تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

تقدم ، ثم تتلاشى وتفنى حتى لا يبقى منها شيء ، كما ذكر (هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] ؛ فعلى ذلك السموات والأرضون يختلف عليها الأحوال على ما ذكر ، ثم آخرها التبديل كما ذكر (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) [إبراهيم : ٤٨] فيما ذكر في هؤلاء الآيات من تغيير الجبال والسموات والأرضين دليل فناء هذا العالم بجملته وأسره ؛ لأن فناء السموات والأرض والجبال يبعد عن أوهام الخلق ، وأمّا غيرها من الخلائق فإنهم يشاهدون فناءه ، فذكر فناء ما يبعد في أوهامهم ، ليعلموا أن هذا العالم يفنى بأسره ، ويستبدل عالما آخر ، يحتمل البقاء للجزاء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ).

هذا أيضا لا يحتمل إلا على تقدم ذكر ، فهو محتمل ما ذكرنا مما سبق من ذكر أهل الجنة وأهل النار ، فقالوا : كيف يحيون؟ فقال عند ذلك : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) ثم اختلف فيه :

فقال بعضهم : نطفا ، ثم علقا ، ثم مضغا ، ثم عظاما ، ثم لحما ، ثم ينفخ فيهم الروح.

وقال بعضهم (١) : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) حفاة عراة على ما خلقوا في الابتداء.

وقال بعضهم : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) يعني : السموات السبع يطويها الله فيجعلها سماء واحدة كما كانت أولا قبل أن يخلق فيها ست سماوات ، والأرضين كذلك.

وجائز أن يكون ذكر هذا إخبارا أنه قادر على أن يعيدهم كما قدر على ابتداء خلقهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) أي : بعثهم (وَعْداً عَلَيْنا) لا يختلف ذلك على ما قال : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) [آل عمران : ٩] ثم اختلف في السجل ، وفي قراءته :

قال بعضهم (٢) : السجل : اسم رجل ، وهو كاتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال بعضهم (٣) : هو اسم الملك الذي يكتب.

وقال بعضهم (٤) : السجل : الصحيفة.

__________________

(١) ورد في معناه حديث عن ابن عباس أخرجه البخاري (٤٧٤٠) ، ومسلم (٥٨ / ٢٨٦٠) والنسائي (٤ / ١١٤) ، والترمذي (٢٤٢٣ ، ٣١٦٧) ، وابن جرير (٢٤٨٥٦ ـ ٢٤٨٦٠).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٤٨٤٨ ، ٢٤٨٤٩) ، وأبو داود والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مندة في الصحابة ، وابن مردويه والبيهقي في سننه وصححه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦١١).

(٣) قاله ابن عمر والسدي ، أخرجه ابن جرير (٢٤٨٤٦ ، ٢٤٨٤٧) وابن أبي حاتم عنهما ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦١٠ ، ٦١١).

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٨٥٠ ، ٢٤٨٥١) ، وعن مجاهد (٢٤٨٥٢ ، ٢٤٨٥٣).

٣٨١

ثم قال بعضهم : من قرأ (السِّجِلِ) بالتشديد فهو الصحيفة ، ومن قرأ (السِّجِلِ) بالتخفيف : هو ملك موكل بالصحف ، اسمه : السجل ، ويقرأ الكتاب.

قال أبو عوسجة : (كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) قال : يقال : أسجلت وسجلت ، أي : كتبت ، إسجالا وتسجيلا ، وسجلت أيضا : عملت ، وسجل : خلق ، يقال منه : سجل يسجل سجلا ، والمساجلة : المفاخرة ، ويقال : ساجلته : فاخرته ، ويقال : أسجلت الكلام فهو مسجل ، أي : أطلقته وأرسلته ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ).

قال بعضهم (١) : إن كل كتب الله التي أنزلها هي زبور.

(مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي : الكتاب الذي عند الله وهو اللوح المحفوظ ، معناه ـ والله أعلم ـ على هذا التأويل : كتبنا في الكتب التي أنزلناها بعد ما كان مكتوبا في اللوح المحفوظ (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها ...) كذا.

وقال بعضهم (٢) : كتب الله في الزبور المعروف ، وهو زبور داود بعد ما كتب (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي : التوراة (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها) يعني : الجنة (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) وكتب ذلك في هذا القرآن فقال : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ).

وقال بعضهم : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) ، أي : زبور داود بعد ما كتب في الذكر الذي عنده.

وجائز أن يكون قوله : (كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) : في بعض كتاب ، أي : في بعض السور : (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) ، أي : من بعد السورة (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها) كذا.

وجائز أيضا : (كَتَبْنا) في كتاب (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) ، أي : من بعد ما ذكرهم ووعظهم (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها) كذا.

ثم اختلفوا في قوله : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) :

قال عامة أهل التأويل (٣) : هي الجنة ؛ أخبر أن الجنة إنما يرثها عبادي الصالحون ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

__________________

(١) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٨٦٥ ، ٢٤٨٦٦) ، وعن مجاهد (٢٤٨٦٧ ، ٢٤٨٦٨) وابن زيد (٢٤٨٦٩) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦١٢).

(٢) قاله الشعبي أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٨٧٣ ، ٢٤٨٧٤) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦١٢).

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٨٧٥ ، ٢٤٨٧٦) ، وعن سعيد بن جبير (٢٤٨٧٧ ، ٢٤٨٧٩) وأبي العالية (٢٤٨٧٨) وغيرهم ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦١٢).

٣٨٢

[المؤمنون : ١٠ ، ١١] فيكون هذا تفسيرا لذلك.

وقال بعضهم : (أَنَّ الْأَرْضَ) يعني : أرض بيت المقدس (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) وهو كذلك كان ، لم يزل بها عباد الله الصالحون إلى يوم القيامة.

وجائز أن يكون قوله : (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها) أنه محمد ، كقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «زويت لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» (١) ، فذلك وراثتها ، وهم عباده الصالحون ، كقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ...) الآية [آل عمران : ١١٠] ؛ أخبر أنها خير الأمم ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) يحتمل قوله : (فِي هذا) أي : فيما ذكر من قوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) في ذلك (لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي : لقوم همتهم العبادة ، أو لقوم مطيعين موحدين.

