تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

أو (مِنَ الصَّالِحِينَ) ، أي : كان يعمل بكل أنواع الصلاح.

قوله تعالى : (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ)(٧٧)

وقوله : (وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ).

قال بعضهم (١) : من قبل إبراهيم وإسحاق ويعقوب ؛ لأنه ذكر هؤلاء على أثره ، ثم اختلف في ندائه :

قال بعضهم : نداؤه هو قوله : (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) [القمر : ١٠].

وقال بعضهم : نداؤه هو قوله : (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً. فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) [نوح : ٥ ، ٦].

أو أن يكون ذلك قوله : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) [نوح : ٢٦] ، وقوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً ...) الآية [نوح : ٢٨] وأمثاله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ).

أهله : أتباعه من أهله ومن غيرهم.

وقوله : (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) قال عامة أهل التأويل (٢) : (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) هو الغرق والهول الشديد الذي كان به.

وجائز أن يكون (الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) : هو ما قاسى من قومه ولقى منهم بدعائه إياهم إلى دين الله في تسعمائة وخمسين عاما ، وما كانوا يسخرون به ويؤذونه من أنواع الأذى ؛ كقوله : (إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ) [هود : ٣٨] ، ونحو ذلك من الأذى الذي قاساه منهم ، فأنجاه من ذلك الكرب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا).

وفي حرف أبي بن كعب : ونصرناه على القوم الذين كذبوا بآياتنا ، والنصر : هو اسم لأمرين : اسم للمنع ، واسم للظفر ، فمن قرأه : ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا ، أي : منعناه من أن يقتله قومه ويهلكوه ، والنصر : المنع ؛ كقوله : (فَلا ناصِرَ لَهُمْ) [محمد : ١٣] أي : لا مانع لهم.

ومن قرأه : على القوم الذين كذبوا بآياتنا أي : أظفرناه على قومه ؛ كقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [آل عمران : ١٢٩] ، وقد كان له الأمران جميعا : المنع ، والظفر.

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٢٥٢) وابن جرير (٨ / ٤٨).

(٢) قاله ابن عباس ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٢٥٢).

٣٦١

وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) ما ذكرنا من أفعالهم وأعمالهم.

وقوله : (فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ) حتى لم ينج منهم أحد.

قال أبو عوسجة : الكرب : واحد ، وجمعه كروب ، وهو الهموم والشدائد ، والكربة واحدة ، والكرب جمع ، وهو مثل الكروب ، قال : والأكراب تكون للدلاء ، وهي جماعة الكرب ، وهو حبل يشد في عراقي الدلو ، وعراقي الدلو : خشبات الدلو ، الواحدة : عرقوة ، قال : والكراب : الحراث.

قوله تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) (٨٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ ...) الآية.

قال بعض الناس : دل تخصيص سليمان بالتفهيم على أنه لم يفهم داود ذلك ، ويدل على ذلك وجوه :

أحدها : إشراكه ـ عزوجل ـ إياهما جميعا في الحكم والعلم وغيره ؛ حيث قال : (إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) ، وقال : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ، ذكر ما كانا مشتركين فيه ، وخص سليمان بالتفهيم ؛ فدل التخصيص بالشيء أحدهما والإشراك في الآخر على أنه كان مخصوصا به دون الآخر.

والثاني : أن هذه الأنباء إنما ذكرت لنا لنستفيد بها علما لم يكن ، فلو لم يكن سليمان مخصوصا بالفهم دون داود ، لكان [لا] يفيدنا سوى الحكم والعلم ، وكنا نعلم أنهما قد أوتيا حكما وعلما ، وكانا يحكمان بالعلم ، فإذا كان كذلك ، فدل التخصيص بالتفهيم لأحدهما على أن الآخر لم يكن مفهما ذلك ، والله أعلم.

والثالث : فيه دلالة : أن المجتهد إذا حكم وأصاب الحكم أنه إنما أصاب بتفهيم الله إياه وبتوفيقه ؛ حيث أخبر أنه قد آتاهما جميعا العلم ، ثم خص سليمان بالتفهيم ، والتفهيم هو فعل الله ؛ حيث أضاف ذلك إلى نفسه.

ثم إن كان ما ذكرنا كان في ذلك دلالة لأصحابنا ، فيمن قتل مسلما في دار الحرب أسلم هنالك : أن عليه الكفارة ، وليست عليه الدية ؛ حيث قال : (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً

٣٦٢

فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) [النساء : ٩٢] ذكر في الأولين الدية والكفارة جميعا ، ثم خص الثالثة بذكر الكفارة دون الدية ؛ فدل التخصيص له بأحدهما على أن ليس عليه الآخر ؛ لأنه لو لم يكن كذلك ، لكان يذكر في الأول الدية والكفارة ، ولا يذكر في الآخرين ، فيكون ما ذكر في الأول غير مذكور في الآخرين ، أو لا يذكر ذلك كله في الكل ، فإذا لم يفعل هكذا ، ولكنه ذكر كل الواجب في الاثنين على الإبلاغ ، وترك في الواحد أحدهما وذكر الآخر ؛ فدل تخصيص الثالث بأحد الحكمين على أن ليس عليه الآخر.

ثم استدلوا بهذه الآية على جواز العمل والقضاء باجتهاد الرأى ، فمنهم من استدل بإصابة المجتهد فيما يجتهد ، وإن لم يصب هو الحكم الذي هو حكم عند الله فيه حقيقة ، وهو قول من يقول : كل مجتهد مصيب فيما عليه من الاجتهاد في تلك الحادثة ، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما‌الله.

ومنهم من يستدل به بخطإ أحد المجتهدين وعذره في خطئه ، فيذهب إلى أن المقصود مما كلف من الحكم في ذلك واحد لا حكمين مختلفين ، فإذا كان المقصود مما كلف من الحكم فيه واحد ؛ فلا يجوز أن يحكم اثنان في شيء واحد بحكمين مختلفين والمقصود فيه واحد ، فيكونان جميعا مصيبين ، خص أحدهما بالتفهيم بقوله : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) ، فلو كانا جميعا مصيبين كانا جميعا مفهمين ، فإذا أخبر أنه فهم سليمان ولم يفهم الآخر ، دل أن المصيب هو المفهم منهما ، وهو قول أبي حنيفة وبشر وغيرهما.

ومن استدل بإصابته يستدل بقوله : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) أخبر أنه آتاهما حكما وعلما ؛ فدل ذلك على أنه لم يكن عليهما غير ما فعلا وحكما فيه ، وإن لم يصيبا الحكم الذي هو حكم حقيقة عند الله.

