تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) يقول : حفظه يسير على الله بغير كتاب ، لا يصعب عليه حفظ شيء ؛ لأنه عالم بذاته ، لا بسبب ولا تعليم ، وإنما يصعب حفظه على من كان علمه بالشيء بسبب وتعليم.

وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) فيه دلالة رد قول القدرية ، حيث قالوا : يكذب من كذب الرسل لا بإرادة الله ، فذكر أنه على علم منه ذلك منهم ، وكذلك روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «سيكون في آخر الزمان ناس من أمتي يكذبون بالقدر سيكفيكم من الردّ عليهم أن تقولوا : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ)» (١).

وتأويل هذا ـ والله أعلم ـ : أن يسألوا ، فيقال لهم : أراد الله أن يصدق خبره الذي أخبر أو يكذب؟

فإن قالوا : أراد أن يصدق في خبره ، لزمهم أن يقولوا : أراد جميع ما كان منهم.

وإن قالوا : أراد أن يكذب خبره ، فيكون كفرا محضا.

قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)(٧٦)

وقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) هو ما ذكرنا أنه يسفههم بعبادتهم دون الله بلا حجة ، ولا برهان ، ولا علم ، وتركهم عبادة الله مع الحجج ، والبراهين ، والعلم أنه إله ، وأنه ربهم مستوجب للعبادة.

وقوله : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) ينصرهم ويمنعهم من عذاب الله ، ففيه دلالة إثبات رسالته ؛ لأنه إنما قال ذلك للرؤساء منهم والقادة فلم يتهيأ لهم نصرة شيء ، ولا رد ما قال بشيء دل أنه بالله كان ذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه ابن مردويه عن أنس ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٦٧).

٤٤١

وقوله : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) يحتمل الآيات : الحجج والبراهين ، ويحتمل : القرآن المنزل عليه.

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ) : الإنكار ، آثروا العناد ، والردّ لآياته ، والكراهية والبغض له.

(يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) يخبر عن سفههم وشدة تعنتهم وعتوهم عند تلاوة الآيات عليهم ، وإقامة الحجج عليهم ، حيث قال : (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ يَسْطُونَ) ، قيل (١) : يأخذون أخذا ، وقيل (٢) : يبطشون بطشا.

وقال القتبي (٣) : (يَسْطُونَ) ، أي : يتناولونهم بالمكروه من الشتم والضرب.

وقال أبو عوسجة : (يَكادُونَ يَسْطُونَ) أي : يقعون بهم ، يقال : سطا يسطو سطوة ، ورجل ذو سطوة وبطشة ، أي : ذو قوة وقدرة ، قال : ويقال : سطوت بفلان ، أي : أخذته أخذا شديدا ، أو بطشت به كذلك.

ثم قال : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) ظاهر الآية ليس بجواب لما تقدم ، ولا صلته ، وليس على الابتداء ، ولكن على نازلة وأمر كان منهم ، لم يذكر لنا ذلك.

فأمّا ابن عباس وغيره من أهل التأويل قالوا : إنما أنزلت جوابا لما قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولأصحابه ، حيث قالوا : ما نعلم قوما أشقى منكم حيث رأوهم قد حظر الدنيا عليهم ، لم يعطوا من الدنيا شيئا ، فنزل جوابا لهم : (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ ...) الآية.

وقال بعضهم : هو جواب قوله : (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ) ؛ كقوله : (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ ...) الآية [المائدة : ٦٠].

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) قد ذكر معنى ضرب الأمثال والحاجة إليها ، وذلك أن العقول يجوز أن يعترض ما يستر عليها سبيل الحق وإلا لم يجز ألا تدرك العقول لما جعلت العقول له من درك الحق ، لكن يمنع عن درك الحق وسبيله ما ذكرنا من اعتراض السواتر والحجب فيستكشف ذلك بما ذكرنا من الأمثال ، ثم في هذا المثل وجهان :

أحدهما : يخبر عن تسفيه أحلامهم في عبادتهم من لا يقدر على خلق أضعف خلق ،

__________________

(١) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٧٩).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٧٤ ، ٢٥٣٧٥) وعن مجاهد (٢٥٣٧٦ ، ٢٥٣٧٧ ، ٢٥٣٧٨) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٦٧).

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩٥).

٤٤٢

وهو ما ذكر : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) وتركهم عبادة من هو خالقهم وخالق جميع الخلائق.

والثاني : يخبر عن قطع ما يأملون ويطمعون من عبادتهم الأصنام ، حيث قال : (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) ويتركون عبادة من يؤمل منه ويطمع كل خير ، والله أعلم.

وقوله : (فَاسْتَمِعُوا لَهُ) قال بعضهم : أجيبوا له.

وقال بعضهم : استمعوا استماع من نظر وتأمل الحق ويقبله ، إذا أظهر الاستماع من لا ينظر إلى الحق ، ومعناه : إذا أظهر له الاستماع من لا ينظر إلى الحق ولا يقبله ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) قال بعضهم : (تَدْعُونَ) ، أي : تعبدون من دون الله ، وقال : (تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) على الدعاء ، أي : تسمونهم : آلهة من دون الله ، وقد كان منهم الأمران جميعا : العبادة للأصنام من دون الله ، وتسميتهم إياها : آلهة من دون الله.

وقوله : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) فيه ما ذكرنا من الوجهين : من تسفيه أحلامهم في عبادتهم من لا يملك خلق أضعف خلق الله ، وعجزهم عما يأملون من النفع ، وعن دفع من يروم بهم الضرر وسلب ما ذكر منهم.

ثم اختلف في قوله : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).

قال بعضهم : (الطَّالِبُ) : الصنم ، (وَالْمَطْلُوبُ) : هو الذباب ، لكن على التأويل يضمر فيه : (لو) ، أي : ضعف الصنم لو كان طالبا.

قال بعضهم (١) : (الطَّالِبُ) هو الذباب ، (وَالْمَطْلُوبُ) : هو الصنم.

