تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) :

قال أهل التأويل (١) : صل بأمر ربك ، وتأويل قولهم هذا صل بأمر ربك ؛ لأنه أمره أن يصلي لله بقوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ) [الإسراء : ٧٨] ، وقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣] ، فيكون قوله : (وَسَبِّحْ) أي : صل بأمر ربك الذي أمرك بقوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ) [الإسراء : ٧٨] ، ولو لا صرف أهل التأويل التسبيح في هذه الآية إلى الصلاة وإلا يجوز أن يصرف إلى غيرها من الأذكار في كل وقت ، لكن صرفوا إلى الصلاة ؛ لأن الصلاة تشتمل على معان : قولا وفعلا ، وسائر الأذكار لا تشتمل إلا معنى الذكر قولا ، فهي أجمع وأشمل لذكره ، والله أعلم.

ثم قوله : (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) : قبل صلاة الفجر ، (وَقَبْلَ غُرُوبِها) صلاة العصر.

وقال بعضهم : (قَبْلَ غُرُوبِها) الظهر والعصر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) قيل (٢) : صلاة المغرب والعشاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَطْرافَ النَّهارِ) ؛ قيل : صلاة الفجر والعصر ؛ فهو على التكرار والإعادة تأكيدا ؛ كقوله : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨] ، ذكر الصلوات بجملتها ، ثم خص الصلاة [الوسطى] بالذكر لمعنى ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : (وَأَطْرافَ النَّهارِ) تكرارا منه لصلاة الفجر والعصر لمعنى.

وجائز أن يكون قوله : (وَأَطْرافَ النَّهارِ) أنه ليس على إرادة وقت دون وقت ، ولكن يريد به الأوقات كلها ، وعلى ذلك يخرج قول من قال في قوله : (وَقَبْلَ غُرُوبِها) : صلاة الظهر والعصر ، والله [أعلم].

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلَّكَ تَرْضى) بالنصب والرفع جميعا ، أي : يرضيك ربك بما عملت أو يرضى بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ).

هذه الآية تحتمل وجهين :

أحدهما : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) أي : لا ترغبن في هذه الدنيا ، ولا تركنن إلى ما متع به هؤلاء من ألوانها وزهرتها ، وهو كقوله تعالى : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ...) الآية [التوبة : ٥٥].

والثاني : قوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ) على حقيقة مدّ البصر ، أي : لا تمدن بصرك إلى أعين الدنيا وإلى ظاهر ما هم عليه من الغرور والتزيين ، ولكن انظر إلى الدنيا إلى ما

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٢٣٦).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٤٤٤٨) ، وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور.

٣٢١

جعلت الدنيا؟ وإلى ما فيها من سمومها وتنغيصها على أهلها ، فإن من نظر إليها لما فيها من سمومها وتنغيصها ، لزهد فيها ورغب عنها ، ومن نظر إليها وإلى عينها وظاهرها [و] ما هي عليها من الغرور والتزيين ، لاغتر بها ورغب فيها وركن إليها ، ومن نظر إلى حقيقة ما هي عليه وجعلت على ما ذكرنا لزهد فيها ورغب عنها.

ثم معلوم أن رسول الله لم يكن يمد بصره إلى الدنيا أو يركن إليها ويرغب فيها لها ، وإنما هو ابتداء نهي رسوله.

ومعلوم أيضا أنه لو رغب في شيء منها لم يكن يرغب ليتمتع هو به ، إنما يرغب ويتناوله ليوسع به على أهل الحاجة والفقر ، ثم نهاه عن ذلك ؛ فدل أن الزهد فيها والرغبة عنها خير من الأخذ منها والوضع في حق ؛ حيث نهاه عن ذلك على علم منه أنه لا يتناولها ليتمتع هو بها [و] ليوسع بها على نفسه ، ولكن يأخذها ؛ ليضعها في المستحقين لها.

ثم اختلف أهل التأويل في التقديم والتأخير :

قال الحسن : هو على تقديم قوله : (مِنْهُمْ) على قوله : (أَزْواجاً) يقول : تأويله : لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به منهم أزواجا (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا).

فعلى تأويله : أزواجا : زهرة الحياة الدنيا ، أي : ألوانا وأصنافا من النبات ؛ فذلك زهرة الدنيا.

وقال بعضهم : على غير تقديم ، ولكن على سياق ما ذكر في الآية ؛ فعلى هذا يكون تأويل الأزواج ، أي : رجالا منهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ).

قال أهل التأويل (١) : أي : لنبتليهم ونختبرهم ، وكأن الفتنة هي المحنة التي فيها شدة وبلاء ، كأنه أخبر أنه إنما متعهم بما متع من زهرة الحياة الدنيا ليمتحنهم فيها بالشدائد ؛ كقوله : (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ ...) الآية [التوبة : ٥٥] ، وقال في آية أخرى : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] ، وقال : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] ، ففي هذه الآيات دلالة أن السعة والضيق فيها ليس لفضل أهلها ولا لهواهم ، ولكن إنما هو محنة يمتحنهم ، فيمتحن [بعضهم] بالسعة والغناء وبعضهم بالشدة والضيق ، فالتكلم بأن هذا خير من هذا كلام لا معنى له مع ما ذكرنا من البينات في قوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) أن الزهد في الدنيا وترك التناول منها حلالا خير من التناول منها حلالا ووضعها موضعها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى).

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٤٤٥٨) وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦٠).

٣٢٢

أي : ما رزق ربك من النبوة والرسالة والتوحيد له والإيمان به خير وأبقى مما متع [به] هؤلاء من ألوان زهرة الحياة الدنيا وأصنافها.

وقال بعضهم : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي : حظك من ربك خير في البقاء مما متع به هؤلاء من زهرة الدنيا ، وهو قول أهل التأويل : إن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل به ضيف فاستسلف من يهودي طعاما ، فأبى أن يعطيه إلا برهن ، فرهن درعه عنده ، فنزل قوله : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ ...)(١) الآية ؛ تعزية له عن الدنيا ، لكن لسنا نعرف نزول الآية على ما ذكر إلا أن يثبت ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ).