ثم ذكر في الآية : أنهما يحكمان في الحرث ، ولم يذكر أنهما حكما بالضمان والبراءة عن الضمان وأى شيء كان حكمهما ؛ فدل ترك بيان ما حكما فيه على أن ليس علينا ذلك الحكم ؛ إذ بين لنا ما علينا العمل فيه وهو العمل بالاجتهاد ؛ حيث قال : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) ، ولم يبين لنا الحكم الذي حكما فيه ، فدل بيان أحدهما وترك بيان الآخر على أن ليس علينا الذي ترك ذكره وبيانه ، إلا أن أهل التأويل حملوا حكمهما على الضمان والبراءة ، وعلى ذلك روي في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : روي : أن ناقة لرجل هاربة دخلت حائط رجل فأفسدت ما فيه ، فكلم رسول الله فيها ، فقضى أن حفظ الحوائط

٣٦٣

بالنهار على أهلها ، وأن حفظ المواشى بالليل على أهلها ، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل (١).

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أصابت الماشية بالليل فعلى أهلها ، وما أصابت بالنهار فليس على أهلها منه شيء» (٢) ، لكن الخبر إنما جاء في المدينة ، وفي المدينة إنما

__________________

(١) أخرجه مالك (٢ / ٧٤٧) كتاب : الأقضية ، باب : القضاء في الضواري ، حديث (٧) ، وأحمد (٥ / ٤٣٦) ، والدارقطني (٣ / ١٥٦) كتاب : الحدود ، حديث (٢٢٢) ، والبيهقي (٨ / ٣٤٢) كتاب : الأشربة ، باب : الضمان على البهائم ، من طريق الزهرى عن حرام بن سعد بن محيصة ؛ أن ناقة للبراء بن عازب ...

قال ابن عبد البر في الاستذكار (٢٢ / ٢٥١) : هكذا روى هذا الحديث جماعة رواة الموطأ فيما رووا مرسلا ، واختلف أصحاب ابن شهاب على ابن شهاب فيه ، فرواه الأوزاعي وصالح بن كيسان ، ومحمد بن إسحاق كما رواه مالك ، وكذلك رواه ابن عيينة إلا أنه جعل مع حرام بن سعد بن محيصة سعيد بن المسيب جميعا في هذا الحديث.

ورواه معمر عن الزهرى عن حرام بن محيصة عن أبيه ولم يقل فيه : عن أبيه غير معمر ، قال محمد بن يحيى : لم يتابع عليه معمر ، وقال أبو داود : لم يتابع عليه عبد الرزاق عن معمر. ا ه.

وقال الدارقطني : وكذلك رواه صالح بن كيسان والليث ومحمد بن إسحاق وعقيل وشعيب ومعمر من غير رواية عبد الرزاق. وقال ابن عيينة وسفيان بن حسين : عن الزهري عن سعيد بن المسيب وحرام جميعا ؛ أن ناقة للبراء. وقال قتادة : عن الزهري عن سعيد بن المسيب وحده ، وقال ابن جريج : عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ؛ أن ناقة للبراء ، قاله الحجاج وعبد الرزاق عنه. ا ه.

أما رواية عبد الرزاق عن معمر فهي كرواية حرام بن محيصة ، أخرجها أبو داود (٣ / ٨٢٨) كتاب : البيوع ، باب : المواشي تفسد زرع قوم ، حديث (٣٥٦٩) ، وأحمد (٥ / ٤٣٦) ، والدارقطني (٣ / ١٥٤) كتاب : الحدود ، حديث (٢١٦) ، والبيهقي (٨ / ٣٤٢) كتاب : الأشربة والحد فيها ، باب : الضمان على البهائم.

قال الدارقطني : خالفه وهب وأبو مسعود الزجاج فلم يقولا : عن أبيه ، ورواه الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة الأنصاري ؛ أنه أخبره أن البراء بن عازب كانت له ناقة ضارية ، فدخلت حائطا فأفسدت فيه ... الحديث.

وأخرجه الدارقطني (٣ / ١٥٥) كتاب : الحدود ، حديث (٢١٧) ، والبيهقي (٨ / ٣٤١) كتاب : الأشربة ، باب : الضمان على البهائم ، من طريق يونس بن عبد الأعلى : ثنا أيوب بن سويد عن الأوزاعي عن الزهري عن حرام بن محيصة عن البراء بن عازب ؛ أن ناقة لرجل من الأنصار دخلت حائطا ... الحديث.

وأخرجه ابن ماجه (٢ / ٧٨١) كتاب : الأحكام ، باب : الحكم فيما أفسدت المواشي ، حديث (٢٣٣٢) ، والدارقطني (٣ / ١٥٥) كتاب : الحدود والديات ، والبيهقي (٨ / ٣٤١) كتاب : الأشربة ، باب : الضمان على البهائم ، من طريق سفيان عن عبد الله بن عيسى عن الزهرى عن حرام بن محيصة عن البراء ؛ أن ناقة لآل البراء أفسدت ... فذكر الحديث.

(٢) أخرجه الدارقطني (٣ / ٢١٣) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما أصابت الإبل بالليل ضمن أهلها ، وما أصابت بالنهار فلا شيء فيه ، وما أصابت الغنم بالليل والنهار غرمه أهلها ، والضواري يتقدم إلى أهلها ثلاث مرات ، ثم تعقر بعد ذلك».

٣٦٤

ترعى الماشية في السكك ؛ إذ ليس لها مراع ، ونحن نقول : إن من أرسل ماشية في مكان لا مرعى لها إلا كرم إنسان أو حائط فأفسدته ، فالواجب عليه الضمان : ضمان ما أفسدت ، وهو كمن يرسل الماء في ملكه في مكان لا يقر فيه ، فتعدى إلى ملك جاره فأفسده ـ فعليه ضمان ما أفسده منه.

ومن الناس من يجعل الخبر منسوخا بما جاء : (جرح العجماء جبار) ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا ، وإنما يكون جرحها جبارا إذا تعدت هي من غير إرسال صاحبها ، فأما إذا كان بصنع صاحبها فعليه الضمان ، والله أعلم.

وقال القتبي (١) : (نَفَشَتْ) أي : رعت ليلا ، يقال : نفشت الغنم بالليل ، وهي إبل نفش وأنفاش واحدها : نافش ، وسرحت وسربت بالنهار.