وجائز أن يكون قوله : (إِنَّ فِي هذا) فيما تقدم من الآيات ، وهو قوله : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) [الأنبياء : ٩٧] إلى قوله : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) ، وما ذكر من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ...) إلى آخر ما ذكر ـ أن فيما ذكر كله (لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ).

وجائز أن يكون بلاغا للناس جميعا ، كقوله : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) [إبراهيم : ٥٢] فيكون قوله : (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) أي : لقوم يلزمهم العبادة.

وقال بعضهم : (إِنَّ فِي هذا) أي : في هذا القرآن (لَبَلاغاً) أبلغهم عن الله (لِقَوْمٍ عابِدِينَ).

وفي حرف ابن مسعود : (إِنَّ فِي هذا) أي : في هذا (لِقَوْمٍ عابِدِينَ).

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ)(١١٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) جائز أن يكون كل رسل الله رحمة من الله للعالمين ، وكذلك كل كتب الله رحمة للعالمين على ما ذكر في عيسى : (وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) [مريم : ٢١].

__________________

(١) أخرجه مسلم (١٩ / ٢٨٨٩) عن ثوبان.

٣٨٣

وجائز أن يكون لرسول الله ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ خاصّة ؛ فيكون في وجهين :

أحدهما : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) وما أرسلناك : إلا جعلناك رحمة للعالمين.

أو أن يقال : وما أرسلناك إلا رحمة منا للعالمين ، والعالمين : هو الجنّ والإنس ؛ لأنه بعث إليهم ، ثم الرحمة فيه يحتمل وجوها :

أحدها : تأخير العذاب عنهم.

والثاني : أنه رحمة ، حتى إذا اتبعوه يكون به نجاتهم ، وبه عزهم في الدنيا والآخرة.

والثالث : شفاعته لأهل الكبائر في الآخرة ، ونحو ذلك (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) كأنه على الدعاء خرج الأمر ، كأنه قال : أمرني ربي أن أخبركم : أن إلهكم إله واحد ؛ فاصرفوا العبادة إليه ، ولا تشركوا فيها غيره.

أو أن يقول : أوحى إليّ أن أدعوكم إلى إلهكم الذي هو إله واحد ، وإلا كان رسول الله يعلم أنه إله واحد ، لكنه خرج على الدعاء والإخبار أنه إله واحد.

أو أن يخبرهم أني [أدعوكم] إلى ما أدعوكم إليه وآمركم ، إنما أدعوكم وآمركم بالوحي بما أوحى إليّ ، لا من تلقاء نفسي : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الأنبياء : ٤٥] والله أعلم.

وقوله : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ظاهره وإن كان استفهاما فهو على الأمر والإيجاب كأنه قال : قد أوحى إلى أن إلهكم إله واحد ، فأسلموا له وأخلصوا العبادة له ، لا تشركوا فيها غيره ، والإسلام هو أن يجعل كلية الأشياء والأعمال كلها لله عزوجل ، ثم هو يكون على وجهين :

أحدهما : على الاعتقاد أن يعتقد كلية الأشياء لله ، لا على تحقيق ذلك الفعل.

والثاني : على تحقيق جعل الأشياء كلها لله اعتقادا وفعلا وقولا ، منه يخاف ، ومنه يرجو ، لا يخاف غيره ، ولا يرجو من دونه ، فهو حقيقة الإسلام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) هذا يدل على أن الأوّل خرج على الأمر والدعاء ، حيث قال : (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإجابة إلى ما دعوتهم إليه (فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي : أعلمتكم على عدل وحق ، كقوله : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) [آل عمران : ٦٤] أي : عدل بيننا وبينكم ، فعلى ذلك هذا محتمل أن يكون قوله : (عَلى سَواءٍ) أي : على عدل وحق.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٦٢٠ ـ ٦٢١).

٣٨٤

ويحتمل أيضا : (آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي : أعلمتكم ، أي : حتى أنا وأنتم في العلم على سواء ، أي : على الاستواء في العداوة والمخالفة ، وفي كل أمر على الاستواء ، وهو كقوله : (فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) [الأنفال : ٥٨] على الاستواء في العداوة ، أي : انبذ إليهم حتى تكون أنت وهم على الاستواء في العلم بالمنابذة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) أي : ما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون؟

ثم يحتمل قوله : (ما تُوعَدُونَ) الساعة والقيامة التي كانوا يوعدون بها وهم كانوا يستعجلون بها ، كقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨] فيقول : ما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون؟

ويحتمل قوله : (ما تُوعَدُونَ) من العذاب الذي كان يعد لهم أنه نازل بهم في الدنيا ، وهم كانوا يستعجلون كقوله : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [سبأ : ٢٩] فيقول : ما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون من العذاب؟ والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) يخرج ذلك على الوعد والتنبيه والزجر عن المكر برسول الله والقول فيه بما لا يليق به ؛ يخبر أنه يعلم ما تظهرون من القول (ما تَكْتُمُونَ) أي : ما تسرون من المكر به.

وفيه دلالة إثبات رسالة محمد ، حيث أخبرهم عما أسروا فيما بينهم من المكر به.

وقوله : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) ذكر أنه ما أدري (لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) ، ولم يبين ما الذي يكون فتنة لهم.

لكن بعض أهل التأويل قال : ما أدري ما قلت لكم من العذاب والسّاعة : هل يؤخر عنكم لمدّتكم ومتاع لكم إلى حين فيصير ما قربت لكم من العذاب والساعة فتنة لكم فتقولون : لو كان ما خوفنا به محمد حقّا ، لكان نزل بعد ؛ فيصير قولي ذلك فتنة لكم ؛ هذا محتمل.