قال بعضهم (٢) : أراد بأهله : قومه ، وقد يسمى قوم الرسل : أهلهم ، وجائز أن يكون المراد بالأهل : الذين تأهلهم وكانوا في عياله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) ، أي : داوم عليها والزمها ، [و] فيه أن الصلاة فرضت على الدوام عليها واللزوم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً) قال بعضهم : لا نسألك جعلا وأجرا على نبوتك ورسالتك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَحْنُ نَرْزُقُكَ) قال بعضهم (٣) : لا نسألك للخلق رزقا بل نحن نرزقهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) ؛ كقوله : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص : ٨٣].

قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) (١٣٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ).

سألوه أن يأتيهم بآية من عند ربه على رسالته ونبوته ، فقال ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) ، أي : قد أتاهم بينة على رسالته ونبوته ما في الصحف الأولى ؛ لأن الكتب المتقدمة كانت بغير لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يكن يعرف الكتابة بلسانه فضلا

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة وإسحاق بن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير (٢٤٤٥٥ ، ٢٤٤٥٦) وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي في مكارم الأخلاق وأبو نعيم في المعرفة ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦٠).

(٢) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦٠).

(٣) قاله البغوي (٣ / ٢٣٧).

٣٢٣

عن أن يعرف غيرها من الكتب التي كانت على غير لسانه ، ثم أخبر عن الأنباء التي كانت في الكتب المتقدمة على ما كانت فيها ؛ دل أنه إنما عرف تلك الأنباء والقصص التي كانت في كتبهم بالله تعالى ، فهذا ـ والله أعلم ـ تأويل قوله : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) أي : قد أتاهم على ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) ، أي : من قبل رسوله ، (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) ، من الناس من يقول : ليس لله أن يعذبهم تعذيب إهلاك قبل أن يبعث رسولا ، ويحتج بظاهر هذه الآية : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً).

وعندنا : له أن يهلكهم بعذاب قبل بعث الرسول إليهم ؛ لأنه تعالى قد أقام عليهم حجة العقل ما لو تأملوا أو نظروا فيه ، لعرفوا وأدركوا حق الله عليهم ، فإذا كان كذلك فكان إهلاكه إياهم إهلاكا عن بينة وحجة ، لكنه بفضله ورحمته لا يهلكهم بأول آية يرسل عليهم حتى يرسل الآيات ؛ إفضالا منه ومنة ، وإلا كان له إهلاكهم بآية واحدة ؛ فيكون قوله : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا ...) كذا ، إنما ذلك لقطع ذلك القول منهم ، لا أن كان لهم ذلك القول والاحتجاج بذلك ؛ ولأن قوله : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا ...) كذا يخرج مخرج الامتنان به أنه لم يهلكهم قبل بعث الرسول ؛ فدل أن له إهلاكهم قبل بعث الرسول ؛ لما ذكرنا من إقامة حجة العقل عليهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ) كانوا يتربصون هلاك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وانقلاب أمره ، ورسوله الله يتربص بهم عذاب الله ومواعيده فيهم.

قال الحسن : (قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا) ، أي : تربصوا أنتم مواعيد الشيطان ، ونحن نتربص مواعيد الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى).

قوله : (فَسَتَعْلَمُونَ) في الآخرة علم عيان (مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى) نحن أو أنتم ، وفي الدنيا لو تأملوا ونظروا ، لعلموا علم استدلال وإدراك من أصحاب الصراط السوي؟

قال بعضهم (١) : (الصِّراطِ السَّوِيِ) : العدل.

وقال [بعضهم] : السوي : القيم.

وفي حرف ابن مسعود وأبي : ومن اهتدى ومن على الهدى.

__________________

(١) قاله السدي وأخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦١).

٣٢٤

سورة الأنبياء وهي كلها مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (٦) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (٨) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (٩) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(١٠)

قوله ـ عزوجل ـ : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ).

قال الحسن : أي : محاسبتهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ).

ظاهر هذا أنه نزل في المشركين ؛ لأنها نزلت بمكة وكان أكثر أهلها أهل شرك ، لكن لأهل الإسلام في ذلك حظ وشرك فيما وصفهم بالغفلة عن ذلك والإعراض عنه ، وأهل الإسلام قد يغفلون عن الحساب إلا أن غفلة الكفرة غفلة تكذيب وإعراضهم إعراض تكذيب بالحساب والآيات التي أنزلها عليهم ، وغفلة أهل الإسلام ليست كذا ، قد آمنوا بالحساب وصدقوا بآياته وعرفوها ، لكنهم غفلوا عن الحساب ؛ لشهوات مكنت فيهم وغلبت شهواتهم وأغفلتهم عنه ، فمن هذه الجهة [كانوا] كأولئك ، فأما من جهة الإيمان به والتصديق بالآيات فليسوا كأولئك.

ثم وصف الحساب والساعة بالقرب والدنو والإتيان ؛ كقوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] ، وقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، و (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) وأمثاله : هي قريبة كالماهية عند الله ؛ لأن الله تعالى عرف جملة الأوقات فهي في جملة ما عرف قريبة كالماهية ، وأما الخلق فإنهم قد استبعدوها ؛ لأنهم إنما يقدرون ذلك بآجالهم وأعمارهم وما جاوز أعمارهم ، فهو عندهم بعيد ليس بقريب ، وهذا إنما يكون بعد ذهاب أعمارهم.

وقال قتادة : ذكر أنه لما نزلت هذه الآية (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) ، و (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) [النحل : ١] قال ناس من أهل الضلال : يزعم هذا الرجل أن الساعة قد اقتربت

٣٢٥

فتناهوا قليلا ، ثم عادوا إلى أعمالهم ، وكذلك قالوا في قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] تناهوا عنها ، ثم لما تأخر ذلك عنهم عادوا إلى ما كانوا من قبل ؛ هذا لأنهم فهموا من قرب الساعة وإتيان أمره وقتا يقرب ومدة تدنو ، فلما مضى ذلك وقع عندهم أن الخبر كذب فكذبوه ؛ لأنهم إنما قدروه بآجالهم وما عرفوا هم من القرب والدنو.