وقال أبو عوسجة : (نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) ، يقال : أنفشنا الغنم : إذا أثرناها في الليل فرعت ، وهو النفش ونفشت ، أي : انتشرت بغير علم أهلها ، ونفشت تنفش نفشا فهي نافشة.

قال أبو عبيدة (٢) : النفش بالليل : أن تدخل في زرع فتأكله ، أو رعت فتأكل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ).

ذكر التسبيح هنا في الجبال ولم يذكر في الطير ، ولكن ذكر في آية أخرى حيث قال : (وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) [ص : ١٩] : أي : يسبح له.

ثم يحتمل أن يكون تسبيح الجبال هاهنا والطير تسبيح خلقة ، لكنه لو كان تسبيح خلقة لكان تسبيحها مع داود وغيره سواء ، وقد ذكر يسبحن مع داود ؛ ليعلم أن الله جعل لهذه الأشياء تسبيحا يسبحن الله ويذكرونه ، كذلك ما روي في الأخبار أن الطعام يسبح في كف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) ، وروي أنه أخذ حجرا فسبح في يده (٤) ، وأنه أخذ كذا فسلم عليه (٥) ، وأمثال هذا كثير ، وذلك كله آية لرسل الله على رسالتهم.

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٨٧).

(٢) انظر : مجاز القرآن (٢ / ٤١).

(٣) في الباب عن عبد الله بن مسعود ، أخرجه البخاري (٧ / ٢٨٦) كتاب المناقب : باب علامات النبوة في الإسلام (٣٥٧٩) من طريق إبراهيم عن علقمة عنه قال : كنا نعد الآيات بركة ... ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل.

(٤) في الباب عن أبي ذر قال : «تناول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سبع حصيات فسبحن في يده ، حتى سمعت لهن حنينا ، ثم وضعهن في يد أبي بكر ، فسبحن ثم وضعهن في يد عمر فسبحن ، ثم وضعهن في يد عثمان فسبحن» أخرجه البزار والطبراني ، كما في فتح الباري (٧ / ٢٩٢).

(٥) في الباب عن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علىّ قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن» أخرجه مسلم (٤ / ١٧٨٢) كتاب الفضائل : باب فضل نسب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة (٢ / ٢٢٧٧).

٣٦٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُنَّا فاعِلِينَ).

أي : كنا فاعلين ما نريد : إن أردنا أن يسبحن ، يسبحن ، وإن أردنا ألا يسبحن ، لا يسبحن ، أي : كنا فاعلين جميع ما نريد ، ليس كالخلائق ؛ لأنهم يريدون أشياء لا تلتئم لهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) ، وقال في آية أخرى : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ* أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ ...) الآية [سبأ : ١٠ ، ١١].

ثم يحتمل قوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) [سبأ : ١٠] أي : علمناه السبب الذي به يلين الحديد فيصنع به ما شاء ، كما علم غيره من الخلق السبب الذي يلين به الحديد.

ويحتمل أن جعل له الحديد لينا بلا سبب ؛ تسخيرا له كما سخر له غيره من الأشياء الشديدة الصلبة ، كما أعطى ولده عين القطر حيث قال : (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) [سبأ : ١٢] وذلك لم يكن لأحد سواه. وكذلك الحديد ألان لوالده حتى يعمل به ما شاء ما لم يكن ذلك في حديد سواه ، (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) قيل : دروع الحديد (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) أي : تقيكم من بأسكم ، أي : من عدوكم ومن أمر حربكم ، وفيه قرأت : لتحصنكم بالتاء : وليحصنكم بالياء : ولنحصنكم بالنون.

قال الكسائي : من قرأ بالتاء : لتحصنكم أي : الصنعة تحصنكم من بأسكم ، ومن قرأ بالياء : ليحصنكم أي : اللبوس يحصنكم من بأسكم ، ومن قرأ بالنون : لنحصنكم فإنه يقول : نحصنكم بهن من بأسكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) ما أعطاكم من النعمة التي ذكر من تسخير الجبال له والطير والحديد والرياح وغيره ، فهل أنتم شاكرون ذلك ، أي : اشكروا له في نعمه ؛ لأن الاستفهام من الله على الإيجاب والإلزام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ) ذكر هاهنا «عاصفة» ، وقال في آية أخرى : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) [ص : ٣٦] أي : لينة ، فهو يحتمل وجوها :

قال بعضهم : كأنها تشتد إذا أراد سليمان وتلين إذا أراد.

وقال بعضهم : كانت تشتد وقت حمل السرير وتلين وقت سيره.

ويحتمل أن تكون عاصفة شديدة في الخلقة ، لكنها كانت تلين له وترخو ؛ فكأنه يقول : سخرنا لسليمان الريح العاصفة الشديدة حتى كانت تلين له.

وقوله : (تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) لا تقصد غيرها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ. وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ

٣٦٦

وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) ذكر نعمه التي كانت عليهم حيث أخبر أنه سخر لهما أشد الأشياء وأصلبها من نحو الجبال والرياح والبحار والحديد والشياطين أيضا ـ وهم أعداء لبني آدم سخر لهم الأعداء : الشياطين ، والرياح.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) يحتمل وجوها : أحدها : وكنا لهم حافظين ، حتى لا يضلوا الناس.

وقال بعضهم : وكنا لهم حافظين على سليمان ؛ لئلا يتفرقوا عنه ؛ لأن سليمان كان لا يملك إمساكهم واستعمالهم ، لكن الله سخرهم له حتى عملوا له وذلّوا له وخضعوا.

والثالث : وكنا لهم حافظين عن الخلاف له. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ)(٨٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) ، وقال في آية أخرى : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [ص : ٤١] ذكر في سليمان أنه سلطه على الشيطان ، وجعلهم مسخرين له يستعملهم في كل أمر وعمل شاء ، وذكر في أيوب على أثر قصة سليمان أنه سلط الشياطين عليه وصار كالمسخر لهم ؛ حيث قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [ص : ٤١] ؛ حتى يعلم أن تسخير الشياطين لسليمان كان له إفضالا وإنعاما ، لم يكن سبق منه ما يستوجب به ذلك ويستحقه ، ولا كان من أيوب إليه من العصيان ما يستحق ذلك ، وما أصابه من البلاء منه عدل ، وكان ما يعطي من السلامة والصحة رحمة منه ونعمة ، وله أن يعطي من شاء ما شاء ، ويحرم من شاء ما شاء ، ألا ترى أنه قال في آخره لما رد عليه ما أخذ وكشف عنه البلاء : (بِرَحْمَةٍ مِنَّا) ، ولو كان ذلك حقّا له على الله لم يكن لذكر الرحمة معنى ، فهذا يرد على المعتزلة مذهبهم : أن على الله الأصلح لهم في دينهم ؛ لأن ما أصاب أيوب من البلايا أضاف ذلك إلى الشياطين حيث قال : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) ، ولو كان ذلك أصلح له في دينه لكان لا يضيف فعل الأصلح له في الدين إلى الشياطين ؛ فدل على أنه ليس على ما يذهبون إليه.

