تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) في الجنة (وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : من خذله الله وطرده عن عبادته وبابه (فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) ، كقوله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) [الرعد : ٣٣].

أو أن يقول : ومن أهانه الله في النار بالعذاب ، فما له من منج ينجيه عن ذلك.

(إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) هذا على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : شاء أشياء فلم يفعل ، فهو يقول : (يَفْعَلُ ما يَشاءُ).

وقوله : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) اختلفوا في تأويله :

قال بعضهم (١) : نزل هذا في ستة نفر تبارزوا : ثلاثة من المسلمين : حمزة بن عبد المطلب ، وعلي بن أبي طالب ، وعبيدة بن الحارث ، وثلاثة من المشركين : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، والوليد بن عتبة ، فذلك اختصامهم.

وقال بعضهم (٢) : أهل الإسلام وأهل الكتاب في الدين : قالت اليهود والنصارى : نحن أولى بالله منكم يا معشر المسلمين ؛ لأن نبينا قبل نبيكم ، وديننا قبل دينكم ، وكتابنا قبل كتابكم. فقال المسلمون : بل نحن أولى بالله ، آمنا بكتابنا وكتابكم ، ونبيّنا ونبيكم ، وبكل كتاب أنزله الله ، ثم كفرتم أنتم بنبينا ، وكتابنا ، وبكل نبيّ كان قبل نبيكم ؛ فأنزل الله تعالى ما فصل بين المؤمنين وأهل الكتاب فقال : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا) بمحمد وبالقرآن ، وهم اليهود والنصارى ، (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ ...) إلى آخر ما ذكر ، وقال في المؤمنين : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ...) الآية.

وقال بعضهم (٣) : (هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ) : النار والجنة : قالت النار : جعلني الله للعقوبة للعصاة والفسقة ، وقالت الجنة : جعلني الله للرحمة للأنبياء والأولياء ، ونحوه. لكن متى يكون للنار مخاصمة ، وكذلك الجنة ، وهو بعيد.

وقال بعضهم : اختصم المسلم والكافر في البعث.

__________________

(١) قاله أبو ذر ، أخرجه البخاري (٤٧٤٣) ، ومسلم (٣٤ / ٣٠٣٣) ، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والترمذي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٢٧).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٩٨٤).

(٣) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٩٨٩).

٤٠١

وجائز أن يكون اختصامهم ما ذكر من أوّل السورة إلى هذا الموضع ، من ذلك قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) [الحج : ٨] وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الحج : ١٧] يكون اختصامهم بين هؤلاء الذين ذكرهم في هذه السورة ، وهم أهل الإسلام وأهل الكفر ؛ في الآية بيان ذلك ، حيث قال : (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) ، وقال في المؤمنين : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الحج : ١٤].

ثم جائز أن يكون هذا الذي ذكر في الآية الأولى ، حيث قال : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الحج : ١٧] : ينزل أهل الإسلام في الجنّة وأهل الكفر في النّار ، والله أعلم.

وقوله : (قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) كقوله : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ ...) الآية [إبراهيم : ٥٠].

وقوله : (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) قيل : الحميم : الماء الحار الذي انتهى حرّه غايته.

وقوله : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) :

قال القتبي (١) : يصهر : يذاب ، يقال : صهرت النار الشحمة ، والصهارة : ما أذيب من الألية ، وكذلك قال : الصّهارة : ما يبقى من الشحم والألية إذا أذيبا ، يقال : صهرت الشحم : أي أذبت ، أصهره صهرا.

(وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ) قال بعضهم : المقامع : الأعمدة من الحديد ، وهو قول أبي معاذ.

وقال بعضهم : المقامع : شبه العصا ، الواحدة : مقمعة.

قال أبو معاذ : يعني قوله : (يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ) أي : يذاب ما في بطونهم خاصّة ، وأمّا الجلود فإنّها تحرق ؛ لأن الجلد لا يصهر ولا ينصهر ، وقال : هذا مثل قول العرب : (أتيته فأطعمني والله ثريدا ، والله ولبنا قارصا ـ أي : حامضا ـ والله فإزارا ورداء ، والله وحملانا فارها) تضمر لكل شيء فعلا يشاكله ، وفي القرآن مثله كثير ، وكذلك في اللسان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) : قال بعضهم : إن جهنم إذا جاشت ، ألقت من فيها إلى أعلاها ، فيريدون الخروج منها ، فيعيدهم الخزّان فيها بالمقامع ، ويقول لهم الخزنة : (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ).

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩١).

٤٠٢

وقال بعضهم : إن في جهنم دركات ، فإذا اشتد العذاب بهم ينقلبون من دركة السفلى إلى دركة العليا ، ويصعدون ، ثم يريدون الخروج منها ، فيعادون فيها ، كقوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) [المدثر : ١٧].

وقال بعضهم : إن النار تضربهم بلهبها فترفعهم ، حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع من حديد ، فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفر لهبها ، والله أعلم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، أي : من تحت أهلها ، وهو كما ذكر في آية أخرى : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

وقوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) ذكر هذا ـ والله أعلم ـ لقوم رغبوا في هذه الدنيا بالتحلي بما ذكر ، وتفاخروا به فيها ، وهو ما ذكر : (فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) [الزخرف : ٥٣] وإلا قلما يرغب الناس في الدنيا في التحلي بما ذكر إلا النساء خاصّة.

فإمّا أن ذكر للنساء أو لقوم تفاخروا به في الدنيا فوعد لهم في الآخرة ذلك (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ) [الزخرف : ٧١].

وقوله : (وَلُؤْلُؤاً) قال الكسائي : من قرأ : لؤلؤ بالخفض فهو يخرج على أنهم : يحلون فيها من أساور من ذهب ، ويحلون فيها من لؤلؤ حلية سوى الأساور.

ومن قرأ بالنصب : (وَلُؤْلُؤاً) ، أي : يحلون فيها لؤلؤا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) ، وكذلك ذكر في الخبر : «هو لهم في الدنيا ، ولنا في الآخرة» (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ).

جائز أن يكون هذا في الدنيا والآخرة : أما في الدنيا : هو قول التوحيد ، وشهادة الإخلاص ، وأمّا في الآخرة كقوله : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [يونس : ١٠] فهو القول الطيب الذي هدوا إليه.

وقال بعضهم : قوله : (وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) : هو القرآن (وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ) : الإسلام وشرائعه.

وقال قتادة (٢) : ألهموا التسبيح والتحميد كما ألهموا النفس.

__________________

(١) أخرجه البخاري (٥٤٢٦) ، ومسلم (٥ / ٢٠٦٧) من حديث حذيفة.

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٥٠٠٣) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس بنحوه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٣١).

٤٠٣

وقال : (الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) : هو كل قول حسن.

وقوله : (الْحَمِيدِ) يحتمل (صِراطِ الْحَمِيدِ) ، أي : صراط الله ، كقوله : (صِراطِ اللهِ) [الشورى : ٥٣].

ويحتمل أن يكون نعت ذلك الصراط ، أي : صراط حميد ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)(٢٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قوله :

(كَفَرُوا) هو خبر ماض ، وقوله : (وَيَصُدُّونَ) خبر مستقبل ، فنسق المستقبل على الماضي.

