تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

بذلك شكره.

وفيه دلالة قدرته وسلطانه ؛ حيث أنشأ الشجرة ، وأخرجها من الجبل ، وهو أشد الأشياء وأصلبها ، [وجعل] في تلك الشجرة الدهن ، وهو ألين الأشياء وألطفها ؛ فيخبر أن من قدر على إخراج ألين الأشياء من أشدها وأصلبها لا يعجزه شيء.

وفيه أن لا بأس بقران شيء إلى شيء ، فهو كان جميعا وضم بعضهم بعضه إلى بعض ، ويجمع في الأكل حيث قال : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) هو الإدام.

ثم اختلف في قوله : (طُورِ سَيْناءَ) :

قال بعضهم (١) : الطور : الجبل ، بالسريانية ، والسيناء : الحسن ، بالحبشية.

وقال بعضهم : الطور : الجبل وما ذكر ، والسيناء : الشجرة الحسناء.

وقال بعضهم (٢) : الطور : هو الجبل الذي كلم الله موسى وأوحى إليه ، والشجرة : هي شجرة الزيتونة.

وقال بعضهم : السيناء : الحجارة. وقال بعضهم : الطور : السيناء المبارك بما أوحى على موسى.

وقال بعضهم (٣) : الطور : الجبل ، والسيناء : شجر حوله.

وفي حرف ابن مسعود (٤) وحفصة : وشجرة تخرج من طور سيناء تخرج الدهن وصبغ الآكلين.

قال بعضهم : تخرج الثمر.

قال أبو معاذ : أنبت النبات ونبت : لغتان ؛ كقولك : أسرى وسرى.

وقال زهير : حتى إذا أنبت البقل.

قال الكسائي : تقول : خرجت بزيد وأخرجت زيدا ، ولا تقول : أخرجت بزيد ، إلا أن تقول : أخرجت بزيد عمرا.

قال القتبي (٥) : (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) مثل الصباغ كما يقال : دبغ دباغا ، ولبس لباسا.

وقال أبو عوسجة : (وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ) ، أي : الصباغ ، وهو ما اصطبغت به من شيء ،

__________________

(١) قاله قتادة ، والضحاك بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٥٤٧٩ ، ٢٥٤٨٠) وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٤).

(٢) قاله ابن عباس وابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٥٤٨١ ، ٢٥٤٨٢) وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٤).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه عبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١١٤).

(٤) انظر : تفسير ابن جرير (٩ / ٢٠٨).

(٥) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٩٦).

٤٦١

أي : غمرته فيه.

وقوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها).

في سورة النحل (مِمَّا فِي بُطُونِهِ) [٦٦] قال بعضهم : إنما ذكره على الفرد والوحدان ، وفيما ذكره على التأنيث على الجمع.

وقال بعضهم : فيما ذكره بالتذكير أراد به جنسا من الأنعام مما في بطونه ، وهذا أشبه ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

ثم قوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) وجه العبرة فيها من وجوه :

أحدها : ما قال ابن عباس ، وهو ما ذكر ـ عزوجل ـ : (مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ...)(١) الآية [النحل : ٦٦] ؛ ففي ذلك عبرة ودلالة على وحدانيته وربوبيته وعلمه وقدرته وتدبيره ولطفه ؛ إذ ليس شيء منها إلا وفيها دلالة وحدانيته وربوبيته ، ودلالة علمه وقدرته وتدبيره.

وفيه أنه لم ينشئ هذه الأنعام لأنفسها ، ولكن أنشأها للبشر ؛ حيث أخبر أنه سخرها لهم ؛ ليمتحنهم بها.

ثم اختلف في الأنعام :

قال مقاتل : الأنعام : كل شيء يؤكل لحمه ويشرب لبنه ، وما لا يؤكل لحمه ولا يشرب لبنه ـ فليس من الأنعام.

وقال أبو معاذ : إن من الأنعام ما لا يؤكل لحمه ولا يشرب لبنه.

وقال بعضهم : الأنعام : كل بهيمة حتى الوحش.

والأشبه أن تكون الأنعام هي الإبل ، ولكنا لا نعلم حقيقته ؛ إنما هو اللسان ، فهو على ما يسميه أهل اللسان.

وقوله : (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ).

قيل : من الحمولة وغيرها ، وقد ذكرنا هذا في سورة النحل.

وقوله : (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ).

يذكرهم نعمه فيما سخر لهم من الأنعام والسّفن ؛ ليتأدى به شكره (٢).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٢٣) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ

__________________

(١) ذكره ابن جرير (٩ / ٢٠٩) ولم ينسبه لأحد.

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ١٩٤).

٤٦٢

لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (٢٥) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٢٦) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٢٧) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٨) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٢٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)(٣٠)

وقوله : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

يردّد ـ عزوجل ـ أنباء أولي العزم من الرسل وأخبارهم ، ويكررها على رسول الله ؛ ليكون أبدا يقظانا منتبها ، ويعرف أن كيف عامل أولو العزم قومهم ، وكيف صبر أولو العزم من الرسل على أذى قومهم وتكذيبهم إياهم ؛ ليعامل هو قومه مثل معاملتهم ، ويصبر هو على أذى قومه ؛ على ما صبر أولئك على أذى قومهم وتكذيبهم إياهم ؛ لهذا ما يردّد ويكرر أنباءهم عليه ، ويعرف قومه ـ أيضا ـ ألا يظفروا بما يأملون من تكذيبهم العاقبة ؛ بل العاقبة تصير له على ما صارت لأولي العزم من الرسل لا لقومهم ، والله أعلم.

وقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) ، يحتمل وجوها :

أحدها : (أَفَلا تَتَّقُونَ) مخالفة الله ومخالفة رسوله.

أو (أَفَلا تَتَّقُونَ) عذابه ونقمته ووعيده.