ثم قوله : (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) شبيه أن يكون فيه إضمار دعاء ؛ كأنه قال : أني مسني الضر فارحمني وعافني وأنت أرحم الراحمين ؛ ألا ترى أنه قال : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) دل أنه على الدعاء خرج.

والثاني في قوله : (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) وصرت بحال يرحمني من رآني من الخلق وأنت

٣٦٧

أرحم بي من كل الراحمين. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) هو ظاهر أنه كشف عنه ما أصابه من البلاء في بدنه وأهله حتى عاد إلى الحال التي كان قبل ذلك.

وقال بعضهم : أوتي أهله في الدنيا ومثل أجورهم في الآخرة.

وقال بعضهم : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ) فأحياهم الله (وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) ، وكانت امرأة أيوب ولدت قبل البلاء أولادا بنين وبنات ، فأحياهم الله.

وقال بعضهم : (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ) أي : ما يتأهل به من الأهل والأنصار على ما كان له من قبل. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) يحتمل وجوها :

أحدها : أن من ابتلي ببلاء ، فصبر على ما صبر أيوب على بلائه ، ففرجه الله عن ذلك البلاء ـ فيفرجه عنه كما فرج لأيوب.

والثاني : يعلم أن ما أصابه ليس لأمر يسبق منه ، ولكن ابتلاء محنة من الله امتحنه بها ، وله أن يمتحن من شاء بما شاء من المحن.

قوله تعالى : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٨٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) يشبه أن يكون «ذا الكفل» اسما من أسمائه ، وجائز أنه سمي ذا الكفل ؛ لأمر كان منه : ذكر أنه كان رجلا صالحا ، فكفل لنبي بأمر قومه ، فوفى ما تكفل به ؛ فسمي لذلك ذا الكفل.

ثم اختلف فيه :

قال بعضهم : هو رجل صالح على ما ذكرنا.

وقال بعضهم : كان نبيّا ، لسنا نعلم ذلك سوى أنه ذكر أنه من الصابرين ، سماهم صابرين على الإطلاق ، وكذلك سماهم صالحين على الإطلاق ، وذلك ـ والله أعلم ـ لأنهم جمعوا جميع أنواع الصبر وجميع أنواع الصلاح. والله أعلم.

وقوله : (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا) قال الحسن : أدخلناهم في رحمتنا وهي الجنة ، وجائز أن يكون جميع ما نالوا من الصبر والصلاح كان ذلك كله رحمة الله وفضله ، وهكذا أن من نال شيئا من الخيرات والطاعات فإنما ينال ذلك كله برحمته. والله أعلم.

قوله تعالى : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ

٣٦٨

إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ)(٨٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذَا النُّونِ) :

قال بعضهم : «ذا النون» هو اسم من أسمائه سمّي.

وقال بعضهم : سماه ذا النون ؛ لكونه في بطن النون وهو الحوت ، أي : صاحب النون ، سمي باسمين مختلفين :

أحدهما : اسم موضوع ، والآخر : مشتق من فعله وما كان ، وهو ما سمى عيسى مرة ، وسماه مسيحا أخرى ، أحدهما : اسم موضوع ، والآخر : مشتق من فعله ، وهو مما كان يمسح به المرضى والموتى فيبرءون.

وكذلك «ذا الكفل» يخرج على هذين الاسمين : أحدهما موضوع له ، والآخر : مشتق من فعله على ما ذكرنا. والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) اختلف فيه :

قال بعضهم : (مُغاضِباً) لربه ، أي : حزينا له ؛ لأنه كان أراد أن يهلك الله قومه لما أيس من إيمان قومه ، وقد كثر عنادهم ومكابرتهم ، فخرج حزينا لذلك.

وقال بعضهم : مغاضبا للملك ، وذلك أو قومه قد أسرهم عدوّهم ، وقد كان الله أوحى إليهم فقال : إذا أسركم عدوّكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني ، فإذا دعوتموني أستجب لكم ، فلما أسروا نسوا أن يدعوه زمانا حتى إذا ذهبت أيام عقوبتهم ونزلت أيام عافيتهم أوحى الله تعالى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن ابعثوا رجلا قويّا أمينا فإني ملق في قلوب الذين أسروا قومهم أن يرسلوهم ، وفي القصّة طول ، غير أنا نختصر ، فبعث ملكهم يونس إلى أولئك الأسارى ليستنقذهم من أيديهم ، فخرج وائتمر بأمره ، لكنه غضب عليه لما اشتد عليه ، فذلك قوله : (ذَهَبَ مُغاضِباً) للملك ، حيث أمره بالخروج إلى أولئك الأسرى.

وقال بعضهم : ذهب مغاضبا لقومه ، وذلك يخرج على وجوه :

أحدها : خرج من عندهم لما أيس من إيمان قومه خرج مكيدة لقومه ؛ لأن السنة فيهم أنه إذا خرج رسوله من بين أظهرهم نزل بهم العذاب ، فخرج من عندهم ليخافوا العذاب فيؤمنوا.

والثاني : خرج إشفاقا على نفسه ؛ لئلا يقتل ؛ لما أن قومه هموا بقتله ، فخرج لئلا يقتل

٣٦٩

إشفاقا على نفسه ، كما خرج رسول الله من بين أظهر قومه لما هموا بقتله ، لكن رسول الله خرج بإذن ، ويونس بغير إذن.

والثالث : خرج من عندهم لما أكثروا العناد والمكابرة وأيس من إيمانهم خرج ليفرغ لعبادته ؛ إذ كان مأمورا بعبادة ربه ودعاء قومه إلى ذلك ، فلما أيس من إيمانهم خرج كما ذكرنا بغير إذن من ربّه ، وإن كان في خروجه منفعة له ولقومه ، فعوتب لذلك ، ولله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) قال بعضهم : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي : لن نضيق عليه ، ولا نبتليه بالضيق الشديد لما خرج من عندهم ، فيقال : فلان مقدر عليه ، ومقتر ، ومضيق عليه الأمر ، وهو كقوله : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الإسراء : ٣٠] أي : يضيق ، وقوله : (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الفجر : ١٦] أي : ضيق عليه رزقه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) قالوا (١) : في ظلمات ثلاث : ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت.

