تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

وجائز أن يكون قوله : (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ) ما أخذ من قبضته من أثر الرسول ؛ كقوله : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها) [طه : ٩٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ).

أي : عجلا جسده جسد عجل ، وليس هو بعجل في الحقيقة.

وقال بعضهم : عجلا جسدا لا يتعيش كما يتعيش العجل المولود من البقر ، والأول أشبه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ).

هذا القول إنما قاله السامري.

وقوله : (فَنَسِيَ) قال بعضهم : نسى السامري حيث قال لهم : هذا إلهكم فنسى هذا القول ، فيكون النسيان على هذا التأويل التضييع والترك ؛ كأنه قال : ضيع السامري بعد ما علم وعرف رب العالمين ونسب الألوهية إلى العجل.

وقال بعضهم (١) : إن السامري لما قال : هذا إلهكم وإله موسى ، لكن موسى نسى هذا حيث خرج في طلب غيره ، ولا يحتمل أن يقبلوا هذا القول منه ، ويجعلوا العجل الذي اتخذه السامري إلها ، وقد علموا أنه إنما اتخذه من حلى حملوه من القبط ، لكنه كان في عقدهم أنه يجوز اتخاذ إله دون إله رب العالمين والعبادة له ؛ رجاء أن تقرب عبادتهم تلك الآلهة إلى الله ، وعلى هذا كانوا يعبدون الأصنام دون الله ؛ كقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، وكذلك قالوا : (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] ، وكذلك ما اتخذ لهم فرعون من آلهة عبدوها دونه ، وإلا لم يحتمل أن يقع عندهم أن رب العالمين هو ذلك العجل ، لكنه ما ذكرنا أنهم كانوا يستجيزون في اعتقادهم عبادة من دونه ، فقال عند ذلك ورد عليهم اعتقادهم فقال : (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) ، أي : ألا يرون أن لا إذن في عبادة من يرجع إليه القول ويملك النفع والضر وهو البشر ، فكيف أذن في عبادة من لا يملك شيئا من ذلك ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٤٤٧) والبغوي (٣ / ٢٢٨).

٣٠١

فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي)(٩٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ).

يذكر ـ والله [أعلم] ـ بهذا رسوله : أن الذين كذبوك وجحدوا رسالتك لم يكذبوك لجهلهم بالرسالة ، ولكن لتعنتهم وعنادهم على ما ذكروا نبأه من قول هارون لقومه لما عبدوا العجل حيث قال : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ) فكأنه يؤيسه عن إيمان أولئك لعنادهم ، وهو ما قال : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) [البقرة : ٧٥].

وقوله : (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) يحتمل وجهين :

أحدهما : (فُتِنْتُمْ) ، أي : صرتم مفتونين بالعجل بصوته وخواره أو بغيره.

والثاني : (فُتِنْتُمْ) أي : ضللتم به ، أي : بالعجل وإن ربكم الرحمن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاتَّبِعُونِي) ، أي : أجيبوا لي إلى ما أدعوكم به (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) ، أي : ما آمركم به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى).

قال بعضهم (١) : (لَنْ نَبْرَحَ) ، أي : لن نزال على عبادة العجل مقيمين حتى يرجع إلينا موسى.

وقال بعضهم : (لَنْ نَبْرَحَ) ، أي : لن نفارق عبادته ، ثم قال موسى : (يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) هذا يدل أن قول هارون لهم : (إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ) أراد به : الضلال ؛ حيث قال له موسى : (إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا. أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) يحتمل (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) ، أي : ما منعك إذ رأيتهم ضلوا ألا صرت إلى ما كنت صرت أنا؟ وقد علمت إلى أين صرت أنا ، أو أن يكون قوله : (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) ، أي : ألا تتبع ديني وسنتي وكانت [سنته] ومذهبه القتال والحرب معهم إذا ضلوا وتركوا دين الله.

فاعتذر إليه هارون فقال : (إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) ، هذا أيضا يخرج على وجهين :

أحدهما : أني خشيت إن اتبعتك وصرت إلى ما صرت أنت تقول لى : (فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ) ؛ لأنك لو نهيتهم عما اختاروا من عبادة العجل وبينت لهم السبيل لعلهم

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٤٤٩) ، والبغوي (٣ / ٢٢٩).