قال الزجاج (١) : إن الكافرين والصادين عن سبيل الله (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ).

وعندنا تأويله : أنّ الذين كفروا قبل أن يبعث محمّد ويصدون الناس عن سبيل الله إذا بعث محمد.

ثم يحتمل قوله : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي : كانوا يمنعون المسلمين عن دخول المسجد الحرام للإسلام والسؤال عنه ، والثاني : إخراجهم منه ، كقوله : (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧].

وقوله : (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) ظاهر هذا أن يكون الذي جعل فيه العاكف والبادي سواء هو المسجد الحرام ؛ لأنه قال : (جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً) ، لكن أهل التأويل صرفوا ذلك إلى مكة ، وقالوا : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) في النزول في المنازل ، وظاهره ما ذكرنا.

ثم يحتمل أن يكون المسجد الحرام مخصوصا بهذا ليس كسائر المساجد التي لها أهل : أن أهلها أحق بها من غيرهم ، وأمّا المسجد الحرام فإن الناس شرع ، سواء العاكف

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٢ / ٤٢٠).

٤٠٤

فيه والبادي.

ويحتمل أنه [خص] المسجد الحرام بأن الناس [سواء] فيه ؛ ليعلموا أن الحكم في سائر المسجد كذلك : أن الناس فيها سواء أهلها وغير أهلها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) قال بعضهم : الإلحاد فيه : هو الشرك والكفر.

وقال [بعضهم](١) : الإلحاد : هو كل المعاصي ، وأصل الإلحاد : هو العدول والميل عن الطريق (٢). وتأويله : ومن يلحد فيه إلحاد ظلم نذقه كذا.

قال بعضهم (٣) : من همّ فيه بإلحاد بظلم نذقه كذا.

ثم يحتمل تخصيص ذلك المكان بما ذكر وجوها :

أحدها : ليعلموا أن كثرة الخيرات وتضاعفها مما لا يعمل في إسقاط المساوئ فيه وهدمها ؛ لما روي : «أن صلاة واحدة بمكة تعدل كذا وكذا صلاة في غيرها من الأماكن» (٤) ، وكذلك حسنة فيها.

والثاني : خصت بالذكر فيه على التغليظ والتشديد ، على ما خصّت تلك البقعة بتضاعف الحسنات.

والثالث : أن أولئك ادّعوا أنهم أولى بالله من غيرهم ؛ لنزولهم ذلك المكان ، فأخبر أن من يرد فيه بكذا نذقه ، ليس تخصيص ذلك المكان بما ذكر ، والعفو في غيره ، ولكن بما ذكرنا.

وقال بعضهم : معناه : من يرد فيه إلحادا بظلم ، والباء زائدة ، ومثله قوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] معناه : تنبت الدهن. روي بالخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «احتكار الطعام بمكة إلحاد» (٥) ، وكذلك روي عن عمر (٦) وابن عمر (٧).

__________________

(١) قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٥٠١٥ ، ٢٥٠١٦ ، ٢٥٠١٨) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٣٣).

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ٦٣ ، ٦٤).

(٣) قاله السدي ومجاهد والضحاك ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٥٠٢٢ ، ٢٥٠٢٣ ، ٢٥٠٢٤).

(٤) ورد في معناه أحاديث ؛ منها : حديث عبد الله بن الزبير : أخرجه أحمد (٤ / ٥) وابن حبان (١٦٢٠) والبيهقي (٥ / ٢٤٦) ولفظه : «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام ، وصلاة في ذاك أفضل من مائة صلاة في هذا» يعني في مسجد المدينة.

(٥) أخرجه البخاري في تاريخه ، وعبد بن حميد وابن المنذر وأبو داود (٢٠٢٠) وابن أبي حاتم وابن مردويه عن يعلى بن أمية ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٣٣) وأخرجه البيهقي في الشعب عن ابن عمر ، كما في المصدر السابق.

(٦) أخرجه سعيد بن منصور ، والبخاري في تاريخه وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٣٣ ، ٦٣٤).

(٧) أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٣٤).

٤٠٥

وجائز أن يكون ما ذكرنا من التغليظ والتشديد وتضاعف العقوبة ؛ ولذلك كره قوم الجوار بمكة لما يتضاعف عليهم العقوبة إذا ارتكب فيه مأثما وألحد فيه ، وجائز ما ذكرنا.

وقد كره قوم بيع رباع مكة وإجارتها بقوله : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) ، وعلى ذلك رويت الأخبار بالنهي عن ذلك ، روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «مكة مناخ ، لا يباع رباعها ، ولا يؤاجر بيوتها» (١).

[و] عن عمر ـ رضي الله عنه ـ : «يا أهل مكة ، لا تتخذوا لدوركم أبوابا ؛ ليرد البادي حيث شاء» (٢) ونهاهم أن يغلقوا أبواب دورهم (٣).

وليس في ظاهر الآية ذكر مكة ؛ إن في الآية ذكر المسجد ، حيث قال : (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) ، وإنما ذكر ذلك في المسجد الحرام خاصّة.

وقال أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ : أكره إجارة بيوت مكة في الموسم من الحاج والمعتمر ، فأما المقيم والمجاور فلا نرى بأخذ ذلك منهم بأسا. وهو قول محمد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) قال بعضهم : (بَوَّأْنا) ، أي : هيأنا (مَكانَ الْبَيْتِ) ؛ لينزل فيه ، والبيتوتة : الإنزال ، كأنه قال : (بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) ، أي : أنزلناه مكان البيت (٤) ؛ ليتخذ فيه بيتا ، وقلنا له : لا تشرك بي شيئا ، وهكذا بعث الأنبياء جميعا ، بعثوا ألا يشركوا بالله ، وأمروا أن يدعو الناس إلى ترك الإشراك بالله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) وادع الناس أيضا إلى ألا يشركوا بالله شيئا.

ثم يحتمل قوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) ومن ذكر ، أي : طهره من الأصنام والأوثان التي فيه لئلا يعبد غيره.

وجائز أن يكون قوله : (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) عن جميع الخبائث ، وعن كل أنواع الأذى من الخصومات ، والبياعات ، وغيرها ، وذلك للمسجد الحرام ولغيره من المساجد يطهر ويجنب جميع أنواع الأذى والخبث والفحش.

__________________

(١) أخرجه الدارقطني (٣ / ٥٨) ، والبيهقي (٦ / ٣٥) عن عبد الله بن عمرو مرفوعا وضعف إسناده ، وصححا وقفه.

(٢) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٣٣).

(٣) أخرجه عبد بن حميد وأبو بكر بن أبي شيبة من طريقين عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٣٢).

(٤) ينظر : اللباب (١٤ / ٦٥ ـ ٦٧).

٤٠٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) قال أهل التأويل : (لِلطَّائِفِينَ) هم القادمون من البلدان (وَالْقائِمِينَ) : المقيمين هنالك (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) : المصلين.