فإن قيل : وصفهما جميعا بالضعف : الذباب والصنم جميعا ، على تأويلهم ـ أعني : هؤلاء ـ فالصنم ضعيف ، عاجز ، على ما وصف ، وأمّا الذباب فهو ليس بضعيف ؛ لأنه غلب ذلك الصنم إن كان طالبا أو مطلوبا ، فكيف وصفه بالضعف ، وهو الغالب عليه في الحالين؟ لكنه كأنه رجع قوله : (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) إلى العابد والمعبود ، كأنه قال : ضعف العابد عمّا يأمل ويطمع من عبادته إياه ، وضعف المعبود عن إيفاء ما يؤمل ويطمع منه ، فهذا كأنه أشبه وأقرب إلى التأويل من الأول ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله ابن عباس بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٨٠).

٤٤٣

وقوله : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) اختلف فيه :

قال بعضهم : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عرفوا [الله] حق معرفته ، قالوا له بالشريك والولد والصاحبة ، وما قالوا فيه مما لا يليق به ؛ لأنهم لو عرفوه حق معرفته ، لم ينسبوا إليه ، ولا وصفوه ، وعرفوا بذاته وتعاليه عن ذلك ، لكن حيث لم يعرفوه حق معرفته شبهوه بواحد من خلقه ، على ما ذكرنا.

وقال بعضهم (١) : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) أي : ما عظموا الله حق عظمته ، حيث صرفوا العبادة والشكر إلى غيره ؛ إذ لو عظموه حق تعظيمه ، ما صرفوا عبادتهم وشكرهم إلى غير الذي أنعم عليهم ، وما أشركوا غيره في ذلك ، على علم منهم أنه إنما وصلت إليهم تلك النعم من الله ، لا ممن عبدوه ، وبالله العصمة والصواب.

ثم يكون تعظيمه ومعرفته على الحقيقة بتعظيم أموره ، وقبولها ، والقيام بها ، لا في قوله : يا عظيم ، يا كبير ، ونحوه ، ولكن على ما ذكرت من تعظيم أموره ، وقيامه بها ، وكذلك المحبة لله إنما تكون في القيام بأموره وإقباله نحوها ، والانتهاء عن مناهيه ، لا في قوله : أنا حبيبك ، أو تصوير شيء في قلبه ، ولكن على ما ذكرت ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) يحتمل قوله : (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) لنصر أوليائه ، وجعل العاقبة لهم (عَزِيزٌ) أي : منتقم من أعدائه.

أو يقول : (لَقَوِيٌ) ؛ لأنه تضعف جميع القوى عند قوته (عَزِيزٌ) : يذل جميع الأعزة عند عزته.

أو يقول : (لَقَوِيٌ) ؛ لأنه به يقوى من قوي ، ومنه يستفيد ذلك (عَزِيزٌ) ؛ لأنه به يعز من عز به ، ومنه كان ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) يحتمل قوله : (يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) ، أي : اختار رسلا من الملائكة في بعض ما امتحنهم [به] من أنواع العبادات له والطاعات ، بعث منهم إليهم رسلا بتبليغ ذلك على ما اختار من الناس رسلا إليهم فيما امتحنهم. ويحتمل : اصطفى رسلا من الملائكة إلى الرسل من الإنس ، أي : اختار منهم ـ أعني : من الناس ـ رسلا من الإنس ، والله أعلم ، كقوله : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤].

وقوله : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) جائز أن يكون قوله : (بَصِيرٌ) لمن يصلح للرسالة

__________________

(١) قاله ابن جرير (٩ / ١٩٠).

٤٤٤

ومن لا يصلح ، وبصير لمن اختار لها ومن لم يختر ، سميع لما يتلقى المرسل إليه الرسول من الإجابة والقبول ، والردّ والتكذيب ، وأنه على علم منه بالرد والتكذيب أرسل [رسله].

وفيه دلالة أنه إنما اصطفاهم للرسالة ، لا بشيء يستوجبون منه ذلك ولكن إفضالا منه.

قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) أي : يعلم ما كان قبل أن يخلقهم (وَما خَلْفَهُمْ) : بعد ما خلقهم.

وقال الحسن : يعلم بأوائل أمورهم وبأواخرها.

وقال بعضهم : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : من الدنيا ، (وَما خَلْفَهُمْ) : من الآخرة.

وقال بعضهم : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : من الآخرة ، (وَما خَلْفَهُمْ) : من الدنيا.

وجائز أن يكون قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : ما عملوا بأنفسهم في حياتهم (وَما خَلْفَهُمْ) ما سنوا لغيرهم من بعدهم ، كقوله : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) [الانفطار : ٥] ما عملوا هم ، وما أخرت : ما سنوا لغيرهم من بعدهم.

وجائز أن يكون لا على حقيقة بين الأيدي ولا خلف ، ولكن [معناه] : لا يخفى عليه شيء من أفعالهم وأقوالهم.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) قد ذكرنا معناه فيما تقدم.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)(٧٨)

وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ).

في الآية دلالة أن الإيمان هو شيء خاص وشيء واحد ، لا اسم جميع الخيرات ، وهو التصديق ؛ لأنه أثبت لهم اسم الإيمان ، ثم أمرهم بالركوع والسجود وفعل الخيرات ؛ لأن جميع المخاطبين بهذه الآية عرفوا من خوطب بها ، فلو كان اسما لجميع الخيرات لكان لا يعرف المخاطب بها ؛ لأنه لا يقدر أحد على جميع الخيرات ؛ فدل أنه شيء معروف خاص مما يرجع صاحبه إلى حد المعرفة ، حيث عرفه المخاطب به ، والله أعلم.

ثم يحتمل قوله : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) وجوها :

أحدها : أن اجعلوا ركوعكم وسجودكم وعبادتكم عبادة الله لا تشركوا فيها غيره على

٤٤٥

ما أشرك أهل مكة وغيرهم من الكفار في عبادتهم غيره ، وهي الأصنام التي عبدوها.

والثاني : اعبدوا ربكم بالأسباب والأشياء التي عرفكم أنها عبادة ، وكذلك افعلوا الخيرات التي عرفكم أنها خيرات.

والثالث : أن اجعلوا أحوالكم التي أنتم عليها من قيام وقعود ، وحركة وسكون ، عبادة لله تعالى ، واجعلوا تقلبكم أيضا للمعاش الذي أبيح لكم وأذن فيه عبادة ، فالأول هو عبادة بنفسه التي جعلها الله نصّا ، والثاني هو الذي يصير عبادة بالنية والقصد ؛ فيكون في جميع أحواله مؤدي عبادة ، وهكذا الواجب على المرء أن يكون في جميع ما يؤدّي من الصلاة والصيام وغيره مؤدي فرض ، وهو أن يؤدي جميع ذلك بنية الشكر لنعمه ، وتكفيرا لمعاصيه ، وكلاهما لازمان واجبان ، فإن فعل ذلك كان مؤدي لازم ، والله أعلم.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ظاهره خرج على الترجي ، وفي الحقيقة على الوجوب ، على ما ذكرنا فيما تقدم.

وقوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) ليس لحق الله غاية يوصل إليها ، وكذلك قوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] ؛ لأنه لو كان لحقه غاية لكان الرسل والملائكة يقومون بوفاء ذلك [و] يتوهم منهم المجاوزة عن ذلك ؛ إذ كل ذي حدّ وغاية يتوهم المجاوزة فيه ، فإن لم يحتمل المجاوزة دل أن حقه ليس بذي حدّ وغاية ، ويكون تأويل قوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) و (حَقَّ تُقاتِهِ) [آل عمران : ١٠٢] حقه الذي احتمل وسعكم وبنيتكم وطاقتكم ، كقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] فيكون هذا تفسيرا لقوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) و (حَقَّ جِهادِهِ).

ثم يحتمل قوله : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ) أي : جاهدوا أنفسكم في شهوتها وأمانيها.

أو جاهدوا أعداء الله في دفع الوسواس والمحاربة معهم.

وقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ) يحتمل وجهين :

أحدهما : (هُوَ اجْتَباكُمْ) للإيمان والهدى والتوحيد.

أو (هُوَ اجْتَباكُمْ) جنسا من أفضل الأجناس وأكرمهم من بين سائر الأجناس ، كقوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الإسراء : ٧٠].

وقال عامة أهل التأويل في قوله : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) أي : وحّدوا ربكم ، جعلوا كل عبادة مذكورة في الكتاب توحيدا ؛ فيكون ذكر العبادة هاهنا كقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ) [النساء : ١٣٦] كأنه قال : يا أيها الذين آمنوا وحدوا ربكم.

ثمّ اختلف في قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) :

قال بعضهم : فيه وجوب سجدة التلاوة على ذلك ، وهي في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

٤٤٦

أنه قال : «فضلت سورة الحج بسجدتين على غيرها من السور ، فمن لم يسجدهما فلا يقرؤها» (١).

وكذلك روي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنه قرأها فسجد فيها مرتين (٢) ، ثم قال ما ذكرناه.

وتأويله ـ عندنا ـ أن قوله : «فضلت بسجدتين» التي هي من صلب الصلاة ، وسجدة التلاوة في أوّل السّورة ، فمن لم يسجدهما فلا يقرؤها ، وأصله في وجوب سجدة التلاوة : أن كل سجود ذكر في القرآن للخضوع فهو واجب للتلاوة ، لازم له ، وكل سجود كان الأمر به لحق سجود الصلاة فإنه لا يلزمه السجدة للتلاوة ، فالأمر بالسجود في قوله : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) أمر بسجود الصلاة لا غير لم يلزم تاليه السجود بالتلاوة ، والله أعلم.

وقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) يحتمل تأويله وجوها :

أحدها : أن عليهم معرفة وحدانية الله ، وألوهيته ، وتعاليه عن الأشباه والشركاء ، وعليهم معرفة نعمه ، والقيام بشكرها له ، والخضوع له في كل وقت ، وإن [لم] يبعث الرسل ، لكنّه بفضله ورحمته بعث إليهم الرسل ليكون أيسر عليهم معرفة ذلك وأهون ، والقيام بأداء ذلك أخف ؛ لأن معرفة الأشياء بالسماع من لسان الصدوق والعدل أيسر ، والإدراك أهون من معرفتها بالنظر والتفكر ، وهو ما قال : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلاً) [النساء : ٨٣] أخبر أنه لو لا فضله ورحمته في بعث الرسل ، لاتبعوا الشيطان إلا قليلا ، والقليل الذين استثناهم : الذين يتفكرون وينظرون فيعرفون بالتفكر والنظر ، وذلك لا يعرف إلا بجهد وتكلف ، فعلى ذلك قوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ولكن بعث إليكم الرسل ليكون أوضح لسبيل الحق ومعرفته ، وإن كان له ألا يرسل ، ويكلف ذلك بالنظر والتفكر.

والثاني : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) قطع ما يقع لهم الحوائج ، وتحريم كل أنواع المطاعم والمشارب واللباس عليكم لكنه إذا حرم نوعا منها أباح نوعا آخر بإزائه مما يسدّ به حاجته ويزيح به علته ، ولو حرم كل أنواعها كان حرجا في الدين وضيقا.

والثالث : لم يجعل عليهم من العبادات والفرائض التي كلفهم بها والقيام بأدائها ما لا

__________________

(١) أخرجه أحمد (٤ / ١٥١ ، ١٥٥) وأبو داود (١٤٠٢) والترمذي (٥٧٨) والحاكم (١ / ٢٢١) ، (٢ / ٣٩٠) عن عقبة بن عامر.

(٢) أخرجه مالك في الموطأ (١ / ٢٠٥ ـ ٢٠٦).

٤٤٧

يحتمل وسعهم ، ولا بنيتهم ، ولا حمل عليهم أمورا شاقة خلاف ما عليه طباعهم وأمر معاشهم ، ولكن كلفهم بعبادات احتمل بها وسعهم وبنيتهم ، وحمل عليهم أمورا غير شاقة موافقة لما عليه أمر معاشهم وطباعهم ، وإن بعد ونأى عليهم.

والرابع : أنه لم يجعل توبتهم عما ارتكبوا من المعاصي والمآثم قتل بعضهم بعضا ، وإهلاك بعضهم بعضا ، على ما جعل ذلك لقوم ، حيث قالوا لهم : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٥٤] ، ولو كلف ذلك كان حرجا في الدين ، وأمثال ذلك.

والخامس : جائز أن يكون قوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) أي : من شك وشبه ، أي : قد أزاح عنكم الشبه والشك بالحجج والبراهين التي أقامها لكم ، والله أعلم.

وقوله : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : على الأمر : أن الزموا ملة إبراهيم.

والثاني : أن هذا الذي ذكر هو ملة أبيكم إبراهيم (١).

وقوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) اختلف فيه :

قال عامة أهل التأويل (٢) : قوله : (هُوَ سَمَّاكُمُ) أي : الله سماكم المسلمين.