وقال بعضهم (٢) : التقم الحوت حوت آخر ، فكان في بطن حوت ، وحوت آخر ، وظلمة البحر ، فقال : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وحد ربّه ونزهه عن جميع ما قيل فيه ، ثم اعترف بذلته وذنبه (٣) فقال : (إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)(٤) فسمع الله دعاءه ، وقبل توبته ، وأخبر أنه كشف عنه الغم الذي كان له حيث قال : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) وأخبر أنه كذلك ينجي المؤمنين ، فيرجى أن من ابتلاه الله بالبلاء والشدة فدعا بما دعا به يونس أن يفرجه الله عنه ، حيث قال : (وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) ؛ وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من دعا بدعوة ذي النون استجيب له» (٥).

ثم قال بعضهم : التقن (٦) ذلك من الأرض لما بلغ إلى قرار الأرض فقال ذلك.

وقال بعضهم : كان رجلا صالحا عابدا وكان عود نفسه ذلك قبل أن يدخل بطن الحوت ، فلما دخل فيه فكان يقول فيه على ما كان يقول من قبل ، وهو كقوله : (فَلَوْ لا أَنَّهُ

__________________

(١) قاله ابن عباس وعمرو بن ميمون ومحمد بن كعب ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٤٧٦٩ ، ٢٤٧٧٠ ، ٢٤٧٧١) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٥٩٨).

(٢) قاله سالم بن أبي الجعد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٧٧٤) ، وانظر الدر المنثور (٤ / ٥٩٨).

(٣) ينظر : اللباب (١٣ / ٥٨٣ ، ٥٨٤).

(٤) ينظر : اللباب (١٣ / ٥٨٠ ، ٥٨٢).

(٥) أخرجه أحمد والترمذي (٣٥٠٥) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ١٦٨) ، والحكم في نوادر الأصول ، والحاكم وصححه ، وابن جرير وابن أبي حاتم والبزار وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن سعد بن أبي وقاص ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٩٩).

(٦) ثبت في حاشية أ : التقن ، أي : فهم. شرح.

٣٧٠

كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ ...) الآية [الصافات : ١٤٣ ، ١٤٤].

قال بعضهم : هذا أنه كان من المسبحين قبل هذا وإلا للبث فيه إلى ما ذكر.

وقال بعضهم : لو لا أنه كان قال هذا القول : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) ، للبث فيه ، فيكون على هذا التأويل : (كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) ، أي : صار من المسبحين ، والأوّل أشبه ، ثم اختلف في قوله : (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) :

قال بعضهم : ذلك الغم هو ما ابتلاه الله بالضيق في بطن الحوت والبحر ، فنجاه من ذلك الغم ، ولكن جائز أن يكون نجاه من الغم الذي كان به سبب خروجه من بين أظهرهم.

وقول أهل التأويل : إن يونس مكث في بطن الحوت أربعين يوما ، أو ثلاثة أيام ، ونحو هذا فذلك لا يعلم إلا بالوحي ، فإن ثبت الوحي فهو هو ، وإلا ليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة.

وقال القتبي (١) : (وَذَا النُّونِ) يعني : ذا الحوت ، والنون : الحوت.

وقال أبو عوسجة : إنما سمي : ذا النون ؛ لأن الحوت التقمه ، والنون : الحوت ، والنينان : الجمع.

وقال القتبي : قوله : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) أي : لن نضيق عليه ، قال : فلان مقدر عليه ومقتر ، ومنه : (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الفجر : ١٦] أي : ضيق عليه ، ومنه قوله أيضا : (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) [الإسراء : ٣٠] أي : ضيق ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ)(٩٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) قوله : (لا تَذَرْنِي فَرْداً) في الظاهر نهي ، وكذلك قوله : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) [آل عمران : ٨] : وأمثاله ، يخرج في الظاهر مخرج النهي ، وقوله : (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران : ١٩٤] ونحوه يخرج مخرج الأمر [والأمر] والنهي إذا كان من العبد للسيّد فهو تعوذ ودعاء ، وإذا كان من السيد للعبد فهو أمر ونهي ، ليس بتعوذ ولا دعاء ، ولكن حقيقة الأمر والنهي ، وكذلك سؤال الأمير لرعيته أمر ونهي ، وسؤال الرعيّة للأمير تضرّع وتعوذ ودعاء.

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٨٧).

٣٧١

ثم قوله : (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً) في الطاعة والعبادة والذكر والتسبيح والتحميد ما دمت حيّا ، ولكن أشرك لي في العبادة والذكر من يعينني على ذلك ، وهو كقول موسى : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي. هارُونَ أَخِي. اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي. وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي. كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً. وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) [طه : ٢٩ ـ ٣٤] وقوله : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [مريم : ٥ ، ٦] إذا مت.

أو أن يكون قوله : (لا تَذَرْنِي فَرْداً) بعد مماتي في قبري ، ولكن هب لي من يذكرني ويدعو لي بعد وفاتي ويحيي أمري.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) أي : وأنت خير من يرث العبادة ، على هذا التأويل ، وعلى التأويل الأول : وأنت خير من يعين على العبادة والطاعة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) أي : دعاءه (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) قال الحسن : إن كان يحيى على ما سماه الله في الطاعة والعبادة ، وفي الآخرة يحيى في الكرامات والثواب الجزيل ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وقوله : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) يخرج على وجهين :

أحدهما : أن جعلناها بحيث يرغب فيها زوجها ذات هيئة ومنظر ؛ لأنه ذكر في القصّة أنها بلغت في السن مائة غير شيء ، والعرف في النساء أنهن إذا بلغن المبلغ الذي ذكر أنها بلغت زوجة زكريا يكن من القواعد اللاتي لا يرغب فيهن أحد ، فأخبر أنه أصلحها وصيرها بحيث يرغب فيها ، ذات هيئة ومنظر.

والثاني : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) أي : ولودا بحيث تلد (١) ؛ لأنه لما بشر بيحيى قال : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) [مريم : ٨] والعاقر : التي لا تلد ، فيكون قوله : (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) ولودا بحيث تلد ، والله أعلم.

هذان الوجهان محتملان.

وأمّا قول من يقول بأن في لسانها بذاء وطولا ، وفي خلقها سوءا فذلك لا يحل أن يقال إلا بثبت ، وهو على خلاف ما ذكرهم ووصفهم ، حيث قال : (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) ثم المسارعة في الخيرات أنه كان لا يمنعهم شيء عن الخيرات ، وهكذا المؤمن هو يرغب في الخيرات كلها ، إلا أن يمنعه شيء من شهوة أو سهو.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) أي : يدعوننا رغبا فيما عندنا من جزيل الثواب ، ورهبا من أليم عقابنا.

