تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢].

وقوله : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) [الأنبياء : ٢١] ونحوه ، يبين بهذا كله فساد ما ادعوا على الله أنه اتخذ كذا.

ثم اختلف في قوله : (كانَتا رَتْقاً) : قال بعضهم (١) : فتق السماء بالمطر ، والأرض بالنبات : فتق السماء ، وهي أشد الأشياء وأصلبها بألين شيء وهو الماء ، وكذلك الأرض فتقها بألين شيء وهو النبات مع شدتها وصلابتها ، وهو ما ذكرنا من لطفه وقدرته.

وقال بعضهم (٢) : (كانَتا رَتْقاً) ملتزقتين ، ففتقهما أي : جعل بينهما هواء مكانا لتخلق.

وقال بعضهم (٣) : كانت السماء واحدة والأرض كذلك ، فجعل من السماء سبعا ومن الأرض كذلك سبعا ، فكذلك فتقه إياهما ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ).

قال بعضهم (٤) : الماء نطفة الرجال منه يخلق الخلائق.

وقال بعضهم : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ) الذي خلق في الأرض ، أو أنزل من السماء حياة كل شيء ، يعلم حياة خلائق الأرض بهذا الماء (٥) ، ولكن لا يعلم حياة أهل السماء بما ذا؟ والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ).

هذا يدل أن الأرض لم يكن من طبعها في الأصل التسفل والتسرب في الماء على ما قاله بعض الناس ؛ لأنه لو كان طبعها التسفل والتسرب لكان الجبال تزيد التسفل في الماء والتسرب ، فإذا لم يكن دل أن طبعها كان الاضطراب والزوال والتحرك والميد فأصلها : ليس التسفل والتسرب ولكن على ما ذكرنا فأثبتها بالجبال ، وإن كنا نشاهد بعض أجزائها أنها تسفل وتسرب ، وهذا كما نقول : إن بعض العالم متعلق ببعض وأنه لا يخلو عن مكان ، وكل العالم لا تعلق له به ولا الأمكنة آخذة لها ، فعلى ذلك الأرض.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه الفريابي وعبد بن حميد والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦٩) ، وهو قول عكرمة وعطية وابن زيد.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٤٥٥٢ ـ ٢٤٥٥٤) وهو قول الحسن وقتادة وسعيد بن جبير.

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٤٥٥٦ ـ ٢٤٥٥٨) وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٧٠).

(٤) قاله أبو العالية ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٧٠).

(٥) ينظر : اللباب (١٣ / ٤٨٨).

٣٤١

أو أن كان طبعها التسفل والتسرب جعلها بحيث تقر وتسكن بشيء طبعه التسفل أيضا باللطف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً).

قال بعضهم (١) : الفجاج والسبل واحد ، وهي الطرق التي جعلها في الجبال.

وقال بعضهم : الفجاج : السعة والفسحة ، والسبل : الطرق.

وقال بعضهم : الفجاج : هي الطرق التي في الجبال ، والسبل : هي التي في المفاوز (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً).

قال بعضهم : (مَحْفُوظاً) ، أي : محبوسا عن أن يسقط عليهم.

وقال بعضهم (٣) : محفوظا من الشياطين ، أي : صار محفوظا منهم ؛ حتى لا يستمعوا كلام الملائكة بعد ما كانوا يستمعون من قبل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).

قال بعضهم (٤) : الفلك : السماء.

وقال بعضهم (٥) : استدارة السماء.

وقيل (٦) : الفلك : المجرى والسرعة.

وقيل (٧) : الفلك : فلكة كفلكة المغزل وهو دورانه ، وكذلك فلكة الطاحونة : هو ما يدور به الطاحونة ، وهي الحديدة التي تدور بها الطاحونة ، وقالوا : إن الفلك استدارة وكل شيء دار فهو فلك وهو ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَسْبَحُونَ) ، قال بعضهم (٨) : يجرون.

وقال بعضهم : يسبحون : يعلمون ، وكذلك روي في حرف عبد الله : كل في فلك يعلمون.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٤٥٦٩) وابن المنذر ، كما في تفسيره (٤ / ٥٧٠).

(٢) ينظر : اللباب (١٣ / ٤٩٠).

(٣) قاله ابن جرير (٨ / ٢٢) ، والبغوي (٣ / ٢٤٣).

(٤) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٢٤٤).

(٥) قاله الكلبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٢٤٤).

(٦) قاله الضحاك ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٥٧٨).

(٧) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٧١) وهو قول مجاهد والحسن.

(٨) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٥٨٢ ، ٢٤٥٨٣) ، وهو قول ابن زيد.

٣٤٢

وظاهر الآية : أن يكون هنالك بحر ونهر فيه يجري الشمس والقمر وفيه يغربان ومنه يطلعان ؛ لأنه قال : (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ، والسباحة هي المعروفة عند الناس ، وهو ما يسبح المرء في بحر أو نهر ، هذا ظاهر الآية ، وعلى ذلك جاءت الأخبار ؛ روي عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خلق الله بحرا دون سماء الدنيا مقدار ثلاث فراسخ ، فهو موج مكفوف قائم في الهواء بأمر الله تعالى ، لا يقطر منه قطرة والبحور كلها ساكنة ، وذلك البحر جار في سرعة السهم ، ثم انطباقه في الهواء مستو كأنه حبل ممدود ما بين المشرق والمغرب ، فتجري الشمس والقمر والخنس في ذلك البحر» ؛ فذلك قوله : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) والخنس : هي التي تخنس بالنهار وتجري بالليل ، والفلك : دوران العجلة ، في لجة : غمرة ذلك البحر ، وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسي بيده لو بدت الشمس من ذلك البحر ، لحرقت كل شيء في الأرض حتى الصخور ، ولو بدا القمر من ذلك البحر لافتتن به أهل الأرض كلها يعبدونه من دون الله إلا من عصمه الله».