وقال بعضهم (٣) : إبراهيم (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) ، حيث قال : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] ورسول الله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان من ولد إسماعيل ، وقد دعا له ولذريته بذلك.

وقوله : (مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا) : قال بعضهم (٤) : (مِنْ قَبْلُ) : في الكتب المتقدمة (وَفِي هذا) ، أي : في القرآن.

وقال بعضهم : (مِنْ قَبْلُ) : في الأمم الذين كانوا من قبل ؛ لأنه ما من قوم وأمة إلا وفيهم مسلمون متسمون بهذا الاسم ، (وَفِي هذا) : في قومه ، أي : كنتم متسمون بهذا الاسم في الأمم الخالية ، كقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١١٠] أي : كنتم خير أمة في الأمم التي كانت من قبل أنها تخرج في هذا الوقت ، والله أعلم.

وقوله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) قال قائلون : (عَلَيْكُمْ) بمعنى : لكم ، وذلك جائز في اللغة ، كقوله : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣] أي : للنصب ؛ فعلى ذلك

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ١٥٩).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٩٩ ، ٢٥٤٠٠) وعن قتادة (٢٥٤٠١) ومجاهد (٢٥٤٠٢ ، ٢٥٤٠٣) والضحاك (٢٥٤٠٤).

(٣) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٠٥) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٧٢).

(٤) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٤٠٦ ، ٢٥٤٠٧) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٧٢).

٤٤٨

جائز في هذا (عَلَيْكُمْ) أي : لكم ، ويكون تأويله : يكون الرسول لكم شهيدا بالتصديق له ، وتكونوا أنتم شهداء للناس بالتصديق لرسول الله إذا صدقتم إياه.

وقال بعضهم : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) ، بمعنى : عليكم ، وتأويله : يكون شهيدا عليكم إذا خالفتموه ولم تصدقوه ، وتكونوا أنتم إذا صدقتم رسولكم ووافقتموه ـ شهداء على سائر الناس إذا كذبوا رسولهم : أنهم كذبوه وخالفوه.

وفي هذه الآية دلالة اتفاق قرن حجة على من بعدهم ، حيث جعلهم شهداء على من بعدهم ومن قبلهم ، وقد ذكرنا تأويل الآية في سورة البقرة.

وقوله : (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) فإذا أراد الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة ، ففي الأمر بإقامة الصلاة أمر بإصلاح ما بينهم وبين ربهم ، وفي الزكاة إصلاح ما بينهم وبين الخلق ، كقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] وفي حرف عبد الله بن مسعود : إن الصلاة تأمر بالعدل وتنهى عن الفحشاء والمنكر.

وقوله : (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ).

قال بعضهم : بدين الله وهو ما ذكر فيما تقدم ذكره من قوله : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ).

(وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ...) إلى [آخر] ما ذكر ؛ فكأنه يقول : اعتصموا بالذي ذكر ، وأصل الاعتصام هو الالتجاء إليه ؛ فكأنه قال : اعتصموا به من كل ما نهى عنه من الشرور ، وبكل ما أمر به من الخير.

وقوله : (هُوَ مَوْلاكُمْ).

قال الحسن : هو مولى كل من تولاه بالطاعة.

وقال بعضهم : المولى : النصير ، أي : هو ناصركم وحافظكم.

(فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).

المانع والنصير : المنتصر ينتصر لهم من أعدائهم ، ويمنع عنهم الأعداء.

وجائز أن يكون قوله : (هُوَ مَوْلاكُمْ) ، أي : ربكم وسيدكم ، كما يقال لمولى العبد : هذا مولاه وسيّده ، والله أعلم.

ويكون في قوله : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ) أنه قد بلغكم ؛ (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) بأن الرسول قد بلغهم.

قال أبو عوسجة : (ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ، أي : ما عرفوا الله حق معرفته ، يقال في الكلام : ما قدرتك حق قدرك ، أي : ما عرفتك حق معرفتك.

٤٤٩

وقالوا : الحرج : الضعيف في هذا ، وفي غير هذا الموضع ، قيل : هو شك في قوله : (فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ) ، أي : شك ، والضيق إنما يكون من الشك إذا شك في شيء ضاق صدره فيه.

قال أبو معاذ : وأصل الحرج في الكلام : شجر من شوك ملتف ، والواحدة : حرجة ، منه : حرجة مسلم.

وقوله : (هُوَ اجْتَباكُمْ).

أي : اختاركم ، وفي حرف ابن مسعود وأبي : هو اجتباكم وسماكم المسلمين من قبل ، وهذا يؤيد تأويل من يقول : هو سماكم المسلمين ، أي : الله سماكم.

وقال بعضهم في قوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، قال : لم يفرض الله على هذه الأمة شيئا إلا جعل فيه رخصة لهم عند الاضطرار ؛ مثل التيمم إذا لم يجد ماء ، ويصلي قاعدا ومضطجعا في المرض ، وتفطر إذا كنت مريضا ، ونحو هذا ، ليس فريضة إلا فيها رخصة ، ولم يكن من قبل ذلك ، وهو قول مقاتل بن حيان.

وقال قتادة : قوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، أي : ضيق ، قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم يعطها إلا نبي : كان يقال للنبي : اذهب فليس عليك حرج ، وقال الله لهذه الأمة : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، وكان يقال للنبي : أنت شهيد على قومك ، وقال الله لهذه الأمة : (وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، وكان يقول للنبي : سل تعطه ، وقال الله لهذه الأمة : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠].

وقال بعضهم في قوله : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) ، أي : صلوا لله ، كقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) [المرسلات : ٤٨] يقول : صلوا ، لا يصلون.

وقال قتادة : (ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا) ، قال : لا صلاة إلا بركوع ، وإن أقواما أحدثوا بدعا : يسجد أحدهم مائة سجدة لا يركع فيهن ، وكان يقال : ثلاث مما أحدث الناس : «رفع الأيدي في الدعاء ، والأصوات عند المسألة ، والاختصار في السجود».

وقال أبو هريرة : «لا يصلح سجود إلا بركوع» ، والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، وبه نستعين.

* * *

٤٥٠

سورة المؤمنون مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)(١١)

قوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ).

الفلاح ، قال قائلون : الفلاح هو البقاء ، أي : بقي المؤمنون (١).

وقال قائلون : الفلاح : السعادة.