٣٠٢

يتبعونك ، فحيث لم تفعل فأنت الذي فرقت بينهم.

والثاني : على تأويل القتال والحرب في قوله : (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) إني خشيت لو قاتلتهم ونصبت الحرب بينهم صاروا فريقين ، فإذا تفرقوا اقتتلوا وسفكوا الدماء وتفانوا ، فترك القتال لما أطمعوه الإيمان إذا رجع إليهم موسى ونهاهم عن ذلك ، فلعل سنته في القتال مع من لم يطمع منه الإيمان ، هذا على تأويل من يقول بأن هارون اعتزلهم لما عبدوا العجل مع عشرة آلاف نفر وأكثر أو أقل على ما ذكر.

وأما الحسن فإنه يقول : كلهم قد عبدوا العجل إلا هارون ، فعلى قوله لا يحتمل الحرب والقتال معهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي).

قيل : هو ما قال : (وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف : ١٤٢] ، ودل قوله : (لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) بأن كان له الشعر ، فكنى بالرأس عن الشعر.

قوله تعالى : (قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً)(٩٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ).

قال الحسن : ما حجتك يا سامري على ما فعلت؟ ولا حجة كانت له قط.

وقال غيره (١) : (فَما خَطْبُكَ) ما شأنك وما أمرك ، والخطب هو الشأن والأمر في اللغة.

وتأويله ـ والله أعلم ـ : فما شأنك؟ أي : ما الذي حملك على صنيعك الذي صنعت؟

ثم قوله : (بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) بالياء والتاء جميعا ، ثم بين ما الذي بصر هو ما لم يبصروا هم؟ فقال : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها) ، أما عامة أهل التأويل (٢) : فإنهم يقولون : إنه قبض قبضة من تراب من أثر فرس جبريل فنبذتها ، وليس في الآية ذكر التراب ولا ذكر الفرس ، ولا أن ذلك الرسول جبريل أو غيره.

__________________

(١) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير (٢٤٢٨٧).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٤٢٩١ ، ٢٤٢٩٢) ، وهو قول مجاهد أيضا.

٣٠٣

ويشبه أن يكون الذي قبضه هو تراب من أثر الفرس ، على ما قاله أهل التأويل ، وقد ذكر في حرف أبي : فقبضت قبضة من أثر فرس الرسول ، فإن ثبت ما قالوا ، وإلا لم نزد على ما ذكر في الكتاب من هذه الأنباء والقصص [التى] كانت في كتبهم ، فذكرت في القرآن ؛ ليحتج بها رسول الله على أولئك ؛ ليعرفوا أنه إنما عرف بالله تعالى ، فلو زيد أو نقص عما في كتبهم ، لذهب موضع الاحتجاج عليهم ، بل يوجب ذلك شبه الكذب عليهم ؛ لذلك وجب حفظ ما حكى في الكتاب من الأنباء والأخبار من غير زيادة ولا نقصان مخافة الكذب ، إلا إن ثبت شيء يذكر عن رسول الله أنه كان ، فعند ذلك يقال ، وإلا الكف أولى لما ذكرناه.

[و] في قراءة الحسن وقتادة (١) : فقبصت قبصة بالصاد ، والقبصة : هو الأخذ بأطراف الأصابع ، والقبضة : هو بالكف ؛ فلا يحتمل أن يصح الحرفان جميعا ؛ لأن الأخذ بأطراف الأصابع دون الكف فهو خبر يخبر عما في كتبهم ، فإما أن يكون ذا أو ذا؟ فأما أن يكونا جميعا فلا يحتمل ، إلا أن يقال : إنه أخذه بأطراف الأصابع ، ثم رده إلى الكف ؛ فحينئذ يكون ، أو أن يكون ثمّ مرتان ، والله أعلم.

وقوله : (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : كذلك سولت لي نفسي أنك متى تأخذ قبضة من أثر الرسول فنبذتها في الحلى يحيا.