أو (أَفَلا تَتَّقُونَ) عبادة غير الله.

وقوله : (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ).

هذا الذي قالوا : هو تناقض ؛ لأنهم قالوا : إنه بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم بما ادعى من الرسالة والإجابة له إلى ما دعاهم ، ثم هم ـ أعني : الرؤساء منهم والقادة ـ ادعوا لأنفسهم الفضل بما استتبعوا هم السفلة ، وطلبوا منهم الموافقة لهم والإجابة ، وهم بشر أمثالهم ؛ فذلك تناقض في القول ، ثم أقروا بتفضيل بعض الخلق على بعض ، وعرفوا قدرة الله على ذلك ؛ حيث قالوا : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً).

فإن قدر على تفضيل الملائكة على البشر ، قدر على تفضيل بعض البشر على بعض ، ثم أخبر عن نوح أنه لا يريد بما ادعى من الرسالة التفضل عليهم ؛ ولكن يريد النصح لهم والإشفاق عليهم ؛ حيث قال : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) [هود : ٣٤] ،

٤٦٣

وقال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الأعراف : ٥٩] ، (عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) [الشعراء : ١٨٩] ، ونحو ما قال ؛ أخبر أنه إنما أراد النصح والشفقة لا التفضل الذي قالوا هم.

وقوله : (ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ).

هذا قولهم ، وقد كذبوا في قولهم.

وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ).

قد عرفوا أن ليس به جنون ؛ ولكن أرادوا التلبيس والتمويه على قومهم ؛ حيث خالفهم في جميع أمورهم ، وعادى الرؤساء منهم والقادة ، ويقولون : ما يفعل هذا إلا لجنون فيه وآفة أصابته في عقله ، وإلا : عرفوا هم في أنفسهم ـ أعني : القادة ـ أنه ليس بمجنون ؛ ولكن أرادوا التمويه على قومهم ، ثم قالوا : (فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ).

لسنا ندري ما أرادوا بالحين : أرادوا الموت؟ أو وقت ارتفاع ما قالوا فيه من الجنون؟ أو أرادوا وقتا آخر.

قال مقاتل : يريد أن يتفضل عليهم بالرسالة ، وليس [له] عليكم فضل في شيء فتتبعونه.

وقوله : (ما سَمِعْنا بِهذا).

قال بعضهم : أي : بالعذاب في آبائنا الأولين.

ويقال : ما سمعنا التوحيد في آبائنا الأولين ، كما يدعو نوح.

وقوله : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ).

لم يدع عليهم بأول ما كذبوه ؛ ولكن إنما دعا عليهم بعد ما أيس من عودهم إلى تصديقه ، وهو ما قال : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠].

وقال أهل التأويل : (انْصُرْنِي) : بتحقيق ما وعدت لهم من العذاب ؛ فإنه نازل بهم في الدنيا وعذابهم (بِما كَذَّبُونِ) : في قولي بأن العذاب نازل بهم في الدنيا.

أو أن يكون قوله : (انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ) ، أي : اجعل لي الظفر عليهم بالتكذيب ، ونحوه.

وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا).

قال بعضهم (١) : بمنظر منا.

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (٩ / ٢١٠).

٤٦٤

وقال بعضهم (١) : بمرأى منا.

وجائز أن يكون ـ صلوات الله عليه ـ ظن لما أمر باتخاذ الفلك : أنهم لا يتركونه أن يتخذ الفلك ؛ فأخبره ـ عزوجل ـ : أنك تتخذه بحيث تراه ، وننصرك عليهم بحيث لا يملكون منعك عن اتخاذها.

وقوله : (وَوَحْيِنا) ، أي : بأمرنا.

وقوله : (فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) ، أي : إذا جاء الموعود بأمرنا وفار التنور.

أو أن يقول : إذا جاء وقت أمرنا بالعذاب وفار ما ذكر ، أي : خرج الماء من التنور وظهر.

وقوله : (فَاسْلُكْ فِيها).

قيل : أدخل فيها ، يقال : سلكت ، وهو الإدخال ؛ كقوله : (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) [القصص : ٣٢] ، أي : أدخل.

وتفسير (أَسْئَلَكَ) : ما ذكر في آية أخرى : (قُلْنَا احْمِلْ فِيها) [هود : ٤٠].

وقوله : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ).

يحتمل أن يكون قوله : (اثْنَيْنِ) نعتا لقوله : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) : من الذكر والأنثى.

وجائز أن يكون قوله : (مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) ، أي : من كل زوجين عددين لونين : [أبيض] وأسود ، وطيب وخبيث.

وقوله : (وَأَهْلَكَ) ، أي : احمل أهلك ـ أيضا ـ في السفينة.

وقوله : (إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ).

بالعذاب والهلاك ، وقد ذكرنا هذا في سورة هود.

وقوله : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ).

اختلف فيه :

قال قائلون : إنما نهاه عن مخاطبته الذين ظلموا ؛ حيث قال : (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود : ٤٥] ، [نهاه] أن يسأله ؛ فإن كان على هذا [فقوله] : (وَلا تُخاطِبْنِي) ، أي : لا تراجعني الكلام [في] الذين ظلموا.

وقال قائلون : قوله : (وَلا تُخاطِبْنِي) في الذين ظلموا في جميع ظلمة قومه ؛ (إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) ؛ وإن كان على هذا فهو نهي عن ابتداء السؤال في نجاتهم ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (٩ / ٢١٠).

٤٦٥

وقوله : (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ) من المؤمنين (عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

هكذا الواجب على كل من أنجاه الله من الظلمة أن يحمد ربه على ذلك ويسأله النجاة إذا ابتلي بهم ؛ كما علم نوحا أن يقول ما ذكر ويحمده على النجاة منهم ، وكما قال موسى حين خرج من عندهم خائفا : (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [القصص : ٢١] ، وكما سألت امرأة فرعون النجاة من فرعون وقومه حين قالت : (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [التحريم : ١١].