وقال [قائلون] : الفلاح : الفوز ، وأمثاله.

[و] في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ...) إلى آخر ما ذكر دلالة أن من المؤمنين من هم بهذا الوصف الذي وصف هؤلاء ، وأن اسم الإيمان يقع بدون الذي ذكر في هذه الآية ؛ لأنه لو لم يكن لذكر ما ذكر من الخشوع في صلاتهم ، والحفظ لفروجهم ، والإعراض عن اللغو ، يعني : دل أنه يكون مؤمنا بغير الوصف الذي وصف هؤلاء ، وكذلك في قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) [الطلاق : ٢] ، وقوله : (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) [البقرة : ٢٨٢] ؛ فدل أن فيهم من ليس بعدل ، وفيهم من لا يرضى في الشهداء ؛ حيث خصّ العدل والمرضي في الشهادة.

وقوله : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ).

قال الحسن : الخشوع هو الخوف الدائم اللازم في القلب.

وقال غيره : الخشوع في القلب ، وأصل الخشوع كأنه آثار ذل ـ من الخوف ـ تظهر في الوجه والجوارح كلها ، لا الخوف الذي ذكر هؤلاء ؛ ألا ترى أنه قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) [الغاشية : ٢] ، وقال : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ) [القلم : ٤٣ ، المعارج : ٤٤] ـ دل هذا أن الخشوع هو آثار ذلّ من خوف يظهر في الوجه والجوارح كلها ؛ ولذلك قال بعضهم : الخشوع في الصلاة هو ألا يعرف من عن يمينه وشماله ؛ لأن ذلك يشغله عن العلم بمن يليه ، وأصله ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ).

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : وداموا في الجنة على الأبد ، كذا روى عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أي : طالت أعمارهم في الجنة. شرح.

٤٥١

اللغو : كأنه اسم كل باطل ، واسم كل ما يلغى ولا يعبأ به ، أخبر أنهم يعرضون عن كل باطل وعن كل ما نهوا عنه ، ويقبلون على كل طاعة وبكل ما أمروا به (١).

(وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ).

يحتمل الزكاة : الزكاة التي بها تزكو أنفسهم عند الله.

وجائز الزكاة المعروفة المعهودة ، أخبر أنهم فاعلون ذلك مؤدون.

وجائز أن يكون ذكر هذا من المؤمنين ؛ من الطاعة لله والائتمار لأمره ، والرضا به ، مقابل ما كان من المنافقين من الكراهية في الإنفاق ، والصلاة على الكسل ، والمراءاة ؛ كقوله : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ ...) الآية [النساء : ١٤٢] ، وقوله : (وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ) [التوبة : ٥٤] ، وقولهم : (لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) [المنافقون : ٧] نعتهم بالكسل ، والخلاف ، وترك الإنفاق والمراءاة في الطاعات ، ونعت المؤمنين بضدّ ذلك ، وبالرغبة في أوامره ، والانتهاء عن معاصيه ونواهيه.

وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ).

استثنى في هذا ؛ لأنّ هذا مما يحلّ في حال ويحرم في حال ، وأما اللغو وما ذكر من أوّل الآية إلى آخره لا يحل بحال ، واللغو حرام في الأحوال كلها ، وكذلك ترك أداء الأمانة والزكاة والصلاة مما لا يحل تركه بحال.

وقوله : (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).

ذكر ألا يلحقهم لائمة في ذلك ـ والله أعلم ـ لوجهين :

أحدهما : لقول الثنوية ؛ لأنهم لا يرون التناكح ، فأخبر أن اللائمة [ليست] في هذين وإنما اللائمة في غير هذين.

والثاني : ذكر لإبطال المتعة ؛ لأنه استثنى الأزواج وما ملكت أيمانهم ، والمتعة ليست في هذين اللذين استثناهما ، ثم أخبر أن لا لائمة في هذين ، وفيما عداهما لائمة ، والمتعة مما عدا هذين (٢) ، وهو ما قال : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ) [النور : ٣٣] وإلى هذا يصرف حفظ الفروج ، وإلا : كان عامة الناس يحفظون فروجهم عن الزنا ، ويعرفون حرمته ، لكنهم كانوا يستبيحون المتعة والإجارة فيه ؛ فحرم ذلك.

ثم قال : (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ).

والعادي (٣) : هو المجاوز عن الحد الذي حدّ له.

وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ).

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ١٦٨).

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ١٧٢).

(٣) ينظر : اللباب (١٤ / ١٧٢ ، ١٧٣).

٤٥٢

يحتمل الأمانات : العبادات والفرائض التي فرضت عليهم ، راعوها ، أي : أدوها في أوقاتها ، والعهود التي فيما بينهم وبين ربهم.

أو أن يكون الأمانات التي وضعت عندهم والعهود التي فيما بينهم وبين الخلق ، راعوها ، أي : حفظوها ، وأدوها إلى أربابها ولم يضيعوها ، والله أعلم.

وقوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ).

يكون محافظة الصلاة بوجوه :

أحدها : يحافظونها بأركانها وفرائضها ولوازمها وآدابها.

والثاني : يحافظونها بأسبابها التي جعلت لها من الأوقات والطهارات وستر العورة وغيرها من الأسباب التي لا تقوم الصلاة إلا بها.

والثالث : يحافظونها بالخشوع والوقار وإظهار الذلّ له والإخلاص ، وغير ذلك من الأشياء مما ندب المصلي إليه ، وعلى ذلك جميع ما ذكر من الأمانات وغيرها ، والله أعلم.

وقوله : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ).

الوارث : هو الباقي عن المورث.

وقال الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ) [مريم : ٤٠] ، أي : إنا باقون عن الخلق ، أي : يفني الخلائق ، وهو يبقى.

أو أن يكون قوله : (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) هكذا هو ما وعد الله عباده الجنة إن أجابوه ، وإليها دعاهم بقوله : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [يونس : ٢٥] ؛ فمن ترك إجابته يصير الموعود الذي وعد له إن أجاب لمن أجابه ؛ فذلك الوراثة التي ذكر الله.

وقوله : (الْفِرْدَوْسَ) ، قيل (١) : هو بلسان الروم : بستان ، سمى الله الجنة بأسماء مختلفة : منها عدن ، ونعيم ، ومأوى ، وفردوس ، و [هي] في الحقيقة واحد ؛ لأن العدن هو المقام ، والنعيم هو ما ينعم ، ومأوى فهي كذلك ، ثم فردوس وعدن ، ومأوى نعيم.