وفي بعض الأخبار : (الفلك : ماء مكفوف يجري فيه الشمس والقمر والنجوم والليل والنهار) ، ويقال : الشمس والقمر والليل والنهار كله دون السماء يدور به الفلك ، ومثل هذا قد قيل فيه ، والله أعلم.

وظاهر الآية في الخبر ما ذكرنا : أن الشمس والقمر هما اللذان يجريان ويسبحان في ذلك الماء.

وعلى تأويل بعضهم أنهما على حالهما لا يجريان ، لكن الفلك هو يجري فيظهران ويبدوان في وقت ويختفيان في وقت آخر ، ولو كانا هما اللذان يجريان لكانا على حالة واحدة ويظهران في الأحوال كلها ، لكنا لا نعلم ذلك إلا بالخبر عن الله أنه كذلك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (٣٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٣٥) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (٣٦) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٤٠) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٤١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ).

٣٤٣

كأنه خرج جوابا لقول أولئك الكفرة في رسول الله صلوات الله عليه ، والأشبه أن يكون ما أصابهم من الشدائد والفتن والهلاك كانوا يتشاءمون برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتطيرون به أن ذلك إنما يصيبهم به ، وقالوا : لو لا هو ما يصيبنا من ذلك شيء ، فقال جوابا لهم : (وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) بل حكمه أن يموت الكل على ما أخبر : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) فإذا لم يكن لأحد من قبلك الخلد بل كلهم قد ماتوا كيف يتشاءمون بك أن ذلك إنما يصيبهم بسببك وشؤمك؟! (أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ) ، أي : وإن مت أنت وتخرج من بينهم لا يخلدون هم فيها ؛ لأن من حكمه أن كل نفس ذائقة الموت.

(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) قد ذكرنا تأويله فيما تقدم في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ).

كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر آلهتهم بسوء ويعيبها ، يهزءون به مكان ما يعيب هو آلهتهم ويقولون : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ).

ثم يحتمل أن يكون من القادة منهم والرؤساء ؛ إغراء لأتباعهم عليه أنه يذكر آلهتكم بسوء.

أو أن يقول بعضهم لبعض إذا خلوا عنه ؛ كقوله : (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ ...) الآية [البقرة : ٧٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ).

قال بعضهم : كانوا يقولون : لا نعرف ما الرحمن؟ فيكفرون باسم الرحمن.

ويحتمل أن يكون قوله : (بِذِكْرِ الرَّحْمنِ) بنعمة الرحمن وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : يكفرون بنعمته.

أو أن يذكر هذا ، ليصبر رسوله ويعزيه على تكذيبهم ، ليس أياديك بأكثر من أيادى الرحمن ، فهم يكفرون به ويكذبونه ويقولون فيه ما يقولون ، فاصبر أنت على أذاهم وما قالوا فيك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) ، وقال في آية أخرى : (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] قال الحسن : عجولا ، أي : ضعيفا ، وضعفه هو أن يضيق صدره ويحرج عند إصابة أدنى شيء ، حتى يحمله ضيق صدره على أن يدعو [على] نفسه وعلى مجيئه بالهلاك لضيق صدره وذلك لضعف فيه.

٣٤٤

وعندنا : أنه خلقه عجولا حتى لا يصبر على حالة واحدة وإن كانت الحالة حالة نعمة ورخاء حتى يمل عنها ويسأم ويريد التحول إلى حالة هي دون تلك الحالة ويرضى بشيء دون ، لكنه وإن خلقه على ما أخبر جعل في وسعه رياضة [نفسه] حتى يصير صبورا حليما ، وهو ما أخبر (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً* إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) [المعارج : ١٩ ـ ٢٣] أخبر أنه خلقه هلوعا ، ثم استثنى المصلين ؛ دل أنه بالرياضة يتحول عن الحالة التي خلقه إلى حالة أخرى ، وهي حالة الحلم والصبر ، وكذلك ما أخبر : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) [الإسراء : ١٠٠] كان كذلك في الابتداء ، لكنه بالرياضة والعادة يصير سخيّا جوادا ، وكذلك ما قال : (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ) [النساء : ١٢٨] ، ثم قال : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) [الحشر : ٩] ، أخبر أن الأنفس أحضرت الشح ، ثم أخبر أن من يوق شح نفسه فله كذا ؛ دل بهذا كله أنه بالرياضة والعادة يحتمل التحول إلى حالة السخاء والجود بعد ما كان شحيحا قتورا بخيلا ؛ فعلى ذلك ما ذكر من العجلة والهلع والجزع فيه يحتمل بالرياضة والعادة إلى أن يصير حليما صبورا في الأمور غير ملول فيها ، وليست المحنة إلا الرياضة والعادة ، فأمره أن يروض نفسه ويعودها القيام بجميع ما أمره الله ، ويكفها عن جميع ما نهى عنه ، فيعتاد اتباع أمره والانتهاء عن نهيه ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ).

يشبه أن يكونوا سألوا رسول الله الآيات على رسالته أنه رسول ، أو سألوه آيات على وحدانية الله وربوبيته ، فقال : (سَأُرِيكُمْ آياتِي) ، من الوجه الذي يريد ربي ويبين لكم ذلك ، لا من الوجه الذي تريدون أنتم وتسألونه.

وقال بعض أهل التأويل : سأريكم آياتى فيما نزل من العذاب فيهم وفي منازلهم ، فلا تستعجلون أنتم العذاب على من كان قبلكم من الأمم بتكذيبهم الرسل ، فإن سافرتم وضربتم في الأرض رأيتم آثار العذاب فيهم وفي منازلهم ؛ فلا تستعجلون أنتم العذاب الذي يعد لكم الرسول ، كأنه يخوفهم العذاب ويعد لهم إياه ، فكذبوه في ذلك فقال عند ذلك ما قال ، ويقولون أيضا : (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الذي وعدنا (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) بأنا نعذب.

