تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

و (الْقانِعَ) : هو الجالس في بيته ، ونحوه.

وقال القتبي (١) : (الْقانِعَ) : السائل ، يقال : قنع يقنع قنوعا ، ومن الرضا : قنع يقنع قناعة ، (وَالْمُعْتَرَّ) : الذي يعتريك ولا يسأل ، يقال : اعتراني : وعدني ، واعتراني.

وقال أبو عوسجة : (الْقانِعَ) : السائل ، والقنوع : السؤال ، والقناعة من الرضا ، يقال منه : قنع يقنع قناعة ، ويقول : قنعته ، أي : أرضيته ، وقنعته ، أي : غطيت رأسه بالقناع ونحوه ، ويقال من المعتر : اعتر اعترارا واعترى وعرا يعر ، وكلها واحد.

وقال : (صَوافَ) ، أي : قياما مصطفة ، وقال : ويكون صوافن ، أي : قائما على ثلاث قوائم. يقال : صفن الفرس يصفن صفونا : إذا قام على ثلاث قوائم.

وقوله : (وَجَبَتْ جُنُوبُها) ، أي : سقطت إلى الأرض ، يقال : وجب يجب وجوبا ، فهو واجب : إذا سقط ، ووجبت الشمس : إذا غابت ، قال : وهذا كله من الصوت ، يقال : سمعت وجبة ، أي : صوتا ، وقال : (مَنْسَكاً) ، أي : موضعا ينسكون إليه للعبادة.

وعن ابن عباس (٢) قال : (الْقانِعَ) : الذي يقنع بما أعطيته ، (وَالْمُعْتَرَّ) : الذي يريك نفسه ولا يسأل.

وقوله : (كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ) أي : البدن التي ذكرناها.

ثم يحتمل ما ذكر من تسخيره إياها لنا وجهين :

أحدهما : (كَذلِكَ سَخَّرْناها) أي : كما سخرناها لكم لركوبها والحمل عليها وأنواع الانتفاع بها في حال الحياة ، كذلك سخرناها لكم ، أي : مثل الذي وصفته لكم ، كل ذلك من تسخيرها إياها لكم ، والله أعلم.

وقوله : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : لن يقبل الله ذلك إلا ممن كان من أهل التقوى ، لا يقبلها من أهل الكفر ؛ لأنهم قد كانوا ينحرون البدن في الجاهلية ، على ما ذكرنا ، فأخبر أنه لا يقبل ذلك إلا ممن كان من أهل التقوى ، وهو كقوله : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة : ٢٧].

والثاني : أن يكون قوله : (لَنْ يَنالَ اللهَ) أي : لن يرفع إلى الله إلا الأعمال الصالحة الزاكية وما كان بالتقوى ، وأما ما كان غيرها فإنه لا يرفع ولا يصعد بها ، وهو ما قال : (وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ).

وقال بعض أهل التأويل : ذكر هذا ؛ لأن أهل الجاهلية كانوا إذا نحروا البدن نضحوا

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩٣).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٥٢١٩) وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٥٣).

٤٢١

بدمائها حول البيت ، ويقولون : هذا قربة إلى الله ، فأراد المسلمون أن يفعلوا مثل صنيعهم ، فنزل : (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) قد ذكرنا ما ذكرنا.

وقوله : (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) أي : لتصفوا الله بالعظمة والكبرياء على ما هداكم من أسباب تسخير البدن التي بها يوصل إلى الانتفاع بها من أنواع الانتفاع ؛ إذ لو لا ما هدانا الله وعلمنا من الأسباب التي بها تسخر وتذلل وإلا ما قدرنا على الانتفاع بها ؛ لقوتها ولشدّتها وصلابتها.

والثاني : بأن يكون قوله : (عَلى ما هَداكُمْ) من أمر الدّين والهدي.

وقوله : (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) يخرج قوله : (الْمُحْسِنِينَ) على وجوه :

أحدها : محسنين إلى أنفسهم ، أو المحسنين إلى إخوانهم ، أو الذين حسنت أفعالهم ، وصلح عملهم ، فأما المحسنين إلى الله فلا يحتمل ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ)(٤١)

وقوله : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) وفي بعض القراءات : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) بغير ألف ، وتأويل [(يُدافِعُ) ، أي :] يدفع عن الذين آمنوا جميع شرور الكفرة وأذاهم ، وتأويل (يُدافِعُ) ، أي : يدافع الكفار عنهم بنصر المؤمنين عليهم ، وكأن قوله : (يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) إنما نزل بمكة ، وعد للذين آمنوا هنالك النصر والدفع عنهم في حال قلتهم وضعفهم وكثرة أولئك الكفرة وقوتهم ، وهنالك كانوا كذلك ـ أعني : بمكة ـ قليلا ضعفاء ، ويكون نزول قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) بالمدينة ؛ لأنه هنالك كان أهل الخيانة ؛ لأنهم كانوا أهل كتاب اؤتمنوا على رسالة محمد وأشياء فخانوها وكتموها ، ولم يكن يومئذ أحد بمكة منهم ، إنما كانوا جميعا أهل شرك ، فيشبه أن يكون ما ذكرنا.

أو يكون قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) بإزاء ما قالت اليهود : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] فأخبر أنه لا يحبّ كل خوان كفور على ما يقولون ، بل يبغضهم ،

٤٢٢

وفيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه أخبر أنه ينصرهم ويدفع عنهم أذاهم وشرهم وأنهم خونة ، فكان على ما أخبر ؛ فدل أنه عرف بالله ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) قال بعض أهل التأويل : إن المشركين كانوا لا يزالون يؤذون أصحاب رسول الله ويقاتلونهم وهم لم يؤمروا بقتالهم بعد ، فلما هاجروا إلى المدينة أمروا بقتالهم بقوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) قال بعضهم (١) : إنه لم يكن لهم الأمر بقتالهم ، ولا الإذن حتى أمروا بذلك ، وأذنوا ، فقال أولئك : لم تؤمروا بقتالنا ، فيكف تقاتلوننا؟ فأخبر : أنهم أذنوا وأمروا بالقتال معهم ، والله أعلم بذلك.

وظاهره : أنه كان هنالك منع عن القتال حتى أذنوا وأمروا ، ولكن لا ندري لأية جهة كان ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ظاهر على ما أخبر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) قال بعض أهل التأويل (٢) : أخرج الكفار أصحاب رسول الله من مكة بغير حق بأن قالوا : ربنا [الله] ، وآمنوا به ووحدوه ؛ لهذا أخرجوهم.