ثم علمه ربّه أن يسأله الإنزال في منزل مبارك ؛ حيث قال : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ).

ثم يحتمل سؤاله المنزل المبارك : جميع الخيرات والحسنات وعمل الصالحات.

ويحتمل سؤاله المنزل المبارك : الموضع الذي فيه السعة والخصب ؛ على ما قاله بعض أهل التأويل ، المبارك بالماء والشجر وغيره ؛ فإن كان هذا ففيه دلالة إباحة سؤال السعة والخصب ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ).

قال قائلون (١) : قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) ، أي : في هلاك قوم نوح وإغراقهم لآيات لمن بعدهم ، (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) بآيات ؛ تفضلا منا وإحسانا سوى ذلك.

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن قوله : (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) : بسور الآيات التي كانت ؛ وجائز في اللغة (إن) بمعنى (ما).

ويحتمل وجها آخر : وهو أن قوله : (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) ، أي : وقد كنا لمبتلين ، أي : قد ابتلاهم قبل إهلاكه إياهم ، ولسنا نعرف ما حقيقة هذا الكلام وما مراده ، والله أعلم.

وقال القتبي (٢) : (فَاسْلُكْ فِيها) ، أي : أدخل فيها ، يقال : سلك الخيط في الإبرة وأسلكته ، وقال أبو عبيدة كذلك.

وقال أبو عوسجة : (وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ) : هذا من الابتلاء ، أي : اختبار ، ومن البلاء : مبلون.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٣١) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣٢) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (٩ / ٢١١).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٩٧).

٤٦٦

مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٣٤) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (٣٥) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (٣٦) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٣٧) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (٣٨) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (٣٩) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (٤٠) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٤١)

وقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ).

قيل : من بعد قوم نوح قرنا آخرين : عادا وغيرهم.

(فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ).

قالوا : هودا.

(أَنِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ).

جميع الأنبياء والرسل إنما بعثوا بالدعاء إلى توحيد الله ، وجعل العبادة له.

وقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ).

مخالفته ، أو عبادة من دونه ، وجميع معاصيه ، على ما ذكرنا من قبل.

وقوله : (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ).

أي : بالبعث.

(وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

قال بعضهم : أترفناهم ، أي : بسطنا لهم في الدنيا حتى ركبوا المعاصي.

وقال بعضهم : المترف : الغني الطاغي.

وقوله : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ. وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ ...) الآية.

قد ذكرنا فيما تقدم أنهم تناقضوا في قولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ...) إلى قوله : (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) ؛ لما أنهم منعوا الأتباع عن أن يتبعوا الرسول ويطيعوه ؛ لأنه بشر مثلهم ، ثم طلبوا منهم الطاعة لهم والاتباع في أمورهم ، وهم بشر أمثالهم ؛ فذلك تناقض في القول وفساد (١).

وقوله : (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ. هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ).

قال بعضهم (٢) : قوله : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) : استبعاد الأمر وإنكاره ، أي : بعيدا بعيدا ، أي : أمر لا يكون.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٢١٣ ، ٢١٤).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٥٤٩١) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٦).

٤٦٧

وقوله : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا).

إن كان هذا القول من الثنوية والدهرية فقوله : (نَمُوتُ وَنَحْيا) : هم بأنفسهم ؛ لأنهم يقولون : يموت الإنسان فيحيا غيره من البقر والحمر وغيره من تراب إذا أكل.

وإن كان هذا القول من غير الثنوية فنقول : قوله : (نَمُوتُ وَنَحْيا) ، أي : نموت نحن ويحيا الأبناء.

وذكر في حرف ابن مسعود وأبي : نحيا ونموت وما نحن بمبعوثين.

وقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) هذا قولهم.

وقوله : (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ).

قد ذكرناه.

(قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ).

أي : عما قريب يندمون بالتكذيب عن هذا القول الذي قالوه والإنكار الذي أنكروه ، لا شك في ذلك.

وقال القتبي (١) : (وَأَتْرَفْناهُمْ) ، أي : وسعنا عليهم حتى أترفوا ، والترفة منه ، ومثلها : تحفة ، كأن المترف هو الذي يتحف.

وقال غيره : (وَأَتْرَفْناهُمْ) ، أي : أنعمنا عليهم وبسطنا لهم ؛ فكله يرجع إلى واحد.

قال أبو عوسجة : قوله : (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) هذا تبعيد للأمر ، أي : أنه أمر بعيد ؛ على ما ذكرنا أنه لا يكون.

وقوله : (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِ).

قد ذكرناه.

وقوله : (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً).

قال بعضهم : الغثاء : اليابس الهامد كنبات الأرض إذا يبس.

وقال بعضهم (٢) : الغثاء : هو الذي يحمله السيل بالموج.

[و] قال أبو معاذ : (غُثاءً أَحْوى) [الأعلى : ٥] ، أي : أسود.

وقال بعضهم (٣) : غثاء ، أي : موتى.

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩٧).

(٢) قاله مجاهد وابن جريج ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٥٤٩٥ ، ٢٥٤٩٦) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٦).

(٣) قاله ابن عباس بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٤٩٤) وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٦).

٤٦٨

وجائز أن يكون تأويل قوله : (غُثاءً) ، أي : كالشيء المنسيّ الذي لا يذكر البتة ؛ لأن أولئك الفراعنة والأكابر إذا هلكوا لم يذكروا البتة ، و [لا] افتخر أحد من أولادهم بهم من بعد الهلاك ، كما افتخر أولاد الأنبياء والرسل والصالحين بآبائهم وأجدادهم من بعدهم ، وصاروا مذكورين إلى أبد الآبدين ، فأما أولئك : صاروا خاملي الذكر كالشيء الخسيس المنسي المتروك.