وقوله : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ما ذكرنا من غفلة تكذيب وإعراض ، تكذيب بعد ما عرفوا أنها آيات ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ).

قوله : (مِنْ ذِكْرٍ) ما يذكرهم ما يأتون وما يتقون.

أو ما يذكر ما أوعدوا وخوفوا.

أو (مِنْ ذِكْرٍ) يذكرهم ما لهم وما عليهم.

وقوله : (مُحْدَثٍ) قال بعضهم : محدث : محكم أحكمه من أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأحكمه لما أعجز الخلق عن أن يأتوا بمثله.

وقال بعضهم : محدث ؛ لأن الله أنزل هذا القرآن بالتفاريق وأحدث إنزاله في كل وقت على قدر الحاجة ، فعلى ما نزل بالتفاريق أحدثوا هم ـ أعنى الكفرة ـ تكذيبه ورده على ما ذكر ، فزادهم رجسا إلى رجسهم ونحوه ، فهو محدث من الوجوه التي ذكرنا ؛ لأن كل موصوف بالإتيان فهو محدث.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ).

دل قوله : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أن استماعهم إياه استماع استهزاء به (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) هذا الذي أسروا فيما بينهم (٢)(هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) ، هذا كان نجواهم.

وقوله : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ، قيل : غافلة قلوبهم عن الذكر ، (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) الذي أسروه هو ما ذكرنا قولهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) السحر.

وفي حرف ابن مسعود وأبي : وأسروا النجوى الذين كفروا منهم ، وقال الكسائى : وفي بعض الحروف : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، قال : وفي حرفنا : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى).

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٤٤٨ ـ ٤٤٩).

(٢) ينظر : اللباب (١٣ / ٤٤٩).

٣٢٦

ثم أخبر ـ عزوجل ـ عنهم خبرا مستأنفا فقال : (الَّذِينَ ظَلَمُوا) ؛ كقول الله تعالى : (ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا) ثم قال : (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) ، وهذا على كلامين ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

يشبه أن يكون قوله : (يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) القول الذي أسروا فيما بينهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، وقوله : (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) ، وقوله : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) ، وأمثال ما قالوا فيه ونسبوه إليه ، أي : قل لهم : ربي يعلم ذلك القول منكم في السماء والأرض لينتهوا عن ذلك ؛ لأن من يعلم في الشاهد أن أحدا يطلع على جميع ما يختاره من القول والفعل ، ترك ذلك وامتنع عن التفوه به والإقدام على ما يختاره.

أو أن يكون قال ذلك على الابتداء والاستئناف أنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : السميع لقولهم ، العليم بأفعالهم.

ثم أخبر عن سفههم وقلة نظرهم في قولهم وكلامهم وحفظهم عن التناقض فقال : (بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ) فيما نسبوه إلى الشعر والسحر والافتراء وأنه أضغاث أحلام تناقض في قولهم ؛ لأن السحر هو غير الافتراء ، والسحر غير أضغاث الأحلام ، كل حرف من هذه الحروف التي نسبوه إليها يناقض الآخر ويبطله ؛ فدل أنهم إنما قالوا ذلك ونسبوه إلى ما نسبوا متعنتين مكابرين لا عن معرفة وعلم قالوا ذلك ؛ إذ تناقض قولهم وكلامهم ؛ إذ السحر لا يدوم ولا يبقى في وقت آخر ، فإذا عرفوا وعلموا أنه دام وبقي إلى آخر الدهر ، وكذلك ما قالوا من أضغاث أحلام والافتراء ، أعني : ما أتى رسول الله به ، وبعد فإنه لو كان ما أتاهم به سحرا كان ذلك آية وعلامة على صدقه ونبوته ؛ لأن السحر لا يعرفه أحد إلا بالتعليم ، فإذا رأوه نشأ بين أظهرهم ولم يكن في قومه ساحر حتى يتعلم منه ، ولا اختلف إلى أحد من السحرة يتعلم منهم السحر ، ثم أتى به ـ لكان ذلك يدل على أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى ، فكيف وقد أتاهم بالحجج المنيرة الواضحة والآيات المعجزة الخارجة عن وسع البشر وطوقهم؟ لكنهم كابروا وعاندوا في ردها وتكذيبها ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ).

قد علموا علم حقيقة أنه قد أتاهم بآيات وحجج ما لو تأملوا فيها ولم يكابروا ، لدلهم على صدقه ورسالته ، وقد عرفوا أنه صادق ، لكنهم سألوا في قولهم : (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) الآية التي تنزل عند المكابرة والعناد ، وهي الآية التي نزلت في الأمم الخالية عند مكابرتهم

٣٢٧

الآيات والحجج ، وهو إهلاكهم واستئصالهم ؛ إذ من سنته وحكمه في الأولين الإهلاك والاستئصال عند مكابرتهم الآيات والحجج ، وسنته وحكمه في هذه الآية ختم النبوة بهم وإبقاء شريعة محمد ـ صلوات الله عليه ـ إلى الساعة ، وسنته في الأمم الماضية نسخ شرائعهم واستبدال أحكامهم ، فإذا كان ما ذكرنا جعل وقت إهلاكهم الساعة ، وهو ما قال : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ...) الآية [القمر : ٤٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها).

أي : ما آمنت قبلهم من قرية سألوا الآية سؤال مكابرة وعناد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ).

أي : لا يؤمن هؤلاء وإن أتاهم بآية فإنهم لا يؤمنون ، كما لم يؤمن أولئك المتقدمون ؛ لأنهم يسألون سؤال عناد ومكابرة لا سؤال استرشاد واستهداء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ).