وقال بعضهم : على التقديم والتأخير ، يقول : كأنه قال : أذن للذين ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق أن يقاتلوهم إلا أن يقولوا : ربّنا الله ، فإذا قالوا ذلك يرفع عنهم القتال ؛ لأن أهل مكة كانوا لا يقرون بالله ولا يؤمنون به ، فإذا قالوا ذلك وأقروا أنه ربّهم رفع عنهم القتال ، وأما من يقر به ويصدّقه لكنّه ينكر رسالة محمد ونبوته ، فما لم يقر بها ولا يصدّق بها فإن القتال لا يرفع عنهم ، ومن يقر به ويصدّقه بأنه رسوله إلا أنه ينكر الشرائع فإنه يقاتل حتى يقر بها ويصدّق بها ، فإذا أقرّ بها رفع عنهم القتال ، وذلك كله روي في الخبر (٣) أنه قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقّها» ، وفي خبر آخر : «حتى يقولوا : لا إله إلا الله وأنّي رسول الله ، فإذا قالوا ذلك عصموا مني ...» كذا ، وفي خبر آخر : «حتى يقولوا : لا إله إلا الله وأني رسول الله ، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ...» إلى آخر ما ذكر ، فالأول للذين لا

__________________

(١) قاله ابن جريج ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٢٦٠) وعن قتادة (٢٥٢٦١ ، ٢٥٢٦٢) ، وأخرجه ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير ، وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن أبي هريرة ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٥٥).

(٢) قاله ابن جرير (٩ / ١٦٢).

(٣) تقدم تخريجه.

٤٢٣

يقرون بوحدانية الله تعالى ، فإذا أقروا به رفع عنهم القتال ، والثاني في الذين يقرون به ولا يؤمنون بالرسالة ، فإذا آمنوا بها رفع عنهم القتال ، والثالث في الذين يقرون بالله ويؤمنون برسوله لكنّهم ينكرون الشرائع ، فإذا أقروا بها رفع عنهم القتال. كانوا أنواعا ثلاثة على ما ذكرنا ؛ فجاء في كل فريق ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ ...) إلى آخر ما ذكر ، وقال في آية أخرى : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) [البقرة :

٢٥١] ، وفي موضع آخر : (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [المؤمنون : ٧١] ونحوه.

قال بعضهم : دفع بالنبيّين عن المؤمنين ، ودفع بالمجاهدين عن القاعدين ما لو لم يدفع لهدمت كذا وما ذكر ، أي : دفع بالأخيار عن الأشرار ، وبالأخير عن الأدون ، وإلا لهدمت وفسد ما ذكر.

وقال بعضهم : لو لا أن الله يدفع بمن يصلي عمن لا يصلي ، وبمن يصوم عمن لا يصوم ، وبمن يحج عمن لا يحج ، وبمن يزكي عمن لا يزكي ، وبمن يفعل الخيرات عمن لا يفعل ـ لفسدت الأرض ، ولهدمت الصوامع ، وما ذكر ، وعلى ذلك [روي] عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ أنه صلى بأهل دمشق صلاة الصبح ، فقال : لو يعلم الناس ما في هذه الصلاة من الخير لحضروها. ثم قال : لو لا أن الله يدفع بمن يحضر المساجد عمن لا يحضرها ، وبالغزاة عمن لا يغزو ـ لجاءهم العذاب قبلا. أو كلام نحو هذا.

وقال الحسن : إن في الصوامع والبيع والكنائس من الرهبان والأحبار [من] يتمسك بالإسلام وشرائعه فيدفع بهم عمن لا يتمسك منهم.

وقال بعضهم : لو لا دفع الله بأهل هذا الدّين كلهم ، لكان كذا.

وقال بعضهم : دفع بالمسلمين عن مسجدهم ، وبالنصارى عن بيعتهم ، وباليهود عن كنيستهم. إلى هذا ذهب أهل التأويل والمتقدمون ، ولو قيل غير هذا كان أشبه وأقرب ، وهو أن الله خلق هذا الخلق ، وجعل بعضهم عونا لبعض وردءا في أمر المعاش والدّين جميعا ، وجعل لبعضهم منافع متصلة ببعض ما لو كلف كله القيام بنفسه فيه ، لهلكوا ولم يكن في وسعهم القيام بذلك ، نحو أن يكلف أحدا بالقيام بجميع ما يحتاج إليه من الحراثة ، والزراعة ، والحصاد ، والدياس ، والتذرية ، والطحن ، والخبز ، وغيره ، ما لو كلف بنفسه بذلك كله لهلك ، ولكن جعل بعضهم عونا لبعض وردءا لهم ، وانتفاع بعضهم ببعض ، وكذلك الغزل ، والنسج ، والخياطة ، والقطع ، والغسل كله على هذا القياس ما لو كلف بنفسه القيام بذلك كله لهلكوا ، ولو هلكوا هلك ما لهم خلق من السموات والأرض

٤٢٤

وما فيها ، وما سخر لهم.

وقال بعضهم : دفع بما يذكر أهل المساجد في المساجد من اسم الله عن أهل الصوامع والبيع والكنائس ، وهو قريب مما ذكرنا من قبل.

ثم اختلف فيما ذكر من الصوامع والبيع والصلوات :

قال بعضهم (١) : الصوامع للراهبين ، والبيع للنصارى ، والصلوات : الكنائس التي تكون لليهود ، والمساجد للمسلمين.

وقال بعضهم (٢) : الصلوات للصابئين.

وقال القتبي (٣) : الصوامع للصابئين ، والبيع للنصارى ، وصلوات : بيوت صلوات اليهود ، والمساجد للمسلمين.

وقال أبو عوسجة : الصوامع للرهبان ، والبيع للنصارى : مصلاهم ، والصلوات لليهود ، وهي شبه البيعة ، على ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) أي : من [كان من] أولياء الله نصره.

وقال الحسن : من حكمه أن من نصر الله نصره. وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) يحتمل : قوي لنصر أوليائه ، عزيز الانتقام [من] أعدائه.

أو أن يكون قوله : (لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) أي : قوي ، فيضعف كل قوي من دونه عند قواه ، ويذل كل عزيز عند عزه.

أو قويّ لا قوي سواه ، عزيز لا عزيز سواه.