ويحتمل قوله : (لِلطَّائِفِينَ) : لكل طائف به ، (وَالْقائِمِينَ) ، (وَالْعاكِفِينَ) [البقرة : ١٢٥] : لكل عاكف نحوه ، والعكوف هو المقام للعبادة ، (وَالْقائِمِينَ) : لكل قائم عاكف نحوه ، (وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) وساجد نحوه ، أي : لكل مصلّ ، وهذا أشبه ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) يحتمل وجهين :

أحدهما : على الإعلام : أن أعلم الناس : أن لله عليهم الحج بالبيت ، كقوله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ...) الآية [آل عمران : ٩٧].

والثاني : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) أي : ادع الناس ونادهم أن يحجوا البيت.

قال أهل التأويل (١) : لما أمر الله إبراهيم ينادي في الناس بالحج ، فنادى ، فأسمع الله صوته ما بين المشرق والمغرب ، حتى أسمع صوته ونداءه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فقالوا : (لبيك) ، ومن حج بيته فهو الذي أجاب إبراهيم لما ناداهم بالحج.

لكن لا يعلم ذلك إلا بالخبر عن رسول الله أنه كان ما ذكروا ، وإلا السكوت عنه وعن مثله أولى.

وقالوا : إن قوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) موصول بقوله : (وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ ...) الآية.

وجائز أن يكون قوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) لرسول الله ، أو لكل رسول بعث الأمر بذلك في كل زمان ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (يَأْتُوكَ رِجالاً) أي : على الأرجل مشاة (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) ، أي : يضمر ويذهب سمنه ؛ لبعد المضرب ، وهو ما ذكر : (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي : من كل بعيد.

ثم قوله : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) على الدعاء والأمر ، فيكون في قوله : (يَأْتُوكَ رِجالاً) دلالة لزوم الحج على المشاة ، كأنه قال : مرهم يحجّون مشاة على الأرجل وركبانا ، وإن كان على الإعلام فهو على الوعد والجزاء : أنهم يأتونك على الأرجل مشاة وعلى الدّواب.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، وأخرجه ابن جرير من طرق عنه (٢٥٠٣٩ ، ٢٥٠٤٠ ، ٢٥٠٤١) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٣٧).

٤٠٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أضاف الإتيان إلى الدّواب ؛ لأنه بالدواب يأتون ، فأضاف إليها لذلك ، والله أعلم.

وقال أبو عوسجة : (يُحَلَّوْنَ فِيها) [الحج : ٢٣] من الحلي من الذهب والفضة ، تقول : حليت المرأة ، أي : اتخذت حليا ، ويقال : حلي الشيء يحلى حلى ؛ إذا حسن ، ويقال : بعينه إذا حسن في عينه ، ويقال : حلى الشيء يحلو حلاوة فهو حلو ، ويقال : تحليت ، إن شئت جعلته أكلت حلاوته ، وإن شئت جعلته من الحلي ، ويقال : حلأت الإبل عن الماء ، أي : منعت ، ويقال : حليت الشيء وأحليته ، أي : جعلته حلوا.

وقال القتبي (١) : (سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ) أي : المقيم ، والبادي ـ وهو الطارئ من البدو ـ سواء فيه ليس المقيم فيه بأولى من النازح إليه.

(وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) أي : من يرد فيه إلحادا ، وهو الظلم والميل عن الحق ، فزيدت الباء ، كما يقال : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] ، وهو ما ذكرنا.

وقوله : (وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) ، أي : ركبانا على ضمر من طول السفر (مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) أي : بعيد غامض.

وقال أبو عوسجة : (الْعاكِفُ) : المقيم ، (وَالْبادِ) : من كان في البادية ، والإلحاد : الميل عن الحق ، ومنه اشتق اللحد ، لحد القبر.

(وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ) ، أي : على كل بعير ضامر ، أي : خميص البطن.

(يَأْتُوكَ رِجالاً) تقول : رجل الرجل يرجل رجلة ، فهو راجل ، والفج : الطريق ، [و] العميق : البعيد ، يقال : عمق ، أي : بعد ، يعمق عمقا ، فهو عميق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) ، قال الحسن : يشهدون مشاهد فيه ، فيذكرون الله فيها ويكتسبون أشياء تنفع لهم في الآخرة ، فذلك منافع لهم التي يشهدونها.

وقال غيره من أهل التأويل (٢) : (مَنافِعَ لَهُمْ) : التجارات والمنافع التي كانوا يكتسبونها إذا خرجوا للحج.

وقال بعضهم (٣) : التجارة في الدّنيا ، والأجر في الآخرة ، وهو مثل الأوّل.

وجائز أن يكون قوله : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) : الأرزاق التي جعلت لهم في البلدان النائية البعيدة ما لو لم يشهدوها لم يسق الله ذلك إليهم ؛ لأن من الأرزاق التي جعلت لهم

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩١).

(٢) قاله ابن جرير (٩ / ١٣٦).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٠٦٩ ـ ٢٥٠٧٣) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٤٠).

٤٠٨

في البلدان ما يساق إلى أهلها وهم في مقامهم وأمكنتهم ، [و] من الأرزاق ما يساق أهلها إليها ما لو لم يأتوها لم يسق ذلك إليهم ، فجائز ما ذكر من المنافع : هو ما غاب عنهم من المنافع والأرزاق التي جعلت لهم في البلدان النائية البعيدة إذا خرجوا للحج نالوها ، وإذا لم يخرجوا له لم ينالوا.

وقال بعضهم : (لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ) أي : متاجرهم وقضاء مناسكهم.

وقوله : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) اختلف فيه :

قال الحسن : هو يوم النحر خاصّة. وجائز إضافة الواحد إلى الجماعة ، كقوله : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] وإنما جعل في السماء الدنيا ، وكما يقال : (توارى فلان في دور بني تميم) ، وإنما توارى في دار من دورهم ، ومثل هذا كثير ، وذلك جائز في اللسان.

وقال بعضهم (١) : الأيام المعلومات : هو يوم النحر ويومان بعده.

وقال بعضهم : المعلومات والمعدودات هي أيام التشريق جميعا.

وقال بعضهم (٢) : الأيام المعلومات : هي أيام العشر ؛ لأنها هي أيام الذكر فيها.

وجائز أن يكون قوله : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) كناية عن الذبح ، وأيام الذبح ثلاثة : يوم النحر ويومان بعده ؛ ألا ترى أنه قال : (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها) ذكر الأكل ولم يذكر الذبح ، فذلك يدل على أن قوله : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) كناية عن الذبح ، وإنما كان كناية عنه ؛ لأنه بالذكر يقدم الذبائح ولا يخلو منه دونه ، والله أعلم.

وقوله : (فَكُلُوا مِنْها) :

قال بعضهم (٣) : من الأضاحي ؛ لأن التناول من الأضاحي كان لا يحل فخرج ذلك مخرج رخصة التناول منها والحل ، لكن الأضاحي لا يحتمل ؛ لأن الوقت ليس هو وقت الأضاحي ولا أماكنها ، إنما هو وقت دم المتعة والقران ودم التطوع. وفيه إباحة التناول من دم المتعة والقران.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) : قال بعضهم : البائس : من البؤس ، وهو ما اشتد به من الحاجة والشدة.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٤١) ، وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر ، كما في المصدر السابق.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه أبو بكر المروزي في كتاب العيدين وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٦٤١) ، وهو قول عطاء ومجاهد أخرجه عبد بن حميد عنهما ، كما في المصدر السابق.