كأن هذا خرج جوابا لقولهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ ...) كذا ، وجواب قولهم : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ، وجواب قولهم : (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨] ، فقال : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) ، أي : بشرا ، (نُوحِي إِلَيْهِمْ) إلى عامة الخلق ، أي : الرسالة في الأمم الذين من قبله إلى عامة الخلق كانت في البشر لم تكن في الملائكة ، وإلا كانت الرسالة إلى الخواص في الملائكة وهم الرسل ، فعلى ذلك لا تجعل الرسالة في هذه الأمة إلى عامة الخلق في الملائكة ، ولكن تجعل في البشر على ما جعلت في الأمم الأولى في البشر.

وجائز أن يكون قوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ، أي : جعلها في الذكور منهم لم يجعلها في النساء والإناث ؛ لما لم يستكملن شرائط الرسالة والنبوة ، فكأن الأول في بيان الجنس ، أي : لم يجعل الرسالة إلى عامة الخلق في الملائكة ، ولكن جعلها في البشر ، والثانى في بيان استكمال شرائط الرسالة واستحقاقها.

وفي حرف ابن مسعود وأبي : ما أرسلنا قبله إلا رجالا نوحي إليهم ، فعلى حرفهما كأنه خاطب به أولئك الكفرة ، أي : ما أرسلنا قبل محمد إلا رجالا نوحى إليهم ، وفي القراءة الظاهرة المشهورة يكون الخطاب لرسول الله ، أي : قل لهم : إنه ما أرسل الله من قبلك إلا رجالا يوحي إليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

٣٢٨

قال بعضهم (١) : إنما خاطب به مشركي العرب وأمرهم أن يسألوا أهل الكتاب الذين كانوا يؤمنون بالرسل المتقدمة ؛ ليخبروكم : أنه لم تجعل الرسالة فيهم إلى عامة الخلق إلا في البشر ، وقال بعضهم : إنما خاطب من كفر من أهل الكتاب ـ من لا يعرف الكتاب وغيره ـ بمحمد أن اسألوا أهل الذكر ، أي : من آمن منهم ؛ ليخبروكم أن محمدا رسول الله إليكم إن كنتم لا تعلمون أنتم أنه رسول الله ، [فهذا التأويل في محمد] خاصة والتأويل الأول في جميع الرسل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ).

قال بعضهم (٢) : ما جعلنا أجسادا لا أرواح فيها لا يأكلون ولا يشربون ، ولكن جعلناهم أجسادا فيها أرواح يأكلون ويشربون ويمشون في الأسواق.

وجائز أن يكون قوله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ) من نحو الملائكة والجن ، ولكن جعلناهم بشرا.

وحاصله : أنهم كانوا يطعنون الرسل بأشياء ، مرة قالوا : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ، وقالوا : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ونحوه ، كانوا لا يرون الرسالة في البشر ، ولا يرون الرسول يكون من نوع المبعوث إليه ، فألزمهم أن الرسل الذين كانوا من قبل الذين صدقهم آباؤهم وآمنوا بهم كانوا من البشر بقوله : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) ، ومرة طعنوا الرسل أنهم يأكلون الطعام ويشربون وينكحون ويمشون في الأسواق كغيرهم من الناس ؛ كقولهم : (ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) [الفرقان : ٧] ونحوه ، فألزمهم ـ عزوجل ـ وأخبرهم أن الرسل الذين كانوا من قبل كانوا يأكلون ويشربون ويقضون حوائجهم ؛ حيث قال : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) في الدنيا ، وما قال في آية أخرى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً) [الرعد : ٣٨] ؛ فعلى ذلك الرسول المبعوث إليكم هو كسائر الرسل الذين كانوا من قبل ، هو ممن يأكل ويشرب وينكح وهو رسول ، وأنه بشر كسائر الرسل ، وهو رسول الله ؛ على هذا يخرج تأويل الآية.

وهذه الآية ترد على الباطنية قولهم ومذهبهم ؛ لأنهم يقولون : إن الرسالة لا تكون في الجوهر الكثيف الجسدانى الذي يأكل ويشرب ويفنى ويبيد ، إنما تكون في الجوهر البسيط الذي لا يأكل ولا يشرب ولا يبيد ولا يفنى ، فأخبر ـ عزوجل ـ أنه لم يجعلهم جسدا لا

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٢٣٩).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦٣) وهو قول قتادة والضحاك.

٣٢٩

يأكلون الطعام ولا يبيدون ، بل جعلهم أجسادا يأكلون ويموتون بقوله : (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ).

أخبر أنه وعد الرسل وعدا ، لكنه لم يبين ما كان ذلك الوعد الذي وعد رسله؟ لكن في آخره بيان أن الوعد الذي وعدهم كان وعد إهلاك وتعذيب ؛ لأنه قال : (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) ، دل قوله : (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) : أن الوعد كان وعد إهلاك ، فنقول : كان وعد ـ عزوجل ـ الرسل الذين من قبل إهلاك من كذبهم ، فكان كما وعدوا ، وإن تأخر ذلك الموعود عن وقت الوعد ؛ فعلى ذلك ما وعدكم محمد من العذاب فإنه نازل بكم وإن تأخر نزوله ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ).

يحتمل قوله : (ذِكْرُكُمْ) ما يذكركم ما تأتون وتتقون ، أو يذكركم ما لكم وما عليكم.

وقال بعضهم (١) : (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) ، أي : شرفكم ونبلكم لو اتبعتم.

وقال الحسن (٢) في قوله : (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) أي : فيه دينكم الذي أمسك عليكم به.

وقال غيره : فيه شرفكم ونبلكم لو اتبعتموه ؛ كقوله : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف : ٤٤] ، أي : شرف لك.

قوله تعالى : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (١٤) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ)(١٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً).

قصمنا : أهلكنا ، وأصل القصم : الكسر ، يخوف أهل مكة بتكذيبهم محمدا ما نزل بأولئك بتكذيبهم الرسل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ).

قوله : (أَحَسُّوا) قال بعضهم : علموا بالعذاب ، إذا هم يركضون ، أي : يفرون ويهربون.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الشعب عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦٣).

(٢) أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦٤).