ويحتمل وجها آخر ، وهو : لما قال : (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) : أنه كان خوفهم نزول العذاب بهم ، ولكن لم يبين لهم الوقت أنه متى ينزل بهم ، فيقول : ما أدري لعل تخويفي إياكم العذاب على بيان وقته فتنة لكم ؛ لأنه إذا تأخر عنهم العذاب متاعا لهم يأمنون عنه ؛ فيحملهم ذلك على تكذيبه فيما خوفهم من العذاب ، ويكون ما يأمنون من العذاب متاعا لهم ؛ لأنه لو كان وقت نزول العذاب مبينا لكانوا أبدا على خوف فينقض ذلك الخوف ويمنعهم عن المتاع وإن لم يبين لهم الوقت ، فإذا تأخر عنهم يأمنون

٣٨٥

ويتمتعون ، فيقول : ما أدري ، لعل تخويفي إياكم لكم فتنة [وعندنا :] ألا يجب أن يفسر قوله : (فِتْنَةٌ لَكُمْ) أنه أي شيء أراد؟ وهم قد عرفوا أنه ما أراد به؟ وليس لنا أن نفسر ذلك : أنه أراد كذا إلا ببيان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) تعلق أكثر المعتزلة بظاهر هذه الآية في مسائل لهم ؛ يقولون : يجوز أن يدعى بدعوات يعلم الداعي أنه قد أعطى ذلك له ، من نحو سؤال المغفرة : ربّ اغفر لي ، وهو مغفور [له] ، وربّ أعطني كذا ، وهو معطى له ، ويقول : رب اغفر لي ، وهو يعلم أنه لا يغفر له ، ونحو هذا من المسائل لهم ، فيحتجون بظاهر قوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أمر رسول الله أن يدعو به على علم منه أنه لا يحكم [إلا] بالحق.

ونحن نقول : إنه لا يجوز أن يدعى بمثل هذا الدعاء على الإطلاق إلا على اعتقاد معنى آخر في ذلك كأن الله فعل ذلك ؛ فيكون ذلك منه عدلا وحقا ، نحو أن يكون قوله : (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) أي : بالنصر له ، والظفر على أعدائه ، وله ألا ينصره ، ويكون ذلك عدلا منه وحقا.

أو أن يكون المراد به : (احْكُمْ بِالْحَقِ) أي : بالعذاب الذي هو حكمك على مكذبي الرسل ، فأمّا أن يعتقد من قوله : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) ما اعتقد المعتزلة فيحصل الدعاء به : اللهم لا تجر ورب اعدل ، ومن عرف ربه هكذا فهو ليس يعرف حقيقته.

وقال أبو عبيدة في قوله : (رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) ، أي : رب احكم بحكمك وهو الحق ، وهو محتمل مستقيم ، وقد ذكرنا هذه المسألة وأمثالها فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) أمر رسوله أن يستعين بالله ـ تعالى ـ على ما يقولون من تكذيبهم إيّاه فيما يدعو ويعد.

قال القتبي (١) : (آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي : أعلمتكم ؛ فصرت أنا وأنتم على سواء ، وإنما يريد ؛ ب (آذَنْتُكُمْ) : أخبرتكم وأعلمتكم ذلك ؛ فاستوينا في العلم ، وهو ما ذكرنا.

وقال أبو عوسجة : قوله : (آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) ، أي : كلكم. والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ، وعليه التكلان.

* * *

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٨٩).

٣٨٦

سورة الحج كلها مكية إلا ثلاث آيات

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ)(٢)

قوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) قد ذكرنا تأويله في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) قال الحسن : إن بين يدي السّاعة آيات تحجبن التوبة وقبول الإيمان ، منها : الزلزلة التي ذكر ، ومنها : طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدجّال ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وأمثاله ، وهو كقوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً) [الأنعام : ١٥٨].

وجائز ـ عندنا ـ أن تكون هذه الآيات غاية لقبول التوبة والإيمان ، يقبل إلى ذلك الوقت ، ولا يقبل بعد ذلك وإن تابوا وآمنوا.

أو أن يكون قوله : (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها) [الأنعام : ١٥٨] ؛ لأنهم لا يؤمنون لما تشغلهم تلك الآيات عن ذلك فلا يؤمنون ؛ لأن تلك الآيات تعم الخلائق كلهم : المؤمن والكافر جميعا ؛ فلا يعرف المبطل والضال أنه على الضلال والباطل ، فيرجع إلى الهدى والحق ، ليس كعذاب ينزل على قوم خاصة ؛ لأن ذلك يعرف أولئك أنه إنما ينزل بهم خاصّة ؛ لما فيهم من التكذيب والعناد ، وإذا كانت الآيات عامة ، لم يعرف أهل الضلال أنهم على باطل ، وأنه إنما ينزل بسببهم ؛ لما يرونه أنه قد عمّ الخلائق كلها ، فقوله : (لا يَنْفَعُ) [الأنعام : ١٥٨] ؛ لأنهم لا يؤمنون ، كقوله : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر : ٤٨] أي : لا يكون لهم من يشفع ، ليس أن يكون لهم شفعاء فيشفعون فلا تقبل شفاعتهم ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (لا يَنْفَعُ) لأنهم يشغلون عن الإيمان فلا يؤمنون ، فلا ينفع لهم ، على ما ذكرنا.

ثم اختلف فيه :

قال بعضهم (١) : (زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) : قبل الساعة ، وقيل (٢) : القيامة.

وقال بعضهم : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) هي الساعة ، وصفها بالشدّة والفزع فقال : (يَوْمَ

__________________

(١) قاله علقمة والشعبي ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٤٨٩٨ ، ٢٤٨٩٩) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦١٨).

(٢) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٩١٢) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦١٩).

٣٨٧

تَرَوْنَها تَذْهَلُ) أي : تشغل كل مرضعة ؛ لشدّة أهوالها وأفزاعها (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها) هذا على قول من يقول : إن زلزلة الساعة قبل السّاعة قبل السّاعة يكون على التحقيق ، أي : تذهل عما أرضعت ، وتضع حملها ؛ لأنها تكون في ذلك الوقت مرضعا وحاملا ؛ فتذهل ـ لأهوال ذلك وأفزاعه ـ عن ولدها ، وتضع ما في بطنها ، كقوله : (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ...) الآية [عبس : ٣٤] ، فذكر هؤلاء ؛ لأن من أصاب شيئا من البلاء في هذه الدنيا يفزع إلى هؤلاء ، فيخبر أن في ذلك اليوم يفر بعض من بعض لشدة ذلك اليوم وهوله ؛ لشغله بنفسه.