وقوله : (فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) ، الغثاء : ما ذكرنا على قول بعضهم كالريم الهامد الذي يحمله السيل ، [و] على قول بعضهم : هو كالشيء البالي المتغير.

وعلى [قول] بعض : الغثاء : ما ارتفع على الماء مما لا ينتفع به ، وكله واحد.

وقال القتبي (١) : غثاء ، أي : هلكى كالغثاء ، وهو ما على السيل من الزبد والقش ؛ لأنه يذهب ويتفرق.

[و] قال أبو عوسجة : الغثاء : ما يحمله السيل من العيدان والبعر والأغشية جميعا ، والغثاء : حميل السيل.

ثم ذكر أنفس قوم عاد وثمود ، وشبهها بما ذكر من الغثاء ، وكذلك يذكر أنفس جميع أهل الشرور والفساد ، وذكر في أهل الخير أعمالهم لا أنفسهم ؛ لأن لهم أعمال الخير والصلاح ؛ فتجعل أنفسهم حيّة بالأعمال ؛ كقوله : (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) [سبأ : ١٩] جعل أعمالهم أحاديث فيما بينهم ، وأما أهل الكفر والشر فإنه لا أعمال لهم تذكر ؛ فتذكر أنفسهم بعدا وسحقا.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (٤٢) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٤٣) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(٤٤)

وقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) ، قيل : من بعد قوم عاد وهؤلاء.

(قُرُوناً آخَرِينَ. ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ).

كأنه ذكر هذا لما كانوا يستعجلون العذاب الموعود والهلاك الذي أوعدوا ؛ فأخبر أن لكل أمّة أجلا : لا تسبق أجلها باستعجال من يستعجل ، ولا يستأخرون أجلها الذي جعل لهم.

وقوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا).

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٩٧).

٤٦٩

قال بعضهم (١) : (تَتْرا) تباعا ، واحدا بعد واحد ، وبعضا على أثر بعض.

(كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً).

في الهلاك الأول فالأول.

(وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ).

لمن بعدهم ولمن بقي منهم ، يعني : الذين أهلكوا.

(فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ).

قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٤٥) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (٤٦) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (٤٧) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (٤٨) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٤٩) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (٥٠) يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٥١) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (٥٢) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(٥٣)

[قوله :](ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى).

قد ذكرناه.

(فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ).

كقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤].

وقال بعضهم : متكبرين ومتجبرين.

قال أبو عوسجة : هو من العلوّ ، ليس من التعالي ، والتعالي لا يوصف به الخلق.

قال القتبي (٢) : (تَتْرا) ، أي : تتابع بفترة بين كل رسولين ، وهو من التواتر ، والأصل : (وترى) ، فقلبت الواو تاء ؛ كما قلبوها في (التقوى) و (التخمة) و (التكلان).

وقال أبو عوسجة : (تَتْرا) بعضهم على أثر بعضهم ، وهو من المتابعة.

وفي قوله : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) دلالة أن أهل الفترة ، ومن كان فيما بين بعث الرسل ـ لا عذر لهم في شيء ؛ لإبقاء الحجج والبراهين قبل أن يبعث آخر وحسن آثارهم وأعلامهم ـ أعني : آثار الرسل وأعلامهم ـ أخبر أنه أرسل الرسل تباعا : بعضا على [إثر] بعض ، وإن كان بين بعثهم فترة ؛ لما أبقى الحجج والبراهين وآثار الرسل وأعمالهم ،

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٥٠١ ، ٢٥٥٠٢) ، وعن مجاهد (٢٥٥٠٣ ، ٢٥٥٠٤) وابن زيد (٢٥٥٠٥) وانظر الدر : المنثور (٥ / ١٦ ، ١٧).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٩٧).

٤٧٠

والله أعلم.

وقوله : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ).

قال بعضهم (١) ، تعجب : نرفعهم بعد ما كنا غالبين عليهم؟!! نجعلهم غالبين علينا وكانوا لنا عابدين؟! أي : نرفعهم فوقنا ونكون تحتهم ، ونحن اليوم فوقهم وهم تحتنا ، كيف نصنع ذلك؟! وذلك ـ والله أعلم ـ حين أتوهما بالرسالة.

(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) :

صاروا من المهلكين بالتكذيب.

وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).

يشبه أن يكون حرف (لعل) لموسى ، أي : آتينا موسى الكتاب ؛ لعلهم يهتدون عنده ، و (لعل) حرف رجاء وترج ؛ لكن يستعمل مرة : على الإيجاب والإلزام ، ومرة : على النهي ؛ كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الشعراء : ٣] ، أي : لا تبخع نفسك ، وقوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) [هود : ١٢] أي : لا تترك بعض ما يوحى إليك ، وذلك جار في اللغة ؛ يقول الرجل لآخر : لعلك تفعل كذا ، أي : لا تفعل ، ونحوه ، [و] (لعل) من الله يحتمل الإيجاب والإلزام والنهي ، ومن الخلق : [يحمل] على النهي والترجي ، والله أعلم.

وقوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً).