وجائز أن تكون الآية فيهم بتكذيبهم الساعة والقيامة وإنكارهم إياها ، فقال : (سَأُرِيكُمْ آياتِي) التي تكون قبل وقوعها (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) وقوعها ووجوبها ؛ دليله ما ذكر : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ، وقوله : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً ...) الآية.

٣٤٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ما نزل بهم بوقوع القيامة حتى لا يملكون كفها عن وجوههم ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون ، إنما تحيط بهم حتى لا يملكون هم دفعها عن أنفسهم ، ولا يملك ما اتخذوا أنصارا وأعوانا في الدنيا دفع ذلك أيضا ، وهو كقوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ ...) الآية [الزمر : ١٦] ، وقوله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ٢٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً).

أخبر أنها تأتيهم بغتة ـ أي : فجأة ـ لا يعلم أهلها عن وقت وقوعها (فَتَبْهَتُهُمْ) ، قال أهل التأويل : (فَتَبْهَتُهُمْ) : فتفجأهم ، والبهتة كأنها حيرة ، يقول : تأتيهم بغتة فجأة فتحيرهم ، وهو ما أخبر : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى) ؛ وذلك لحيرتهم في أنفسهم ، وهو ما ذكر : (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ...) الآية [إبراهيم : ٤٢] ؛ يصيرون حيارى ؛ لشدة أهوالها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

أخبر أنهم لا يملكون دفعها إذا وقعت بهم ، (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) في وقوعها أن من ابتلى بالبلايا في الشاهد فإنما يملك دفعه عن نفسه إما بقوة نفسه ، وإما بأعوان وأنصار ينصرونه ويعينونه في دفعه عنه ، وإما بالتضرع والابتهال والاستسلام ، كقوله : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا ...) الآية [الأنعام : ٤٣] ، فأخبر عزوجل : لا يملكون دفعها بقوى أنفسهم ولا بأنصارهم الذين استنصروا ؛ حيث قال : (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ، (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) بالتضرع والاستسلام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ).

فيه تصبير رسول الله على ما يستهزءون به ؛ لأنه قال : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) ، أي : لست بأول رسول لله استهزأ به قومه ، فيه تخويف أولئك باستهزائهم به بما نزل بأوائلهم باستهزائهم برسلهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَحاقَ) قال أهل التأويل (١) : حاق : نزل ووجب ووقع وأمثاله.

وقال بعض أهل المعاني : الحيق : هو ما اشتمل على الإنسان من مكروه ، أي : بفعله ؛ كقوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) [فاطر : ٤٣] ، وقال [بعضهم] : حاق ، أي : رجع عليهم وأحاط بهم.

__________________

(١) قاله ابن جرير (٩ / ٢٩) ، والبغوي (٣ / ٢٤٥).

٣٤٦

قوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ)(٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ)(٤٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ).

أي : من يحفظكم ويحرسكم من عذاب الرحمن.

وقيل (١) : من يدفع عنكم عذاب الرحمن.

ثم هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : قوله : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) أي : لو سألتم من يكلؤكم من عذاب الرحمن لأقروا لك أن الرحمن هو الذي يكلؤهم ويحفظهم من عذابه ، لا الآلهة التي يعبدونها ، وهو كقوله : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرعد : ١٦] وقل (مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) [المؤمنون : ٨٨] ونحوه ، فسيقولون : الله ، لا الآلهة التي يعبدونها ، فقل : أن كيف صرفتم عن عبادته وعبدتم دونه من لا يكلؤكم ولا يدفع عنكم العذاب ، وقد عرفتم أن الرحمن هو الذي يكلؤكم بالليل والنهار ، وهو إله السموات والأرض ، فكيف عبدتم من ليس هو بإله؟! فيخرج عن الاحتجاج عليهم ولزوم الحجة لهم ؛ لئلا يقولوا : (إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) [الأعراف : ١٧٢].

والثاني : يخرج على التذكير والتنبيه لهم ؛ لأنهم كانوا ينكرون الرحمن ويقولون : ما الرحمن؟ وقوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) [الرعد : ٣٠] فيخرج قوله : (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : كيف تنكرون الرحمن وتكفرون به وهو يكلؤكم بالليل والنهار عن عذابه ، وعلى هذا يخرج : (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ) ، أي : بل هم عن ذكر ربهم الرحمن معرضون ، أي : منكرون له ، والله أعلم.

وقوله : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) ، أي : ليس لهم آلهة من دوننا تمنعهم من عذابنا ، هو على النفي ، أي : ليس لهم الآلهة من دونه وإن كان ظاهره استفهاما ، ثم بين

__________________

(١) قاله ابن عباس ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٢٤٥).

٣٤٧

موضع الاحتجاج عليهم ، وهو ما أخبر عن عجزهم حيث قال : (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي : لا يستطيع الآلهة نصر أنفسها إذا أرادوا بها سوءا ، (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) أي : ينصرون ، تأويله : أن كيف عبدتم من دونه واتخذتموهم آلهة رجاء شفاعتهم ووسيلتهم حيث قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ونحوه ، وفي قولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، فإذا كانوا لا يملكون نصر أنفسهم إن أصابها سوء ولا يصحبها من يدفع عنها السوء ، فكيف اتخذتم آلهة دونه ، فمن كان عن دفع السوء عن نفسه ونصرها عاجزا ، فهو عن دفعه عن الآخر ونصره أعجز.

ثم بين الذي حملهم على ذلك وهو ما قال : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) ، ولم يأخذهم بالعقوبة بأعمالهم التي عملوها [فظنوا] أن الله راض عنهم وأنهم على الحق ؛ ولهذا قالوا : (لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٢] ادعوا رضاء الله بما هم عليه وآباؤهم.