وعلى قول من يقول : إن زلزلة الساعة هي الساعة ؛ فيخرج قوله : (تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ...) الآية على التمثيل ، أي : تذهل عما أرضعت أن لو كانت مرضعة ، وتضع حملها أن لو كانت حاملا ؛ لشدته وهوله. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) أي : من مكن له وقوي يرى الناس كأنّهم سكارى وما هم بسكارى ، وإلا لم يجز أن يراهم سكارى وليسوا هم بسكارى في الحقيقة.

وإنما قلنا : إنه يرى من مكّن له وقوي ، وإلا لو كانوا كلهم سكارى ، لكان لا يراهم سكارى ؛ لأن السكران لا يرى من كان في مثل حاله سكران.

أو أن يكون خاطب به رسوله ، ولا يكون فيه ذلك الهول الذي يكون في غيره.

أو أن يكون ذلك على التمثيل ، ليس على التحقيق.

وقول أهل التأويل : يقول لآدم في ذلك : «قم فابعث بعث النار» ، فيقول : يا ربّ كم؟ فيقول : «من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين في النار ، وواحد في الجنة» ، ويروون الأخبار في ذلك عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١) ، فإن ثبت ما روي عنه في ذلك وإلا الكف عن مثله أولى ؛ لأنه يحزن حيث يؤمر أن يتولى بعث ولده إلى النار من غير أن كان ما يستوجب هذه العقوبة.

قال القتبي : (تَذْهَلُ) : أي تسلو عن ولدها وتتركه.

وقال أبو عوسجة : (تَذْهَلُ) : أي : تنسى ، يقال : ذهل يذهل ذهولا ، وأذهلته ؛ أي : أنسيته.

وقال غيره : أي : تشغل ، والحمل بالنصب : ما في البطن ، والحمل بالخفض : ما على

__________________

(١) في الباب عن أبي سعيد الخدري ، أخرجه البخاري (٦٥٣٠) ، ومسلم (٣٧٩ / ٢٢٢) وابن جرير (٢٤٩٠٧ ، ٢٤٩٠٨ ، ٢٤٩٠٩) وأحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦١٨).

٣٨٨

الظهر ، والزلزلة : الرجفة ، يقال : زلزلت ، أي : حركت ، وتزلزلت ، أي : تحركت.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)(٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) ذكر المجادلة في الله ، ولم يبين فيم جادلوا؟ وقد كانت مجادلتهم من وجوه :

منهم من جادل في مشيئة الله تبارك وتعالى.

ومنهم من جادل : أن هذا العالم منشأ أم لا؟

ومنهم من جادل في وحدانية الله تعالى : واحد أو عدد؟

ومنهم من جادل في بعث الأنبياء وإرسال الرسل.

ومنهم من جادل في إنزال الكتب.

ومنهم من جادل في دين الله ـ تعالى ـ المدعو إليه.

وبمثل هذا قد كثرت مجادلاتهم فيما ذكرنا ، وكل ذلك كان مجادلة بغير علم ؛ لأنهم لو تفكروا في هذا العالم ، ونظروا فيه حق النظر لعرفوا أن لهذا العالم منشئا ، وأنه واحد لا عدد ، وأنه عالم قادر بذاته ، وأنه بعث الرسل والكتب ، وعرفوا أيضا أنه يبعث هذا العالم ويحييهم ، وأنه قادر على ذلك ، لكنهم [لم] يتفكروا فيه ، ولم ينظروا حق النظر ، فجادلوا فيه بغير علم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) يحتمل أن يكون قوله : (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) : الشيطان المعروف نفسه ، يتابعه في كل ما يدعوه.

وجائز أن يكون أراد أنه يتبع كل من يعمل عمل الشيطان ، وهم القادة الذين كانوا يدعون إلى اتباع ما يدعو الشيطان ويوحي إليهم (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ) [الأنعام : ١٢١] ، أخبر أن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوكم ، فذلك معنى قوله : (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) قيل : فعيل بمعنى فاعل ،

٣٨٩

على ما ذكر في آية أخرى : (مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ) [الصافات : ٧] قال بعضهم : كل متمرد في العناد والمكابرة ، فهو مارد.

وقال بعضهم : المارد : هو المجاوز عن جنسه في عتوه وتمرده ؛ ولذلك سمي الذي لا لحية له : أمرد ؛ لخروجه ومجاوزة أجناسه ورجاله ، والمارد بالفارسية : ستنبه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) قال بعضهم : كتب على الشيطان أن من تولاه واتبعه أن يضله (وَيَهْدِيهِ) أي : يدعوه (إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ، وهو ما قال في آية أخرى : (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [لقمان : ٢١].

وقال بعضهم (١) : كتب على من تولى الشيطان واتبعه أنه يضله ، أي : يدعوه إلى ما به ضلاله وهلاكه.

وقوله : قيل : حكم.

وقيل : قضى.

و (كُتِبَ) يحتمل الإثبات ، أي : أثبت في أم الكتاب : أن من تولى الشيطان واتبعه أنه يضله ، وقد ذكر إضلال الشيطان في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي : خلقنا أصلكم من تراب ، وخلقنا أولاده من نطفة (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ...) الآية.

تأويله ـ والله أعلم ـ : أن كيف تشكون في البعث وتنكرونه وليس سبب إنكاركم البعث إلا أن تصيروا ترابا أو ماء في العاقبة ، وقد كنتم في مبادئ أحوالكم ترابا وماء ، فكيف أنكرتم بعثكم إذا صرتم ترابا؟

أو أن يكون معناه : أن كيف أنكرتم البعث وقد رأيتم أنه يقلبكم من حال النطفة إلى حال العلقة ، ومن العلقة إلى المضغة ، ولا يقلب من حال إلى حال بلا عاقبة تقصد ، فلو لم يكن بعث ـ كما تزعمون ـ لكان خلقكم وتقليبكم من حال إلى حال عبثا ؛ على ما أخبر : أن خلق الخلق لا للرجوع إليه عبث ، كقوله ؛ (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] صيّر خلق الخلق لا للرجوع إليه عبثا ، فعلى ذلك الأوّل.