__________________

(١) قاله ابن عباس وسعيد وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٤٧٨٠ ، ٢٤٧٨١ ، ٢٤٧٨٢).

٣٧٢

والثاني : رغبا فيما عندنا من اللطائف من التوفيق على الخيرات والعصمة عن المعاصي ، ورهبا ممّا عندنا من النقمات والخذلان والزيغ.

وقوله : (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ).

قال بعضهم : الخشوع : هو الخوف الدائم الملازم للقلب لا يفارقه.

وقال بعضهم (١) : متواضعين ذليلين لأمر الله ، تفسير الخشوع ما ذكر بقوله : (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً).

قوله تعالى : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) (٩١)

وقوله : (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي : عفت فرجها.

وقوله : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) قال أهل التأويل (٢) : إن جبريل أتاها فنفخ في جيبها أو في فرجها ، وهذا ليس في الآية ؛ فلا يجوز القول [به] إلا بثبت ، ولكن قوله : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) كقوله في آدم : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) [الحج : ٢٩] أي : أنشأت فيه من روحي ؛ إذ لم يقل أحد فيه بالنفخ ، أي : جبريل نفخ فيه ، فعلى ذلك قوله : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أي : أنشأنا فيها من روحنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) ذكر فيها آية واحدة ؛ لأنها ولدت بغير زوج ، وولد بلا أب ، فهو واحد إذا كانت هي ولدته بغير زوج ، فيكون بغير أب فهو آية واحدة ، والآية فيها ما ذكر : (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٤٢] وآية عيسى حين تكلم في المهد فقال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ ...) الآية [مريم : ٣٠].

وقال أبو عوسجة : (أَحْصَنَتْ) : أي : عفت ، ويقال : امرأة حصان ، أي : عفيفة ، ومحصنة ، أي : قد أحصنها زوجها ، ومحصنة : أي عفيفة ، وامرأة حصان ، ونسوة حاصنات وحواصن ، قال : والحصان ذكر الخيل ، وحصن : جمع.

قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٦٠١).

(٢) قاله قتادة أخرجه عبد الرزاق وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٠١).

٣٧٣

يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ)(١٠٠)

وقوله : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً).

قال بعضهم : إن هذه ملتكم وشريعتكم ومذاهبكم ملة واحدة وشريعة واحدة ، يعني : شريعة الإسلام ، وملة واحدة ليست بمفترقة.

وقال بعضهم (١) : إن هذا دينكم دين واحد ، ليس كدين الأمم الخالية أديانا مختلفة.

أو أن يكون الأمة ما يؤم إليها ويقصد ؛ لأن الأمة هي الجماعة ، وهي المقصودة.

وجائز أن يكون إخبارا عن هذه الأمة على دين واحد وملة واحدة ، ليسوا بمختلفين ولا بمفترقين ، كسائر الأمم الخالية ، كقوله : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا ...) الآية [آل عمران : ١٠٥] ، وقوله (وَلا تَفَرَّقُوا) الآية [آل عمران : ١٠٣] أخبر عنهم أنهم غير متفرقين ، ونهاهم عن أن يتفرقوا كما تفرق الأولون ؛ ألا ترى أنه قال على إثره : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) هذا يدل على أنه إخبار عن أهل الإسلام في صدر الأمر أنهم على شيء واحد.

وقال الزجاج (٢) : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) ما لزموا الحق واتبعوه ، وأما إذا تركوا لزومه وتركوا اتباعه فهي ليست بأمة واحدة ، والله أعلم.

وقوله : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) [و] قال في آية أخرى : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) [المؤمنون : ٥٢] ليعلم أنّ العبادة والتقوى واحد في الحقيقة ؛ لأن الاتقاء هو ما يجتنب من الأفعال والعبادة ما يؤتى من الأفعال والعبادة ، فإذا اجتنب ما يجب اجتنابه فقد أتى بما يجب إتيانه ، وإذا أتى بما يجب إتيانه فقد اجتنب ما يجب اجتنابه ، وهو كقوله : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت : ٤٥] لأنه بفعله إياها مجتنب عن الفحشاء والمنكر.

وجائز أن يكون قوله : (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) أي : توحدون ، على ما قال أهل التأويل ؛ لأنه إنما خاطب به أهل مكة.

وقوله : (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) أخبر عن الأولين أنهم اختلفوا في دينهم وتفرقوا

__________________

(١) قاله ابن عباس ومجاهد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٤٧٨٥ ، ٢٤٧٨٦). وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٠٢).

(٢) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٢ / ٤٤).

٣٧٤

(كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) من تفرق و [من] لم يتفرق ، كقوله : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة : ٢٤٥](وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [المائدة : ١٨].

وقوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فيه دلالة ألا يقبل من الأعمال الصالحات إلا بالإيمان ؛ لأنه شرط في قبولها الإيمان ، كقوله : (وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) أي : لشكر سعيه ، ويقبل ولا يجحد ولا يكفر ، كقوله : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) [آل عمران : ١١٥] بالياء والتاء فلن تكفروه ، وأصل الكفران : الستر ، والشكر : هو الإظهار ؛ يخبر ـ عزوجل ـ أنه لا يستر ما عملوا من الحسنات والخيرات ، بل يشكر ويظهر.

وقوله : (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) أي : يكتب لهم تلك الحسنات والخيرات ، كقوله : (وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ) [الأعراف : ١٥٦].

وقوله : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) و (وَحَرامٌ) بالألف أيضا ، ثم قوله : (وَحَرامٌ) ، (وَحَرامٌ) ـ على قول أهل اللسان واللغة ـ واحد ، يقال : حرم عليك كذا ، وحرام ، كما يقال : حلّ وحلال.

وأما على قول أهل التأويل فإنهم يفرقون بينهما ، فيقولون : حرم : حتم وواجب (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي : حتم وواجب على قرية إهلاكهم بعد ما علم (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أي : لا يتوبون ؛ لأنه إنما يهلكهم لما علم منهم أنهم لا يتوبون.

أو أن يكون قوله : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ) أراد الله إهلاكها (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

وظاهر قوله : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) أن يكون لهم الرجوع ؛ لأنه يقول : (وَحَرامٌ .... أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ، ألا ترى إلى قوله : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) وظاهره أنهم لا يرجعون ، حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج واقترب الوعد الحق ، فعند ذلك يرجعون لقوله : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا).

