأحرف منفصلا من الأول مستبدا بذاته.

فإن كان على الأوّل فيكون قوله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) ، ولو كان اتخذ ولدا لكان إلها ؛ إذ الولد يكون من جنس الوالد ومن جوهره ، لا يكون من خلاف جوهره ولا من غير جنسه في المتعارف ؛ فإذا كان إلها من الوجه الذي ذكرنا لذهب إذن كل إله بما خلق.

وإن كان منفصلا ، فهو على ما ذكر من فساد ذلك كله ؛ لأنه قال : ولو كان معه إله ـ على ما زعموا ـ إذن لذهب كل إله بما خلق من : الخير ، والشر ، والدلالة على ألوهيته.

(وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ).

أي : قهر وغلب بعضهم بعضا على ما يكون من عادة ملوك الأرض ؛ فإذا كان ما قالوا ذهب دلالة الألوهية والربوبية ؛ فإذا لم يكن ذلك دل أنه واحد لا شريك معه ولا ولد ؛ إذ اتساق التدبير ، وجري الأشياء على حد واحد وسنن واحد دل على ألوهية واحد لا لعدد ؛ إذ لو كان لعدد لكان ما ذكر من غلبة بعض على بعض ، وقهر بعض على بعض ، ثم ما ذكر : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢].

ثم معلوم أن مثل هذا الاحتجاج لا يكون مع الذين ينكرون ألوهية الله ويعبدون الأصنام ، وهم مشركو العرب وكفار مكة ، ولكن إنما يكون مع الذين يقرون بألوهية الله ، لكن يجعلون معه شريكا لحاجة تقع له ، وهم : الثنوية والدهرية والمجوس ، وأولئك الذين يجعلون خالق الشر غير خالق الخير ، وخالق هذا غير خالق هذا ؛ فيكون قوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) على هذا ، أي : يتعالى عما وصفوه بالحاجة له في خلق ما خلق ، والنفع له في ذلك ، وكذلك قوله : (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

وأما على ظاهر ما تقدم ذكره : من اتخاذ الولد والشريك ـ سبحان الله عما يصفونه من الولد والشريك ، وما قالوا فيه ونسبوا إليه ما لا يليق به.

٤٨٩

أو أن يكون قوله : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) كما يوصف المخلوق المحدث ؛ لأنهم وصفوه بالولد ، والولد في متعارف الخلق لا يكون إلا من الولد والأم ، هذا [هو] التوالد المعروف فيما بين الخلق ، فإذا وصفوه باتخاذ الولد شبهوه بالمخلوق المحدث من الوجه الذي ذكرنا ؛ فنزه نفسه عن ذلك.

قوله تعالى : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٩٤) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (٩٥) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (٩٦) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (٩٧) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ)(٩٨)

وقوله : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ* رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وقوله : (رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ) : يحتمل على وجهين :

أحدهما : (رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ* رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ؛ لأنه كان وعد له أن يريه بعض ما وعد لهم بقوله : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) [غافر : ٧٧] ؛ فلا نريك شيئا ؛ فقال : ربّ إن أريتني ما يوعدون أو لا تريني فلا تجعلني في القوم الظالمين.

والثاني : أنك ، وإن أريتني ما تعدهم على التحقيق ، فلا تجعلني في القوم الظالمين.

ثم يحتمل قوله : (فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وجهين :

أحدهما : لا تجعلني في القوم الظالمين : في العذاب الذي وعدت لهم أن ينزل ؛ لأنه من العدل أن يعذبه ويعامله معاملة أهل العدل ؛ كأنه يقول : ربّ لا تعاملني معاملتك إياهم ، وإن كان ذلك من العدل أن تعاملني مثل ما تعامل أولئك ؛ لأن رسول الله ، وإن لم يكن [له] زلات ظاهرة ، فلقد كان من الله إليه من النعم والإحسان : ما لو أخذ بشكر ذلك لم يقدر على أداء شكر واحدة منها فضلا عن أن يؤدي شكر الكل ؛ ألا ترى أنه روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يدخل أحد الجنة إلا برحمة الله ؛ فقيل : ولا أنت يا رسول الله؟ فقال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» (١).