وفي : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ) وما ذكر ـ دلالة ترك هدم الكنائس والبيع وما ذكر ، والنهي عن هدمها ؛ لأنه ذكر الصوامع والبيع ، وعلى ذلك تركت الكنائس والبيع في أمصار المسلمين لم تهدم ، ولا خلاف بين أهل العلم في ذلك ، وإنما يمنعون عن إحداث البيع والكنائس في أمصار المسلمين وقراهم ، وأمّا العتيقة منها فإنهم يتركون وذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله رفيع أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٢٦٧ ، ٢٥٢٧٤ ، ٢٥٢٨٥ ، ٢٥٢٨٩) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٥٧).

(٢) قاله أبو العالية ، أخرجه ابن جرير (٢٥٢٨٥) وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٥٧).

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩٣).

٤٢٥

وقوله : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ ...) إلى آخره.

قال بعضهم (١) : هذا نعت من الله لأصحاب رسول الله ومن تبعه ، ومدح لهم بالدوام على دين الله الذين قبلوه وأخذوه في حال الخوف بعد ما مكن لهم في الأرض ، وآمنهم من ذلك الخوف الذي كان في الابتداء ، وأخبر أنهم داموا على ذلك ولم يتركوا ما داموا عليه ، بل زاد لهم حرصا على ذلك وجهدا ، وكذلك الآية التي ذكرت في سورة النور ، وهو قوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ...) إلى آخر الآية [النور : ٥٥] ، فإن كان التأويل هذا فهو يرد على الروافض قولهم ومذهبهم ؛ لأنهم يقولون : إنه لما ولي أبو بكر ارتدوا جميعا ، وتركوا الدين الذي اختاروه ، فالآيتان تدلان على نقض قولهم ، أنهم ارتدوا ؛ لأنّ الله ـ عزّوجل ـ أخبر أنه مكن لهم في الأرض ، واستخلفهم ، ووعد لهم الجنة ، وإنما ارتد من كان إسلامه بالقهر والغلبة فإذا مكن لهم تركوا ذلك.

وقال بعضهم : إن الآية وإن كان ظاهرها خبرا ووعدا فهي في الحقيقة أمر : أن افعلوا كذا ... إلى آخر ما ذكر.

وقوله : (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) يحتمل قوله : (عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أي : ترجع إليه الأمور في الآخرة ، كقوله : (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة : ٢١٠].

وجائز أن يكون قوله : (عاقِبَةُ الْأُمُورِ) أن يكون عاقبة الأمور لأوليائه من النصر والقهر على أعدائه ، فالمراد بالإضافة إليه : أولياؤه ، كقوله : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] أي : [إن] تنصروا أولياءه ، أو تنصروا دينه ، ينصركم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ)(٥١)

وقوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ...) الآية.

__________________

(١) قاله أبو العالية ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٥٧).

٤٢٦

هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : وإن يكذبوك فيما أخبرت لهم وذكرت من التمكين ، والثبوت على الدين ، ووعدت لهم الجنة ، فقد كذبت الأمم الذين من قبلك رسلهم إذا أخبروا لهم بشيء ، أو وعدوا لهم بنصر ، أو نحوه.

وجائز أن يكون قوله : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) في الرسالة وفيما تخبر عن الله من الأخبار ، يصبر رسوله : لست أنت بأول رسول مكذب في الخلق ، ولكن قد كذب الأقوام الذين كانوا قبلك رسلهم في الرسالة ، وهو ما قال : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ ...) الآية [هود : ١٢٠].

وقوله : (فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي : لم يعاقب الله قوما كذبوا رسلهم وقت تكذيبهم الرسل ، بل أمهلهم حتى اغتروا بتأخير العذاب عنهم ، وزاد لهم تكذيبا وعنادا ، فعند ذلك أخذوا ، وعوقبوا بالتكذيب ، وهو ما أخبر عنهم ، وهو كقوله : (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) [المجادلة : ٨].

قال الحسن : إن الله لم يهلك قوما بأول التكذيب ، ولكن أمهلهم قرنا فقرنا ، وقوما بعد قوم ، ورسولا بعد رسول ، فعند ذلك إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون أهلكهم ، وإن كان يعلم في الأزل من يؤمن منهم ومن لا يؤمن حتى يعلم علم ظهور وعلم ابتلاء أنهم لا يؤمنون ، وهو كقوله : (حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ) [محمد : ٣١] علم ظهور في الخلق ، وإن كان يعلم علم باطن وخفي.

وقوله : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ) ، لم يهلك الله تعالى أهل قرية إهلاك استئصال وتعذيب إلا بعد عناد أهلها وظلم شرك ، كقوله : (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) [القصص : ٥٩] ، وكقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) [هود : ١١٧] ، وأمثاله كثير ، على ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) فإذا ذهبت السقف وبقيت الحيطان فهي خاوية على عروشها.

وقال بعضهم (١) : خاوية : خربة ، ساقطة حيطانها على سقوفها.

وقال الحسن : العريش : كل ما ارتفع من الأرض وعلا ، يقال : عرش ، وعروش جمع ، وهكذا كان ما أهلك الله من القرى :

__________________

(١) قاله الضحاك وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٥٢٩٤ ، ٢٥٢٩٥) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٥٨).

٤٢٧

منها : ما أهلك أهلها وترك القرى والبنيان على حالها لأوليائها ، من ذلك فرعون وقومه ، وغيره من الأقوام.

ومنها : ما أهلك القرى بأهلها ، لم يترك منها شيئا ، من نحو قريات لوط وثمود وهؤلاء.

وقال بعضهم : العرش : هي أجذام الشجر ، وكأنها أسطوانة ، وأصل الخاوية : خلاؤها عن الأهل ، وكذلك قوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطلها أهلها ، ليس بها أحد ، لا أنها خربت على [ما] ذكرنا من إهلاك أهلها.

وقوله : (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) قال بعضهم (١) : (مَشِيدٍ) : مجصص ، والشيد : الجصّ.

وقال بعضهم (٢) : (مَشِيدٍ) : أي : مرتفع ، والمشيّد ـ بالتشديد ـ : المطول المرتفع (٣).

قال القتبي (٤) : المشيد : المبني بالشيد ، وهو الجصّ ، والمشيّد : المطول ، ويقال : هما سواء ، وهو مطول. وكذلك قال أبو عوسجة أو قريبا ، وكأنه ذكر هذا لأهل مكة لوجهين :

أحدهما : أن كانت لهم قرية فيها قصور مشيدة محصّنة يتحصنون بها ، يخبر أن من كان قبلكم أشد قوة وأكثر حصنا وقصورا ، فلما كذبوا رسلهم لم ينفعهم ذلك ، ولكن نزل بهم العذاب ، فعلى ذلك أنتم يا أهل مكة إذا كذبتم رسولكم ينزل بكم مثل ما نزل بأولئك.