(٣) قاله عطاء وأبو صالح الحنفي ، أخرجه عبد بن حميد عنهما ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٤١).

٤٠٩

وقال بعضهم (١) : البائس : الذي سألك ، والفقير : المتعفف الذي لا شيء له.

وقال بعضهم (٢) : البائس : هو الذي به زمانة ، والفقير : الصحيح الذي لا شيء له ، وهو مثل الأوّل.

وقوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) : قال بعض أهل الأدب : التفث : لا يعرف في لسان العرب ما يراد به.

وقال الحسن : التفث : هو التقشف ، وهو ترك الزينة ، يدل على ذلك ما روي أنه سئل عن الحاج ، فقال : «كل أشعث تفل».

وقال أبو عوسجة : التفث في الأصل : الوسخ ، يقال : امرأة تفثة : إذا كانت خبيثة الريح ، وهو قريب مما قال الحسن : إنه ترك الزينة.

وأهل التأويل (٣) يقولون : التفث : هو حلق الرأس ، وقصّ الأظفار والشارب ، والرمي ، والذبح ، ونحوه.

وقال بعضهم (٤) : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) : المناسك كلها.

وروى في الخبر : «من وقف من عرفة بليل ، وصلى معنا الجمع ، فقد تم حجّه وقضى تفثه» (٥) ، ظاهر «قضى تفثه» ، أي : نسكه.

وجائز أن يكون قوله : «قضى تفثه» أي : جاء وقت الزينة ، وهو وقت الحلق واللباس ، والله أعلم.

وقوله : (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) ، أي : ليوفوا ذبح ما أوجبوا ذبحه ، ذكر فيما ساق من الهدي لمتعته ولحجته الأكل منه ؛ لقوله : (فَكُلُوا مِنْها) ، ولم يذكر الأكل ممّا أوجب بالنذر ؛ فلذلك يقول أصحابنا : إنه يجوز له التناول من هدي المتعة والقران ، ولا يجوز التناول مما كان وجوبه بالنذر والكفارة ، بل عليه أن يتصدق بالكل ، وهو ما قال : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : ١٩٦] ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله مجاهد وعكرمة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٥٠٨٥ ـ ٢٥٠٨٧).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٠٨٤).

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٠٩١) وعن عكرمة (٢٥٠٩٢ ، ٢٥٠٩٣) ومجاهد (٢٥٠٩٥ ، ٢٥٠٩٨) وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٤٢).

(٤) قاله ابن عمر ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٠٨٩ ، ٢٥٠٩٠).

(٥) أخرجه أحمد (٤ / ١٥ ، ٢٦١) وأبو داود (١٩٥٠) وابن ماجه (٣٠١٦) ، والترمذي (٨٩١) والنسائي (٥ / ٢٦٣ ، ٢٦٤) عن عروة بن مضرّس ، بلفظ : «من شهد صلاتنا هذه ، ووقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا ، فقد تم حجه ، وقضى تفثه».

٤١٠

(وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) هو طواف الزيارة ، وهو طواف يوم النحر ، وهو الفرض عندنا ، ولا يحتمل ما قال بعض الناس : إنه طواف الصدر ؛ لأن الله تعالى قال : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧] وحج البيت هو الطواف بالبيت لا غير ، وطواف الدخول وطواف الصدر ليس على أهل مكة ذلك الطوافان ، وعليهم الحج كما كان على غيرهم من النّاس ؛ فدل ما ذكرنا على أن قوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) هو طواف الزيارة ، وهو حج البيت الذي قال الله : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران : ٩٧].

وقوله : (بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قال بعضهم (١) : سماه : عتيقا ؛ لأنه أعتقه عن الجبابرة عن أن يتجبروا عليه ، وكم من جبار قد صار إليه ليهدمه فمنعه الله عن ذلك.

وقال بعضهم : سماه : عتيقا ؛ لأنه يرفع إلى السماء الرابعة ، فذلك المرفوع هو البيت العتيق. والبيت العتيق ـ عندنا ـ هو الذي بناه إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ وأسسه ، ويكون قوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) الذي أسّسه إبراهيم ، لا بالبيت الحادث الذي أحدثه النّاس ؛ ألا ترى أنه روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال لعائشة : «لو لا أنّ قومك حديثو عهد بالإسلام لرددت البيت على أساس إبراهيم ، وجعلت له بابين : بابا يدخل فيه ، وبابا يخرج منه» (٢) ، وروي في بعض الأخبار يرويه عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) قاله ابن الزبير ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥١١٠ ، ٢٥١١١) ، وعن مجاهد (٢٥١١٢) ، وقتادة (٢٥١١٣).

(٢) أخرجه مالك (١ / ٣٦٣) كتاب : الحج ، باب : ما جاء في بناء الكعبة ، حديث (١٠٤) ، والبخاري (٨ / ١٧٠) كتاب : التفسير ، باب : قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) حديث (٤٤٨٤) ، ومسلم (٢ / ٩٦٩) كتاب : الحج ، باب : نقض الكعبة وبنائها ، حديث (٣٩٩ / ١٣٣٣) ، والنسائي (٥ / ٢١٤ ، ٢١٥) كتاب : الحج ، باب : بناء الكعبة ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٢ / ١٨٥) كتاب : مناسك الحج ، باب : ما يستلم من الأركان في الطواف ، وأحمد (٦ / ١٧٦ ، ١٧٧) كلهم من طريق مالك ، عن سالم بن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ أخبر عبد الله بن عمر عن عائشة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «ألم ترى أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا على قواعد إبراهيم؟ قالت : فقلت : يا رسول الله أفلا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا حدثان قومك بالكفر لفعلت» ، قال : فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أرى قواعد إبراهيم.

وللحديث طرق أخرى عن عائشة :

فأخرجه البخاري (١ / ٢٧١) كتاب : العلم ، باب : من ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس ... حديث (١٢٦) ، والترمذي (٣ / ٥٢٢ ـ ٥٢٣ ـ تحفة) أبواب الحج ، باب : ما جاء في كسر الكعبة حديث (٨٧٦) من طريق أبي إسحاق عن الأسود بن يزيد أن ابن الزبير قال له : حدثني بما كانت تقضي إليك أم المؤمنين ـ يعني عائشة فقال : حدثتني أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لها : «لو لا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لهدمت الكعبة وجعلت لها بابين» فلما ملك ابن الزبير هدمها وجعل لها بابين. ـ

٤١١

«إنما سمى البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر عليه جبّار» (١) فإن ثبت هذا فهو هو.