أو أن يكون تأويله ـ والله أعلم ـ : (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ...) إلى آخر الآية ، ولو اجتمع حكماء البشر وعلماؤهم ليعرفوا السبب الذي خلق البشر من ذلك التراب أو من النطفة ـ ما قدروا عليه ، وما وجدوا للبشر فيه أثرا ، ولا معنى البشرية فيه ،

__________________

(١) قاله قتادة بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٩١٩) ، وعن مجاهد (٢٤٩٢٠ ، ٢٤٩٢١) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٢٠).

٣٩٠

فمن قدر على ابتداء إنشاء هذا العالم من التراب أو من النطفة من غير سبب يوجد فيه ، ولا أثر ـ لقادر على إعادتهم ، وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من الابتداء ، فمن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر.

وقوله : (مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ).

قال بعضهم : (مُخَلَّقَةٍ) : أي مخلوقة خلقا ، و (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) : أي غير مخلوقة خلقا ، نطفة على حالها.

وقال بعضهم (١) : (مُخَلَّقَةٍ) أي : تامة ، و (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) أي : غير تامة خلقا ، وهو الأشبه ؛ لأن التشديد إنما يذكر لتكثير الفعل ، والتخفيف لتقليله ، فكأنه قال : (مُخَلَّقَةٍ) ، أي : قد أتم خلقها من الجوارح والأعضاء ، و (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) ، أي : غير تامة خلقا ، بل ناقصة.

وقوله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ...) كأن قوله : (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) موصولا بقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) ثم (وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) : من ستة أشهر إلى سنتين ، أو ما شاء الله (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ) من الأرحام بعد الإقرار فيها (طِفْلاً) قال بعضهم : ثم نخرج كلا منكم طفلا.

وقال بعضهم : واسم الطفل يجمع ويفرد.

(ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) قال بعضهم : الأشد هو ثلاث وثلاثون سنة.

وقال بعضهم : هو من ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة ، وأصل الأشد : هو من اشتداد كل شيء ، وتقوي كل شيء فيه من الجوارح والأعضاء ، وكل ما ركب فيه من العقل وغيره ، ثم عند ذلك يبين لهم ، ويكون قوله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) بعد هذا كله إذا بلغوا المبلغ الذي يعرفون تقليبه إياهم من حال إلى حال ، على ما ذكر ، ثم يحتمل قوله : (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) وجوها :

أحدها : يبين قدرته وسلطانه : أن من قدر على تحويلهم من حال التراب إلى حال الإنسانية والبشرية ، ومن حال النطفة إلى حال العلقة ... ثم إلى آخر ما ذكر لقادر على البعث والإحياء بعد ما صاروا ترابا.

أو يبين علمه في الظلمات الثلاث التي كان الولد فيها أن كيف قلبه من حال إلى حال

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٤٩٢٣ ، ٢٤٩٢٤) وعبد بن حميد وعبد الرزاق عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٢١).

٣٩١

في تلك الظلمات ؛ ليعلموا أنه لا يخفى عليه شيء.

أو يبين حكمته وتدبيره في خلق الإنسان من التراب ومن النطفة ما لو اجتمع جميع الحكماء من البشر والعلماء ؛ ليعرفوا المعنى الذي به خلق الإنسان منه وصار به بشرا ما قدروا عليه ، ولا عرفوا السبب الذي به صار كذلك ؛ ليعلموا أنه حكيم بذاته وعالم قادر بذاته ، لا بتعليم غيره ، ولا بإقدار غيره ، فمن كان هذا سبيله لا يعجزه شيء ؛ ينشئ الأشياء من الأشياء ولا من الأشياء على ما شاء وكيف شاء.

وقوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) أي : من يتوفى قبل أن يبلغ أشده ، دليله قوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) أي : من قبل أن يبلغ ذلك المبلغ وهو الأشد ، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي : إلى وقت ما يستقذر ويستخبث ، ليس كالصغير ؛ لأن الصغير والطفل مما يؤمل منه في العاقبة المنافع والزيادات ، [و] هذا لا يرجى منه ولا يؤمل منه العاقبة ، كلما مرّ عليه وقت كان أضعف في عقله ونفسه ، ولا كذلك الصغير ، وهو ما قال : (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) [الروم : ٥٤].

قال القتبي (١) : (أَرْذَلِ الْعُمُرِ) : أي : الخرف والهرم.

وقوله : (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) أي : لكيلا يعلم من بعد ما كان يعلمه شيئا.

ثم ذكر قدرته وسلطانه فقال : (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) قال بعضهم : ميتة ، وقيل : مشققة ، وقيل : يابسة ، وقيل : بالية.

وقوله : (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) قال الزجاج (٢) : (وَرَبَتْ) : من الزيادة والنماء ، وكذلك قال أبو عوسجة : يقال : ربا يربو ، أي : زاد ، وهو من الربا ، وربا من الارتفاع ، ربا يربو ربوة ، كقوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) [المؤمنون : ٥٠].

ثم أضاف الاهتزاز والزيادة إلى الأرض ، وهي لا تهتز ولا تربو ، إنما يربو ويهتز ما يخرج منها من النبات ، لكن أضاف ذلك إليها لما بها كان اهتزاز ذلك النبات ، وبها كان النماء ؛ فأضيف إليها.

أو إن كان من الارتفاع والربوة ، فهي ترتفع وتنتفخ وتهتز بالمطر.

وقوله : (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) قيل (٣) : البهيج : الحسن ؛ يخبر في كل هذا قدرته وسلطانه : أن من قدر على إحياء الأرض بعد ما كانت يابسة ميتة ، لقادر على إحياء

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩٠).