أو أن يكون ذكر هذا : (أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) لقول قوم ؛ لأن قوما يقولون : إن الخلق كالنبات ينبت ، ثم ييبس ، ثم ينبت ، فعلى ذلك الخلق يموتون ، ثم يعودون ويرجعون.

وبعض من الروافض يقولون : يرجع علي وفلان ، فأخبر أنهم لا يرجعون ردّا عليهم وتكذيبا لخبرهم ؛ لأن القرآن قد صار حجة عليهم وإن أنكروه لما عجزوا عن أن يأتوا بمثله ، والله أعلم بذلك كله.

وقوله : (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) كأنه ـ والله أعلم ـ أضاف فتح ذلك السدّ

٣٧٥

إلى أنفسهم وهم جماعة ، وإلا لست أعرف لتأنيث فتح السدّ وجها ، والله أعلم.

وقوله : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) قيل (١) : الحدب : الشيء المشرف.

وقيل : الحدب : كل ما ارتفع من الأرض.

وقيل (٢) : الحدب : الأكمة.

وقيل : (مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) : من كل جهة ومن كل مكان.

(يَنْسِلُونَ) قيل : يسرعون.

وقيل : يخرجون.

أخبر أنهم من [كل] حدب ، أي : من كل ناحية ، ومن كل جهة يسرعون ، كأنهم لما سدّ عليهم ذلك السدّ ، وحيل بينهم وبين ما يشتهون ، أي : بين ما يتعيشون ويرتزقون من هذا العالم ـ تفرقوا في تلك الأمكنة لطلب ما يتعيشون به ، فإذا بلغهم خبر فتح السد أتوا من كل جهة وناحية التي كانوا متفرقين فيها (يَنْسِلُونَ) يسرعون ؛ لأنهم مذ سدّ عليهم السدّ في جهد من فتح ذلك السدّ ، فلما فتح خرجوا مسرعين ، وهو ما ذكر : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) [الكهف : ٩٩].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) قوله : (اقْتَرَبَ) أي : وقع ووجب الوعد الحق ؛ لأنه قد أخبر من قبل هذا الوقت أنه قد اقترب بقوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] و (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) [الأنبياء : ١] ، وهو كقوله : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] ليس على القرب ، ولكن على الوجوب ، فعلى ذلك الأوّل يحتمل أن يكون إخبارا عن الوقوع والوجوب.

وجائز أن يكون على القرب أيضا ، ويكون وجوبها ووقوعها في قوله : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) كقوله : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ...) الآية [إبراهيم : ٤٢] ، وكقوله : (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ ...) الآية [القمر : ٨].

وقوله : عزوجل ـ : (يا وَيْلَنا) أي : يقولون : يا ويلنا (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) كأنهم تذاكروا فيما بينهم : إنما كنّا في غفلة من هذا ، ثم تداركوا أنهم لم يكونوا في غفلة ، ولكن قالوا : (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) في ذلك ، ضالين ؛ اعترفوا بالظلم والضلال.

وقوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) يقال : إن حرف (من) يتكلم عن البشر وحرف (ما) يتكلم عما سواهم من العالم ، فإذا كان على هذا الذي

__________________

(١) قاله ابن عباس وابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٤٨١٣ ـ ٢٤٨١٥) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٠٣).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٨١٤) ، وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٠٣).

٣٧٦

ذكروا ، فما ينبغي لأولئك أن يفهموا من قوله : (وَما تَعْبُدُونَ) : عيسى وعزير [و] الملائكة [و] هؤلاء ، ويقولون : هؤلاء عبدوا دون الله فهم حصب جهنم على زعمكم ، إلى هذا يذهب أهل التأويل ، ويقولون : ثم نزل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) قالوا : استثنى من علمه ممن عبد دون الله من سبقت له منه الحسنى ، وهو عزير وعيسى وهؤلاء ، لكن قد ذكرنا أنه لا يجوز أن يفهم من هذا هؤلاء ، ولكن الأصنام والأحجار التي عبدوها ، كقوله : (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) [البقرة : ٢٤] التي عبدوها.

أو أن يكون قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الشياطين الذين أمروهم ودعوهم إلى عبادة غير الله ، فتكون العبادة لمن دون الله للشيطان حقيقة ؛ لأنه هو الآمر لهم بذلك ، والداعي إلى ذلك دون من ذكروا ؛ لأن هؤلاء ـ أعني : عيسى وعزيرا والملائكة ـ لم يأمروهم بذلك ؛ فيكون على هذا كأنه قال : إنكم والشياطين الذين تعبدون من دون الله حصب جهنم ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ ...) إلى قوله : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) [الصافات : ٢٢ ـ ٥١] دل هذا أن القرين هو الشيطان ، كقوله : (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) [الزخرف : ٣٦] وقوله : (حَصَبُ جَهَنَّمَ) بالصاد ، وقرئ بالطاء : حطب جهنم قال ابن عباس (١) : الحصب بلسان الزنجية : هو الحطب.

وقال بعضهم : هو حطب بلسان الحبشة ، ويقال ـ أيضا ـ بالضاد : حضب جهنم (٢) قال بعضهم (٣) : الحصب : هو الرمي ، يحصب جهنم بهم ، أي : يرمي بهم ، والحطب : هو معروف ، والحضب : هو التهيج ، أي : يهيّج النار عليهم.

وقال الكسائي : حصبت النار ، أي : ألقيت فيها الحطب ، وعن عائشة (٤) : حضب جهنم بالضاد.

وقوله : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) أي : واقعون فيها.

وقوله : (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) أي : لو كان الذين عبدوا دون الله آلهة على ما زعموا ما وردوا النار.

فإن قيل : إنهم لم يقروا أنها ترد النار.

[قيل] : لما عجزوا عن إتيان مثله فقد لزمتهم الحجة ، فكأنهم أقروا أنهم واردوها ،

__________________

(١) أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٠٨).

(٢) هي قراءة ابن عباس ، قاله ابن جرير (٩ / ٨٩).

(٣) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٨٢٦) وانظر : الدر المنثور (٤ / ٦٠٨).

(٤) إنما المنقول عن عائشة وعليّ : «حطب» بالطاء ، قاله ابن جرير (٩ / ٨٩).

٣٧٧

وهو كقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ...) الآية [البقرة : ٢٨] ؛ هم لم يقروا أنهم يحيون بعد ما ماتوا ، ولكن لما عرفوا أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ، فقد لزمهم الإقرار والحجة بالإحياء بعد الموت ؛ فعلى ذلك الأول كأنهم أقروا بأنهم واردون بما لزمتهم الحجة.