قوله تعالى : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ)(٣٧)

وقوله : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) قوله : (ذلِكَ) جائز أن يكون الذي تقدم ذكره

__________________

ـ قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه البخاري (٣ / ٥١٣ ـ ٥١٤) كتاب : الحج : باب فضل مكة وبنيانها ، (١٥٨٤) ، ومسلم (٢ / ٩٧٣) كتاب : الحج ، باب : جدر الكعبة وبابها (٤٠٥ / ١٣٣٣) ، والطيالسي (١ / ٢١٥ ـ منحة) رقم (١٠٤١) ، والنسائي (٥ / ٢١٥) كتاب : المناسك ، والدارمي (٢ / ٥٤) كتاب : المناسك ، باب :

الحجر من البيت من طريق الأسود بن يزيد عن عائشة.

وأخرجه البخاري (٣ / ٥١٤) كتاب : الحج ، باب : فضل مكة وبنيانها (١٥٨٥) ، ومسلم (٢ / ٩٦٨) كتاب : الحج ، باب : نقض الكعبة وبنائها حديث (٣٩٨ / ١٣٣٣) ، وأحمد (٦ / ٥٧) ، والنسائي (٥ / ٢١٥) كتاب : المناسك ، باب : في بناء الكعبة من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا حداثة عهد قومك بالكفر لنقضت الكعبة ولجعلتها على أساس إبراهيم فإن قريشا حين بنت البيت استقصرت ولجعلت لها خلفا ..».

وأخرجه البخاري (٣ / ٥١٤) كتاب : الحج ، باب : فضل مكة وبنيانها ، حديث (١٥٨٦) ، والنسائي (٥ / ٢١٤) كتاب : الحج ، باب : بناء الكعبة من طريق يزيد بن رومان عن عروة عن عائشة به.

وأخرجه أحمد (٦ / ١٨٠) ، ومسلم (٢ / ٩٦٩ ـ ٩٧٠) كتاب : الحج ، باب : نقض الكعبة وبنائها وأبو يعلى (٨ / ٩٢) رقم (٤٦٢٨) ، وابن خزيمة (٤ / ٣٣٥) رقم (٣٠١٩) من طريق سعيد بن ميناء عن عبد الله بن الزبير قال : حدثتني خالتي يعني عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عائشة لو لا أن قومك حديثو عهد بشرك لهدمت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيّا وبابا غربيّا ...».

(١) أخرجه ابن جرير (٢٥١١٧ ، ٢٥١١٨) ، والبخاري في التاريخ الكبير (١ / ٦١٩) ، والترمذي (٣١٧٠) والحاكم (٢ / ٣٨٩) ، والبيهقي في الدلائل (١ / ١٢٥) ، والطبراني وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٤٣).

٤١٢

من قوله : (يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ. لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ ...) إلى آخر ما ذكر ذلك الذي ذكر : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ).

وجائز أن يكون لا على ذلك ، ولكن حرف يذكر عند ختم قصّة والفراغ منها مبتدأ ، لا على ربط شيء ، نحو قوله : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ ...) [ص : ٤٩] كذا (وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ ...) [ص : ٥٥] كذا ، قوله : (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ) يصح دون ذكر هذا ، لكنه ذكر على ختم كلام الأوّل وابتداء آخر ، فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ) كذلك.

وقوله : (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) كأنّه قال : ومن يعظم حرمات الله ، وخرج للحج ، وأنفق المال ، وأتعب النفس فما له عند ربّه من الثواب ، فذلك خير له من حفظ ماله وحفظ نفسه ، وإلا لا شك أن من عظم حرمات الله خير له ممن لم يعظمها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) ، وفي حرف ابن مسعود : وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم من المحرمات من الميتة والدم ، وما ذكر في سورة المائدة ، وقد ذكرنا هذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) جائز أن يكون قوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) وهم الأوثان.

وجائز أن يكون قوله : (فَاجْتَنِبُوا) عبادة الأوثان فإنه رجس ، وليس فيه أن غير الأوثان ليس برجس ، كقوله : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) [الإسراء : ٣١] ليس فيه أن يحل قتل الأولاد في غير خشية الإملاق ، فعلى ذلك هذا.

وقوله : (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) يحتمل كل قول زور.

ويحتمل الزور الذي قالوا في الله من الولد والشريك وما لا يليق به (١).

(وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. حُنَفاءَ لِلَّهِ) تأويله ـ والله أعلم ـ : واجتنبوا قول الزور ، وكونوا حنفاء لله غير مشركين به.

وقوله : (حُنَفاءَ) قد ذكرناه.

وجائز أن يكون قوله : (غَيْرَ مُشْرِكِينَ) تفسير قوله : (حُنَفاءَ لِلَّهِ) أي : كونوا مخلصين لله في جميع أموركم ، غير مشركين به في ذلك ، والله أعلم.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٨٢).

٤١٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) يحتمل ضرب مثل من أشرك بالله بالسّاقط من السماء واختطاف الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ـ وجوها :

أحدها : ما وصف وضرب مثله بشيء لا قرار له ولا ثبات ، نحو ما قال : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ) [إبراهيم ٢٦] ، ونحو ما قال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً ...) الآية [النور : ٣٩] ، ضرب مثل الكفر بشيء لا قرار له ولا ثبات ، فعلى ذلك مثله بالساقط من السماء تخطفه الطير أو تهوي به الريح ، لا يدري أين هو؟ ولا أين يطلب إن أرادوا طلبه؟ ولا يظفر به ، فعلى ذلك الكافر.

والثاني : ضرب مثله بالسّاقط من السماء ، وهي أبعد البقاع في الأوهام ، لا ينتفع بمن سقط منها ولا بشيء من نفسه ، ولا تبقى نفسه ؛ فعلى ذلك الكافر لا ينتفع بشيء من محاسنه ، ولا تبقى نفسه ينتفع بها لبعده عن دين الله.

والثالث : [الساقط] من السماء أثر سقوطه منها في نفسه وفي جميع جوارحه ، وظهر ذلك كله فيه حتى لا يرجى برؤه وصحّته ، فعلى ذلك الكافر يظهر آثار الكفر في نفسه وجوارحه ؛ لبعده عن دين الله ، والله أعلم.

وقال بعضهم (١) : هذا مثل ضربه الله لمن أشرك به في هلاكه وبعده من الهدى ، والسحيق : البعيد ، وهو قريب مما ذكرنا.

وقوله : (ذلِكَ) هو ما ذكرنا في قوله : (هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ) [ص : ٥٥] ، (وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ) [ص : ٤٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) تأويله ـ والله أعلم ـ أي : ومن يعظم شعائر الله بالجوارح ، فذلك التعظيم من تقوى القلوب ، وهكذا الأمر الظاهر في الناس : أنه إذا كان في القلب شيء من تقوى أو خير ، ظهر ذلك في الجوارح ، وكذلك الشر أيضا إذا كان في القلب ظهر في الجوارح.

وقوله : (حُرُماتِ اللهِ) و (شَعائِرَ اللهِ) قال بعضهم : هما واحد ، وهي المناسك.