أو أن يكونوا آمنين فيها مطمئنين ، فقال : إن أولئك قد كانوا آمنين مطمئنين في قراهم كأمنكم ، ثم نزل بهم ما نزل ، فأنتم وإن كنتم آمنين فينزل بكم ما نزل بأولئك ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً ...) الآية [النحل : ١١٢] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) هلا ساروا في الأرض ، فتكون لهم قلوب يعقلون بها فينظروا ؛ ليعرفوا ما حلّ بأولئك بالتكذيب ؛ فيمتنعون عنه ، (أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) أي : يسيروا فيستمعوا إلى الأخبار التي فيها ذكر هلاكهم ، وما نزل بهم بالتكذيب والعناد ؛ لأن ما حل بالأولين إنما يعرف ذلك بأحد أمرين : إما بالمعاينة بالنظر

__________________

(١) قال عكرمة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٠١ ـ ٢٥٣٠٦) وعن مجاهد (٢٥٣٠٧ ، ٢٥٣٠٨ ، ٢٥٣٠٩) ، وعطاء (٢٥٣١٠) ، وسعيد بن جبير (٢٥٣١١) وعزاه السيوطي في الدر (٤ / ٦٥٨) لعبد ابن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس.

(٢) قاله الضحاك بنحوه أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣١٤).

(٣) ينظر : اللباب (١٤ / ١٠٩ ، ١١٠).

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩٤).

٤٢٨

إليهم ، وإمّا بالسماع من الأخبار.

أو أن يكون قوله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) أي : قد ساروا في الأرض ، لكن لم تكن لهم قلوب ـ عقول أو أفهام ـ يعقلون بها ما نزل بأولئك بالتكذيب فيعتبروا بذلك ، ولا كانت لهم آذان يستمعون ما حل بهم ، أي : كانت لهم عقول يعقلون بها لو نظروا حق النظر ، وآذان يسمعون بها لو سمعوا حق السّماع ، لكنهم لما لم ينتفعوا بعقولهم وأسماعهم نفى ذلك عنهم ، وهو ما قال : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) الظاهرة ، (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وهو ما نفى عنهم السمع والبصر ؛ لتركهم الانتفاع بها (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨].

وقال بعضهم (١) : هذه الآية في شأن عبد الله بن زائدة ابن أم مكتوم الأعمى ، معناه : أن العمى عمى القلب ، ليس عمى البصر ، وهو كان أعمى البصر ، لا أعمى القلب ، هذا معناه إن ثبت (٢) ، والله أعلم.

وقوله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) أي : لن يخلف الله وعده الذي وعد في نزول العذاب ، أي : ينزل بهم ، لا يتقدم ولا يتأخر عن ميعاده.

وقوله : (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).

قال عامة أهل التأويل ـ نحو ابن عباس (٣) والضحاك ومجاهد وهؤلاء ـ : إنها هي الأيام التي خلق الله فيها الدنيا وجعلها أجلالها ، يعدّ كل يوم من تلك الأيام كألف سنة ، وإلى هذا صرف عامة أهل التأويل ، فلا نعلم لذلك وجها.

وقال بعضهم (٤) : وإن يوما عند ربّك من عذابهم في الآخرة كألف سنة مما تعدّون في الدنيا ، اليوم الواحد ألف سنة.

ووجه هذا : أن الوقت القصير القليل يجوز أن يصير مديدا طويلا ؛ لشدّة العذاب والبلاء ، نحو ما قيل لهم : (كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [الكهف : ١٩] قصر مقامهم في الدنيا ؛ لشدة ما عاينوا من العذاب ، فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وجائز أن يكون هذا لا للتوقيت والمدّة ؛ إذ الآخرة ممّا لا غاية لانتهائها ، وكل شيء

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٥٨).

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ١١٢).

(٣) أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣١٥) ، وزاد السيوطي في الدر (٤ / ٦٥٩) عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) قاله ابن عباس ومجاهد وعكرمة بنحوه أخرجه ابن جرير عنهم (٢٥٣١٧ ، ٢٥٣١٩ ، ٢٥٣٢٠).

٤٢٩

لا غاية لانتهائه ، فذكر الوقت له يخرج مخرج التمثيل لا التوقيت ، كقوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد : ٢١] ، وقال : (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران : ١٣٣] ليس على التحديد لها والتوقيت ، ولكن على ما خرج عن الأوهام ذكر ذلك ومثلها به ، فعلى ذلك الأوّل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي (أَمْلَيْتُ لَها) : لم آخذها وقت ظلمهم (ثُمَّ أَخَذْتُها) من بعد (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ).

وقوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) هو ظاهر ، قد ذكرناه في غير موضع.

وقوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم ومعاصيهم (وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) قال بعضهم : سماه رزقا كريما ؛ لأن من رزق ذلك وأعطي يكرم ويعظم قدره.

وقال بعضهم : سماه : كريما ؛ لأن الكريم هو الذي يقضى عنده الحوائج والحاجات ؛ فعلى ذلك هو الرزق من ناله وأصابه قضى عنده الحوائج ؛ لذلك سمي : كريما ، والله أعلم.

وقوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) في بعض القرآن : (مُعاجِزِينَ) قال بعضهم : (مُعاجِزِينَ)(١) : مثبّطين مبطئين ، يبطئون الناس عن اتباع الشيء.

والأشبه ـ عندنا ـ أن يكون قوله : (مُعاجِزِينَ) : سابقين فائتين ، لكنه على الإضمار ، كأنّه قال : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) على ظن منهم أنّهم سابقون فائتون عن عذابه (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ).

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٢٥ ، ٢٥٣٢٦) ، وزاد السيوطي في الدر (٤ / ٦٦٠) ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وعزاه أيضا لابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن الزبير ولابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير.

٤٣٠

مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ)(٥٩)

وقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) ، أي : تلا (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) قيل : في تلاوته ، وقراءته الآية.