أو أن يكون سولت له نفسه على ما كان عادتهم وطبيعتهم أنهم لا يعبدون [ما] لا يرونه ولا يقع بصرهم عليه ؛ حيث قالوا : (يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] ، وكقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] ، فقال : سولت لي نفسي أن أتخذ لهم عجلا يرونه فيعبدونه.

أو سولت لي نفسي أن في قبضة أثر الرسول بناء عظيما.

أو قال ذلك اعتذارا لجميع ما كان منه من أول الأمر إلى آخر أمره ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ).

قال بعضهم : أي : لا تزال تقول : لا مساس ، لا تقول غيره ؛ عقوبة له وجزاء لصنيعه.

وقال بعضهم (٢) : أن تقول : لا مساس لم تمسني ، ولا أمسك ، أي : لا تمسني أبدا ،

__________________

(١) قراءة الحسن أخرجها ابن جرير (٢٤٢٩٤) وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٤٨) ، وأما قراءة قتادة فأخرجها ابن جرير (٢٤٢٩٥).

٣٠٤

أخرجه من بين أظهرهم ؛ لما علم موسى منه (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ).

يحتمل : أن لك موعدا لعذابك لن تخلفه ، يحتمل ذلك في الدنيا والآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً).

قوله : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ) الذي تزعم أنه إله ، لا أن موسى سمى ذلك ، وهو كما قال : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] التي في زعمهم آلهة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) فقوله : (ظَلْتَ) يقال بالنهار ، وفي الليل يقال : بات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً).

وفي هذا إثبات آية لموسى ؛ حيث قال : (لَنُحَرِّقَنَّهُ) ، والعجل الذي هو من لحم ودم ليس من طبع النار إحراقه ، وكذلك الحلى والذهب والفضة ليس من طبع النار إحراقهما حتى تصير رمادا ، ولكن من طبعهما الإذابة ، ثم أخبر أنه محرقه ، فدل أنه آية.

وفي قوله : (لَنُحَرِّقَنَّهُ) لغتان : (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بالتشديد وبرفع النون وهو التحريق بالنار ، و (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بنصب النون وهو القطع بالمبرد.

وقال أبو معاذ : فمن قرأه (لَنُحَرِّقَنَّهُ) بنصب النون ، فقد كان العجل من الحلى فلم يقدر على تحريقه بالنار فحرق بالمبرد.

ومن قرأه : (لَنُحَرِّقَنَّهُ) برفع النون والتشديد يقول : كان لحما ودما فأحرق بالنار صار رمادا ثم نسف في اليم.

قال أبو معاذ : يا سبحان الله ، إن كنت أحرقته بالنار فما حاجتك إلى المبرد ، لكن أراد مقاتل أن يجمع القراءتين والتأويلين في قراءة واحدة.

لكنه عندنا لا يجوز أن يكون العجل من لحم ودم في إحدى القراءتين وفي الأخرى من الحلى لا لحم فيه ولا دم ، وتكون القراءتان جميعا منزلتين.

وما قاله مقاتل : إنه حرق بالنار ثم حرق بالمبرد حسن ؛ لأن النار لا تحرق العجل إذا كان لحما ودما ، ولكنها تذيبه ، فأبرد بالمبرد ، فعند ذلك نسف في اليم.

قال أبو معاذ : تقول العرب : نسفت البرد أنسفته نسفا : إذا أخرجت المنسفة فطيرت غباره ، ويقال في المشي : ما زلنا ننسف يومنا كله نسفا ، أي : نمشي.

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٤٥٢) ، والبغوي (٣ / ٢٣٠).

٣٠٥

وقال أبو عوسجة : (لَنَنْسِفَنَّهُ) ، أي : لنرمين به نسفا ، أي : رميا ، والنسف : القلع من الأصل ، وصرفه : نسف ينسفه نسفا.

وقال : (لَنْ نَبْرَحَ) [طه : ٩١] أي : لن نزال.

(بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ) يقال : بصرت وأبصرت ، بصر يبصر بصرا.

وقبصت قبصة ، والقبص بأطراف الأصابع.

وقال : (لا مِساسَ) أي : لا يمسك أحد ولا يؤذيك.