ويحتمل قوله : (فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) : في الزيغ والغواية ، يسأل ربّه أن يعصمه عن الزيغ بالضلال والغواية الذي عليه القوم الظالمون ، وهو كدعاء إبراهيم ربّه وسؤال العصمة عن الزيغ بقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٣٠٠) ، كتاب الرقاق : باب القصد والمداومة (٦٤٦٣) ، ومسلم (٤ / ٢١٦٩) ، كتاب صفات المنافقين : باب لن يدخل أحد الجنة بعمله (٧١ / ٢٨١٦) ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لن ينجي أحدا منكم عمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة ، سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة ، والقصد القصد تبلغوا».

٤٩٠

الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] ، وإن كان وعد لهم العصمة عن ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ).

هذا أيضا يحتمل وجهين :

أحدهما : يخبر رسوله أنه ليس لعجز يؤخر ما وعد لهم من العذاب ؛ ولكن لحلم منه وعفو ، وهو كقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ) [إبراهيم : ٤٢] : على التنبيه والإيقاظ ؛ فعلى ذلك يحتمل هذا.

والثاني : يعزي رسول الله ويصبره على أذاهم إياه ، يقول : إني مع قدرتي على إنزال العذاب عليهم والانتقام منهم أحلم عنهم وأؤخر عنهم ؛ فأنت مع ضعفك عن ذلك أولى أن تصبر على أذاهم ، وعلى هذا يخرج قوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) ، أي : لا تكافئهم لأذاهم إياك ، ولا تشغل بهم بمجازاة ذلك [وادفع] بأحسن [من] ذلك وكل مكافأتهم إلىّ حتى أنا أكافئهم.

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) من الكذب والأذى الذي يؤذونك.

والثاني : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ) ، أي : ادفع سيئاتهم المتقدمة بإحسان يكون منك إليهم ؛ ليكونوا لك أولياء وإخوانا في حادث الأوقات ، وهو كقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت : ٣٤].

وقوله : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) ، وقال في آية أخرى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) [الأعراف : ٢٠٠] علم رسوله وأمره أن يتعوذ به من الشيطان الرجيم اللعين إذا نزغه ـ ونزغه : وسوسته ـ وأمره أيضا أن يتعوذ من همزه ، وهو : همه وقصده بذلك ، وأمره أن يتعوذ بحضورهم مكان الوسوسة ؛ حتى يدفع عنهم ولا يحضرون ذلك المكان ، وكأن التعوذ عن نزغهم ؛ ليدفع عنه ؛ لئلا يؤثروا في نفسه بعد ما حضروه ووسوسوه.

والتعوذ عن همزهم : هو أن يدفع عنه طعنهم ونخسهم ؛ لئلا يشغلوه بالذي قصدوه به ، والتعوذ عن حضورهم مكان الوسوسة.

قال الحسن : همز الشيطان : الموتة ، والموتة : غشيان القلب ، روي في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان يتعوذ من الشيطان الرجيم ، قال : «في همزه ، ونفخه ، ونفثه» (١).

__________________

(١) في الباب عن أبي سعيد الخدري :

أخرجه أبو داود (١ / ٢٦٥) ، كتاب الصلاة : باب من رأى الاستفتاح بسبحانك اللهم وبحمدك (٧٧٥) ، ومن طريقه البيهقي (١ / ٣٥) ، عن أبي المتوكل الناجي عنه قال : «كان رسول الله إذا قام من الليل كبر ، فذكر استفتاحه بسبحانك اللهم ، وبالتهليل والتكبير بعده ثلاثا ، أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ونفخه ونفثه ثم يقرأ». ـ

٤٩١

وقال بعضهم : همزاته ونزغاته : واحد.

وقال القتبي (١) همزات الشياطين : نخسها وطعنها ، ومنه قيل للعائب : همزة ؛ كأنه يطعن ويعيب.

[و] قال أبو عوسجة : همزات الشياطين : وساوسهم ، يقال : همز يهمز همزا ، أي : وسوس ، ومن وجه آخر : همز يهمز همزا ، أي : عاب يعيب ، ومنه قوله : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة : ١].

ثم في قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) إلى آخر ما ذكر وجهان على المعتزلة :

أحدهما : أنه أمر رسوله أن يتعوذ به مما ذكر ؛ فدل أن عنده لطفا لم يعطه : ما لو أعطاه الله لدفع به ما ذكر وأنه مالك لذلك ؛ إذ لو كان غيره مالكا لذلك يخرج السؤال به مخرج الهزء به ؛ إذ من طلب من آخر شيئا يعلم أنه ليس عنده ذلك خرج ذلك الطلب مخرج الهزء به ؛ فعلى ذلك هذا.