٣٣٠

وقال بعضهم : يعدون ، وهو واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ).

أي : أنعمتم فيه : مساكنكم ، مثل هذا يخرج مخرج الاستهزاء بهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ).

قال بعضهم : تعذبون.

وقال بعضهم : تحاسبون.

وقال بعضهم : لعلكم تسألون الإيمان كما سألتموه قبل نزول العذاب.

وقيل (١) : لعلكم تسألون عن قتل نبيكم ؛ لأنهم قتلوا نبيهم ، تسألون فيم قتلتموه؟

وقال بعضهم (٢) : كان هذا في نازلة ـ والله أعلم ـ تلقتهم الملائكة وهم هاربون فارون ، فقالوا لهم : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) استهزاء بهم.

وقال بعضهم (٣) : (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) : تفقهون.

قال أبو عوسجة (٤) : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) : قال : الضغث : ما لا تأويل له ، ويقال : حلم وأحلام ، ويقال : حلم يحلم حلما فهو حالم : إذا رأى شيئا في النوم ، واحتلم يحتلم ، لا يكون مثل حلم يحلم ، ويقال من الحلم : حلم حلما فهو حليم ، ويقال : حلمته ، أي : جعلته حليما ، والافتراء : الكذب ، والشاعر : إنما سمى : شاعرا ؛ لأنه يشعر من الكلام ما لا يشعر به غيره ، والقصم : الكسر ، والمراد منه الهلاك ، قصمه غيره وانقصم بنفسه ، أي : انكسر ، وقال : (أَحَسُّوا) ، أي : استيقنوا بعذابنا ، ويقال : أحسست ، أي : وجدت ، وأحسست : علمت واستيقنت ، يقال : أحسست : قطعت ، وتحسست ، أي : تخبرت ، والمحسسة الفرجون (٥).

وقال (٦) : يركضون : يهربون (إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) ، أي : أنعمتم ومتعتم ، والإتراف : الإكرام.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٢٤٠).

(٢) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٢٤٠).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٤٩٦ ، ٢٤٤٩٧) ، وينظر : اللباب (١٣ / ٤٥٨).

(٤) انظر : مجاز القرآن (٢ / ٣٥).

(٥) هي آلة لها أسنان تنظف بها الدابة. وأداة ذات شعر تنظف بها الثياب ونحوها.

ينظر : المعجم الوسيط (فرج) ، الوجيز (فرج).

(٦) انظر : مجاز القرآن (٢ / ٣٥).

٣٣١

وقال أبو عبيدة (١) : (يَرْكُضُونَ) يعدون ، وقوله : (لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) ، ليس على الأمر ، ولكن أي : لو رجعتم إلى ما أترفتم فيه ، وكذلك (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا ...) [النمل : ٦٩] كذا ، ليس على الأمر ، ولكن لو سرتم فانظروا كذا ؛ فعلى ذلك قوله : (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) ، أي : لو رجعتم لعلكم تسألون [كما كنتم تسألون] من قبل ، فيخرج ذلك مخرج الاستهزاء جزاء لصنيعهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ).

يقرون يومئذ بالظلم ، لكن لا ينفعهم ذلك ويندمون على سوء صنيعهم ، فيطلبون العودة إلى دنياهم ؛ كقوله : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ).

أي : ما زالت تلك ، أي قولهم : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) دعواهم ، (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) ، فإن كان هذا القول منهم في الدنيا فيكون قوله : (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) بالقتل بالسيف والإهلاك.

وإن كان ذلك في الآخرة فيكون قوله : (حَصِيداً خامِدِينَ) في النار في الآخرة ، والله أعلم.

و (حَصِيداً) ، أي : هالكا وهو محصود ، و (خامِدِينَ) : كما يقال : خمدت النار : إذا طفيت.

قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (١٨) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (١٩) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (٢٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ).

أخبر أنه لم يخلق السماء والأرض وما بينهما لتكونا سماء وأرضا على ما هما عليه ثم تفنيان ، ولكن خلقهما لعاقبة قصدها ، وهو أن يمتحن أهلها ؛ لأن من عمل في الشاهد عملا لا يقصد به عاقبة يأمل ويرجو أمرا فهو في عمله عابث لاه ، ولو كان على ما عند أولئك الكفرة بأن لا بعث ولا حساب ولا جزاء ولا ثواب لكان إنشاؤهما وما بينهما باطلا

__________________

(١) انظر : مجاز القرآن (٢ / ٣٥) وتفسير غريب القرآن ص (٢٨٤).

٣٣٢

لعبا ؛ كقوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] ، صير عدم الرجوع إليه [بعد] خلقهم عبثا باطلا.

وقال الحسن : لم يخلقهما عبثا ، ولكن خلقهما لحكمة من نظر إليهما دلّاه على وحدانية منشئهما وسلطانه وقدرته وحكمته وعلى علمه وتدبيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا).

قال بعضهم (١) : (لَهْواً) أي : زوجة ، لكن هذا بعيد ؛ لأنه احتج عليهم على نفي الولد بنفي الصاحبة بقوله : (أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) [الأنعام : ١٠١] ، فلو لا أنهم أقروا وعرفوا أن لا صاحبة له ، وإلا لم يكن للاحتجاج عليهم على نفي [الولد] بنفي الصاحبة معنى ، ويكون قوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً) أي : ولدا ؛ لأن الناس يتلهون بالولد فسماه : لهوا لذلك ، قال : (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : (لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) بحيث لا تبلغه أفهامكم ولا يدركه علمكم ؛ لأن الولد يكون من جنس الوالدين ومن شكلهما ، وسبيل معرفته وعلمه الاستدلال الحسي ، فإذا لم يعرفوه هو بالحسي فكيف يعرفون من هو يكون منه لو كان؟!

والثاني : أن الغائب إنما يعرف بالاستدلال بالشاهد ، فلو كان له الولد على ما تزعمون لكان لا يعرف ؛ لأنه لا صنع للولد في الشاهد ، إذ هو الواحد المتفرد بإنشاء العالم ، فيذهب معرفة الولد إدراكه لو كان على ما تزعمون.