وقال : «ظلت عليه» لغة سوء ، وإنما هو : ظلت ، وظللت.

وروى في حرف ابن مسعود : بصرت بما لم يبصروا به إذ جاء الرسول فقبضت قبضة فألقيتها ، وفي حرف حفصة : إذ مر الرسول ، وفي حرف أبي بن كعب : إن لك في الحياة أن لا مساس ، ليس فيه (أَنْ تَقُولَ) ، وفي حرف حفصة : إن لك في الحياة الدنيا أن تقول لا مساس.

وقال بعضهم : تأويله : لا تخالط الناس ولا يخالطونك.

قال أبو معاذ : المساس : مصدر ماسه مماسا ومماسة ، كما يقال : ضاره ضرارا ومضارة ، وساره سرارا ومسارة ، ومن قرأه : (لا مِساسَ) كان كقولك : نزال ودراك.

وفي حرف ابن مسعود وأبيّ : وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا وانظر كيف يفعل بإلهك الذي ظلت.

وقوله : (سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) قال بعضهم (١) : شجعت ، وظاهره : زينت لي نفسي.

وقيل : سمي السامري : سامريّا ؛ لأنه كان من قبيلة يقال لها : السامرة.

وقول هارون لموسى : (يَا بْنَ أُمَ) وكان أخاه لأبيه وأمه ، قيل : أراد بذلك أن يرفقه عليه فتركه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

جائز أن يكون موسى لما أحرق العجل ونسفه في البحر قال عند ذلك : إنما إلهكم الله الذي تعرفونه لا إله إلا هو وسع كل شيء علما ، لا يعزب عنه شيء ولا يخفى عليه شيء ، فيشبه أن يكون موسى ذكر هذا لهم لما أضمروا هم وأسروا حب العجل في قلوبهم ، على ما أخبر الله عنهم بقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) [البقرة : ٩٣] ، فقال لهم : (وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) يعلم ما تسرون وما تظهرون.

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٤٥٢) ، والبغوي (٣ / ٢٢٩).

٣٠٦

أو أن يكون لا يعلمون أنه [يعلم] ما يسرون وما يضمرون وما يغيب عن الخلق ويكون عندهم كملوك الأرض يعلمون الظاهر من الأمور الحاضرة منها [ولا يعلمون] الغائب ، فأخبر أنه عزوجل يعلم الظاهر والباطن والسر والعلانية والحاضرة والغائبة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً)(١٠٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ).

أي : هكذا نقص عليك من أنباء ما قد سبق ؛ ليكون آية لرسالتك ونبوتك.

أو أن يقول : كما قصصنا عليك هذا النبأ كذلك نقص عليك سائر النبأ ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً).

قال أهل التأويل (١) : الذكر هاهنا : القرآن ، وهو الظاهر ؛ ألا ترى أنه [قال] على أثره : من أعرض عنه فإنه كذا ، وجائز أن يكون قوله : (آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً) أي : شرفا وذكرا ، يذكر هو بعده أبدا ، ومن اتبعه وأجابه إلى ما دعاه يصير مذكورا به.

وقوله : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً).

والوزر : الحمل ، وسميت الآثام : حملا ؛ لأن الآثام تنقض ظهور أصحابها في النار وتكسرها ؛ كالحمل في الدنيا ينقض ظهر صاحبه ويكسره ، وهو ما ذكر : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ. الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) [الشرح : ٢ ، ٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (خالِدِينَ فِيهِ) ، أي : في ذلك الوزر ، أي : لن تفارقهم أوزارهم أبد الآبدين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً).

حمل السوء ، حمل يورد صاحبه النار ، بئس الحمل حمل يورد صاحبه النار ، ويقال : بئسما حملوا على أنفسهم من الأعمال.

وقوله : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً) يحتمل الإعراض عنه وجهين :

أحدهما : (أَعْرَضَ عَنْهُ) ، أي : كفر به وكذبه ولم يلتفت إليه.

والثاني : (أَعْرَضَ عَنْهُ) ، أي : لم يعمل بما فيه ، ومن لم يعمل من المسلمين بما فيه

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٤٥٥) ، والبغوي (٣ / ٢٣٠).