والثاني : أن كل مأمور بالتعوذ جعل الله له [الإعاذة مما يتعوذ منه].

فالوجهان جميعا ينقضان على المعتزلة في قولهم : إن الله قد أعطى كلا الأصلح في الدين ، وأعطى كلا العصمة عن كل زيغ وضلال.

قوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٠٥) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (١٠٧) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (١٠٨) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (١٠٩) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (١١٠) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (١١١) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (١١٢) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (١١٣) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١٤) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ

__________________

ـ وأخرجه البيهقي (٢ / ٣٥ ، ٣٦) ، عن جبير بن مطعم وابن مسعود بنحوه ، وأخرجه أحمد (٥ / ٢٥٣) ، عن أبي أمامة بنحوه.

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن (٣٠٠).

٤٩٢

(١١٥) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)(١١٦)

وقوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ).

ظاهر هذا أن يكون قوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ) بعد الموت ، وبعد ما عاين أهوال الآخرة وأفزاعها ؛ لأن الموت ليس هو شيء يأتي من مكان إلى مكان ؛ إنما هو شيء يذهب بالحياة التي فيهم ، إلا أن أهل التأويل (١) قالوا : إن ذلك عند معاينتهم ملك الموت ، وعند هجومه عليهم بأهواله ؛ فعند ذلك يسألون الرجعة إلى الدنيا ، والأول أشبه وأقرب.

ثم قوله : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) : ليس هو صلة قوله : (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) ، ولا جوابه ؛ لأنه ليس من نوعه ، ولا من جنس ذلك ، ولكنه ـ والله أعلم ـ صلة قوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ، وجواب قوله : (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) ، ونحوه الذي تقدم ذكره ، يقول : وإنهم على ذلك (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) ، فعند ذلك يرجع إلى الحق والتصديق ، لكن ذلك لا ينفعه في ذلك الوقت (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) ، ولم يقل : ربّ ارجعني ، وذلك يخرج على وجهين :

أحدهما : سأل على ما يسأل الملوك ويخاطبون : افعلوا كذا ، على الجماعة ، وإن كان إنما يخاطب واحدا ؛ على ما خرج جواب الله وقوله : إنا فعلنا كذا ، ونفعل كذا.

والثاني : أن يكون قوله : (رَبِّ ارْجِعُونِ) : يسأل ربه أن يأمر الملائكة الذين يتولون قبض أرواحهم أن يرجعوه إلى ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله : (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ).

قال بعضهم : (فِيما تَرَكْتُ) ، أي : فيما كذبت.

وقال بعضهم : (فِيما تَرَكْتُ) : في الدنيا من الأعمال الصّالحة فأعمل بها.

وجائز أن يكون قوله : (فِيما تَرَكْتُ) : من الأموال فأؤدي منه حقك ؛ لأن من الكفرة ما كان سبب كفرهم منع الزكاة وجحودها ؛ كقوله : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) [فصلت : ٦ ، ٧] فيسأل ربه أن يرجع إلى المال الذي تركه ؛ ليؤدّي الحق الذي كان فيه فمنعه ، كقوله : (فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) [المنافقون : ١٠] ، وقوله : (فَأَصَّدَّقَ) ، أي : فأتصدق بالصدقة التي منعتها ؛ لأن الخطاب في الصدقة بقوله : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ ...) الآية [البقرة : ٢٥٤] ، وهذا أشبه ، والله أعلم.

وقوله : (كَلَّا) ، هو ردّ لما سألوا من الرجعة.

__________________

(١) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٦٥١) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٨).

٤٩٣

[و] قوله : (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها).

قال بعضهم : قوله : (إِنَّها كَلِمَةٌ) : هو قول الله : (وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً ...) الآية [المنافقون : ١١] ، (قائِلُها) : يعني الكافر عند معاينة العذاب ، وهو قوله : (ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ).

ثم قوله : (كَلَّا) على هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه لا حقيقة لسؤاله الذي يسأله من الرجعة ليعمل العمل الصالح ، أي : أنه وإن ردّ ورجع لا يعمل ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨].

والثاني : أن لا منفعة لهم في سؤالهم الرجعة ؛ إذ لو رجعوا لا يصلون إلى ما يأملون ؛ لأنهم إنما يسألون ليؤمنوا ، والإيمان سبيله الاستدلال ، فإذا لم يستدلوا به وقت أمنهم وفسحتهم ؛ فكيف يقدرون على الاستدلال في وقت خوفهم؟! والله أعلم.

وقوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ).

قال بعضهم : وراءهم ، أي : أمامهم.

قال أبو معاذ : مشتقة من تواريت عنك ، فكل ما توارى عنك أمامك كان أو وراءك فهو وراءك.

وقال بعضهم (١) : (وَمِنْ وَرائِهِمْ) : على حقيقة الوراء.

(بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) ، قال بعضهم : البرزخ : هو ما بين شيئين.

وقال بعضهم : البرزخ : هو الأجل بين الموت والبعث ، وهو قول الكلبي وقتادة (٢).

وقال مجاهد (٣) : البرزخ : هو حاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا.

وقال القتبي وأبو عبيدة (٤) : البرزخ : ما بين الدنيا والآخرة ، وقالا : كل شيء بين شيئين فهو برزخ.

وقال أبو عوسجة : البرزخ : ما بين الحدين ، يعني : الدنيا والآخرة ، الأرض المستوية ، وأصل البرزخ : الحاجز بينه كقوله : (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) [الفرقان : ٥٣] ، أي : حاجزا ، وتأويله ، أي : صاروا إلى الوقت الذي يحجزهم عما يتمنون ويشتهون ، وهو كقوله : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) ، وإنما يشتهون ويتمنون الإيمان والأعمال الصالحة.

وجائز أن يكون قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) ، أي : من ورائهم أحوالهم [أي : الحال

__________________

(١) قاله سفيان بن حسين ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٩).

(٢) أخرجه عبد بن حميد عنه بنحوه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٩).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٥٦٥٨ ، ٢٥٦٥٩ ، ٢٥٦٦٠) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٩).

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن (٣٠٠) ، ومجاز القرآن (٢ / ٦٢).

٤٩٤

التي طلبوا] الإيمان فيه أحوال لا يمكن فيها الإيمان وما تمنوا من العمل الصالح ، والله أعلم.

وفيه نقض قول الباطنية ؛ لأنهم يقولون : البرزخ هو أن يجعل للمؤمن من الأعمال الصالحة صورة روحانية تبقى أبدا تثاب تلك الصورة الروحانية من الأعمال ، وأن يجعل من الأعمال السيئة للكافر صورة قبيحة روحانية هي تعاقب وتعذب أبدا ، فذلك البعث عندهم ، فأخبر ـ عزوجل ـ أن بين موتهم وبين البعث : البرزخ ، وهو الأجل الذي ذكرنا ، أو الحاجز ؛ فدل ذلك على نقض قولهم : أن ليس البعث إلا خروج الصورة دون المعاينة.

وقوله : (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ).

إن كان قوله : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) في الناس كلهم ؛ فذلك في اختلاف المواطن ، على ما قال ابن عباس (١) وغيره من أهل التأويل ، واختلاف الأوقات : لا يتساءلون في موطن أو في وقت ، ويتساءلون في وقت آخر ؛ ألا ترى أنه قال : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الصافات : ٢٧] ، ونحوه.

وإن كانت الآية في [أهل] الكفر خاصّة فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) ؛ لأنه كان يتناصر بعضهم ببعض على غيرهم ، ويستعين بعضهم بعضا ، ويكونون ردءا لهم في هذه الدنيا وشفعاء وأعوانا وأنصارا ، فأخبر أن ذلك ينقطع بينهم ويذهب ذلك التناصر عنهم في الآخرة ، والعرب خاصّة كان يتفاخر بعضهم على بعض بالأنساب ويتناصر ؛ فأخبر أن ذلك منقطع عنهم في الآخرة (٢).

والثاني : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) وما ذكر (يَوْمَئِذٍ) ؛ لشغلهم بأنفسهم ؛ لفزع ذلك اليوم وأهواله ينسى بعضهم بعضا ويهرب منه ، كقوله : (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ...) الآية [إبراهيم : ٤٣] ، وقوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ...) الآية [عبس : ٣٤] ، وقال في آية أخرى : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى ...) الآية [الحج : ٢] ، فذلك كله ؛ لشدة أهوال ذلك اليوم وأفزاعه كأن لكل في نفسه شغلا حتى لا يتفرغ إلى أحد وإن قرب عنه لشغلهم بأنفسهم.