خص ـ عزوجل ـ عيسى وأمه بأن جعلهما آية ، وجميع البشر في معنى الآية واحد ؛ إذ خلقوا جميعا من نطفة ، ثم حولت النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، إلى آخر ما ينتهي إليه ؛ فيصير إنسانا ؛ فالآية والأعجوبة في خلق الإنسان من النطفة ومما ذكرنا إن لم تكن أكثر وأعظم لم تكن دون خلقه بلا أب ولا زوج وما ذكر ، لكنه خصّهما بذكر الآية فيهما ؛ لخروجهما عن الأمر المعتاد في الخلق ، والعادة الظاهرة فيهم أن يخلقوا من النطفة والأب والتزاوج [والأسباب التي] جعلت للتوالد والتناسل الذي تجري فيما بينهم والأسباب التي جعل للتوالد في الخلق ؛ لخروجهما عن الأمر المعتاد والعادة الظاهرة خصّهما بذكر الآية والأعجوبة في خلق البشر من النطفة ، وما ذكر إن لم يكن أكثر وأعظم لم يكن دونه ، وهو كما خصّ بني إسرائيل بالخطاب بالشكر ؛ لما أنعم عليهم من المن والسلوى ، ولما أنجاهم من آل فرعون بقوله : (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [إبراهيم : ٦] ، وقال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)

__________________

(١) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٥٠٧) وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٧).

٤٧١

[البقرة : ٤٧] ، وقد كان عليهم من النعم ما هو أعظم وأكثر مما ذكر من المنّ والسلوى ونجاتهم من فرعون وآله ، لكنه خصّهم بذكر المنّ والسلوى واستأدى منهم الشكر بذلك من بين سائر النعم ؛ لأنها خرجت عن المعتاد من النعم المعروفة ، وهم كانوا مخصوصين بهذا من بين غيرهم ؛ فعلى ذلك عيسى وأمه : كانا خارجين عن الأمر المعتاد ومخصوصين بذلك ؛ لذلك خصّهما بذكر الآية ، والآية ما ذكر بعض أهل التأويل (١) أنه خلق من غير أب ، ولدته أمه من غير فعل أمثالها.

وقال بعضهم : الآية في عيسى : بأن كلم الناس في المهد صبيّا ، ونحوه : من إبراء الأكمه ، والأبرص ، وإحياء الموتى ، ومثله.

وقوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ).

ذكر أنه آواهما إلى ربوة كما يؤوي الأب والأم الولد إلى مكان يتعيش به ؛ إذ الربوة هي مكان التعيش فيه ؛ ألا ترى أنه ذكر (ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) هو المكان الذي يستقر فيه ويتعيش.

وقوله : (وَمَعِينٍ) ، المعين : هو الماء الجاري الظاهر الذي تأخذه العيون ، وتقع عليه الأبصار.

وقوله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً).

قال عامة أهل التأويل : إنما خاطب بهذا محمدا خاصّة ، على ما يخاطب هو ، والمراد منه : جميع أمته في ذلك.

ولكن جائز أن يقال : خاطب به جميع الرسل ؛ لأنهم جميعا مخاطبون بهذا كله : من أكل الطيبات ، والعمل الصالح ، هذا الخطاب فيه وفي غيرهم ؛ إذ عمهم جميعا بهذا.

ثم الطيبات يحتمل أن يراد بها الحلالات ؛ كأنه قال : كلوا حلالا غير حرام ؛ ألا ترى أنه قال : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) ، أي : اعملوا صالحا ، ولا تعملوا سيئا ؛ فعلى ذلك قوله : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) ، أي : كلوا حلالا ولا تأكلوا حراما : ما خبث.

وفيه أنهم يمتحنون كما يمتحن غيرهم بالأمر والنهي.

ويحتمل ـ أيضا ـ قوله : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) : ما طابت به أنفسكم وتلذذت ، فإن كان على هذا فهو يخرج على الإباحة والرخصة ، ليس على الأمر ، معناه : لكم أن تأكلوا ما تطيب به أنفسكم ، ولكم أن تؤثروا غيركم به على أنفسكم.

وإن كان على الأمر فهو على الأمر يخرج والنهي ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٥٥٠٨) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٧).

٤٧٢

وقوله : (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

ظاهر ، وهو وعيد.

وقوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً).

جائز أن يكون قوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : في الكتب المتقدمة ، وعلى لسان الرسل السالفة ؛ كقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] ، أي : كنتم خير أمة في الكتب المتقدمة وفي الأمم الماضية ؛ فعلى ذلك هذا.

وقال بعضهم (١) : قوله : (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ، أي : دينكم دين واحد ، وملتكم ملة واحدة ، وهي الإسلام.

وقال بعضهم : لسانكم لسان واحد.

وجائز أن يكون قوله : (أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) : لا تختلفون في رسولكم إلى يوم القيامة ، كما اختلف الأمم الذين من قبلكم في رسلهم ؛ بل تجعلوا رسولكم رسولا على ما هو عليه ، وأما سائر الأمم فإنهم قد فرطوا فيهم ؛ حتى كان فيهم [من] جعل الرسول ابنا له ؛ كقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ، والنصارى ، وأما هؤلاء فإنهم لا يزالون على أمر واحد ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) ، وقال في آية أخرى : (فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء : ٢٥] : جائز أن يكونا واحدا ، وجائز أن يكون قوله : (فَاتَّقُونِ) أي : مخالفتي ، (فَاعْبُدُونِ) ، أي اعبدوني وأطيعوني.

وقوله : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً).

قال بعضهم : (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ) و (قطعوا) واحد ، وهما لغتان ؛ [نحو] : تفرقوا وفرقوا.

(زُبُراً) : برفع الباء ، وزبرا بنصب الباء ، قال أبو معاذ : من قرأ بالنصب : زبرا ؛ فمعناه : قطعا ؛ كقوله : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) [الكهف : ٩٦] ، و (زُبُراً) بالرفع ، أي : كتبا ؛ كقوله : (تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ) [الأنعام : ٩١] ، وقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) [البقرة : ٧٩] ، ونحوه.

وقال في حرف ابن مسعود وأبي : وقطعوا الزبور بينهم.

قال أبو معاذ : (قطعوا) و (تقطعوا) : لغتان ؛ كقيلك : علقت الشيء وتعلقته ، وحولت وتحولت ، ووليت وتوليت ، ونحوه كثير.