(٢) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٢ / ٤١٣).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٩٣٧ ، ٢٤٩٣٨) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٢٢).

٣٩٢

الموتى بعد الموت ، وبعد ما صاروا ترابا.

وقوله : (مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) أي : من كل جنس حسن (بَهِيجٍ) أي : يسر ، وهو فعيل بمعنى فاعل ، يقال : امرأة ذات خلق باهج.

وقال أبو عوسجة : الهامد : البالي ، يقال : همد الثوب : إذا بلي ، والهامد أيضا : الخامد ، خمدت النار تخمد خمودا.

وقال بعضهم (١) : قوله : (وَرَبَتْ) أي : أضعفت النبات.

وقوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي : ذلك الذي تقدم ذكره من الساعة وزلزالها وأهوالها وما ذكر من خلق الإنسان وتقليبه من حال إلى حال ، وما ذكر من البعث والإحياء ، وإحياء الأرض بعد ما كانت هامدة ـ هو الحق.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) أي : كائن لا محالة ؛ ألا ترى أنه قال : (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى. وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ) هذا كله يدل أن قوله : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) في تحقيق البعث والإحياء بعد الموت ، وأنه لا يعجزه شيء ، وأنه قادر بذاته ، عالم [بذاته].

وقال بعضهم : (ذلِكَ) يقول : هذا الذي فعل وظهر من صنعه يدل على أن الله هو الحق وغيره من الآلهة التي يعبدونها باطل ، وأنه يحيي الموتى في الآخرة ، لا الآلهة التي يعبدونها ، (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [أي : قدير] على ما يشاء ، وهو ما أخبرنا.

وقال الحسن : هو اسم من أسماء الله تعالى سمي به ؛ لأنه يحكم بالحق.

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ)(١٠)

وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) يحتمل قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) حسي (وَلا هُدىً) أي : لا بيان دليلي من جهة العقل (وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) أي : ولا وحي ينير ما يجادل فيه ويخاصم.

ويحتمل أن يكون قوله : (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : بغير إذعان ممّن عنده العلم (وَلا هُدىً) لا استسلام لمن عنده الدليل ، ولا خضوع لمن عنده كتاب منير (٢).

__________________

(١) قاله ابن جرير (٩ / ١١٢) ، وبنحوه أخرجه عن قتادة (٢٤٩٣٤ ، ٢٤٩٣٥).

(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ٢٧ ـ ٢٨).

٣٩٣

وقوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ) قال بعضهم (١) : لاوي عنقه إلى معصية الله.

وقال بعضهم (٢) : ناظر في عطفه ، أي : في جانبه ، ومثل هذا.

لكن حقيقته تخرج على وجهين :

أحدهما : على التمثيل والكناية عن إعراضه عن دين الله الحق والصدود عنه ، كقوله : (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) [الحج : ١١] وقوله : (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤] ونحوه ، كله على التمثيل والكناية عن الإعراض عن الحق والصدود ، لا على حقيقة الانقلاب على الأعقاب ؛ فعلى ذلك جائز قوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ) يخرج على التمثيل والكناية عن الإعراض عن الحق.

وجائز أن يكون على حقيقة عطف العنق والميل عنهم تكبّرا وتجبرا منه عليهم.

ثمّ بين أنه لم يفعل؟ فقال : (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).

ثم أخبر ما له في الدنيا بصنعه؟ فقال : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ).

قال بعضهم : الخزي : هو العذاب الذي يفضحه ، وأصل الخزي : الهوان والذل ، وهم لما أعرضوا عن عبادة الله ودينه بلوا بعبادة الأصنام واتباع الشيطان ، فذلك الخزي لهم في الدنيا.

ثم أخبر ما له في الآخرة من الجزاء؟ فقال : (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) وعامة أهل التأويل (٣) يصرفون الآية إلى واحد منهم وهو النضر بن الحارث ، ويقولون : (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) ؛ لأنه أسر يوم بدر ، فضرب عنقه ، وقتل صبرا ، فذلك الخزي له.

والحسن يقول : هذا الخزي لجميع الكفرة ؛ لأنه لم يزل هذا صنيعهم منذ كانوا ، فلهم الخزي في الدنيا : الخسف والحصب ، على ما كان في الأمم الخالية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) ليس على تحقيق تقديم الأيدي ، ولكن على التمثيل ؛ لما بالأيدي يقدم ، فذكر اليد لذلك على ما ذكرنا من انقلاب الأعقاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) ؛ لأنّه لا يأخذ أحدا بغير ذنب ولا يأخذه بذنب غيره.

__________________

(١) قاله مجاهد وقتادة أخرجه ابن جرير عنهما (٢٤٩٤٠ ، ٢٤٩٤١ ، ٢٤٩٤٢ ، ٢٤٩٤٣) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٢٣).

(٢) قاله قتادة بنحوه ، أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٢٣).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٢٣).

٣٩٤

قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ)(١٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) اختلف في قوله : (عَلى حَرْفٍ) :

قال بعضهم : (يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) ، أي : على شك يمتحن ربه ؛ على أنه [إن] أعطاه طمعه وأمله في هذه الدنيا حقق له الألوهية والعبادة ، وإن لم يجد طمعه وأمله لا يحقق له ذلك ، ويقول : ليس هو بإله ؛ إذ لو كان إلها لأعطاه ما يطلب منه على هذا الشك ، يعبد بالامتحان.

وقال بعضهم : (عَلى حَرْفٍ) أي : على شرط ، أي : يعبده على شرط الإعطاء ؛ يقول : إن أعطاني أملي عبدته ، وإن لم يعطني ذلك لم أعبده ؛ تكون عبادته على هذا الشرط.