قال عامة [أهل] التأويل (١) : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تمنى ـ أي : تلا في صلاته ـ أو حدث نفسه ، ألقى الشيطان على لسانه عند تلاوته ب (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [النجم : ١] ، حتى إذا انتهى إلى قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى. وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) [النجم : ١٩ ، ٢٠] [قال] : «تلك الغرانيق العلى [وإن] شفاعتهن لترتجى». ويذكرون أنه أتاه على صورة جبريل ، فألقى عليه ما ذكروا ، ثم أتاه جبريل فأخبره النبي بذلك ، فقال له : إنه لم ينزل عليه قط شيئا مثله (٢). وأمثال ما قالوا.

لكنه لو كان ما ذكر هؤلاء كيف عرفه في المرة الثانية أنه جبريل ، وأنه ليس بشيطان ، ولا يؤمن أنه يلبس عليه في وقت آخر في أمثاله.

وقال قتادة (٣) : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يتمنى أن يذكر الله آلهتهم بعيب ، فلما قرأ تلك الآية (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ) [النجم : ٢٠] قال : «إنهن الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى عندهم» ، يعني به : عند أولئك الكفرة ، وهم على ذلك كانوا يعبدونها.

وقال الحسن : إنه أراد بقوله : «تلك الغرانيق العلى و [إن] شفاعتهن لترتجى» : الملائكة ؛ لأنهم كانوا يعبدون الملائكة ؛ رجاء أن يشفعوا لهم يوم القيامة ، فأخبر أن شفاعة الملائكة ترتجى.

وهذان التأويلان أشبه من الأوّل.

والأشبه ـ عندنا ـ : أن يكون على غير هذا الذي قالوا ، وهو أن قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي : عند تلاوته القرآن في قلوب الكفرة ما يجادلون به رسول الله ويحاجّونه ؛ فيشبهون بذلك على الأتباع ليتبعوهم ، وهو نحو قولهم : إنه يحرم ما ذبحه الله ، ويحل ما ذبح هو بنفسه. ونحو قولهم عند نزول

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٣٣) وعن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس (٢٥٣٢٧ ، ٢٥٣٢٨) وأبي العالية (٢٥٣٢٩ ، ٢٥٣٣٠) وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٦١ ، ٦٦٣).

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ١١٧ ، ١١٨).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم بنحوه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٦٣).

٤٣١

قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨] فقالوا : إن عيسى وعزيرا والملائكة عبدوا دون الله فهم حصب جهنم إذن ، ونحو صرفهم قوله : (الم. ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ١ ، ٢] إلى حساب الجمّل ، وأمثال هذا ممّا حاجّوا رسول الله وجادلوه به ، فأخبر أنه ينسخ مجادلتهم ومحاجتهم رسوله ، وأنّه يحكم آياته ، حيث قال عند قولهم : إنّه يحل ذبح نفسه ويحرم ذبح الله ، فبيّن أنه بم حرم هذا؟ وبم حل الآخر؟ وهو قوله : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] ولكن كلوا ممّا ذكر اسم الله عليه. فبيّن أنّه إنما حلّ هذا بذكر اسم الله عليه ، وحرم الآخر بترك ذكر اسم الله عليه.

وبين في قولهم : إن عيسى عبد دون الله والملائكة عبدوا دونه ، فهم ليسوا بحصب جهنم ، حيث استثنى أولئك فقال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ...) الآية [الأنبياء : ١٠١] ، وأبطل مجادلتهم ومحاجتهم ، بصرفهم الآية إلى حساب الجمّل (١) بقوله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ...) الآية [آل عمران : ٧] فهذا ـ والله أعلم ـ تأويل قوله ـ : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) نسخ ما ألقى الشيطان في قلوب أولئك الكفرة ما به جادلوه ، وأحكم آياته بما ذكرنا.

ثم إن ثبت ما ذكر ابن عباس وعامة من ذكرنا ، حيث قالوا : جرى على لسانه ذلك ، فجائز عندنا جرى الخطأ على لسان من عصم إذا عرف السامع منه مذهبه ودينه الذي يدين به ، عرف أن ما جري غلطا وخطأ ، نحو من يعتقد مذهبا وينتحل نحلة ، فجرى على لسانه خلاف ما يعرف منه الاعتقاد ، يعرف أنه جرى على لسانه غلطا ، فعلى ذلك الذي ذكره أهل التأويل ؛ إن ثبت ما ذكروا عنه أنه قال ذلك.

والأشبه فيه ما ذكرنا من إلقاء الشيطان في قلوب الكفرة ما يجادلون به رسول الله ويحاجّونه ، كقوله : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ ...) الآية [الأنعام : ١٢١].

وقال القتبي : (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) أي : تلا القرآن (٢)(أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي : في تلاوته. وكذلك قال أبو عوسجة ، وقال : أمانيّ مشدّدة جمع.

وقال غيرهما (٣) : إذا تمنى : إذا حدث ، وفي أمنيته : في حديثه.

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : الجمّل بتشديد الميم. صحاح.

(٢) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٣٩) ، وزاد السيوطي في الدر (٤ / ٦٦٤) : ابن أبي حاتم.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٣٦) ، وزاد السيوطي في الدر (٤ / ٦٦٤) : ابن المنذر وابن أبي حاتم.

٤٣٢

قال بعضهم : تمنى وأمنيته : هو من تمني النفس ، كقوله : (وَلا تَتَمَنَّوْا ...) الآية [النساء : ٣٢] ، ونحوه وهو قول الحسن : تمنى كبعض ما تمنى الناس من الدنيا.

وقال قتادة : تمنى ما ذكرنا من تمني النفس أن يذكر آلهتهم التي كانت تدعى وترجى شفاعتهن ، على ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) هذا تأويل القوم : ليجعل ما يلقي الشيطان في قلوب أولئك الكفرة فتنة للذين ذكر ؛ لما ظنوا لعله لا يقدر الإجابة لهم ، أو لا يحضره ما يجيبهم ؛ فيكون ذلك فتنة لهم ، والله أعلم.

وقوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) كأنهم هم المنافقون ؛ لأنهم هم الموصوفون المسمّون بهذا الاسم ، كقوله : (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب : ١٢].

وقوله : (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) كأنهم هم الرؤساء المكابرون المعاندون لرسول الله ، والكفرة كلهم موصوفون بقساوة قلوبهم ، كقوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) [البقرة : ٧٤].

وقوله : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) يحتمل : أي : لفي عناد وفي مكابرة ، بعيد عن الإجابة له ، أو بعيد لاستماع الحق وقبوله.

وقيل : شقاق : أي : خلاف بعيد ، أي : لا يرجعون إلى الوفاق أبدا.

وقوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ) وقوله : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) هذه الآية كالآيات التي ذكرناها فيما تقدم ، من ذلك قوله : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ...) الآية [التوبة : ١٢٤ ، ١٢٥] ، ونحوها من الآيات التي وصفت أهل التوحيد بالقبول لها والخضوع والإقبال إليها ، ووصفت أهل الكفر بالرد والتكذيب ، فعلى ذلك قوله : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) علم الذين أوتوا العلم أن القرآن ومحمدا لحق من ربّك ؛ لأنهم نظروا إليه بالتعظيم والتبجيل والخضوع له ، فأقروا به ، فزاد لهم بذلك هدى ورحمة وشفاء ، وأولئك نظروا إليه بالاستخفاف والاستهزاء والتكذيب ، فزاد لهم بذلك رجسا وضلالا وفسادا.

وقوله : (عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ).

قال بعضهم (١) : هو يوم بدر.

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٥٣ ، ٢٥٣٥٥) وعن سعيد بن جبير (٢٥٣٥٦) وقتادة (٢٥٣٥٧ ، ٢٥٣٥٨).

٤٣٣

وقال بعضهم (١) : هو عذاب يوم القيامة وهو شديد.

وجائز أنه سمّاه عقيما ؛ لأنه لا يرجى النجاة منه ، وكذلك سميت المرأة التي لا تلد : عقيما ؛ لما لا يرجى منها الوليد.

وقوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) قال الحسن : الملك في الأحوال كلها لله في الدّنيا والآخرة ، لكن تأويل قوله : (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) أي : الحكم يومئذ لله ، هو يحكم بينهم دون الخلائق ؛ لأن في الدّنيا من قد حكم غيره ، فأمّا يومئذ فالحكم له.

[و] عندنا : تخصيص الحكم يومئذ له بالذكر وإن كان الملك في الأيّام كلها لله ؛ لأنّهم جميعا يقرون له بالملك يومئذ ، لا أحد ينازع ، وفي الدنيا من قد ادعى الملك لنفسه ، وهو ما ذكره في قوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١](وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران : ٢٨](وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) [البقرة : ٢١٠] ، ونحوه ، فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وقوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ* وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ظاهر تأويله.

وقوله : (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا) أمّا أهل التأويل فإنّهم صرفوا تأويل الآية إلى الغزاة والمجاهدين في سبيل الله فقتلوا أو ماتوا حتف أنفهم ، فإن لهم ما ذكر من الرزق الحسن والمدخل المرضي ، وظاهره أن يكون في الذين هاجروا إلى رسول الله ، فإن كان فيهم ففيه دلالة نقض قول الروافض ، حيث قالوا : ارتد عامتهم ، حيث شهد الله لهم بالجنة ، والرزق الحسن ، والمدخل المرضي ، قتلوا أو ماتوا حتف أنفهم ؛ فلا يحتمل أن يكون منهم ما قالوا.

قال القتبي : قوله : (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) ، أي : تخضع وتذل ، وهو ما ذكرنا في قوله : (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) [الحج : ٣٤].

وقال : (عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) كأنه عقم عن أن يكون فيه خيرا وفرجا للكافر.

وقال أبو عوسجة : (عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) : شديد ، وهو ما ذكرنا.

وقوله : (لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً) قيل (٢) : هو الجنة ؛ لأنه إنما ذكر بعد الموت والقتل ؛ فلا يكون رزق حسن إلا في الجنة يستحسنها كل طبع وعقل (٣).

__________________

(١) قاله الضحاك وعكرمة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٥٣٥١ ، ٢٥٣٥٢) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٦٤).

(٢) قاله السدي ، وأخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٦٥).

(٣) ينظر : اللباب (١٤ / ١٣١).

٤٣٤

وقوله : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) أخبر أنه خير الرازقين وإن لم يكن رازق سواه ؛ لأنهم كانوا يطمعون ويطلبون الرزق والسّعة من عند من سواه ، حيث كانوا يعبدون من دونه طمعا في السّعة ، فأخبر أنه هو الرزاق ، ومنه يطمع الرزق والسّعة ؛ لأنه هو المالك لذلك ، وهو ما قال : (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤] وإن لم يكن خالق سواه.

وقوله : (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ) وهو الجنة أيضا ، يرضى بها كل طبع وعقل ، (وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ) عليم بما صنع بأوليائه أعداؤه ، أو ما صنع هو بأوليائه ، (حَلِيمٌ) حيث أخر الانتقام من أعدائه ، لم ينتقم منهم وقت صنيعهم بما صنعوا بأوليائه ، والله أعلم.

قوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(٦٢)

وقوله : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) قد ذكرنا فيما تقدم أنه جائز في اللغة ذكر حرف (ذلك) وحرف (هذا) على الابتداء وإن كان مما يخبر به عن غائب ، نحو قوله : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٤٩] وقوله : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) [ص : ٥٥] يستقيم ذكره بدون ذكر (هذا) وهو أن يقول : وإن للمتقين كذا ، وإنّ للطاغين كذا ، فعلى ذلك هذا.

أو أن يكون ذكر ذلك صلة ما سبق من ذكر الأنباء والأخبار ، يقول : ذلك الذي ذكرت لك وأنبأتك : (وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ).

ثم اختلف في سبب نزول هذه الآية :

قال بعضهم : هي في القصاص : أن من قتل ولي آخر فاقتص منه ، ثم أن المقتص منه بغى على ولي المقتول فقتله ، لينصرنّه على من بغى عليه ، وهو ما ذكر في آية أخرى ، وهو قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) [البقرة : ١٧٨] ، ثم قال : (فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ ...) [البقرة : ١٧٨] كذا ، لكن ذكر هاهنا الاعتداء بعد ما أخذ المال وعفا ، وفي الأوّل ذكر البغي بعد القصاص ، وهو واحد في معناه.

وقال بعضهم (١) : نزل في المؤمنين والمشركين ، وذلك أن المشركين عاقبوا المؤمنين بعقوبات واعتدوا عليهم ، ثم إن المسلمين ظفروا بهم ، فعاقبوهم جزاء عقوبتهم ، ثم إن

__________________

(١) قاله ابن جريج بنحوه ، وأخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٦٠).

٤٣٥

المشركين بغوا على المؤمنين ، فوعد الله لهم النصر عليهم بعد البغي.