ثم بين أنه وإن تركهم وقتا طويلا ومتعهم عليه أنه قد نقص عما كانوا يملكون هم ؛ حيث غلب عليهم رسول الله على بعض أملاكهم وجعله ملكا للمسلمين وهو قوله : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) ، وجعلناها ملكا للمسلمين.

ثم اختلف في تأويل هذا ؛ قال الحسن : قوله : (أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) أي : اعلموا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ، أي : نحشرهم يوم القيامة من أطراف الأرض إلى المحشر ، فذلك نقصها.

وقال غيره (١) : أفلا يرون أن رسول الله كلما بعث إلى أرض ظهر عليها ، قال : ننقصها بالظهور عليها أرضا فأرضا ، (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) ، أي : ليسوا هم الغالبين ، ولكن رسول الله هو الغالب عليهم.

وقال ابن عباس (٢) : ننقصها : ذهاب فقهائها وخيار أهلها.

وقال قتادة : ننقصها بالحرث ، وكذلك قال عكرمة (٣) : ننقصها من أطرافها بالموت ، وقال : لو كانت الأرض تنقص لم يوجد للرجل مجلس يجلس فيه ، ونحو هذا قد قالوا فيه.

__________________

(١) قاله الحسن ، وأخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٧٤).

(٢) أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة ونعيم بن حماد في الفتن وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٢٦).

(٣) أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ١٢٦ ، ١٢٧).

٣٤٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ).

هذا ـ والله أعلم ـ يخرج على وجهين :

أحدهما : خرج جوابا لقولهم : (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [الشعراء : ١٥٤] أنهم كانوا ينكرون رسالته ويقولون : إنه بشر كيف خص هو به؟ فيقول : إني لست أنذركم لأني بشر ، ولكن إنما أنذركم بالوحي من الله ، وأنتم ممن لا تقلبون بشارة ربي ونذارته.

والثاني : قال ذلك لما تقدم منه في الآيات النذارة المرسلة غير مضافة إلى الله ، فأمره أن يقول لهم : إني فيما أنذركم من النذارات ، لم أنذركم من ذات نفسي ، ولكن إنما أنذركم بالوحي من ربي ، فمعناه ـ والله أعلم ـ أي : فيما أنذرتكم مما نزل بالأمم المتقدمة والأنباء التي أخبرتكم عنها مما لم أشهدها ولا أنتم ، بل إنما أنذركم بالوحي ، فذلك موضع الاحتجاج عليهم في إثبات رسالته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ).

هذا ـ والله أعلم ـ يقول : إن الأصم إذا أريد أن يدفع عن المهالك لا سبيل أن يدفع عنها ويكف بالدعاء والنداء ، ولكن إنما يكف ويدفع عن المهالك بالأيدى والراحات ، كأنه قال ذلك لما أكثر دعاءهم إلى ما به نجاتهم فأبوا ذلك ولم يجيبوه ، فقال عند ذلك : إنكم لا تسمعون الدعاء والنداء إلى ما به نجاتكم ، ولكن تعرفون ذلك بالقتل والسيف.

أو أن يقول ذلك : إنكم صم عن الحق حتى لا تسمعونه كالأصم بالسمع ، والأصم بالسمع لا يدعى ولا ينادى ؛ لأنه لا يسمع ، ولكن يدعى باليد والإشارة ، فعلى ذلك أنتم صم عن الحق لا تدعون بالنداء ، ولكن بالذي يعرف الدعاء وهو اليد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ).

قال الحسن : (نَفْحَةٌ) أي : طائفة من عذاب ربك.

وقال بعضهم : نقمة من ربك.

وقال بعضهم (١) : عقوبة ربك ، وأصل النفحة : الرمية ؛ ولذلك سمي نفحة الدابة : أي رميها ، وهو ما ذكر من رمي الشرر ؛ كقوله : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) [المرسلات : ٣٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ).

فى ظاهر الآية أن الموازين هي القسط ، والقسط هو العدل ؛ لأنه قال : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) ؛ فكأنه قال : ونضع الموازين التي توضع في الدنيا ويعرف بها حقوق الناس في

__________________

(١) قاله قتادة ، وأخرجه ابن جرير (٢٤٦٠٨) وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٧٤).

٣٤٩

الآخرة العدل الذي يعرف به حدود الأشياء وأقدارها ، فيكون الموازين العدل ما ذكر بقوله : (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) ، أي : لا ينقص من حسناته أو يزاد على جزاء سيئاته ، ولكن يوفى كل جزاء عمله.

ويحتمل أن يكون قوله : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) على الإضمار ، أي : نضع الموازين التي تكون في الدنيا يوم القيامة بالعدل لا تطفف ولا تنقص ولا تحسر كما تفعلون في الدنيا ، ولكن العدل لا تطفف ولا تنقص ذلك تسوى وتستوفى مستويا من غير زيادة ولا نقصان (١) ؛ لأن الزيادة والنقصان إنما تكون في الشاهد لوجوه : الجهالة ، أو للحاجة ، أو للجور ، فيحمله كله على الزيادة والنقصان ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ يتعالى عن ذلك كله ؛ لأنه عالم بذاته غنى بذاته عادل ، فلا وجه للخسران منه والزيادة فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها).

أي : أتينا بجزائها ، أو أتينا بها ، أي : بعينها لا يفوت شيء ولا يغيب عنه.

وليس المراد من ذكر (مِثْقالَ حَبَّةٍ) و (مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء : ٤٠] الذرة ، والحبة ، ولكن ذكر على التمثيل ، أي : لا يفوت عنه شيء ولا يغيب ذلك المقدار من الخير والشر غير فائت عنه ولا منسى ، ولكن محفوظ محاسب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ).