وقوله : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) ، ليس على أنه يحتمل أن يكون له الولد ، أو أن يحتمل أن يتخذ ولدا ، ولكن لو احتمل أن يكون لم يحتمل أن يدرك ويعلم ، وكذلك يخرج قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] ليس أنه يحتمل أن يكون فيهما آلهة ، ولكن لو احتمل أن يكون فيهما آلهة لفسدتا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ).

يشبه أن يكون الحق الذي أخبر أنه يقذف على الباطل القرآن الذي أنزله على رسوله أو الرسول نفسه ، أو الآيات التي جعلها لوحدانيته أو ألوهيته.

(فَيَدْمَغُهُ) ، أي : يبطل ذلك الذي قالوا في الله ما قالوا من الولد والصاحبة وغيره مما لا يليق به.

(فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) ، أي : هو ذاهب متلاش.

__________________

(١) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير (٢٤٥٠٥) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦٥) ، وهو قول مجاهد وقتادة وإبراهيم وغيرهم.

٣٣٣

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) : من الولد والصاحبة وجميع ما وصفوه مما لا يليق به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، كأنه ذكر هذا جوابا لقولهم ، وردّا على وصفهم إياه بالذي وصفوه ، فقال : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : له من في السموات والأرض كلهم عبيده وإماؤه ، ولا أحد في الشاهد يتخذ لنفسه ولدا من عبيده وإمائه ، فإذا لم تروا هذا في الخلق أنفا من ذلك واستنكافا ، فكيف قلتم ذلك في الله سبحانه وتعالى ، وأضفتم إليه.

أو أن يخبر غناه عن الخلق بأن له من في السموات والأرض والولد في الشاهد إنما يطلب لحاجة تسبق ، فإذا كان الله ـ سبحانه وتعالى ـ غنيّا بذاته بما ذكر أن له كذا لا حاجة تقع له إلى الولد ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ).

يشبه أن يكون ذكر هذا لقولهم : «الملائكة بنات الله» ، فأخبر أنهم ليسوا كما وصفوهم ولكنهم عبيد لي ، هم لا يستريحون عن عبادتي ولا يفترون.

أو أن يكون ذكر هذا لمكان من عبد الملائكة واتخذهم آلهة دونه ، فأخبر أنهم لا يستكبرون عن عبادتي ولا يفترون ، ولم يدعوا هم الألوهية لأنفسهم ، فكيف نسبتم الألوهية إليهم وعبدتموهم دوني؟ أو أن يكون قال ذلك : إنكم إن استكبرتم عن عبادتي ، فلم يستكبر عنها من هو أرفع منزلة وأعظم قدرا منكم ، (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) ينزهون الله ويبرءونه عما وصفه الملحدة من الولد وجميع ما قالوا فيه مما لا يليق به (١).

وهذه الآية تنقض قول المعتزلة ومذهبهم حيث قالوا : إن الأعمال لأنفسها متعبة منصبة ، ولو كانت الأفعال لأنفسها متعبة على ما ذكروا ، لكان البشر والملائكة فيها شرعا سواء ، فلما أخبر عنهم أنهم لا يعيون ولا يفترون ولا تتعبهم العبادة ؛ دل أنها صارت متعبة لصنع غير فيها لا لأنفسها ، وهذه المسألة في خلق أفعال العباد : هم ينكرون خلقها ، ونحن نقول : هي خلق الله ـ عزوجل ـ كسب للعباد ، وقد ذكرنا هذا في غير موضع كلاما كافيا.

قال أبو عوسجة : (فَيَدْمَغُهُ) أي : يبطله.

وقال غيره (٢) : يهلكه ، وهو من قولك : ضربت الرجل فدمغته : إذا وصلت الضربة إلى

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٤٦٥ ، ٤٦٦).

(٢) قاله ابن جرير (٨ / ١٢) والبغوي (٣ / ٢٤٠).

٣٣٤

الدماغ ، وإذا كان كذلك مات ؛ فكذلك يدمغ الحق الباطل ، أي : يهلكه.

وقوله : (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) ، أي : ذاهب وميت ، زهق إذا مات وهلك ، والزاهق في غير هذا السمين.

(وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) أي : لا يعيون ، ومنه حسير ومحسور أيضا ، (لا يَفْتُرُونَ) والفتور : الإعياء أيضا.

قوله تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (٢١) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٤) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ)(٢٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ).

قوله : (أَمِ اتَّخَذُوا) استفهام في الظاهر من الخلق ، لكن ذلك من الله على الإيجاب كأنه قال : قد اتخذوا آلهة ، وهكذا كل ما خرج في الظاهر من الله على الاستفهام فإنه على الإيجاب ؛ لأنه عالم بما كان ويكون لا يخفى عليه شيء ، وأما الخلق فإنه يجوز أن يستفهم بعض من بعض لما يخفى على بعض أمور بعض ، فيطلب بعضهم من بعض العلم والفهم بذلك ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُمْ يُنْشِرُونَ) [يحتمل] وجهين :

أحدهما : (هُمْ يُنْشِرُونَ) أي يخلقون ، أي : اتخذوا آلهة لا يخلقون ؛ كقوله : (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ) [الرعد : ١٦] وكيف اتخذوا آلهة لا يخلقون؟ وإنما يعرف الإله بالخلق وبآثار تكون في الخلق ، فإذا لم يكن من هؤلاء خلق كيف اتخذوها آلهة؟!

والثاني : (هُمْ يُنْشِرُونَ) ، أي : يبعثون ويحيون.

فإن كان على البعث والإحياء فكأنه يقول : كيف اتخذوا من لا يملك البعث والإحياء آلهة؟! وخلق الخلق [لا] للبعث والإحياء بعد الموت يخرج على غير الحكمة في الظاهر ؛ لأن من بني في الشاهد بناء للنقض خاصة لا لعاقبة تقصد به كان غير حكيم في فعله عابثا فى بنائه ، وكذلك قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] ، جعل خلق الخلائق لا للرجوع إليه عبثا ، فيخرج هذا على وجهين :

(أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً) ، أي : قد اتخذوا آلهة من الأرض (هُمْ يُنْشِرُونَ).