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٠) ، وعن ابن جريج بنحوه أخرجه ابن جرير (٢٥٥٣٢).

٤٧٣

[وقوله :](كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ).

راضون أو مسرورون بما لديهم من الدين ، أو ما ذكرنا.

قوله تعالى : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (٥٤) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ)(٥٦)

[وقوله :](فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) ، وقال في آية أخرى : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) [الزخرف : ٨٣] ، وقال : (وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الأنعام : ١١٠] ، فذلك يحتمل وجوها :

أحدها : قال ذلك عند الإياس عن إجابتهم لما علم أنهم لا يؤمنون ، وذلك في قوم مخصوصين ؛ كأنه قال : ذر هؤلاء ، وأقبل [على] هؤلاء الذين يقبلون أمرك ، ويجيبون دعاءك ويسمعونه.

والثاني : فذرهم في غمرتهم ، ولا تكافئهم حتى أنا أكافئهم ؛ كقوله : (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) [الطور : ٤٥].

والثالث : أمره أن يعرض عنهم ؛ لئلا يخوضوا في سب الله والطعن في الآية ، كقوله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا ...) الآية [الأنعام : ٦٨].

وقوله : (حَتَّى حِينٍ) : يحتمل القيامة ، ويحتمل وقتا آخر لم يبين ، والله أعلم.

قال أبو عوسجة : قوله : (إِلى رَبْوَةٍ) : المكان المرتفع (١) ، و (آويته) ، أي : أويته.

وقال القتبي (٢) : الربوة : الارتفاع ، وكل شيء ارتفع أو زاد فقد ربا ، ومنه الربا في البيع.

قال أبو معاذ : للعرب في الربوة أربع لغات : ربوة وربوة وربوة ورباوة.

وقوله : (ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) ، قال أبو عوسجة : المعين : الماء الظاهر الجاري (٣) ، والقرار : الثبات ، وتقول منه : يقر قرارا فهو قار ، وأقررته ، أي : أثبته ، وكذلك قال القتبي (٤) ، وقال : معين ماء ظاهر ، وهو مفعول من العين : كان أصله (معيون) ؛ كما يقال : ثوب مخيط ، وبرّ مكيل.

وقوله : (فِي غَمْرَتِهِمْ) ، قيل (٥) : في ضلالتهم [و] غفلتهم.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٧).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٩٧).

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٥٢٣) ، وعن مجاهد (٢٥٥٢٤ ، ٢٥٥٢٥ ، ٢٥٥٢٦) وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٧).

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩٧).

(٥) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٥٤٠) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٠).

٤٧٤

وقال [بعضهم] : الغمر : الماء الكثير ، وغمرة الحرب وسطها ، [و] غمرة الموت : شدته ، [و] رجل غمر ، أي : سخي ، ليس به شح ، وجمعه : غمار ، ويقال : غمره الماء ، أي : صار فوقه. قال [بعضهم] : والغمر : عداوة ، والغمر : الذي لم يجرب الأمور ، وقوم أغمار ، والغمر : الوسم ، والغمرة : الشدة ، والغمرات جمع ، والغمر : القدح الصغير ، والمغامرة : المخاطرة ، تقول : غامر بنفسه ، أي : خاطر بها.

وقوله : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ).

حسب أولئك الكفرة أن ما أمدّ لهم من الأموال والبنين ـ ما أعطى لهم ـ إنما أعطى خيرا لهم وبرّا لا شرّا ، فأخبر ـ عزوجل ـ وكذبهم في حسبانهم الذي حسبوا ، فقال : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أنه إنما أعطى لهم ذلك شرّا ، وإنما مثل ما حسب أولئك الكفرة فيما أعطوا من الأموال والبنين إنما أعطوا خيرا ـ حسب المعتزلة في قولهم : إن الله تعالى لا يفعل بأحد من الخلق إلا ما هو أصلح له في الدين ؛ فأخبر أن ذلك ليس بخير لهم في الدين ولا أصلح لهم ، وهو ما ذكر في قوله : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٨٧] ، وهم يقولون : إنما يملي لهم ليزدادوا خيرا وبرّا.

وكذلك قالوا في قوله : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها) [التوبة : ٥٥] ، وهم يقولون : لا ؛ بل إنما أراد : ليرحمهم بها.

فيقال لهم : أنتم أعلم أم الله؟! كما قال لأولئك الكفرة؟! حيث قال : (أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) [البقرة : ١٤٠] إلا أن يكابروا في قوله : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) ؛ لما أنهم قالوا ذلك على الظن والحسبان ، لا على العلم ؛ حيث قال : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ) ؛ فقال : (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) ؛ حيث قالوا ذلك ظنّا وحسبانا ، وإنما الواجب عليهم أن يعلموا ذلك علم إحاطة ويقين.

فجواب هذا أن يقال : إن عندهم أن ذلك إنما أعطى لهم وأملى خيرا وبرا لهم ؛ فكانوا على يقين من ذلك وإحاطة عند أنفسهم ، وإنما ذلك الظن والحسبان لهم ما عند الله ، وإلا : كانوا على حقيقة العلم عند أنفسهم : أنه إنما أعطاهم ذلك وأمدّ لهم خيرا ؛ فأكذبهم الله في ذلك وردّ عليهم قولهم : إنه إنما أعطاهم ذلك لما ذكروا ؛ بل أخبر أنه إنما أعطاهم ؛ لمضادة ذلك.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي

٤٧٥

الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(٦٢)

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ).

جائز أن يكون هذا موصولا بقوله : (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) ؛ على التقديم والتأخير ؛ فكأنه قال : إنما نسارع في الخيرات للذين هم من خشية ربهم مشفقون إلى آخر ما ذكر لأولئك الكفرة ، جائز أن يكون على الابتداء وصف الذين آمنوا ونعتهم ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) ، أي : من عذاب ربهم خائفون.

وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ).

الإيمان بالآيات يكون إيمانا بالله حقيقة ؛ لأن الآيات هنّ الأعلام التي تدل على وحدانية الله وربوبيته ، والإيمان هو التصديق ، فإذا صدّق آياته ، وهن أعلام وأخبار تخبر عن وحدانية الله ؛ فإذا صدقها صدق الله وآمن به ؛ لذلك قلنا : الإيمان بآياته يكون إيمانا بالله.

وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ).

أي : لا يشركون غيره في عبادتهم.

وقوله : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا).

وفي بعض القراءات : والذين يأتون ما أتوا ، مقصورة ، وهي قراءة عائشة (١).

فمن قرأ : والذين يأتون ما أتوا تأويله ، أي : الذين يعملون من عمل وجلت له قلوبهم ، أي : يتقبل منهم أم لا؟

ومن قرأ : (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) فهو من الإعطاء والإنفاق ؛ يقول : والذين يعطون وينفقون ما أنفقوا ، وقلوبهم وجلة : أن ذلك يقبل منهم أم لا؟

وفيه دلالة أن المطيع فيما يطيع ربّه يكون على خوف منه كالمسيء في إساءته ، وكذلك روي عن عائشة أنها سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن هذه الآية ، قالت : «أهم الذين يشربون الخمر ، ويسرقون ، ويزنون؟ فقال : لا ؛ ولكنهم الذين يصومون ، ويصلّون ، ويتصدقون ، وهم يخافون ألا يقبل منهم (٢) : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٥٥٥٨) وسعيد بن منصور وأحمد والبخاري في تاريخه وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أشتة وابن الأنباري معا في المصاحف والدارقطني في الإفراد والحاكم وصححه وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٢).

(٢) أخرجه الحميدي (٢٧٥) ، وأحمد (٦ / ١٥٩ ، ٢٠٥) ، والترمذي (٣١٧٥) ، وابن ماجه (٤١٩٨) ، وابن جرير (٢٥٥٥٩ ، ٢٥٥٦٠) ، والحاكم (٢ / ٣٩٣) ، وابن أبي الدنيا في نعت الخائفين وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه ، والبيهقي في الشعب ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢١).

٤٧٦

وجائز أن يكون قوله : (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) لا على ذلك ؛ ولكن على ما يذكر ، أي : قلوبهم وجلة أنهم يرجعون إلى ربهم : على السعادة أم على الشقاوة؟ والله أعلم.

وقوله : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ).

أخبر أن الذين نعتهم ووصفهم هم الذين يسارعون في الخيرات ، لا أولئك الكفرة الذين تقدم ذكرهم ، (وَهُمْ لَها سابِقُونَ) : يحتمل ، أي : سبقوا أولئك الكفرة بها ، والله أعلم.

وقوله : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).

جائز أن يكون ذكر هذا وقاله ؛ لما عمل أولئك من الأعمال التي لا تسع ولا تحل ، وقالوا : الله أمرهم بذلك بقولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] ؛ فقال : (وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) ، أي : إلا ما يسعها ، أي : إلا ما يسعها ويحل ؛ كقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] ؛ ردا لقولهم ، وتكذيبا.

ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يقول : لا نكلف نفسا من الأعمال إلا وسعها ، أي : طاقتها ، وذلك يحتمل وجهين :

أحدهما ، أي : لا نكلف أحدا من الأعمال ما يتلف طاقة وسعه فيه : لا يكلف الغني من الإعطاء ما يتلف به غناه ، وكذلك لا يكلف كل حي من العمل ما يتلف به طاقته وحياته ؛ ولكنه إنما أمره وكلفه بأمور يحتمل طاقتهم ذلك العمل والأمر ؛ فإن كان كذلك ؛ فدل ذلك أنه لم يرد به طاقة العمل وقدرته ؛ ولكن طاقة الأحوال التي يجوز تقدمها عن الأحوال.

والثاني : ذكر هذا ؛ لئلا يقولوا : إنا لم نطق ما كلفنا ؛ لأنهم تركوا الأعمال التي أمروا بها ، وكلفوا بأعمال مثل التي تركوها ، وهي المعاصي التي عملوها ، فما أمروا من الأعمال ليس يفوق التي عملوها ؛ ولكن مثلها ؛ فلا يكون لهم في ذلك احتجاج.

وقوله : (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ).

قال قائلون : هو الكتاب الذي يكتب فيه أعمالهم وأفعالهم من الخيرات والسيئات ، وذلك كله محفوظ محصى عليهم ؛ كقوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] ؛ فإن كان هذا فيكون قوله : (بِالْحَقِ) ، أي : بالتصديق.

وقال قائلون : هو الكتاب الذي أنزل إلينا ، وهو هذا القرآن ؛ ينطق عليكم بالحق ، أي : بالحق الذي لله علينا ، وبالحق الذي يكون لبعض على بعض ، وهو كقوله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٢٩] ، وهو ما ذكرنا من الحق الذي له علينا ، ومن الحق

٤٧٧

الذي لبعضنا على بعض.

وجائز أن يكون هو اللوح المحفوظ ؛ فإن كان هذا ، ففيه أن الله لم يزل عالما بما كان ويكون في الأوقات التي يكون أبد الآبدين.

(وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

فإن كان على الكتاب الذي يكتب فيه أعمالهم فيكون قوله : (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، أي : لا ينقص من أعمالهم التي عملوا من الخيرات ، ولا يزاد فيه على سيئاتهم ، بل يحفظ ما عملوا.