وروي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الفردوس ربوة الجنّة العليا ، وهي أوسطها ، وأحسنها» (٢) ، فإن ثبت هذا فهو ما ذكر.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) ، قال : الإقبال عليها ، والذلة فيها.

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٥٤٤٥).

(٢) أخرجه البخاري (٢٨٠٩) ، وأحمد (٣ / ٢١٠ ، ٢٦٠ ، ٢٨٣) ، والترمذي (٣١٧٤) ، عن أنس بنحوه.

٤٥٣

وعن علي (١) ـ رضي الله عنه ـ قال : الخشوع في القلب ، وأن تلين كنفك للمرء المسلم ، وألا تلتفت في صلاتك.

وقيل : التواضع ، وأصله ما ذكرنا.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ)(١٦)

وقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ).

قال بعضهم (٢) : إنما ذكر سلالة ؛ لأنه سلّ من كل تربة.

وقال أبو عوسجة : السلالة : الخالص من كل شيء ، وقوله : (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) حرّ ، أي : من أجود الطين ؛ ذكر مرة : (مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) ، ومرة : (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٦ ، ٢٨] ، ومرة قال : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) [الحج : ٥] ، ومرة : (كَالْفَخَّارِ) [الرحمن : ١٤] ، ونحوه ، وهو آدم ـ عليه‌السلام ـ وذلك على تغيير الأحوال ، والله أعلم بالصواب.

وقوله : (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) أي : ثم خلقنا ولده وذريته من نطفة ، أخبر [عن] أصل ما خلق آدم منه ، وأصل ما خلق ولده منه ، وهي النطفة.

وقوله : (فِي قَرارٍ مَكِينٍ).

قال بعضهم : الرحم.

وجائز أن يكون القرار هو صلب الرجل ؛ لأن النطفة لا تخلق في الصلب أوّل ما خلق الإنسان ، ولكن تجعل فيه من بعد ؛ فيكون الصلب قرارها ومكانها إلى وقت خروجها منه إلى الرحم ؛ وعلى ذلك قوله : (فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) [الأنعام : ٩٨] : الرحم.

وقال بعضهم : المستقر : الرحم ، والمستودع : الصّلب.

وجائز أن يكونا جميعا واحدا ، أيهما كان : الرحم أو الصلب ؛ لأن كليهما قرار وما يستودع فيه.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٥٤٢١ ، ٢٥٤٢٤) ، وابن المبارك في الزهد وعبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه ، كما في الدر المنثور (٥ / ٥).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٤٥٢ ، ٢٥٤٥٣) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٠). وينظر : اللباب (١٤ / ١٧٦).

٤٥٤

وقال ابن عباس (١) وغيره : السلالة : صفوة الماء.

وقوله : (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً) والنطفة هي المعروفة ، والعلقة والدم والمضغة : القطعة من اللحم إلى آخر ما ذكر ، يخبرهم عن تحويله إياهم وتقليبه من حال إلى حال لوجوه :

أحدها : يخبر عن قدرته وسلطانه وعلمه وتدبيره ؛ ليعلموا أن من قدر على إنشاء العلقة من النطفة ما لو اجتمع الخلائق جميعا على أن يعرفوا سبب خلق هذا عن هذا ، مع إحاطة علمهم أن ليس فيها من آثار العلقة شيء ـ ما قدروا على ذلك ، وعلى ذلك جميع ما ذكر من النطفة والمضغة ، [و] من العلقة والعظم ، [و] من المضغة والإنسان ، دل ذلك كله على أنه قادر ؛ فمن قدر على هذا يقدر على إنشائهم من الأصل من لا شيء ، ويقدر على إحيائهم بعد ما صاروا ترابا ، والأعجوبة في خلق الإنسان مما ذكر من النطفة والعلقة والمضغة ليس بدون خلقه إياهم من التراب من الوجوه التي ذكرنا.

وفيه دلالة علمه الذاتي ؛ لأن من قدر على تحويلهم من حال إلى حال التي ذكر في الظلمات الثلاث ؛ دل أنه عالم بذاته لا بعلم مستفاد من أحد ، ولا قوة مكتسبة ؛ ولكنه بالعلم الذاتي والقوة الذاتية ؛ لأن من علمه مستفاد ، ومن قوته مستفادة ومكتسبة لا يبلغ ذلك.

وفيه دلالة تدبيره ؛ لخروج الخلق جميعا وتوالدهم من أول أمرهم إلى آخر ما ينتهون على جري واحد وسنن واحد ، على غير تغيير في التوالد والتناسل الذي جعل فيهم ، وكذلك جميع ما يخرج من الأرض من النبات والأشجار والأوراق في كل عام ، وفي كل سنة يخرج على جرية واحدة وسنن واحد لا يتغير ولا يتفاوت وقت خروجه ؛ بل على تقدير واحد وميزان واحد ؛ دل أنه على تدبير ذات خرج ، لا على الجزاف ، وبالله الحول والقوة.

وفيما ذكر من تحويله إياهم وتقليبه من حال إلى حال دلالة أنه لم ينشئهم لأنفسهم ، وأن من أنشأ من العالم سواهم إنما أنشأه لهم ، وأنشأ أنفسهم لعاقبة ؛ لأنه لو كان إنشاؤه إياهم لأنفسهم وللفناء الذي ذكر في قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) لكان يتركهم على حالة واحدة ولا يحولهم من حال إلى حال ، فإذا حولهم وقلبهم من حال إلى حال دل أنه لا للموت الذي ذكر خلقهم خاصة بقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) ؛ ولكن لعاقبة

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٥٤٥٤) وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٠).

٤٥٥

تقصد ، وهو البقاء الدائم لا فناء فيه ، وهو ما ذكر : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ).

وقوله : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ).

أما أهل التأويل فمنهم من قال : نفخ الروح فيه ، وهو قول ابن عباس (١) وغيره (٢).

وقال بعضهم إنبات الشعر ونحوه ، وهو قول قتادة (٣) وغيره (٤).

وعن الحسن وغيره : ذكر أو أنثى.