لا يشغله كثرة الحساب وازدحامه ، ليس كمن يحاسب آخر في الشاهد أنه إذا كثر الحساب عليه وازدحم شغله ذلك عن حفظ الحساب ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ)(٥٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ).

فهو ما يفرق بين الحق والباطل ، وبين المشتبه والواضح ، وبين ما يؤتى ويتقى ، وبين ما عليهم ولهم ، والنور : ما يتجلى به حقائق الأشياء ، والضياء هو ما يظهر به حسن ما يتجلى واستنار ، وروح : هو ما به حياة كل شيء ، القرآن سماه : روحا ؛ لأنه به حياة الدين ، وسمى الماء : حياة ؛ لأن به حياة الأبدان ، والمبارك هو ما ينال به ويصل إليه من كل خير ، والذكر : هو ما يذكر ما لهم وعليهم.

(وَذِكْراً). قيل : هو الموعظة ، والموعظة : قيل : هي التي تلين القلوب وتوسع الصدور وتفسح ويخشع بها الفؤاد ، وعلى هذا الوصف جميع كتب الله الذي وصف هذا

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٥١٢ ـ ٥١٣).

٣٥٠

القرآن بها ، ثم بين أنها على الوصف الذي ذكر لمن ، فقال : (لِلْمُتَّقِينَ) وإن كانت هي في أنفسها على الوصف الذي ذكر ، فإنها تتجلى بها الشبه من الحقائق والحق من الباطل لمن قبلها وأقبل نحوها ونظر إليها بعين التعظيم والإجلال ، فأمّا من أعرض عنها فليست لهم على ما ذكر ، لكن على ما أخبر بقوله : (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥].

ثم بين من المتقون؟ فقال : (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) يحتمل قوله : (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) ، أي : يخشون العذاب الموعود في الغيب وهو عذاب الآخرة ونقمتها ، إن المؤمنين خافوا العذاب الموعود في الآخرة ، فيحذرون ما به يحل ذلك ، وأما الكفار فإنهم لم يخافوا العذاب الموعود في الآخرة ولم يصدقوه إنما يخافون العذاب المعاين المشاهد ، فأما العذاب الموعود في الغيب فلا يخافونه.

ويحتمل أيضا قوله : (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ) ، أي : يهابون ربهم ويخافونه وإن لم يروه ؛ لما رأوا من آثار سلطانه وملكه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) يحتمل : هم من أهوال الساعة وأفزاعها خائفون.

أو أن يكون قوله : وهم من محاسبة أعمالهم مشفقون خائفون ، فحاسبوا أنفسهم في الدنيا ؛ إشفاقا على محاسبة أنفسهم في الآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ).

الذكر المبارك ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) ظاهره وإن كان استفهاما فهو في الحقيقة إيجاب ؛ كأنه قال : وهذا ذكر مبارك أنزلناه وتعرفونه أنه كذلك ، فأنتم مع هذا له منكرون ، يذكر سفههم ويخبر عن عنادهم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ)(٦١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ).

٣٥١

قال الحسن (١) : رشده : دينه وهداه.

وقال غيره : رشده : النبوة.

ويشبه أن يكون قوله : (آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) حججه وبراهينه التي حاج بها قومه على غير تعليم من أحد ، وفيه دلالة أن ليس كل رشد وهدى بيانا ؛ لأنه لو كان كله بيانا لم يكن لتخصيص إبراهيم بالرشد كثير معنى ؛ إذ هو في ذلك البيان وغيره من الكفرة والفراعنة سواء ، فدل قوله : (آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) أنه يكون من الله للمهتدين فضل صنع ليس ذلك في الكافرين ، وهو التوفيق والعصمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ قَبْلُ) قال بعضهم (٢) : من قبل الأوقات التي يعطى البشر الرشد وهو حال الصغر.

ويحتمل قوله : (مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل محمد.

وقال بعضهم (٣) : من قبل موسى وهارون.

ويحتمل : (آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) من قبل إيمان أهل الأديان كلها ؛ لأن جميع أهل الأديان يدعون أنهم على دين إبراهيم ، فلا يحتمل أن يكون دينه ورشده الذي آتاه الله هو كل ذلك ، بل إنما كان ذلك واحدا ، فوجب النظر فيه والتأمل في ذلك ؛ ليظهر الدين الذي كان عليه إبراهيم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ).

يحتمل قوله : (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) ، أي : بالرشد والدين الذي عليه إبراهيم عالمين من قبل.

أو أن يكون قوله : (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) ، أي : كنا بجميع ما يكون من إبراهيم عالمين.

وقوله تعالى : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) كأنه قال : ما هذه التماثيل التي اتخذتموها (أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) ، أي : إنما يعبد من يعبد لفعل يكون من المعبود إلى من يعبده ، فأما أن يعبد ما يفعله [من] المعبود فلا يحتمل ، وهو ما قال إبراهيم : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ. وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) [الصافات : ٩٥ ، ٩٦] يسفههم

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٦٢٣).

(٢) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٢٤٧).

(٣) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٢٤٧).

٣٥٢

ويعيب عليهم لعبادتهم ما ينحتون هم بأيديهم ويتركون عبادة من خلقهم وخلق أعمالهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ).

قد انقطع حجاجهم لما قال لهم إبراهيم ما قال وأظهر سفههم ، ففزعوا إلى تقليد آبائهم فقالوا : (وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ. قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ، لم ينكر عليهم فعل آبائهم وعبادتهم الأصنام ، ولكن أقر لهم بصنيع آبائهم ، ثم جمعهم وآباءهم وأخبر : (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بعبادة الأصنام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ).