وإن كان في الناس جميعا فهو ما ذكرنا أن ذلك يكون في اختلاف المواطن والأوقات : يسألون في وقت ولا يسألون في وقت ، ويسألون في موطن ولا يسألون في موضع ، أو

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٥٦٦٥ ، ٢٥٦٦٦ ، ٢٥٦٦٧) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٣٠).

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ٢٥٨ ، ٢٥٩).

٤٩٥

يسألون عن شيء ولا يسألون عن آخر ، وروي [في] الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «كلّ نسب كان فهو منقطع إلا نسبي» (١) أو كلام نحو هذا ، ثم يحتمل قوله : «إلا نسبي» وجهين :

أحدهما : الشفاعة له في أنسابه ، لا يكون ذلك لغيره في نسبه ؛ فإذا أراد هذا فهو على حقيقة نسبه.

والثاني : أراد بقوله : «إلا نسبي» : المعين له في دينه ؛ لأن كل من اتبعه فقد انتسب إليه ؛ فكأنه قال : إن كل [ذى] شفاعة دوني فهو منقطع إلا شفاعتي ، فيمن اتبعني وانتسب إلي بقبوله ديني.

وقوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

جائز أن يكون قوله : (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) ، أي : من عظم قدره ومنزلته عند الله بالأعمال التي عملوها من الصالحات والحسنات فهو من المفلحين ، ومن خفت منزلته وقدره عند الله بالأعمال الخبيثة السيئة فهو من الذين خسروا أنفسهم ، والله أعلم.

وقد ذكرنا أقاويل أهل التأويل في الموازين فيما تقدم.

وقوله : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ).

قال بعضهم (٢) : لفحتهم النار لفحة ؛ فلم تدع لحما على عظم إلا ألقته.

(وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) ، قال بعضهم (٣) : عابسون.

وقال بعضهم : تلفح ، أي : تنفح.

وقال بعضهم : تلفح : تشوي وتحرق ، وذلك عادة النار أنها تعمل كل هذا العمل.

وقال أبو عوسجة : تلفح ، أي تضرب ، واللفح : الضرب ، يقال : لفحته النار ، أي : ضربته ؛ فأحرقت وجهه ، تلفح لفحا فهي لافحة.

__________________

(١) أخرجه أحمد والطبراني والحاكم والبيهقي في سننه عن المسور بن مخرمة ، وأخرجه ابن عساكر عن ابن عمر ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٠).

(٢) في هذا المعنى ورد حديث مرفوع :

أخرجه ابن أبي حاتم والطبراني في الأوسط وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣١) ، ولفظه : «إن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقتهم بعنق ، فلفحتهم لفحة فلم تدع لحما على عظم إلا ألقته على العرقوب».

وأخرجه ابن مردويه والضياء في صفة النار عن أبي الدرداء مرفوعا بنحوه وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن ابن مسعود موقوفا كما في المصدر السابق.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٥٦٧٤) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣١). وينظر : اللباب (١٤ / ٢٦١).

٤٩٦

والكالح : العابس.

وقوله : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ).

كذلك كانوا يكذبون ، وقد ذكرناه في غير موضع.

وقوله : (قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا).

أما ما قال أهل التأويل : غلبت علينا من الشقاوة فإنه لا يحتمل ؛ لأنهم يقولون ذلك القول ؛ اعتذارا لما كان منهم من التفريط في أمره والتضييع ؛ فلا يحتمل أن يطلبوا لأنفسهم عذرا فيما كان منهم ؛ إذ لو كان ما ذكر أولئك لكان في ذلك طلب العذر لأنفسهم ، وهم في ذلك الوقت لا يطلبون عذرا لأنفسهم ؛ ولكن يقرون بما كان منهم ؛ كقوله : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) ، لكن يحتمل وجهين :

أحدهما : يقولون : ربنا شقينا بأعمالنا التي عملناها ، وظلمنا أنفسنا ، وكنا قوما ضالين.

والثاني : عملنا أعمالا استوجبنا بتلك الأعمال جزاء ؛ فنحن أولى بذلك الجزاء ، فغلب علينا جزاء تلك الأعمال ، أو كلام نحو هذا.

وأما ما قاله أولئك من أهل التأويل (١) : (غَلَبَتْ) ، أي : كتبت فهو بعيد ؛ لأنه إنما يكتب ما يفعل العبد وما يعلم أنه يختاره لا يكتب غير الذي علم أنه يفعله ويختاره ، والله أعلم.

قوله : (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ).