وقال بعضهم (٢) : الحرمات هي جميع محارم الله ومعاصيه يتقيها ؛ تعظيما لها ، وقد ذكرنا تأويل (شَعائِرَ اللهِ) في سورة المائدة [٢] ، والسحيق : هو المكان البعيد ، يقال :

__________________

(١) قاله قتادة ومجاهد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٥١٣٨ ، ٢٥١٣٩ ، ٢٥١٤٠ ، ٢٥١٤١).

(٢) قاله مجاهد بنحوه ، أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير (٢٤ / ٢٥) ، (٢٥ / ٢٥) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٦٤٦).

٤١٤

سحق المكان يسحق سحقا فهو سحيق : إذا بعد ، والسحق أيضا : الشيء الخلق ، يقال : أسحق الثوب ، وسحق يسحق سحقا ، وأسحق يسحق ، والسحوق : النخلة الطويلة.

وقوله : (أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ) أي : تذهب به ، يقال : هوى يهوي هواء ، أي : ذهب بنفسه.

وقوله : (لَكُمْ فِيها) أي : فيما ذكر من الشعائر (مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) قال بعضهم : لكم فيها منافع من ظهورها وألبانها وأصوافها (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) ، أي : إلى أن تقلد وتهدى ، (ثُمَّ مَحِلُّها) إذا قلدت وأهديت (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

وكذلك يقول أصحابنا : إن من أوجب بدنة أو أهدى بدنة ، لا يحل له الانتفاع بها ولا بشيء منها إلا في حال الاضطرار ، فإذا بلغت محلها ، وذبحت ، حل الانتفاع بلحمها.

ومنهم من قال في قوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : إلى وقت محلها من الرّكوب بظهرها ، وحلب اللبن ، وجزّ الصّوف ، وغير ذلك مما كانوا ينتفعون بها من قبل ، ويروي في ذلك خبرا : روي أنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا ساق بدنة ، فقال : «اركبها» فقال : إنها بدنة فقال : «اركبها» فقال : إنها بدنة يا رسول الله ، قال : «اركبها ويلك» (١) ، وبه يقول

__________________

(١) أخرجه البخاري (٣ / ٥٣٦) كتاب : الحج ، باب : ركوب البدن ، حديث (١٦٨٩) ، ومسلم (٢ / ٩٦٠) كتاب : الحج ، باب : جواز ركوب البدنة المهداة لمن احتاج إليها ، حديث (٣٧١ / ١٣٢٢) ، وأبو داود (٢ / ٣٦٧) كتاب : المناسك (الحج) ، باب : في ركوب البدن ، حديث (١٧٦٠) ، والنسائي (٥ / ١٧٦) كتاب : الحج ، باب : ركوب البدنة.

وابن ماجه (٢ / ١٠٣٦) كتاب : المناسك ، باب : ركوب البدن (٣١٠٣) ، وابن الجارود (٤٢٨) ، وأحمد (٢ / ٢٥٤) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٢ / ١٦٠) ، والبيهقي (٥ / ٢٣٦) كتاب : الحج : باب ركوب البدن ، وأبو يعلى (١١ / ٢٠٠) رقم (٦٣٠٧) ، والبغوى في شرح السنة (٤ / ١١٥) من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى رجلا يسوق بدنة فقال له : «اركبها فقال : إنها بدنة قال : اركبها ويلك اركبها».

وأخرجه مسلم (٢ / ٩٦٠) كتاب : الحج ، باب : جواز ركوب البدنة (٣٧٢ / ١٣٢٢) ، وأحمد (٢ / ٣١٢) ، والبيهقي (٥ / ٢٦٣) ، والبغوي في «شرح السنة» (٤ / ١١٥) من طريق همام بن منبه عن أبي هريرة.

وأخرجه أحمد (٢ / ٢٦٤) ، وابن الجارود (٤٢٧) ، والحميدي (٢ / ٤٣٩) رقم (١٣٠٠) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٢ / ١٦٠) من طريق موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة.

وأخرجه الطيالسي (١ / ٢٢٦) رقم (١١٠٥) ، وأحمد (٢ / ٤٧٣) من طريق عجلان عن أبي هريرة.

وفي الباب عن أنس :

أخرجه البخاري (٣ / ٥٣٦) كتاب : الحج ، باب : ركوب البدن (١٦٩٠) ، ومسلم (٢ / ٩٦٠) كتاب : الحج ، باب : جواز ركوب البدنة (١٣٢٢) ، والنسائي (٥ / ١٧٦) كتاب : الحج ، باب : ـ

٤١٥

بعض الناس ، يبيحون الانتفاع بالهدايا والقلائد قبل أن تنحر وتذبح ، لكن عندنا ذلك في وقت الحاجة الشديدة المضطر إليها ، ففي مثل ذلك يجوز الانتفاع بملك غير ببدل ، فعلى ذلك بالهدايا ينتفع بها بما ذكرنا ويضمن ما نقصها ركوبه لها.

وجائز أن يكون قوله : (لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى أن تهلك أو تهلكون أنتم ، كقوله : (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) [البقرة : ٣٦] أي : إلى وقت هلاكها ، فعلى ذلك الأول.

ثم يكون قوله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ـ والله أعلم ـ ابتداء سؤال سئل عن محل الهدايا والقلائد ، فقال عند ذلك : (مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ، والله أعلم.

والأول أشبه وأقرب لما ذكرنا.

وقوله : (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) ذكر البيت العتيق ، ومعلوم : أنه لم يرد به نفس البيت ، ولكن إنما أراد به البقعة التي فيها البيت ؛ لأن الدماء لا تراق في البيت إنما تراق في تلك البقعة التي هو فيها ، الحرم كله منحر ومذبح ، وأراد بقوله : (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج : ٢٩] نفس البيت ؛ ألا ترى أنه قال هاهنا : (بِالْبَيْتِ) ، فإنما يطاف به ، وقال هنالك : (إِلَى الْبَيْتِ) ، أضاف إليه ؛ دل أنه لم يرد به نفس البيت ، ولكن البقعة التي فيها البيت ، والله أعلم.

وقوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) قال بعضهم : المنسك : الموضع الذي يعبدون وينسكون فيه ويصيرون إليه لعبادتهم ، ومن ثمة يقال للرجل العابد : ناسك ؛ ولذلك قال من قال : (مَنْسَكاً) ، أي : يصيرون ويخرجون إليه للعبادة ، وقال : المنسك : الدّين ، وقال : الشريعة.

وقال بعضهم : المنسك : المنحر والمذبح.

__________________

ـ ركوب البدن لمن جهده المشي ، والترمذي (٣ / ٥٦٢ ـ تحفة) كتاب : الحج ، باب : ما جاء في ركوب البدنة (٩١٣) ، وابن ماجه (٢ / ١٠٣٦) كتاب : المناسك ، باب : ركوب البدن ، حديث (٣١٠٤) ، وأحمد (٣ / ١٧٠) ، وابن خزيمة (٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار (٢ / ١٦١) ، والبيهقي (٥ / ٢٣٦) ، وأبو يعلى (٥ / ٢٥٠) رقم (٢٨٦٩) ، وأبو نعيم في الحلية (٧ / ٢٥٩) من طريق قتادة عن أنس.

وقال الترمذى : حسن صحيح.