وجائز أن يكون قوله : (أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) : غير ما قال هؤلاء ، وهو إظهار الجوارح والأعضاء وتركيبها ، ما فيه دلالة ؛ لأنه أخبر أنه يقلبه شيئا واحدا مصمتا ليس به هذه الجوارح والأعضاء ، إنما يكون فيه آثارها لا أعينها فيركب فيه أعين الجوارح والأعضاء حتى يكون إنسانا ، فذلك هو إنشاء خلق آخر ، ويكون نفخ الروح ونبت الشعر في تركيب ما ذكرنا ، والله أعلم.

ومن ينكر خلق الشيء لا من شيء ، ويقول بقدم العالم إنما ينكر ذلك ؛ لما لم ير في الشاهد صنع شيء لا من شيء ، فيقال له : وهل رأيت إنشاء شيء من شيء على إتلاف الأصل حتى لا يبقى له أثر ، فإذا لم تر هذا في الشاهد ، وقد رأيت في الغائب إنشاء شيء من شيء على إتلاف الأوّل منه ، نحو النطفة تصير علقة على تلف النطفة فيها ، والعلقة مضغة على إتلاف العلقة فيها ... إلى آخر ما ذكر ، كل ذلك منشأ من آخر إنما كان بعد تلف الأصل ، فهلا دل ذلك [على] أن عدم الإنشاء في الشاهد لا من شيء لا يدل على عدمه في الغائب ، وأنه حيث قدر [على] هذا يقدر على كله.

وقوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

من الناس من يستدل على أنه إذا لم يكن سواه خالقا لم يكن لقوله : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) معنى ؛ كقوله : (أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف : ٦٤ ، ٩٢ الأنبياء : ٨٣] ، و (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [هود : ٤٥] ، ونحوه ، إنما قال هذا لما يكون سواه رحيما حكيما كريما ؛ فأخبر أنه أحكم الحاكمين ، وأرحم الراحمين ؛ فعلى ذلك ما قال : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

ولكن جائز القول بمثل هذا عند الناس على غير إثبات آخر سواه في ذلك حقيقة ، وهو يخرج على وجوه :

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٥٤٥٧ ، ٢٥٤٥٨) و (٢٥٤٥٩) وانظر : الدر المنثور (٥ / ١١).

(٢) مثل عكرمة والشعبي ومجاهد وأبي العالية ، أخرجه ابن جرير عنهم على الترتيب (٢٥٤٦٠ ، ٢٥٤٦١ ، ٢٥٤٦٢ ، ٢٥٤٦٣) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١١).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٥٤٦٧ ، ٢٥٤٦٨) وعبد الرزاق ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٢).

(٤) مثل الضحاك أخرجه ابن جرير (٢٥٤٦٩).

٤٥٦

أحدها : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) مما تنسبون أنتم إليه ، وتجعلونه خالقا عندكم ؛ كقوله : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] : إبراهيم لم يسمّ معبودهم الذي عبدوه إلها على جعل الألوهية له ، ولكن على ما سموا هم ونسبوا الألوهية إليه ، وكذلك قول موسى ، حيث قال : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) [طه : ٩٧] على ما عندهم ، ليس على تسمية الإله له حقيقة ؛ دل ما ذكرنا على أن تسمية ما ذكر وذكره يجوز ، وإن لم يكن هنالك سواه إلها خالقا ، وكذلك قوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] : ليس على أن لهم شفعاء يشفعون لهم ؛ ولكن لا شفعاء لهم ؛ فعلى ذلك ما ذكرنا.

والثاني : تأويل (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ، أي : لو جاز أن يكون خالق آخر سواه لكان هو أحسن الخالقين ، ولكن لا يجوز ، وهو كقوله : (لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) [الزمر : ٤] أي : لو جاز أن يتخذ ولدا لاصطفى مما ذكر ، لكن لا يجوز ، وكذلك قوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) [الأنبياء : ١٧] ، أي : لو جاز أن يكون كذا لكان كذا ، ليس على أنه يجوز أن يكون ، وكذلك قوله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ...) الآية [المؤمنون : ٩١] ، أي : لو جاز أن يكون معه إله لذهب بما ذكر ، لكن لا يجوز ؛ فعلى ذلك قوله : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ، أي : لو جاز أن يكون هنالك خالق غيره لكان هو أحسن الخالقين ، ولكن لا يجوز ، والله الموفق.

والثالث : ذكر أحسن الخالقين ؛ لما أن العرب تسمّي كل صانع شيء خالقا ؛ فخرج الذكر لهم على ما يسمونهم ، ليس على حقيقة الخلق لمن دونه ؛ كقوله عيسى حيث قال : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) [آل عمران : ٤٩] ، أو أن يكون ذكر هذا القول من يقول : إن العالم أصله من أربع طبائع : من الحرارة ، والبرودة ، واليبوسة ، والرطوبة.

أو أن يكون كقول بعض الفلاسفة : إن العالم أصله من أربع أو من خمس : من الماء ، والأرض ، والنار ، وغيره.

فأخبر أنه ليس كذا ، ولكن هو خالقهم لا من الأشياء التي توهموا هم.

وعلى قول من يقول : إنه يكون غيره خالقا لكان الخلق غير دالّ على الخالق ، وقد جعل الله الخلق سببا لمعرفة الخالق ، فلو كان غيره خالقا ، لكان الخلق غير دالّ على معرفة الخالق ؛ لأنه قال : (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) [الرعد : ١٦] : أخبر أنه لو كان سواه في ذلك تشابه الخلق عليهم ؛ فإذا تشابه لم يكن سببا لمعرفة ، على ما أخبر في إثبات عدد الآلهة ؛ كقوله : (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ) [المؤمنون : ٩١] ، فإذا بطل هذا ولم يجز عدد الآلهة وإثبات الألوهية لغيره ، فعلى ذلك

٤٥٧

في الخلق على الوجوه التي ذكرنا.

وقوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ).