قوله : (فَإِنَّا ظالِمُونَ) : ظلم عيان ، وظلم ظاهر ، وإلا قد كانوا أقرّوا بالظلم بقولهم : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ).

وقوله : (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) : قد أقروا بالظلم ، لكنهم أقروا بظلم خبر وظلم سماع ، لا ظلم عيان ؛ فقالوا : (أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) : ظلم عيان ، والله أعلم.

وقوله : (قالَ اخْسَؤُا فِيها).

قال بعضهم (٢) : قوله : (اخْسَؤُا) ، أي : اسكتوا.

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٥٦٧٨ ، ٢٥٦٧٩ ، ٢٥٦٨٠) ، وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣١).

(٢) قاله زياد الخراساني بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٢٥٦٩١) وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٣).

٤٩٧

وقال بعضهم : (اخْسَؤُا) ، أي : ابعدوا فيها.

قال أبو عوسجة : يقال : خسأت فلانا ، وأخسأت ، أي : باعدته ؛ فخسأ ، أي : تباعد.

وقوله : (وَلا تُكَلِّمُونِ).

يحتمل الوجهين :

أحدهما : جائز أن يكون هذا السؤال منهم في أوّل ما أدخلوا ، فقال لهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) فإنكم ماكثون ، أو أن يكون هذا السؤال منهم بعد ما سألوا الملك الموت مرة بقوله : (وَنادَوْا يا مالِكُ ...) الآية [الزخرف : ٧٧] ، وسألوا مرة تخفيف العذاب بقوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ) [غافر : ٤٩] ، فلما أيسوا منه فعند ذلك يسألون ربهم إخراجهم والإعادة إلى المحنة ؛ فقال : (اخْسَؤُا فِيها) ، أي : ابعدوا فيها ولا تكلمون ، أي : يصيرون بحال لا يقدرون على الكلام ؛ لشدة العذاب ؛ فعند ذلك يكون منهم الشهيق والزفير.

وقوله : (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ. فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ).

يخبر ـ عزوجل ـ أولئك الكفرة الذين يسألون الإخراج من النار أنكم قد اتخذتم فريقا من عبادي آمنوا سخريا ، وكنتم منهم تضحكون ؛ يذكر هذا لهم ـ والله أعلم ـ ليكون ذلك حسرة ونكاية.

وقوله (سِخْرِيًّا) اختلف في قراءته : [فقرئ] بكسر السين فهو من الاستهزاء والهزء.

وقال الكسائي : بالرفع والكسر جميعا ، من الاستهزاء ، ولا يقال في العبودة إلا برفع السين ، وقال بعضهم : هما سواء.

وقوله : (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) ، قال بعضهم (١) : حتى أنساكم الهزء بهم عن العمل بطاعتي.

وقيل : أضاف الإنساء إلى الذكر ؛ لأنهم كانوا [عند ما] يذكرهم ويدعوهم إلى ذكر الله يهزءون به ؛ فأضاف إليه ذلك ؛ فكان كإضافة الرجس إلى السورة ؛ لأن ذلك إنما يزداد لهم عند تلاوة السورة ؛ فأضيف ذلك إلى السورة ، وإلا كانت السورة لا تزيد رجسا ؛ فعلى ذلك أضاف الإنساء إلى ذكره ؛ لما عند ذكره ودعائهم إليه يحملهم إلى ذلك ، والله أعلم ، فأضيف إليه.

وقوله : (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا).

__________________

(١) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير (٢٥٦٩٤) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٣).

٤٩٨

أي : إني جزيتهم اليوم الفوز بما صبروا في الدنيا على أذى أولئك الكفرة ، أو على أداء ما أمروا به ونهوا عنه.

أو أن يكون ذلك كقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، ونصره إياهم هو أن صارت لهم عاقبة ، والله أعلم.

وقوله : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

اختلف فيه : قال مقاتل بن سليمان : في القبور.

وقال أبو معاذ : أخطأ مقاتل ، وذلك قول من ينكر عذاب القبر (١) ، وهو قول الجهمية ؛ لأن من كان في عذاب وشدة لا يقتصر المقام فيه كل هذا الاقتصار ، حتى يقول : لبثت يوما أو بعض يوم ؛ بل يزداد له مقام يوم في العذاب على سنة وأكثر ، قال : إلا أن يكون عني ما بين النفختين حين تؤخذ الأرواح فترقد ، فإذا بعثوا استقلوا رقدة ذلك المقدار ؛ بما كانوا قاسوا قبل الرقدة من العذاب في القبور ، إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل.