أو لم يتخذوا آلهة من الأرض هم يملكون النشر أو النشور ، والله أعلم.

وقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا).

٣٣٥

وفي حرف ابن مسعود وأبي وحفصة : لو كان فيهن آلهة لفسدن.

ثم يحتمل قوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) وجوها :

أحدها : (لَفَسَدَتا) ، أي : لم يكونا من الأصل ؛ لأن العرف في الملوك أن ما بني هذا وأثبته يريد الآخر نقضه وإفناءه ، فلم يثبتا ولم يكونا من الأصل لو كانا لعدد.

والثاني : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) : لم تكن منافع إحداهما متصلة بمنافع الأخرى للخلق ؛ إذ يمنع كل واحد منهما منافع ما خلق هو من أن تصل إلى الأخرى ، فإذا اتصلت منافع إحداهما بالأخرى ، دل أنه صنع واحد وتدبير واحد لا عدد.

والثالث : لو كان عددا ، لكان لا يخرج تدبيرهما على حد واحد في كل عام ، فإذا اتسق التدبير وجرى الأمر في كل عام على سنن واحد ؛ دل أنه تدبير واحد لا عدد ؛ إذ لو كان لعدد لكان يختلف الأمر في كل عام ولم يتسق على سنن واحد ، ولا جرى على أمر واحد.

وقال بعضهم : هو قول الله : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) [المؤمنون : ٩١] على ما هو من عادة ملوك الأرض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) من الولد والشريك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ).

هذا يحتمل وجوها :

أحدها : أنه لا يسأل ؛ لأن ما يفعل يفعل في ملكه وسلطانه ، وإنما يسأل من فعل في سلطان غيره وملك غيره ، ففي ذلك دلالة أنه لا يجوز التناول في شيء إلا بالأمر والإباحة من مالكه ، فيبطل قول من يقول : هو على الإطلاق والإباحة في الأصل.

والثاني : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) ؛ لأنه حكيم بذاته لا يخرج فعله عن الحكمة ، فإنما يسأل من يحتمل فعله السفه ، فأما من لا يحتمل فعله إلا الحكمة ، فإنه لا يحتمل السؤال : لم فعلت؟ ولما ذا فعلت؟

والثالث : لو احتمل السؤال عما يفعل لاحتمل الأمر والنهى : أن افعل كذا ، ولا تفعل كذا ، وذلك محال ، ولو ثبت الأمر فيه لكان يخرج سؤاله سؤال حاجة ؛ لأن من يأمر من فوقه بأمر فإنما يكون أمره سؤال حاجة ، ومن يأمر من دونه فيكون أمره أمرا.

وقوله : (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ).

فيه دلالة لزوم الدليل على النافي ؛ لأنه لما قال : (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) كان لهم أن يقولوا : هات أنت البرهان على ما ادعيت من الألوهية ، ونحن ننكر ذلك ، فإذا لم يكونوا

٣٣٦

يقولون ذلك ، دل أن الدلالة تلزم النافي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي).

أي : هذا القرآن (ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي).

قال بعضهم (١) : هذا القرآن فيه ذكر من معي من الحلال والحرام ، (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) ، أي : فيه ذكر أعمال الأمم السالفة وأخبارهم وما صنع الله بهم إلى ما صاروا إليه.

أو أن يكون قوله : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) أي : خبر من معي وخبر من قبلي ؛ فيكون فيه دليل رسالته ؛ لأنه أخبر عن أنباء الأمم السالفة وأخبارهم على ما ذكرت في كتبهم من غير أن علم ما في كتبهم بتعلم منهم أو بنظر كان منه فيها ؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله.

ويشبه أن يكون تأويل قوله : (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) ما ذكر : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، أي : هذا ذكر من معي وذكر الرسل من قبلي ومن معهم ، أي : هذا الذكر أرسلني إلى من معي وأرسل الذين من قبلي إلى قومهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ) : كذلك كانوا لا يعلمون الحق بإعراضهم عنه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، أخبر : أنه لم يرسل رسولا من قبل إلا بما ذكر من قوله : (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ).

ثم يحتمل قوله : (فَاعْبُدُونِ) أي : وحدوني في الألوهية لا تصرفوا الألوهية إلى غيري ، ولا تشركوا من دوني في ألوهيتي.

أو أن يكون : (فَاعْبُدُونِ) أي : إليّ ؛ فاصرفوا العبادة إليّ ، ولا تصرفوا العبادة إلى من دوني ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (٢٨) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(٢٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ).

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٤٥٣٥) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦٨).

٣٣٧

دل قوله : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) : أنهم لم ينسبوا الولد إليه ، ولا قالوا ذلك : إنه اتخذ ولدا على حقيقة الولادة ، ولكن قالوا ذلك على الصفوة واصطفائه من أضافوا ونسبوا إليه ؛ لأن الذين قالوا : إنهم ولده من نحو عيسى وعزير والملائكة ليسوا كما وصفوا ، ولكنهم عباد مكرمون ، ثم أخبر بما أكرمهم فقال : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) أخبر أنهم لا يتقدمون في قول ولا فعل إلا بإذن منه وأمر.

أو أن يكون قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) أي : لا يأمرون بشيء ولا ينهون عن شيء إلا بإذن من الله وأمر منه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) هذا قد ذكرناه في سورة (١) «طه».

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ، وقال في آية أخرى : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه : ١٠٩] فيكون تأويل قوله : (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) أي : إلا لمن أذن له.

ثم يتوجه قوله : (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) إلى الشفيع ، أي : لا يؤذن لأحد بالشفاعة إلا من كان مرضيا مرتضى دينا وعملا ، ويتوجه قوله : (إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) إلى المشفوع له : إلا لمن ارتضى عنه الرب مذهبا وعملا ؛ حتى لم يدخل في عمله تقصير.