أو أن يكون (لا يُظْلَمُونَ) ، أي : لا يزاد على الجزاء على قدر أعمالهم ، ولا ينقص من قدرها ؛ بل يجزون على قدر أعمالهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (٦٣) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (٦٥) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (٦٦) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (٦٧) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(٧٢)

وقوله : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا).

قيل (١) : في عماية وجهالة وغفلة ، (مِنْ هذا) : من الكتاب الذي فيه أعمالهم ، وأحصى عليهم. وقال قائلون في قوله : (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا) : أي : من هذا القرآن الذي ينطق بالحق ، أي : قلوبهم في عماية وغفلة من هذا القرآن.

وجائز أن يكون قوله : (مِنْ هذا) من الأعمال التي ذكر للمؤمنين فيما تقدم : من ذلك قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ...) إلى آخر ما ذكر من أعمالهم ، فأخبر أن قلوب أولئك الكفرة في غفلة وعماية من الأعمال التي عملها المؤمنون ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ).

__________________

(١) قاله قتادة ، بنحوه أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٣).

٤٧٨

اختلف فيه : قال بعضهم (١) : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) ، أي : من دون ما عمل أولئك الكفرة من الأعمال التي تقدم ذكرها : من قوله : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ* أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) على ما ذكر ، ثم أخبر أن لهم أعمالا دون ما ذكر.

وقال قائلون : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) ، يعني : المؤمنين الذين ذكر أعمالهم ، أي : لهم أعمال دون الذي ذكر لهم دون تلك الأعمال (٢).

وقوله : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ).

قال أهل التأويل : ذلك في العذاب الذي أخذ أهل مكة في الدنيا من الجوع الذي نزل بهم حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة ونحوه.

لكن الأشبه أن يكون ذلك في عذاب الآخرة ؛ ألا ترى أنه يقول : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي : يتضرعون.

ويقول أيضا : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) فإنما يخبر : أن كنتم تفعلون كذا في الدنيا ، ويذكر : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) ؛ فلا يحتمل أن يتضرعوا إليه في الدنيا ، ثم لا يقبل منهم ذلك التضرع ، أو ينهاهم عن التضرع بقوله : (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) ؛ فدل ذلك أنه في الآخرة ، وهو ما ذكر : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ...) الآية [غافر : ٨٤] ؛ مثل هذا يكون في الآخرة ، وفي الدنيا ما ذكر : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون : ٧٦] : ذكر في عذاب الدنيا أنهم لم يتضرعوا في الدنيا عند نزول العذاب بهم ، [و] لا يقبل منهم التضرع والاستكانة ؛ دل ذلك أنه ما ذكرنا ؛ ألا ترى أنه قال :

(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ).

نهاهم عن التضرع ، ولا يحتمل النهي عن ذلك.

وقوله : (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ).

أي : لا تمنعون من عذابه.

وقوله : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ).

قوله : (عَلى أَعْقابِكُمْ) ترجعون على التمثيل ، ليس على التحقيق ؛ لأنهم إذا رجعوا على الأعقاب صار ما كان أمامهم وراءهم ؛ فكأنهم نبذوا ذلك وراء ظهورهم.

أو أن يكون المنقلب على الأعقاب كالمكب على الوجه ، والمكب على وجهه مذموم

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٥٧٣).

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ٢٣٦).

٤٧٩

عند جميع من رآه وعاينه ؛ لهذا شبه به وضرب مثله به ، والله أعلم.

وقوله : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ).

قال عامة أهل التأويل (١) : قوله : (بِهِ) ، أي : بالبيت.

ووجه هذا : أنهم لما رأوا أنفسهم آمنين بمقامهم عند البيت وفي حرم الله ، وأهل سائر البقاع في خوف ـ ظنوا أن ذلك لهم ؛ لفضل كرامتهم ومنزلتهم عند الله ؛ فحملهم ذلك على الاستكبار على رسول الله ومن تابعه.

وقال بعضهم (٢) : (مُسْتَكْبِرِينَ) ، أي : بالقرآن وتأويله ، أي : استكبروا على الله ورسوله لما نزل القرآن ، وإضافة الاستكبار إلى القرآن ؛ لأنهم بنزوله تكبروا على الله ؛ فأضاف استكبارهم إليه ؛ لأنه كان سبب تكبرهم ، وهو كقوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ... فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ...) الآية [التوبة : ١٢٤ ، ١٢٥] : أضاف زيادة رجسهم إلى السورة ؛ لما بها يزداد رجسهم وكانت سبب رجسهم ، وإن كانت لا تزيد رجسا في الحقيقة.

وقوله : (سامِراً تَهْجُرُونَ).

قال الزجاج (٣) : السامر : هو ظل القمر ، فيه كانوا يهجرون ، والسمر : هو حديث بالليل.

قوله : (تَهْجُرُونَ) قال قائلون : تهتدون.

وقال بعضهم : تهجرون القرآن ، أي : كانوا لا يعملون به ولا يعبئون ؛ فهو الهجر ، وفيه لغة أخرى : تهجرون ، وهو كلام الفحش والفساد.

وقوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ).

قيل (٤) : أي : في القرآن ؛ يحتمل قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا) أي : فهلا دبروا ذلك القول الذي يقولون في الآخرة في الدنيا ، وهو قولهم : (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [الأعراف : ٥٣] ، وما ذكر من تضرعهم في الآخرة ، وهو قوله : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ).

وجائز أن يكون قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) ، أي : قد دبّروا القول ، لكنهم تعاندوا

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٥٩٢) ، وعن مجاهد (٢٥٥٩٣ ، ٢٥٥٩٤) والحسن (٢٥٥٩٥) ، وغيرهم. وانظر : الدر المنثور (٥ / ٢٤).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٥ / ٢٤).

(٣) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٤ / ١٨).

(٤) قاله قتادة بنحوه ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٢٥).

٤٨٠