وأخرجه مسلم (٢ / ٩٦١) رقم (٣٧٤ / ١٣٢٣) ، وأحمد (٣ / ١٦٧) من طريق بكير بن الأخنس عن أنس.

وأخرجه مسلم (٢ / ٩٦٠) رقم (٣٧٣ / ١٣٢٣) ، وأحمد (٣ / ١٠٦) ، والطحاوي (٢ / ١٦١) من طريق ثابت البنانى عن أنس.

وأخرجه أبو يعلى (٥ / ١٥٢) رقم (٢٧٦٣) حدثنا سويد بن سعيد ثنا على بن مسهر عن إسماعيل عن الحسن عن أنس به ، وسويد بن سعيد وإسماعيل بن مسلم المكي ضعيفان.

٤١٦

وجائز أن يسمّى في اللغة الذبح : نسكا ، كقوله : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) [البقرة : ١٩٦] وهو الذبح ، وقوله : (إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي) [الأنعام : ١٦٢] ، ولو كان النسك عبادة كذكر الصلاة وهي عبادة لكان لا يذكر النسك ، فدل أنه أراد بالنسك الذبح.

وقوله : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) ، دل قوله : (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ) أن ذكر اسم الله من شرط الذبيحة ، حيث ذكر اسم الله ولم يذكر الذبح ، ففهموا من ذكر اسم الله الذبح ؛ دل أنه من شرط جوازه وحله ، سوى الشافعي فإنه لم يفهم ما فهم الناس والأمم جميعا ، حيث لم يجعل ذكر اسم الله من شرط الذبيحة.

وقوله : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) كأنه ذكر قوله : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) لقوم أنكروا الذبائح ، فقال : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) ، أي : ذبحا ذبحوه ، وذكروا اسم معبودهم عليه ، ثم أخبر أن معبودهم واحد (فَلَهُ أَسْلِمُوا) ، أي : أخلصوا ذلك كله ، (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) قال : المتواضعين.

وقال بعضهم : المطمئنين.

وقال بعضهم (١) الخاشعين.

وقال بعضهم : كل مجتهد في العبادة هو المخبت.

ويقال : المخلصين.

وتفسير المخبت : ما ذكر على إثره ، حيث قال : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ...)

الآية.

ومن قال : المخبت : المطمئن ، قال : والخبتة : الطمأنينة.

قوله : (مَنْسَكاً) و (مَنْسَكاً) ، فيه لغتان :

قال الكسائي : من قرأ : (مَنْسَكاً) بكسر السين فهو من نسك ينسك ، ومن قرأ : منسكا بالنصب فهو من نسك ينسك ، ثم لا خلاف بين أهل العلم في أن البدن التي تساق والهدايا التي تقلد في الحج والعمرة لا يجوز أن تنحر في غير الحرم ، إنما اختلفوا في المحصر إذا أراد أن يحل أين ينحر ويذبح هديه الذي يحل به؟ وقد ذكرنا أقاويلهم واختلافهم في سورة البقرة.

ولم يختلف في أن معنى قول الله : (ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يدخل فيه الحرم كله على ما ذكرنا ، وعلى [ذلك] رويت الأخبار : روي عن جابر بن عبد الله قال : قال

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥١٧٣ ، ٢٥١٧٤) ، ٢٥١٧٥) ، وعن قتادة (٢٥١٧٦).

٤١٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «عرفة كلها موقف ، ومنى كلها منحر ، وكل فجاج مكة طريق ومنحر» (١) ، وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل عرفة موقف ، وكل منى منحر» ، وفي بعض الأخبار : «في كل أيام التشريق ذبح» ، وعن علي ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى الجمرة ، فرمى بها ، ثم أتى المنحر فقال : «هذا المنحر ، ومني كلها منحر» (٢) ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «إنما المنحر بمكة ، ولكنها نزهت عن الدماء ، ومني مكة».

وقوله : (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي : خافت وفرقت ؛ خوفا منه (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) من المصائب والرزايا (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) هذه الآية قد ذكرنا تأويلها في سورة الأنفال.

وقوله : (وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) قال بعضهم : من فرائض الله.

وقال الحسن : من دين الله.

والأشبه أن يكون قوله : (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) ، أي : من معالم دين الله وعبادته ونسكه ؛ لأن الشعائر هي المعالم في اللغة ، خصّت بها المناسك دون غيرها من العبادات فجعلها معالم لها ، والبدنة سميّت : بدنة ؛ لما تعظم في أنفسها وتبدن ، ويقال للرجل إذا عظم في نفسه : بدن فلان.

وظاهر ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «البدنة تجزئ عن سبعة ، والبقرة تجزئ عن سبعة» (٣) أن البدنة هي الجزور والإبل (٤) ؛ حيث قال : «البدنة تجزئ عن سبعة ،

__________________

(١) أخرجه أحمد (٣ / ٣٢٦) وأبو داود (١ / ٥٩٧) كتاب المناسك : باب الصلاة بجمع (١٩٣٧) ، وابن ماجه (٤ / ٤٩٧) كتاب المناسك : باب الذبح (٣٠٤٨) وابن خزيمة (٢٧٨٧).

(٢) أخرجه أحمد (١ / ٧٥ ، ٩٨ ، ١٥٦) وأبو داود (١٩٢٢ ، ١٩٣٥) ، وابن ماجه (٣٠١٠) ، والترمذي (٨٨٥) ، وابن خزيمة (٢٨٣٧ ، ٢٨٨٩).

(٣) أخرجه مالك (٢ / ٤٨٦) كتاب : الضحايا ، باب : الشركة في الضحايا ، حديث (٩) ، وأحمد (٣ / ٣٥٣ ، ٣٦٣) ، ومسلم (٢ / ٩٥٥) كتاب : الحج ، باب : الاشتراك في الهدى ، حديث (٣٥٠ / ١٣١٨) وأبو داود (٣ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠) كتاب : الضحايا ، باب : في البقر والجزور عن كم تجزئ؟ حديث (٢٨٠٩) ، والترمذي (٤ / ٨٩) كتاب : الأضاحي ، باب : ما جاء في الاشتراك في الأضحية ، حديث (١٥٠٢) ، وابن ماجه (٢ / ١٠٤٧) كتاب : الأضاحي ، باب : عن كم تجزئ البدنة والبقرة؟ ، حديث (٣١٣٢) ، والبيهقي (٩ / ٢٩٤) كتاب : الضحايا ، باب : الاشتراك في الهدي والأضحية ، من طريق أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال : نحرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة.

وأخرجه مسلم (٢ / ٩٥٥) كتاب : الحج ، باب : الاشتراك في الهدي ، حديث (٣٥٣ / ١٣١٨) وأحمد (٣ / ٣٧٨) وابن الجارود (٤٧٩) ، وابن خزيمة (٤ / ٢٨٧ ـ ٢٨٨) رقم (٢٩٠٠) ، والبيهقي (٩ / ٢٩٥) كتاب : الضحايا ، باب : الاشتراك في الهدي والأضحية من طريق ابن جريج عن ـ

٤١٨

والبقرة تجزئ عن سبعة» فرق بين البدنة والبقرة بالذكر ، والله أعلم.