لما علموا أن مثل هذا القول لا يقوله إلا من كان عنده حجة وبرهان ، فقالوا : أجئتنا بما تقول بحجة ، (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) تلعب بنا وتهزأ؟ وأخبر أنه جاءهم بالحق وبين لهم ذلك الحق فقال : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) لا الأصنام التي تعبدونها ، أي : (رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الذي يعرف بالدلالات والبراهين وآثار الصنعة في غيره ، لا الذي أحدثتم أنتم واتخذتموه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).

يحتمل : وإنا على جميع ما قال وكان منه من الحجاج وإقامة الحجج على ألوهية الله تعالى وتسفيه أولئك في عبادة الأصنام ـ من الشاهدين ، أو من الشاهدين على خلقها.

ويجوز أن يقال : الشاهد : المبين ، وأنا على ذلكم من المبينين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ).

إن الأصنام لا يقصد إليها بالكيد ، لكن تأويله ـ والله أعلم ـ لأكيدن لكم في أصنامكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) قال عامة أهل التأويل : إن إبراهيم إنما قال ذلك : (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) من الأصنام إلى عيدهم ؛ لأنهم كانوا يخرجون إلى عيدهم من الغد ، فقال : (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) ، أي : لأكيدن لكم في أصنامكم (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) منها إلى عيدكم.

وجائز أن يكون قوله : (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) عني ، وكانوا في ذلك الوقت بحضرة الأصنام ؛ ألا ترى أنه قال لهم : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) ، ومثل هذا الكلام لا يقال إلا بحضرة الأصنام ؛ لأنه أشار إلى الأصنام فقال : (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) ، فقال عند ذلك : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) ، أي : لأكيدن لكم في أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين عنى ؛ على التأويل [الأول] يكون توليهم الأدبار عن الأصنام إلى عيدهم ، وعلى التأويل الثاني يكون توليهم الأدبار عن إبراهيم ، والله أعلم.

٣٥٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً).

وجذاذا : قال بعضهم (١) : قطعا.

وقال القتبي (٢) : جذاذا : فتاتا ، وكل شيء كسرته فقد جذذته ؛ ومنه قيل للسويق : جذيذ ، والجذ : هو القطع ، والمجذوذ : المقطوع ، وذلك قوله : (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨] أي : غير مقطوع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) لم يكسره (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ).

يقول : إلى الصنم الأكبر الذي لم يكسره إبراهيم يرجعون من عيدهم.

وقال بعضهم : لعلهم إلى الحجة يرجعون ، وقيل : هو أحج القولين ، أي : من الحجة.

وقال بعضهم (٣) : (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) ، أي : يتذكرون.

وجائز أن يكون قوله : (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) ، أي : يرجعون إلى ما يريد أن يكيد لهم في أصنامهم ؛ لأنه إنما يريد أن يكيد لهم إذا رجعوا إلى الأصنام فرأوها مجذوذة ، والكيد : هو الأخذ على الأمن وكذلك المكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ).

لو تأملوا كانوا هم الظلمة في الحقيقة ؛ لأنهم كانوا يعبدون تلك الأصنام رجاء منفعة تكون لهم حيث قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، فإذا رأوهم لا يقدرون على دفع الكسر والقطع عن أنفسهم ودفع من فعل بهم ذلك ، كيف طمعوا منها نفعا أو دفع الضر عن أنفسهم ؛ لأن من عجز عن دفع الضر عن نفسه فهو عن دفعه عن غيره أعجز ، فهم الظلمة في الحقيقة ؛ حيث طمعوا النفع ودفع الضر ممن لا يملك ذلك لنفسه ، لكن قالوا ذلك سفها منهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) : بالكيد لهم حين قال : (لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) ، سمع ذلك القول منه ناس ، فأخبروا قومهم لما قالوا : (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) فعند ذلك قالوا : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) بالكيد لهم (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ).

وجائز أن يكون قوله : (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ) : بالعداوة ، وهو حين قال : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ٧٧] ، أخبر أن أولئك الذين عبدوا الأصنام أعداء له ، فالمعبود الذي عبدوه يكون عدوا له أيضا ، فاستدلوا بذلك القول منه أنه هو فعل بهم ما

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٤٦٣٢) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٧٨).

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٨٦).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٤٦٣٧) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٧٨).

٣٥٤

فعل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ).

قال بعضهم (١) : على رءوس الناس.

وقيل (٢) : بحيث ينظر الناس إليه ، أو بحيث يراه الناس ، وهو واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ).

اختلف فيه :

قال بعضهم (٣) : يشهدون عقوبته بما فعل بأصنامهم ؛ فيكون نكالا له وزجرا لغيره عن أن يفعل بها مثل ما فعل هو ؛ ولذلك قالوا : (حَرِّقُوهُ) نكالا وزجرا لغيره ؛ كقوله : (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) [البقرة : ٦٦] ، أي : زجرا ، وكقوله : (فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) [الأنفال : ٥٧].

وقال بعضهم (٤) : (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) بفعله الذي فعله بالأصنام ، لم يريدوا أن يعاقبوه بلا بينة ولا حجة.

وقال بعضهم : لعلهم يشهدون أنه قال لآلهتهم ما قال ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ)(٧٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ. قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٣٩).

(٢) انظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٣٩).

(٣) قاله محمد بن إسحاق ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٦٤٢).

(٤) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٤٦٤١) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٧٨) ، وهو قول الحسن والسدي.

٣٥٥

هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ).

اختلف في هذا :

قال بعضهم (١) : هذا القول من إبراهيم كذب في الظاهر فيما أراد أن يكيد لهم ، وإن لم يكن في الحقيقة عنده كذبا ، وكذلك ما قال : (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] ، وكان صحيحا ، وقوله : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧] ومثل هذا قالوا : هذا في الظاهر كذب ، وإن لم يرد هو به في الحقيقة كذبا.

وقال بعضهم : إنه إنما قال ذلك على أن يريهم من نفسه الموافقة لهم في الظاهر ؛ ليكونوا للحجج أسمع وللبراهين أقبل ، فيكون تأويله ـ والله أعلم ـ : لعل كبيرهم فعل بهم هذا.