وجائز عندنا ما قال مقاتل ومحمد بن إسحاق : بأن ذلك يكون في القبر ، وذلك لا يدل على نفي عذاب القبر ؛ لأنهم لا يعذبون في القبور بالعذاب الذي يعذبون في الآخرة ؛ فجائز أن يستقلوا عذاب القبر بعذاب الآخرة ، ويستقصرون ذلك الوقت بعذاب الآخرة لشدته وأهواله ، وذلك جائز في متعارف الخلق أن يكون الرجل في بلاء وشدة ، ثم يزداد له البلاء والشدة ؛ فيستقل ذلك البلاء الذي كان به لشدة ما حلّ به ؛ فعلى ذلك هم : جائز أن يكونوا في عذاب في قبورهم ، لكنهم إذا عاينوا عذاب الآخرة استقلوا عذاب القبر واستقصروه ؛ لشدة عذاب الآخرة.

أو أن يكون عذاب القبر : على النفس الروحاني الدراك الذي يخرج في حال النوم ليس على روح الحياة ، [مثل] النائم يرى نفسه في بلاء وعذاب في نومه ، ويكون في أفزاع ، وكانت نفسه ملقاة في مكان لا علم لها بذلك ولا خبر ، وبها آثار الأحياء ؛ فجائز أن يكون عذاب القبر على هذا السبيل على الروح التي بها يدرك الأشياء ، لا على روح الحياة التي بها يحيا.

وقال قائلون (٢) : ذلك في الدنيا : استقلوا حياة الدنيا لحياة الآخرة ، وهو كقوله : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة : ٣٨] ؛ ألا ترى أنه قال : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) : هذا يدل على أن ذلك في الحياة الدنيا أشبه ؛ حيث أمر أن يسأل الذين يعدون ،

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٢٦٩).

(٢) قاله ابن جرير (٩ / ٢٥٢).

٤٩٩

وذلك إنما يكون في الدنيا لا في الآخرة.

ثم اختلف في العادين : قال بعضهم (١) : هم الملائكة الذين يكتبون أعمالهم في هذه الدنيا ويرقبونهم.

وقال بعضهم : هم ملك الموت وأعوانه.

وقوله : (قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

أي : ما لبثتم إلا قليلا لو كنتم تعلمون ، ولكن لا تعلمون.

قال القتبي (٢) : (سِخْرِيًّا) بكسر السين ، أي : يسخرون منهم ، و (سِخْرِيًّا) : بضمّها ، أي : يتسخرونهم من السخرية عبثا.

[و] قوله : (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) ، أي : شغلكم أمرهم عن ذكري ، والوجه فيه ما ذكرنا فيما تقدم.

وقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً).

قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ) : يحتمل وجهين :

أحدهما : (أَفَحَسِبْتُمْ) : قد حسبتم أنما خلقناكم عبثا.

والثاني : (أَفَحَسِبْتُمْ) ، أي : لا تحسبوا أنا إنما خلقناكم عبثا.

(وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ).

صير خلقه الخلق لا للرجوع والبعث عبثا ؛ لوجهين :

أحدهما : لأن خلقه إياهم لا لعاقبة تتأمل أو لمنافع تقصد ؛ للهلاك خاصة وللفناء ـ عبث ؛ كبناء المباني لا لمنفعة تقصد به ، ولكن للنقض يكون عبثا في الشاهد ، وهو ما قال في آية أخرى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) [النحل : ٩٢] : سفهها في غزلها للنقض خاصة لا لمنفعة قصدت به ، ونهانا أن نفعل مثل فعلها ؛ فلو لم يكن المقصود من خلق الخلق إلا الموت والفناء خاصة ، لا لعاقبة تقصد ـ كان سفها وعبثا.

والثاني : ما أخبر أنه إنما أنشأ هذا العالم غير البشر لهذا البشر ، وله سخر ذلك كله ؛ حيث قال : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثية : ١٣] ؛ إذ ليس لغير البشر منفعة بهذه النعم التي أنشأها لهم ، من نحو الجن والملائكة ونحوهم ؛ إذ لهم قوام بدون ذلك : من الشمس ، والقمر ، ونحوه من النعم ؛ إنما ذلك للبشر خاصّة ، فإذا كان

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٥٦٩٥ ، ٢٥٦٩٦) ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٣٤).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٣٠٠).

٥٠٠