ثم الشفاعة إنما جعلت في الأصل للتجاوز فيما دخل في العمل من التقصير.

ثم لا يخلو الذي يشفع له إما أن يكون صاحب الصغيرة فيجوز أن يعذب عليها ، أو أن يكون صاحب كبيرة ، ففيه دلالة التجاوز والعفو عن صاحب الكبيرة ؛ لأنا قد قلنا : إن الشفاعة إنما جعلت لمن منه التقصير في العمل ، ففيه دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن صاحب الصغيرة معفو عنه الصغيرة حتى لا يجوز أن يعذب عليها ، وصاحب الكبيرة لا يجوز العفو عنه والتجاوز ، بل هو معذب أبدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) هذا ـ والله أعلم ـ كأنه صلة قوله : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ...) الآية ، أي : من خشية عذابه وهيبته لا يتقدمون بقول ولا فعل ولا أمر ولا نهي ؛ خوفا منه وهيبة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ).

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٤٧٩).

٣٣٨

هذا كأنه مقطوع عما سبق وتقدم ذكره غير موصول به ؛ لأن ما سبق هو القول منهم : إنه اتخذ الرحمن ولدا ، فلو كان على اتصاله بالأول ، لكان يقول : ومن يقل منهم : إني ولد إله ؛ لأنهم قالوا : (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) ، ولم يقولوا : إنه اتخذ الرحمن إلها ، فلو كان على الصلة بالأول والجواب له ، فهو يخرج على الجواب لهم ، ومن يقل منهم : إني ولد إله ، لكن كأنهم كانوا فرقا : منهم من قال : اتخذ ولدا ، ومنهم من عبد دونه الملائكة واتخذهم آلهة ، فخرج هذا جوابا لذلك فقال : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ...) الآية ، فإن قيل لنا في قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨] ، وقد عبد عيسى من دونه ، وعبد الملائكة دونه ؛ فيكون حصب جهنم على ظاهر ما ذكر ، قلنا : تأويل قوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) أي : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بأمر الذين عبدوا وقالوا لهم : اعبدوني (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ، دليله ما ذكر في الآية : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) أي : المشركين (الظَّالِمِينَ) هاهنا : المشركين الكافرين.

ثم قال الحسن في قوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) : لا يحتمل أن يكونوا يقولون ذلك ؛ لما وصفهم بالطاعة له وترك الخلاف لأمره ، لكنه ذكر هذا ؛ ليعلم الخلق أن من قال ذلك وإن عظم قدره عنده ، وجلت منزلته أنه يجزيه بما ذكر أنه يستوجب لذلك.

ولكن عندنا المعصية من الملائكة ممكن محتمل ؛ دليله قوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) ، ولأنه قد مدحهم بقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ ...) الآية [التحريم : ٦] ، وقوله : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ ...) الآية [الأنبياء : ١٩] ، فدل ذلك كله على أنهم مختارون في ذلك غير مجبولين عليه.

وقال بعضهم من أهل التأويل (١) : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) هو إبليس هو كان منهم ، وهو الذي قال ذلك (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) فاعبدونى ، والله أعلم.

قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (٣٠) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٤٥٥٠ ، ٢٤٥٥١) ، وعبد الرزاق ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٦٩) ، وهو قول الضحاك وابن جريج.

٣٣٩

لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (٣١) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (٣٢) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)(٣٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما).

قوله : (أَوَلَمْ يَرَ) يخرج على وجوه :

أحدها : أن اعلموا وروا : أن السموات والأرض كانت كذا.

والثاني : لو تفكروا وتأملوا لعلموا أنهما كذا.

والثالث : على التنبيه : أن قد رأوا وعلموا أنهما كانتا كذا ، كذلك هذا في كل ما ذكر من قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ...) كذا ، و (أَلَمْ تَرَ إِلَى ...) [البقرة : ٢٤٦] كذا ، فهو كله يخرج على هذه الوجوه.

ثم يكون قوله : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ. وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ. وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) و (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) كل هذا كان في قوله : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) كأنه يقول : أولم يروا كذا ما جعلناهم من أنواع ما ذكر ، ثم ذكر هذا لهم يكون لوجوه :

أحدها : أن يذكر نعمه عليهم حيث أخبر أن السماء والأرض كانتا رتقا ففتق منهما أرزاقهم ، وذكرهم أنه جعل بالماء حياتهم ، وجعل لهم الأرض بحيث تقر بأهلها وتسكن بهم ، وجعلها مهادا لهم وفراشا بالجبال حتى قدروا على المقام بها والقرار ، ثم قال : إنه جعل فيها فجاجا وسبلا ، ليصلوا إلى حوائجهم وشهواتهم ومنافعهم التي جعلت لهم في البلاد النائية ، وذكرهم نعمه أيضا في حفظ السماء عن أن تسقط عليهم على ما أخبر أنه يمسكها هو بقوله : (إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا) [فاطر : ٤١] ، وذكرهم أيضا نعمه فيما جعل لهم من الليل والنهار وفي الشمس والقمر من المنافع ؛ يستأدى بذلك كله الشكر على ما أنعم عليهم.

أو أن يذكرهم بهذا قدرته وسلطانه : أن من قدر على فتق السماء من الأرض ، وجعل حياة كل شيء من الماء ، وإمساك السماء وحفظها عن أن تسقط بلا عمد ، وما ذكر من خلق الليل والنهار ، وقطع الشمس والقمر بيوم واحد مسيرة خمسمائة عام ـ أن من قدر على كل ما ذكر لقادر على بعثهم وإحيائهم بعد الموت وبعد ما صاروا ترابا.

أو أن يذكرهم غناه بذاته وملكه : أن من كان هذا سبيله فأنى تقع له الحاجة إلى اتخاذ الولد أو الشريك أو الصاحبة ردّا على ما قالوا : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] و (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) [الأنبياء : ٢٤] ونحوه ، فبين فساد ذلك كله وبطلانه حيث قال :

٣٤٠