أو أن يقول : أكبر فعل هذا بهم وكذلك قالوا في قوله : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧].

قال بعضهم : ليس هذا ولا فيه كذب في الظاهر ، ولكن قال ذلك على الشرط حيث قال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) أي : بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون ، علق فعله بشرط النطق ، فإذا كانوا لا ينطقون (٢) لم يجيء منه.

وقوله : (إِنِّي سَقِيمٌ) [الصافات : ٨٩] ، أي : سأسقم وكل حى يسقم يوما ، وقوله : (هذا رَبِّي) ، أي : ليس هذا ربي ومثل هذا قد قالوا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ).

أي : رجعوا إلى أنفسهم باللائمة ، فقالوا فيما بينهم : (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) هذا يحتمل وجوها :

إنكم أنتم الظالمون حيث نسبتم الفعل بهذه الأصنام والكسر إلى إبراهيم وقلتم : إنه فعل ذلك بهم ، وإنما فعل بهم هذا كبيرهم ؛ لما وقع عندهم أن كبيرهم هو الذي فعل بهم.

والثاني : إنكم أنتم الظالمون حيث اتخذتم مع كبيرهم آخرين شركاء في العبادة حتى غضب عليهم فكسرهم.

أو أن يكون قوله : (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) يعنون الأصنام المكسورة : يا هؤلاء (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) ؛ حيث حملتم الكبير على تكسيركم ، والله أعلم بما أرادوا بذلك ، ولا يجوز لنا أن نزيد أو ننقص في هذه الأنباء المذكورة في الكتاب ، أو نقطع على جهة دون جهة ؛ لأنها ذكرت ليحتج عليهم بما في كتبهم ، فلو زيد أو نقص [أو] قطع على جهة دون

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٤٠) والبغوي (٣ / ٢٤٩).

(٢) ينظر : اللباب (١٣ / ٥٣٣ ، ٥٣٤).

٣٥٦

جهة يذهب الاحتجاج بها عليهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ).

قوله : (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) للتفكر والنظر في قول إبراهيم حيث قال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، إنما علق فعل الكبير بهم إن نطقوا ، فقالوا : لقد علمت يا إبراهيم ما هؤلاء ينطقون ، فكيف قلت : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ) ، فإذا كانوا لا ينطقون لم يفعل كبيرهم ، ثم قال : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) فإن قيل : إن إبراهيم لم يحتج عليهم أن كيف تعبدون من دون الله ما لا ينطق؟ ولكن قال : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ).

قيل : قد كان احتج عليهم من ذلك النوع حيث قال : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) [الشعراء : ٧٢ ، ٧٣] وبعد فإنه قد احتج عليهم بعجزهم عن النطق حيث قال : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، ثم قال هاهنا : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً) إن عبدتموهم (وَلا يَضُرُّكُمْ) إن تركتم عبادته.

(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أف : هو كلام كل مستخف بآخر ومستحقر له في فعله ؛ يقول : (أُفٍّ لَكُمْ) ، فإبراهيم حيث قال ذلك لهم إنما قال استخفافا بهم وبما عبدوه ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) : أن عبادة من لا ينفع ولا يضر لا تصلح ولا تحل.

وفي أنباء إبراهيم خصال ليست تلك في غيرها من الأنباء :

إحداها : أنه لم يترك صنما كان يعبد دون الله إلا وقد نقض ذلك.

والثانية : أنه حاج قومه أولا في فساد مذاهبهم وفساد ما اعتقدوه ، ثم بعد ذلك أقام عليهم حججه وبراهينه ؛ لأنه قال : (هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٧] ، وقال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، وقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨] ، فلما أراهم فساد مذهبهم ، فعند ذلك ذكر حججه وبراهينه حيث قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) [الأنعام : ٧٩] ، وقال : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ...) الآية [الشعراء : ٧٨] ، وهكذا الواجب على كل متناظر أن يبدأ أولا بإظهار فساد مذهب خصمه ، فإذا أراه فساد مذهبه ، فحينئذ يذكر حجج مذهبه وبراهين ما يعتقد ؛ ليكون لها أسمع وعند إقامتها أقبل.

والثالثة : أنه لم يبتل نبي قط بفرعون مثل فرعونه ولا قوم مثل قومه في السفه والبغض والهم بقتله بالنار.

وجائز أن يكون خصوصية الخلة لهذه الخصال التي ذكرناها ، والله أعلم.

٣٥٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) هذا ظاهر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) :

جائز أن يكون قوله : (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً) أي : جعلها في الخلقة بردا وسلاما على إبراهيم خاصة ، وأما على غيره فهي على ما هي في طبعها من الإحراق والحر ؛ فيكون ذلك من أعظم آيات رسالة إبراهيم ونبوته.

أو أن يكون على الوحي والإلهام على ما قاله أهل التأويل : إنه أوحى إليها أن (كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) ، لكنه إن كان على هذا فجائز أن يجعل في سريتها ما تفهم أمره ويمكن فيها ما تفطن ذلك فلم تحرقه.

وقول أهل التأويل (١) : إنها بردت حتى لم ينتفع به أهل المشرق والمغرب ثلاثة أيام ، فذلك لا يعلم إلا بالسمع (٢).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً).

الكيد : هو الأخذ من حيث الأمن ، فجائز أن يكونوا كادوه أن حبسوه في موضع ، ثم جمعوا عليه الحطب من غير أن علم هو ذلك ، ثم أوقدوا عليه النار.

أو أن يكون أخذوه مغافصة ، فجعلوه في المنجنيق ثم رموه في النار ؛ على ما قاله بعض أهل التأويل (٣).

أو أن يكونوا كادوه كيدا آخر سوى ذلك فنحن لا نعلم ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ).