وقال بعضهم قريبا من هذا ، وهو أن المشركين كانوا يؤذون أصحاب رسول الله ومن آمن منهم ، ويعاقبونهم في أشهر الحج ، ولم يكن للمؤمنين إذن بقتالهم في ذلك الوقت ، فقاتلوهم مكافأة لهم ، فأخبر الله ـ عزوجل ـ ووعد لهم النّصر إذا بغى أولئك عليهم من بعد ؛ فعلى هذا التأويل يكون وعد النصر لهم إذا بغى أولئك عليهم من بعد ، وعلى التأويل الأوّل يكون لهم الوعد بالنصر بعد ما بغى أولئك على هؤلاء ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) للمؤمنين بقتالهم أولئك في أشهر الحج ، حيث كان لم يأذن لهم بالقتال.

أو (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إذا تابوا ورجعوا عمّا فعلوا (١) ، والله أعلم.

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) قد ذكرنا أن حرف (ذلِكَ) يستقيم ذكره على الابتداء والائتناف على غير صلة.

وجائز أن يكون صلة قوله : (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) ، أي : ذلك النصر لمن ذكر ؛ لأن من قدر على إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل ـ قادر على ما وعد من النصر لهم (٢).

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [(سَمِيعٌ)] لأقوالهم ، (بَصِيرٌ) بحوائجهم ، والسّميع ، يقال : هو المجيب ، أي : مجيب لدعائهم ، (بَصِيرٌ) بما يكون من الأعداء.

أو أن يكون على الابتداء في كل أمر ، وكذلك : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) ما ذكرنا.

وقال بعضهم : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ) أي : هو الذي يفعل هذا.

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) قال الحسن : الحقّ : هو اسم من أسماء الله ، به يعطي وبه يحكم بين الخلق ، وبه يقضي ، ونحوه.

وجائز أن يكون قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي : عنده يتحقق ما يطمع في العبادة ويطلب ؛ إذ هو المالك لذلك.

وقوله : (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ) أي : ما تطمعون بعبادة من دونه باطل ، وهو الأصنام التي عبدوها رجاء الشفاعة ، أو طمعا في السعة ، فأخبر أنها لا تملك ذلك ، وإنما ذلك لله.

وقوله : (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) أي : من عنده يطلب العلوّ ، [و] من عنده يطلب ويطمع الرزق ، والسّعة ، والشفاعة ، والنصر ، والظفر ، والإجابة ، لا من عند هؤلاء

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ١٣٣ ، ١٣٤).

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ١٣٤).

٤٣٦

الأصنام التي يعبدونها ، يذكر سفههم بعبادتهم الأصنام من دون الله.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)(٦٦)

وقوله : (أَلَمْ تَرَ) اختلف فيه :

قال بعضهم : (أَلَمْ تَرَ) إنما هو حرف تعجيب ، يعجب رسول الله جميع ما يفعل من أفعاله.

وقال بعضهم : (أَلَمْ تَرَ) هو حرف إيضاح الحجج وإنارة براهينه ، كقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) [الفرقان : ٤٥] ونحوه.

وأصله : أن ظاهره وإن كان استفهاما فهو في الحقيقة تحقيق وإيجاب (أَلَمْ تَرَ) أي : قد رأيت ، وقد أخبرت ، وهكذا جميع ما خرج الظاهر في الكتاب مخرج الاستفهام فهو في الحقيقة إيجاب وإلزام.

ثم في قوله : (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) ـ وجهان من الاستدلال على منكري البعث :

أحدهما : يخبر عن قدرته وسلطانه : أن من قدر على إنزال الماء من السماء ، وشق الأرض ، وإخراج النبات منها مع لينه وضعفه وصلابة الأرض وشدّتها ـ قادر على إحياء الخلق بعد الموت ، ولا يحتمل أن يعجزه شيء.

والثاني : حيث قدر على إحياء الأرض بعد مواتها ويبسها ، لقادر على البعث والإحياء ، وقد عرفوا أن إعادة الشيء أهون من ابتدائه ، أو يقدر على الإعادة من لا يملك على الابتداء إذا عرف الابتداء.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) قال الحسن : اللطيف في الشاهد إنما يقال على وجوه ثلاثة : أحدها : أنه يقال للشيء : لطيف ؛ لرقته ، وذلك عن الله منفي.

والثاني : يقال : لطيف ؛ لما يتأتى له الأشياء ولا يصعب عليه.

والثالث : اللطيف : هو الرّحيم الرءوف. وهذان الوجهان يضافان إلى الله ، والأوّل لا يجوز إضافته إليه.

(خَبِيرٌ) : عليم.

٤٣٧

وقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) يخبر أن له ما في السموات وما في الأرض ، وأنهم عبيده وإماؤه ، وأنّه لم يخلقهم لحاجة نفسه ، ولكن إنما خلقهم لحاجة أنفسهم ، حيث أخبر أنّه الغني بذاته.

والثاني : يخبر أنه لم يأمرهم ، ولم ينههم ، ولا امتحنهم لمنافع تكون له ، ولكن لمنافع الممتحنين (الْحَمِيدُ) هو المحمود في فعاله ، أو (الْحَمِيدُ) : الحامد.

وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) يذكرهم نعمه ليتأدى به شكره ؛ لأنه أخبر أنه سخر لهم ما في الأرض من أنواع المنافع ؛ ليعلموا أنه لم يخلقهم عبثا ليتركهم سدى ؛ لأن من كان خلقه لما ذكر لم يكن خلقه ـ ليكون خلقا ـ متروكا سدى ، ويخبر أنه أعطى لهم الأسباب التي بها يصلون إلى منافع الأرض مع شدتها وصلابتها ، والأسباب التي بها يصلون إلى منافع البحر ، وهي الفلك التي خلقها لهم ؛ ليصلوا بها إلى منافع البحر ، حيث خلق الخشب قارّا على وجه الماء غير متسرب ، وغيره من الأشياء من طبعها التسفل والتسرّب في الماء من الحديد ، والحجر ، ونحوهما من الأشياء ؛ ليعرفوا فضله ورحمته أن كيف ثبت وقر هذا على وجه الماء ، ولم يثبت الحديد والحجر ونحوه ، ثم ثبت الحديد على وجه الماء مع الخشب ؛ إذ السفن لا تخلو عن الحديد ، وبه تقوم السفن ، ثم لم يتسرب ، والله أعلم.

وقوله : (وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ) أي : يمسك السماء لا بالأسباب ولا بالأشياء التي تمسك الأشياء في الشاهد ، وهو ما قال : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا ...) الآية [فاطر : ٤١].