وقال بعضهم : (يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) أي : على حال واحدة ، [و] على جهة واحدة ، ليس يعبده على حالين كالمؤمن يعبده في حالين جميعا : حالة الظاهر ، وحالة الباطن ، وحالة الضراء والسراء ، وحالة السعة والشدة على ما تعبّده الله ، كقوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] ونحوه ، عبده المؤمن على الحالين جميعا على ما تعبده الله ، والمنافق إنما يعبده على حالة السعة [و] الخصب ؛ لأنه ليس يعرف ربّه حق المعرفة ، فإنما يعبد السّعة والرخاء ، وأمّا المؤمن فإذا عرف ربّه عبده في الأحوال كلها لما عرف نفسه عبدا لسيّده ، ولم ير للعبد سعة ترك العبادة لمولاه في كل حال ، ورأى للمعبود حق استعباده واستخدامه في كل حال : في حال الضيق وحال السّعة.

أو أن يكون رأى ما يصيبه من الشدائد والبلايا بتقصير كان منه وتفريط ؛ فعبده في الأحوال كلها.

أو لما رأى وعرف [أن نعم] ربه عليه كثيرة ، ورأى شكر تلك النعم عليه لازما ؛ فعبده في الأحوال كلها ؛ شكرا لتلك النعم ، وأمّا أولئك لم يروا لله على أنفسهم نعما فإنما عبدوه على الجهة التي ذكرنا ، كانوا فرقا من الكفرة :

[منهم] من يعبد الله في حال الشدة والضيق ولا يعبده في حال السعة والرخاء ، كقوله : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) [الإسراء : ٦٧] ، ونحوه.

٣٩٥

ومنهم من كان يعبده في حال السعة والرخاء ، وهو ما ذكرنا من أمر المنافق.

وأمّا المؤمن فهو يعبده في الأحوال كلها لما رآه معبودا حقيقة ، على ما ذكرنا.

وقوله : (وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ) : قد ذكرنا أن الفتنة هي المحنة التي فيها بلاء وشدة.

وقوله : (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) :

قال بعضهم : هو على التمثيل ؛ على ما ذكرنا في قوله : (نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) [الأنفال : ٤٨] ، وقوله : (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤].

وقال بعضهم : على تحقيق انقلاب وجهه ؛ لأنه كان عبادته ظاهرة ، لم يكن يعبده في الباطن في حال السعة ، فلما أصابته الشدة ترك عبادته ظاهرا على ما كان باطنه ، فهو انقلاب وجهه ، والله أعلم.

وقوله : (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) : أمّا خسران الدنيا ؛ لأنه فات عنه ما كان يأمله بزوالها ، وخسران الآخرة ظاهر : العذاب والشدائد.

وجائز أن يكون خسران الدنيا هو خضوعه لمن لا يضر ولا ينفع للعبادة للأصنام (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) ؛ لأنه خسر في الدارين جميعا أمله وطمعه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ).

قيل : إن الآية في المنافقين ، وهم كانوا لا يعبدون على حرف ليست بعبادة الله ، إنما هي عبادة للشيطان ، فأخبر أنه يعبد ما لا يضرّه إن ترك العبادة له ، ولا ينفعه إن عبده ؛ يدل على ذلك : [قوله] : (هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) ؛ لأنه عبد من لا يضره إن لم يعبده ، ولا ينفعه إن عبده ، فذلك هو الضلال البعيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ).

قال بعضهم : تأويله : يدعو من ضرره أقرب من نفعه.

وقال بعضهم : قوله : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ، هذا إن عبده ، ضرّه عبادته إيّاه في الآخرة والأولى ؛ حيث قال : (ما لا يَضُرُّهُ) إن ترك عبادته في الدنيا (وَما لا يَنْفَعُهُ) إن عبده (١) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ).

قال بعضهم (٢) : (لَبِئْسَ الْمَوْلى) أي : الولي ، وهو الشيطان (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) يعني : الصاحب ، كقوله : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ١٩] أي : صاحبوهنّ بالمعروف.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٣٦).

(٢) قاله ابن زيد ، وأخرجه ابن جرير (٢٤٩٥٧) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٢٤).

٣٩٦

وقال بعضهم : (لَبِئْسَ الْمَوْلى) أي : الولي ، وهو الشيطان ، (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) أي : القرين الذي لا يفارق.

وقال القتبي (١) : أي : الصاحب والخليل ، وهو ما ذكرنا ، كله واحد.

وقال أبو عوسجة : العشير : الرفيق الذي تعاشره وتصاحبه وتخالطه ، والعشير : الزوج أيضا.

وقال القتبي (٢) : (ثانِيَ عِطْفِهِ) : يتكبر معرضا ، وكذلك قال أبو عوسجة : (ثانِيَ عِطْفِهِ) ، أي : متكبرا متجبرا ، والعطف في الأصل : الجانب ، والأعطاف جمع.

وقوله : (مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) قال : لا يدري أحق هو أم باطل؟ وهو الشك ، يقال : إني من هذا الأمر على حرف ، أي : على شك ، لست بمستيقن.

وقال القتبي (٣) : على حرف واحد ، وعلى وجه واحد ، وعلى مذهب واحد.

وقال قتادة : على شكّ ، على ما ذكرنا.

وقال أبو عبيدة (٤) : على حرف ، أي : لا يدوم ، ويقول : إنما أنا حرف ، أي : لا أثق بك ، ونحو هذا ، وأصله ما ذكرنا فيما تقدم.

وقال بعضهم : قوله : (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ) في الآخرة (أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) ، (انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) أي : يرجع إلى دينه.

قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(١٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ).

المعتزلة كذبت هذه الآية والآية التي تلي هذه الآية ، وهو قوله : (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) ؛ لأنهم يقولون : أراد إيمان جميع الخلائق ثمّ لم يفعل ذلك ، وأراد جميع الخيرات

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩١).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩٠).

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٩٠).

(٤) ينظر : مجاز القرآن (٢ / ٤٦).

٣٩٧

والكف عن الشرور ثم لم يقدر على وفاء ما أراد ، ويقولون : لا صنع له في أفعال العباد ، ولا تدبير ؛ فعلى قولهم : لم يفعل الله مما أراد واحدا من ألوف ، ويقولون : إن الله أراد هدى جميع الخلائق ، لكنهم لم يهتدوا ، وهو أخبر أنّه يهدي من يريد ، وهم يقولون : يريد هدى الخلق كلهم فلم يهتدوا.