وقوله : (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) ظاهر.

وقوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) قيل : الزفير : هو الصوت الخفيض الذي فيه أنين ، والشهيق : هو الصوت الرفيع الذي فيه أنين.

وقيل : الشهيق : أول نهيق الحمار ، والزفير : هو آخر نهيقه.

وقوله : (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) قيل : لا يسمعون الخير ، ويسمعون غيره.

وقال بعضهم : لا يسمعون ؛ لأنهم يكونون صمّا بكما عميا ، وهو كقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) [الإسراء : ٩٧].

وقال القتبي (١) : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) : حرام عليهم أن يرجعوا ، ويقال : واجب ، وقال : هو حرم وحرام : واحد ، كما يقال : حلّ وحلال.

وقال : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ) : ومن كل نشز من الأرض وأكمة (يَنْسِلُونَ) من النسلان ، وهو مقاربة الخطو مع الإسراع كمشي الذئب إذا بادر.

قال أبو عوسجة : الحدب : ما ارتفع من الأرض ، الواحد : حدبة (يَنْسِلُونَ) أي : يجيئون.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ)(١٠٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى).

قال عامة أهل التأويل (٢) : إنه لما نزل قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٨٨).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٤٨٣٨) والفريابي وعبد بن حميد وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وأبو داود في ناسخه ، والحاكم وصححه من طرق عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٠٧) ، وهو قول مجاهد وعكرمة والحسن البصري وغيرهم.

٣٧٨

حَصَبُ جَهَنَّمَ) قالت الكفرة : إن عيسى وعزيرا والملائكة قد عبدوا من دون الله فهم حصب جهنم ، فنزل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) استثنى من سبق له الحسنى منه ، وهو عيسى وهؤلاء ، وكذلك في حرف ابن مسعود : إلا الذين سبقت لهم منا الحسنى على الاستثناء.

عن علي (١) ـ رضي الله عنه ـ قال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ...) الآية : ذاك عثمان وطلحة والزبير ، وأنا من شيعة عثمان وطلحة والزبير ، ثم قال : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ ...) الآية [الأعراف : ٤٣].

ولكن قد ذكرنا الوجه فيه ، فإن ثبت أنه نزل بشأن هؤلاء وإلا فهو لكل من سبق له من الله الحسنى.

ثم (الْحُسْنى) يحتمل الجنة ، كقوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) [الليل : ٥ ، ٦] أي : بالجنة ، فعلى ذلك قوله : (سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) ، ويحتمل (الْحُسْنى) : السعادة والبشارة بالجنة وثوابها.

وقوله : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) أي : لا يعودون إليها أبدا ، ليس على بعد المكان كقوله : (أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) [إبراهيم : ٣] أي : لا يعودون إلى الهدى أبدا.

أو أن يكون قوله : (مُبْعَدُونَ) عنها مكانا ، لكن قد ذكر في آية : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ. عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) [المطففين : ٣٤ ، ٣٥] وقال في آية : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥] ولا نعلم هذا أنه يجعل في قوى أهل الجنة أنهم متى ما أرادوا أن ينظروا إلى أولئك ويروهم يقدرون على ذلك ؛ أو تقرب النّار إليهم فينظرون إليهم ، والله أعلم ، والأوّل أشبه أنهم لا يعودون إليها أبدا.

وقوله : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أي : صوتها ، وهو ما ذكر من الإبعاد ، وإذا بعدوا منها لم يسمعوا حسيسها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) وهو ما قال في آية أخرى : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) [الزخرف : ٧١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) أي : لا يحزنهم أهوال يوم القيامة وأفزاعها (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي : تتلقاهم الملائكة بالبشارة ، كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ...) الآية [فصلت : ٣٠].

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٤٨٣٠) وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٦٠٩).

٣٧٩

أو (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) ، أي : لا يحزنهم ما يحل بالكفرة من الفزع والعذاب ، كمن رأى في الدنيا إنسانا في بلاء وشدة ، أو يعذب بعذاب ، فإنه يحزن ويهتم بما حل به ، فأخبر أنّهم لا يحزنون بما حل بالكفرة من العذاب والشدائد.

قال أبو عوسجة : (حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] قال : الحصب والحطب واحد ، قال : وما أكثر من العرب من يتكلم بهذه اللفظة ، قال : ولا أعرف حضب جهنم بالضاد.

وقال غيره ما ذكرنا من إلقاء الحطب فيه والتهييج.

وقوله : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) أي : داخلون.

وقوله : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) الزفير : هو شدة النفس في الصّدر ، يقال : زفر يزفر زفيرا.

وقال بعضهم : الزفير : هو أنين كل محزون ومكروب ، وهو قريب ممّا ذكرنا.

وقوله : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) ، أي : صوتها ، وهو من الحس : وهو الصّوت.

وقال القتبي (١) : حصب جهنم : ما ألقي فيها ، وأصله : من الحصباء ، وهي الحصاة ، ويقال : حصبت فلانا ـ أي : رميته ـ حصبا بتسكين الصّاد ، وما رميت به حصب ، بفتح الصّاد ، وكما تقول : نفضت الشجرة نفضا ، وما وقع نفض ، واسم حصى الجمار : حصب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) كأن هذا خرج على إثر سؤال سألوه على غير ابتداء ؛ لأن الابتداء بمثله على غير تقدم أمر لا يحتمل ، فكأنه ـ والله أعلم ـ لما ذكر أهل النار في قوله : (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا ...) إلى قوله : (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) وذكر أهل الجنة ووصفهم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ...) إلى آخر ما ذكر من قوله : (هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) فكأنهم قالوا : متى يكون ذلك؟ فقال عند ذلك : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) أخبر أن السماء تطوى كما يطوي السجل الكتب.

ثم ذكر في السماء الطي مرة والتبديل في آية بقوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ...) الآية [إبراهيم : ٤٨] ، وذكر [الانفطار و] الانشقاق في آية ، كقوله : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) [الانفطار : ١] و (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) [الانشقاق : ١] ونحوه ، كما ذكر في الجبال أحوالا ، مرة قال : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] ، وقال في آية [أخرى] : (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه : ١٠٥] وقال في آية أخرى : (هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] وقال في آية أخرى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨] ونحوه ، فجائز أن يكون كذلك على اختلاف الأحوال ، على ما ذكرنا فيما

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٨٨).

٣٨٠