قد ذكرنا فيما تقدم أن المقصود من خلق هذا العالم ـ لم يكن الإماتة والإفناء ؛ ولكن عاقبة تتأمّل وتقصد حيث قلبهم من حال إلى حال ، ثم لم يتركهم على حالة واحدة ، فلو كان المقصود من خلقهم الفناء والهلاك لا غير ، لكان تركهم على حالة واحدة ، ولم يقلبهم من حال إلى حال ؛ فدل التحويل والتقليب من حال إلى حال على أن المقصود من الخلق العاقبة ، على ما ذكرنا والله أعلم ؛ لأنه أخبر أن خلقهم لا لعاقبة يقصد بها عبث ؛ حيث قال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) [المؤمنون : ١١٥] صير خلقهم لا للرجوع إليه عبثا ، وقال في آية أخرى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ...) الآية [النحل : ٩٢] : صير نقض الغزل بعد إبرامه وقوته سفها منها ؛ فلا جائز أن يسفه تلك المرأة تنقض غزلها بعد الإحكام والإبرام بلا نفع يكون لها ، ثم هو يفعل ذلك ؛ إذ خلق الخلق للفناء والهلاك خاصة ـ عبث ولعب ، وعلى ذلك بناء البناء في الشاهد لا لعاقبة ومنفعة ، ولكن للهدم والنقض سفه ولعب.

قلنا : إن خلق الخلق لا للموت خاصّة ، ولكن لما ذكر من قوله : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ) ، أي : تحيون.

قال القتبي (١) : يقال للولد : سلالة أبيه ، وللخمر : سلالة ، ويقال : إنما جعل آدم من سلالة ؛ لأنه سلّ من كل تربة.

وقال أبو عوسجة : السلالة : الخالص من كل [شيء].

قال أبو معاذ : النسل : الولد يسل من تحت كل شعرة (٢).

وقال القتبي (٣) : المضغة : اللحمة الصغيرة ؛ سميت بذلك لأنها بقدر ما يمضغ ؛ كما قيل : غرفة ، بقدر ما يغرف.

وقوله : (فِي قَرارٍ مَكِينٍ).

أي : مكان حريز ، أو هو الرحم أو الصلب ، أيهما كان فهو ما وصف.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (١٧) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (١٨) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩٦).

(٢) ثبت في حاشية أ : إنما سمي الولد : سلالة أصله ، وهو الماء يسل من تحت كل شعرة.

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٩٦).

٤٥٨

لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (١٩) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (٢٠) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)(٢٢)

وقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ).

قال بعضهم (١) : سبع سماوات.

وقال بعضهم : سبعة أفلاك.

يذكر هذا ـ والله أعلم ـ أيهما كان السموات أو الأفلاك التي جعل لأمر الخلق ولحوائجهم ؛ لوجهين :

أحدهما : يخبر عن قدرته وسلطانه وغناه : أن من قدر على خلق ما ذكر وإنشائه بلا سبب ، لقادر على إنشاء الخلق لا من شيء.

والثاني : أن من قدر على هذا يقدر على بعثهم وإحيائهم بعد الموت.

قال القتبي (٢) : سبع طرائق ، أي سبع سماوات : كل سماء طريقة ، ويقال عن الأفلاك : كل واحد طريق.

وإنما سمي طرائق ؛ لأن بعضها فوق بعض ، يقال : طارقت الشيء ؛ إذا جعلت بعضه على بعض. ويقال : وبشر طرائق.

وغيره قال : طرائق أهواء مختلفة.

وقوله : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ).

أي : لم نخلقهم على جهل منا بأحوالهم ؛ ولكن على علم منا بذلك.

ولا يحتمل أن يكون خلقه إياهم على علم منه ، ثم يخلقهم للفناء لا لعاقبة تتأمل ؛ لأن من يفعل هذا في الشاهد إنما يفعل إما للجهل به أو لحاجة ، والله يتعالى عن ذلك كله.

أو أن يكون قوله : (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ) : خلق ما ذكر ، أي : إذا عرفتم أن خلق هذه الأشياء لا لأنفسها ، ولكن لأنفسكم ولمنافعكم ، فلا يحتمل أن يكون خلقها لكم بلا محنة ولا ابتلاء ، فإن ثبت المحنة فيكم ثبت الثواب والعقاب ؛ فإن ثبت هذا ثبت البعث والحياة ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ).

قال بعضهم : بقدر : بعلم منّا.

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنهم ، كما في الدر المنثور (٥ / ١٣).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٩٦).

٤٥٩

وقال بعضهم : ما يقع لهم الحاجة والكفاية.

وجائز أن يكون قوله : (بِقَدَرٍ) ، أي : معلوم مقدر ، لا يتقدم ولا يتأخر ، ولا يزداد ولا ينتقص ، ولكن على ما قدر ، وكذلك جميع الأشياء.

وقوله : (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ).

يذكر هذا ويخبر عن قدرته وسلطانه : أن من قدر على استنزال الماء من السماء يقدر على البعث وعلى خلق الشيء لا من شيء ؛ إذ لا أحد من الخلائق يقدر على ذلك إلا بالحيل التي علّمه الله.

أو أن يكون يقول : إنه حيث جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء ، ومنافع السماء [متصلة] بمنافع الأرض ؛ [على] بعد ما بينهما ، دل اتصال منافع أحدهما بالآخر ، [مع] بعد ما بينهما على أن منشئهما واحد ، ومدبّرهما واحد عالم بذاته.

وقوله : (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ).

كقوله : (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً ...) الآية [الكهف : ٤١].

وقوله : (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ).

أي : بالماء.

(جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ).

أي : الكروم ؛ يذكر نعمة الله [التي] أنعمها عليهم من الماء الذي به حياة الأبدان والأشياء جميعا ؛ ليتأدى به شكره وعبادته.

وقوله : (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ).

إن كان قوله : (لَكُمْ فِيها) ، أي : في الجنات ؛ حيث ذكر أنه أنشأ لنا فواكه كثيرة ؛ ففيه حجة لأبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ أن من حلف ألا يأكل فاكهة ، فأكل عنبا ـ لم يحنث ؛ حيث ذكر النخيل والأعناب ، وذكر فيها الفواكه على حدة.

وإن كان يعني به النخيل والأعناب ، فليس فيه حجة له.

وقوله : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ).

أي : أنشأنا لكم ـ أيضا ـ شجرة في طور سيناء ، ثم الشجرة التي تكون في الجبال لا صنع للخلق في إنباتها ، وما يكون في الجنان والبساتين إنما يكون بإنبات الخلق ، ثم أضاف كليهما : ما يكون للخلق فيه صنع وما لا يكون ؛ دل إضافة ذلك إليه كله على أن لله في فعل العباد صنعا ، وأن جميع ما يكون إنما يكون بصنع منه ولطف ، ويذكرهم نعمه التي أنعمها عليهم : من إنشاء الجنان لهم ، والنخيل والأعناب والفواكه التي ذكر ليتأدى

٤٦٠