ونحن نقول : من أراد الله هداه اهتدى ، وما أراد أن يفعل فعل ، وهو ما أخبر (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [هود : ١٠٧] أخبر أنه يفعل ما يريد ، فيخرج على قولهم على أحد الوجهين :

إمّا على الخلاف في الوعد ، وإمّا على الكذب في القول والخبر ، فنعوذ بالله من السرف في القول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ).

تأويل الآية ـ عندنا ـ يخرج على وجهين :

أحدهما : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا ـ عليه أفضل الصلوات ـ ثم نصره ، فغاظه نصره إياه فيدوم غيظه ـ (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) أي : بحبل من السماء فيخنق ويقتل نفسه ؛ ليذهب غيظه الذي غاظه نصره ؛ يستريح مما غاظه.

والثاني : يخرج على الوعد بالنصر والخبر : أنه ينصره ، يقول : من كان يظن أن ما وعد له من النصرة ، لا يفعل ذلك له ، ولا ينصره ، ولا ينجز ما وعد ؛ (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ) ، أي : ليحبس ما وعد له من النصر ؛ إن غاظه ما وعد ؛ ليذهب غيظه الذي غاظه ؛ فعلى هذا التأويل يكون السماء سماء الأصل ، أي : يحبس السبب الّذي ينزل من السماء.

قال بعضهم (١) : قوله : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ) أن لن يرزقه الله ، ويجعله صلة قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١] لأنه يجعل الآية في أهل النفاق ، يقول : من كان يظن من أهل النفاق : أن الله لا يرزقه إذا كان في ذلك الدّين الذي كان فيه ودام ـ فليمدد بما ذكر.

وقال مجاهد : (كَيْدُهُ ما يَغِيظُ) ، قال ذلك خيفة ألا يرزق.

وأهل التأويل صرفوا السماء إلى سقف البيت ، ويقولون : القطع : الخنق.

وقال القتبي : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) أي : لن يرزقه الله وهو قول أبي عبيدة

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٩٦٤) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٢٥).

٣٩٨

يقال : مطر ناصر ، وأرض منصورة ، أي : ممطورة.

وقال المفسرون (١) : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) ، أي : بحبل إلى سقف البيت ، (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) ، أي : ليختنق : (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) ـ أي : حليته ـ غيظه ، أي : ليجهد جهده.

وقال أبو عوسجة : (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) قال : هذا شيء لا يكون ولا يقدر عليه ، وهذا ذم للمقول فيه ؛ لأنه جعل السماء سماء الأصل ، وقوله : (فَلْيَمْدُدْ) أي : يمد يده.

وقوله : [(بِسَبَبٍ)] السبب في الأصل : الحبل ، أي : يعلق سببا فيرتقي في السماء ، والسبب : الحمار ، وسبوب جمع ، أي : حمر.

قال : والسبب : الحبل بلغة هذيل.

وقوله : (ما يَغِيظُ) : هو شدة الغضب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ) أي : مثل هذا ، وهكذا أنزلناه آيات بينات ، يبين ما لهم وما عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) : أما الصابئون : فإن الناس اختلفوا فيهم :

قال أهل التأويل : هم عبّاد الملائكة ، وقد ذكرنا أقاويلهم فيه في سورة المائدة ، فتركنا ذكره هاهنا لذلك.

(وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) : قيل : هم المشركون من العرب ، وهم عبدة الأوثان والأصنام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).

يحتمل قوله : (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) ، أي : يحكم بين هؤلاء يوم القيامة ؛ لاختلافهم في الدنيا ، كقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ) [البقرة : ١١٣] ثم قال : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) [البقرة : ١١٣] أي : يحكم بين هؤلاء يوم القيامة ، فالفصل بينهم يوم القيامة هو الحكم الذي ذكر في هذه الآية.

ويحتمل قوله : (يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) في المقام : يبعث هؤلاء إلى الجنة ، وهؤلاء إلى النار ؛ فذلك الفصل بينهم.

وجائز أن يكون قوله : (يَفْصِلُ) أي : يبين لهم الحق من الباطل ؛ حتى يقروا جميعا بالحق ويؤمنوا به ، لكن لا ينفعهم ذلك يومئذ.

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٩٦٣ ، ٢٤٩٦٥ ، ٢٤٩٦٦ ، ٢٤٩٦٧) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٢٥).

٣٩٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) من أعمالهم ، وأفعالهم ، وإقرارهم ، وأقوالهم ، وجميع ما كان منهم.

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ)(٢٤)

وقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) حرف (من) في ظاهر اللغة واللسان إنما يعبر به عن الممتحن من البشر والجن والملائكة ، وأما الموات فإنه لا يعبر به عنه ، وإنما يعبر عنه بحرف (ما) ، لكن ذكر في آخره ـ وهو قوله : (وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ ...) الآية ـ ما يدل أنه أراد الكل : الممتحن ، والموات جميعا ، حيث قال : (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) وإلا ظاهره ما ذكرنا : أنه إنما يعبر ب (من) عن الممتحن ، وبحرف (ما) عن الكل.

[و] جائز أن يكون عند الاجتماع يذكر باسم الممتحن ؛ على ما يذكر عند اجتماع الذكر والأنثى باسم الذكور.

ثم ما ذكر من سجود هذه الأشياء يخرج على وجوه :

أحدها : سجود خلقة ، يسجد كل شيء ذكر بخلقته لله ، على ما ذكرنا في التسبيح.

والثاني : سجود عبادة ، وهو سجود كل ممكن من [إتيانه] وتركه ، وهو سجود الممتحن.

والثالث : سجوده : بذل ما بذل في هذه الأشياء من المنافع لا يتأتى بذلها لأحد من الماء ، والشمس ، والشجر ، والدواب ، وكل شيء.

والرابع : ما ألهم هذه الأشياء من الطاعة لله والخضوع له ؛ ألا ترى أنه قال : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ألا ترى أنه ألهم الدواب معرفة إتيان الصالح لهم واتقاء المهالك ؛ فجائز أن يعرفن طاعته والخضوع له ، والله أعلم.

٤٠٠