وقوله : (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) أي : من رأفته ورحمته ما خلق لهم وسخر ما ذكر.

وقوله : (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) هذا قد ذكرناه.

وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) جائز أن يكون قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ) ، أي : الكافر (لَكَفُورٌ) للبعث أي : جاحد له ، والكفور لربّه في نعمه التي أنعمها عليهم ، حيث ذكر أنّه سخرها لهم في قوله : (سَخَّرَ لَكُمْ ...) كذا ؛ لأنه ينظر في النعم إلى أسبابه والحيل التي يحتال لا إلى فضل ربّه وإفضاله في تلك النعم ؛ لذلك صار كفورا لربّه في نعمه.

وأمّا المؤمن فإنّه ليس ينظر إلى الأسباب والحيل فيها ، ولكن ينظر إلى فضل الله وإفضاله وإنعامه عليه فيها ؛ فيكون شكورا له فيها غير كفور ، والكافر ينظر إلى ما ذكرت ؛ لذلك كان ما ذكر.

٤٣٨

و [هذا] على المعتزلة في قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ)(١) ؛ لأنه يقول : هو الذي سخر الفلك ، وهم يقولون : لم يسخر الفلك ، ولكن إنما سخر الخشب الذي منه تتخذ الفلك ؛ لأنهم لا يرون لله في فعل العباد تدبيرا ولا صنعا ، وهم يكفرون نعمة ربهم فيما ذكر من تسخير الفلك لنا ، وهم داخلون في ظاهر هذه الآية على الوجه الذي ذكرنا.

قوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ)(٧٠)

وقوله : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً).

اختلف في المنسك :

قال بعضهم : (مَنْسَكاً) ، أي : جعلنا لكل أمّة دينا يدعون إليه ، أي : كل أمة تدعى إلى دين واحد وهو دين الإسلام ، وهو قول الحسن.

وقال بعضهم : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) ، أي : شريعة ، فهذا على الاختلاف ، أي : جعلنا لكل أمّة شريعة على حدة.

(هُمْ ناسِكُوهُ) ذلك كقوله : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨].

وقال عامة أهل التأويل (٢) : (مَنْسَكاً) : أي ذبائح وعيدا ، قالوا : ذكر هذا ـ والله أعلم ـ لأن من الناس من ينكر أن يكون الذبح شريعة الله ، فأخبر أن الذبح سنة الله وشريعته في الأمم كلها ، ليس على ما قالت الثنوية.

وقوله : (فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) على تأويل من يقول : إن المنسك هو الدين ، أي : لا يخالجنك في نفسك أن الذي أنت عليه هو دين الله وادع الناس إليه.

وعلى تأويل من يقول : هو الذبح ، يقول : (فَلا يُنازِعُنَّكَ) ، أي : لا يصدّنك عن الذبح من ينكر ذلك ، كقوله : (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) [القصص : ٨٧].

(وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) أي : ادع إلى توحيد ربك.

أو أن يكون قوله : (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) : إلى عبادة ربك ، وانههم عن عبادة من دونه.

وقوله : (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) هذا يدل أن التأويل الذي ذكرنا في المنسك ـ وهو

__________________

(١) ثبت في حاشية أ : والمعتزلة داخلون تحت قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ). شرح.

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٣٦٣ ، ٢٥٣٦٤) وعن قتادة (٢٥٣٦٥) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٦٦).

٤٣٩

الدّين ـ أشبه وأقرب ؛ لأنه ذكر (إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) فلا يتخالجن في نفسك شك في ذلك ، والله أعلم.

وقوله : (وَإِنْ جادَلُوكَ) في أمر الذبيحة ، أو في الدين ، وقد جادلوه في الدّين كثيرا ، لكن قال ذلك ـ والله أعلم ـ عند إياسه عن توحيدهم وإسلامهم ، يقول ـ والله أعلم ـ : (وَإِنْ جادَلُوكَ) في الدّين والتوحيد فقل : (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) ، وهو كقوله : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [الشورى : ١٥] فعلى ذلك قوله : (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) من الدّين.

قال بعض أهل التأويل : هذه الآية منسوخة ، نسختها آية القتال ؛ لأن فيها حظرا عن القتال ، والترك على ما هم عليه ، وتسليم الأمر إلى الله يحكم بينهم يوم القيامة.

لكن جائز ما ذكرنا أنه إنما قال ذلك عند الإياس منهم عن توحيدهم.

وقوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) قد ذكرنا في غير موضع أن حرف (أَلَمْ) حرف يتوجه إلى وجوه : إلى التعجب مرة ، وإلى التنبيه والإيقاظ ثانيا ، وإلى إيضاح الحجج والبراهين ثالثا.

وقوله : (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ).

وقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) : حججا وبراهين ، (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ) يخبر عن سفههم أنهم يعبدون غير الله ولا سلطان ولا حجة لهم ، ولا لهم بذلك علم ؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون برسول يخبرهم ، ولا كان لهم كتاب فيعلمون به ، فيقول : إنهم يقولون : الله أمرهم بذلك ، ولا حجة لهم في ذلك ولا علم.

وفيه أنّه إنما بعث الرسل إليهم على علم منهم أنهم يكذبون الرسل ؛ لأن من الناس من ينكر بعث الرسل إلى من يعلم أنه يكذبهم ويترك إجابتهم كمن لا يبعث في الشاهد رسولا إلى من يعلم أنه يكذبه ولا يجيبه ، فعلى ذلك يقولون : لا يجوز أن يكون الله يبعث الرسول إلى من يعلم أنه يكذبه ولا يجيبه ، لكن الله أخبر أنه على علم منهم بالتكذيب وترك الإجابة بعثهم ، حيث قال : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

وأما قولهم : إن من علم في الشاهد تكذيب المرسل إليه رسوله فإنه لا يبعثه إليه ؛ لأن المرسل إنما يبعثه لحاجة نفسه ومنافعه ، فإذا علم منه تكذيبه وترك الإجابة لم يبعثه ، فأمّا الله ـ سبحانه وتعالى ـ إنّما يرسل الرسول لحاجة المرسل إليه ومنافعه ، لا لحاجة نفسه ومنفعته ، فلا ضرر يلحقه في تكذيبه وجحوده ، فجائز أرسله على علم منه بالتكذيب.

وقوله : (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) قال بعضهم : إن ذلك العلم في الكتاب الذي عنده.

٤٤٠