لا شك أنهم في الآخرة من الأخسرين ، وأما خسرانهم في الدنيا فلا نعلم ذلك الخسران ، والله أعلم به.

وقال بعضهم (٤) في قوله : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) : وذلك أنه لما جعل في النار أنجاه الله منها ، وجعلها عليه بردا وسلاما على إبراهيم ، وأمره الله تعالى بالخروج إلى الأرض المقدسة ، فخرج إليها فطلبوه وبعث ملكهم إلى أصحاب المناظر فقال : لا يمر بكم إنسان يتكلم بالسريانية إلا حبستموه ، قال : فحول الله لسانه بالعبرانية ، فمر بهم فعبر عليهم ، فانطلق إبراهيم متوجها نحو أهله ، فذلك قوله : (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) ،

__________________

(١) قاله كعب بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٢٤٦٥٧) وعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة عنه ، وبمثله عن ابن عباس وعلي بن أبي طالب.

(٢) ينظر : اللباب (١٣ / ٥٤١ ، ٥٤٢).

(٣) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٥٩).

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن سعد عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٨١).

٣٥٨

أي : الأسفلين وأعلاهم إبراهيم صلوات الله عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً) دل هذا على أن إبراهيم كان كالمشرف على الهلاك ؛ لأن لفظة (النجاة) لا تقال إلا فيما كان هنالك إشراف على الهلاك.

وفيه أن لوطا كان معه وإن كان إبراهيم هو الممتحن في ذلك وهم كانوا يقصدون قصد إهلاك الرسل والأتباع جميعا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) قال الحسن : بركته ما ذكر في آية أخرى وهو قوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) [المؤمنون : ٥٠] كثيرة المياه والنبت ونحوه.

وقال بعضهم : بركته : سعته على أهلها.

وقال بعضهم (١) : بركته ؛ لأنها كانت مكان الأنبياء والرسل صارت مباركة بهم.

وجائز أن يكون صارت مباركة بإبراهيم ولوط ؛ لما بهم ظهر الإسلام هنالك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً).

قال بعضهم (٢) : النافلة : العطية.

وقال بعضهم (٣) : النافلة : الفضل.

وأصل النافلة : الغنيمة ؛ كقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) [الأنفال : ١] أي : الغنائم. والولد وولد الولد فضل منه وعطية وغنيمة ؛ لأنه سمى الولد : هبة بقوله : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) [الشورى : ٤٩] ، وسمى الولد : مواهب ، وخاصة إبراهيم لم يكن يطمع أن يولد له الولد في ذلك الوقت ، فكيف يطمع ولد الولد؟!

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُلًّا جَعَلْنا صالِحِينَ).

يحتمل قوله : (صالِحِينَ) : رسلا ، أو صالحين في كل أمر وكل شيء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) : قادة في أمر الدين ، (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) يحتمل قوله : (يَهْدُونَ) ، أي : يدعون الناس بأمرنا ؛ كقوله : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي : داع.

وجائز أن يكون قوله : (يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) ، أي : يهدون الناس إلى ما به أمر الله وإلى

__________________

(١) قاله عبد الله بن سلام بنحوه ، أخرجه ابن عساكر عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٥٨١).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير (٢٤٦٨٤ ، ٢٤٦٨٥) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٨٢) وهو قول عطاء أيضا.

(٣) قاله الحسن والضحاك كما في تفسير البغوي (٣ / ٢٥٢).

٣٥٩

دينه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ) ، دل قوله : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ) أنهم كانوا رسلا ثم يحتمل قوله : (فِعْلَ الْخَيْراتِ) ، وقوله : (وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) فيه أن الصلاة والزكاة كانتا في شرائع المتقدمين.

وقوله : (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) موحدين ، أو عابدين له في كل وقت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً).

قال بعضهم : (حُكْماً) يعني : النبوة.

وقال بعضهم : (حُكْماً) أي : الفهم والعقل ، وعلما.

وجائز أن يكون قوله : (حُكْماً) أي : الحكم الذي يحكم بين الناس ، (وَعِلْماً) ، أي : العلم الذي كان به يحكم بين الناس.

ومن قال : (حُكْماً) هو النبوة ، قال : لأن الأنبياء إنما يحكمون بين الناس بالنبوة فكنوا بالحكم عن النبوة.

ومن قال بالفهم فهو لأنه إنما يحكم بين الناس بعد ما فهم من الخصوم ، وإلا حاصل الحكم هو الحكم بين الناس ، (وَعِلْماً) ، أي : العلم الذي به يحكم ، أو علما فيما بينه وبين ربه ، والله أعلم.

وقوله : (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ).

أضاف عمل الخبائث إلى القرية ، ومعلوم أن القرية لا تعمل شيئا ، لكن معناه : نجيناه من القرية التي كان أهلها يعملون الخبائث ، وكذلك ذكر في حرف حفصة.

وقوله : (الْخَبائِثَ) : كل أنواع الخبث من الكفر والتكذيب بالآيات واللواطة وغيرها.

وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ).

أي : (كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) في أفعالهم وأعمالهم التي كانوا يعملونها (فاسِقِينَ) ، أي : خارجين عن أمر الله تاركين له ، والفسق : هو الخروج عن الأمر ؛ لأنه برحمته يدخل فيها ويدرك.

وقال غيره : (فِي رَحْمَتِنا) ، أي : نعمتنا ، ونعمته : النبوة ؛ كقوله لعيسى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ) [الزخرف : ٥٩] ، النبوة.

وجائز أن يكون قوله : (فِي رَحْمَتِنا) أي : أعطيناه كل أنواع الخير برحمتنا ؛ إذ كل من أصاب خيرا في الدنيا والآخرة إنما يدركه برحمته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) من النبيين.

٣٦٠