وقوله : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) قال بعضهم (١) : المنافع الحاضرة من الركوب ، والحلب ، والحمل عليها بعد ما قلدت وأوجبت هديا.

وقال بعضهم : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) إلى أن تقلد ، فإذا قلدت فلهم الأجر في الآخرة ، وكأن هذا أشبه ، أي : يكون قوله : (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) أي : الأجر في الآخرة ؛ لأن الانتفاع بها لا يحل إذا أوجبت بدنة إلا في حال الاضطرار ؛ لأنّه قال في آية أخرى : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) [المائدة : ٢] وفي الانتفاع بها إحلال شعائره ؛ لذلك قال أصحابنا : لا ينتفع بالبدن ،

__________________

ـ أبي الزبير عن جابر قال : اشتركنا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحج والعمرة كل سبعة في بدنة ، فقال رجل لجابر : أيشترك في البدنة ما يشترك في الجزور؟! قال : ما هي إلا من البدن.

وأخرجه ابن خزيمة (٤ / ٢٨٨) رقم (٢٩٠١) من طريق عمرو بن الحارث ، ومالك بن أنس عن أبي الزبير عن جابر به.

وأخرجه مسلم (٢ / ٩٥٥) كتاب : الحج ، باب : الاشتراك في الهدي ، حديث (٣٥٢ / ١٣١٨) من طريق عزرة بن ثابت عن أبي الزبير عن جابر.

وأخرجه أيضا (٣٥١ / ١٣١٨) من طريق زهير بن معاوية عن أبي الزبير عن جابر ، ورواه من هذا الطريق أيضا أحمد (٣ / ٢٩٢) ، والبيهقي (٥ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦).

وقد توبع أبو الزبير على هذا الحديث تابعه عطاء بن أبي رباح ، وأبو سفيان ، والشعبي ، وسليمان ابن قيس.

ومتابعة عطاء :

أخرجها مسلم (٢ / ٩٥٦) كتاب : الحج ، باب : الاشتراك في الهدى ، حديث (٣٥٥ / ١٣١٨) وأبو داود (٢ / ١٠٨) كتاب : الضحايا ، باب : في البقر والجزور ، حديث (٢٨٠٧) ، والنسائي (٧ / ٢٢٢) كتاب : الضحايا ، باب : ما تجزئ عنه البقرة في الضحايا ، وأحمد (٣ / ٢٦٣) ، والدارقطني (٢ / ٤٧) العيدين ، وابن خزيمة (٤ / ٢٨٨) رقم (٢٩٠٢) ، وأبو يعلى (٤ / ٣١) رقم (٢٠٣٤) ، والبيهقي (٩ / ٢٩٥) من طريق هشيم عن عبد الملك عن عطاء عن جابر قال : كنا نتمتع مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالعمرة ، فنذبح البقرة عن سبعة نشترك فيها.

ومتابعة أبي سفيان :

أخرجها أحمد (٣ / ٣١٦) من طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر به.

ومتابعة عامر الشعبى :

أخرجها أحمد (٣ / ٣٣٥) ، والدارقطني (٢ / ٢٤٣ ـ ٢٤٤) من طريق مجالد بن سعيد عن الشعبي عن جابر به.

ومجالد بن سعيد فيه ضعف.

ومتابعة سليمان بن قيس :

أخرجها أحمد (٣ / ٣٥٣ ، ٣٦٤) ، والطيالسي (١ / ٢٢٩ ـ منحة) رقم (١١٠٣) من طريق أبي عوانة حدثنا أبو بشر عن سليمان بن قيس عن جابر به.

(٤) ينظر : اللباب (١٤ / ٩١).

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥١٨١ ، ٢٥١٨٢) ، وعن إبراهيم (٢٥١٨٣ ، ٢٥١٨٤ ، ٢٥١٨٥) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٥٠).

٤١٩

وما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه رأى رجلا يسوق بدنة ، فقال له : «اركبها» فقال : إنها بدنة يا رسول الله ، فقال النبي : «اركبها» ، فقال : إنها بدنة. فقال : «اركبها ويحك» ، وفي بعض الأخبار : «ويلك» ؛ فهذا عندنا لما رأى بالرجل الحاجة الشديدة إلى ركوبها ، وهو ما ذكرنا : أن الانتفاع بها يجوز في حال الاضطرار ، ولا يجوز في حال الاختيار ؛ إذ الانتفاع بالمحرمات يجوز في حال الاضطرار ، فعلى ذلك بالبدن التي جعلت معالم للمناسك ، والله أعلم.

وقوله : (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) دل هذا أن ذكر اسم الله من شرط الذبيحة ؛ لأنه لم يذكر الذبح بنفسه ، ولكن إنما ذكر : ذكر اسمه ، فلو لا أنهم فهموا من ذكر اسم الله عليها ذبحها ونحرها ، وإلا لم يكتف بذكر اسمه دون ذكر الذبح ؛ فدل أنهم إنما عرفوا ذلك به ، وأنه من شرط جوازها ، والله أعلم.

وقوله : (صَوافَ) ، فيه لغات ثلاث :

إحداها : صوافي : أي بالياء ، وهو من الإخلاص لله ، والصفو له.

والثانية : صوافن بالنون ، وهو من عقل ثلاث قوائم منها ، وترك أخرى مطلقة.

والثالثة : صواف بالتنوين ، أي : قياما مصطفة.

وكأن جميع ما ذكر يراد أن يجمع فيها من الإخلاص له وعقل القوائم ، والقيام ، وكذلك جاءت السنة والآثار. وفي حرف ابن مسعود : صوافن ، بالنون ، وتأويله ما ذكرنا.

وظاهر الآية يدل على القيام ؛ لأنّه قال : (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) ، وقوله : (وَجَبَتْ) ، أي : سقطت ، والسقوط إنما يكون من القيام ، فدل أنها تنحر قياما لا مضطجعة ، والله أعلم.

وقوله : (فَكُلُوا مِنْها) قد ذكرنا هذا فيما تقدم في قوله : (فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ) و (الْبائِسَ الْفَقِيرَ) : من سألك ؛ هذا قول بعض.

وقال بعضهم : (الْبائِسَ) : المعروف بالبؤس ، و (الْفَقِيرَ) : المتعفف الذي لا يسأل.

وقال بعضهم : (الْبائِسَ) : المسكين ، و (الْفَقِيرَ) : فقير.

قال بعضهم : (الْبائِسَ) : الضرير.

و (الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ) :

قال بعضهم : (الْقانِعَ) : هو الراضي ، وهو من القناعة.

وقال بعضهم (١) : هو السائل ، وهو من القنوع ، (وَالْمُعْتَرَّ) : الذي يعتريك ولا يسأل ،

__________________

(١) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٢٣١ ، ٢٥٢٣٢ ، ٢٥٢٣٣) ، وعن سعيد بن جبير (٢٥٢٣٤ ، ٢٥٢٣٥) ، وابن زيد (٢٥٢٣٨) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٥٤).

٤٢٠