٣٠٧

يخاف أن يكون في وعيد هذه الآية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً. يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً).

قيل (١) : يتسارون بينهم ويتكلمون فيما بينهم كلاما خفيا (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً) مثل هذا الكلام ، إنما يقولون تلهفا وتحزنا على ما كان منهم في وقت قليل ؛ لاستقلالهم واستصغارهم الدنيا ، يقولون : كيف كان منا كل هذا العمل في ذلك الوقت القليل؟!

ثم اختلفوا في ذلك اللبث الذي قالوا ذلك ؛ قال بعضهم : في الدنيا ، استقلوا مقام الدنيا ؛ لما عاينوا الآخرة ، وقال بعضهم (٢) : ذلك في القبور ، ويستدل من ينكر عذاب القبر بهذه الآية ، يقول : لأنهم استقلوا مقامهم في القبور ، ولو كان لهم عذاب في ذلك لاستعظموا ذلك واستكثروا ؛ لأن قليل اللبث في العذاب يستعظم ويستكثر لا يستقل ولا يستحقر ، فلما استقلوا ذلك ، دل أنهم لا يعذبون في القبور.

واستدلوا أيضا لنفى العذاب فيه بقوله : (يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) [يس : ٥٢].

ومن يقول بعذاب القبر يزعم أن ذلك إنما قالوا في القبر يقول : ذلك بين النفختين ، يقول : هم يعذبون ويكونون في العذاب إلى النفخة الأولى ، ثم يرفع عنهم العذاب إلى النفخة الثانية ، عند ذلك يرقدون فيستصغرون مقامهم للنوم ، وقد يستصغر الوقت الطويل ويستقل في حال النوم على ما ذكر في قصة أصحاب الكهف حين قالوا : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) [الكهف : ١٩] وهم قد ناموا ثلاثمائة سنة وزيادة.

وجائز أن يكون عذاب القبر عذاب عرض وعذاب الآخرة عذاب عين ؛ كقوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦] ، فاستصغروا عذاب العرض واستقلوه عند معاينة عذاب العين.

ومن يقول ذلك في الدنيا ، يقول : تحاقرت الدنيا في أعينهم ومقامهم فيها حين عاينوا الآخرة وأهوالها.

وقوله تعالى : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً).

قوله : (أَمْثَلُهُمْ) قيل : أعقلهم ، وقيل : أفضلهم (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) من كان أبصر وأعلم بأمور الآخرة وأهوالها ، كان أكثر استخفافا بالدنيا واستحقارا لها.

__________________

(١) قاله ابن عباس : أخرجه ابن جرير (٢٤٣١٦) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٠).

(٢) انظر : تفسير البغوي (٣ / ٢٣١).

٣٠٨

وفي حرف ابن مسعود : نحن أعلم بما يقولون إذ عيل عليهم إذ يقول أمثلهم طريقة قال أبو معاذ : قوله : عيل عليهم أي : اشتبه وخفى وفاتهم علمه ، وقال : ومنه يقول : عالت الفريضة تعول عولا : إذا جاوزت السهام فأشكل على الفارض واشتبه ، ومنه قيل : عيل صبري.

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (١١٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً).

يشبه أن يكون سؤالهم عن أحوال الجبال في ذلك اليوم لما بين أحوال الناس في الساعة بقوله : (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ ...) الآية [الحج : ١ ، ٢] ، وكقوله : (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى ...) الآية [الحج : ٢] ، وصف لهم أحوال الخلق في ذلك اليوم ، ولم يصف أحوال الجبال والأرض ، فعند ذلك سألوه عن أحوال الجبال ، فأمر رسوله أن يخبرهم بما ذكر أنه (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) ، وما ذكر أيضا في آية أخرى : (هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] ، (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٥] ، (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) [القارعة : ٤] ونحوه ، فجائز أن يكون ذلك على اختلاف الأحوال ، وقد ذكرناه فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً).

قال بعضهم (١) : (قاعاً صَفْصَفاً) أي : مستوية ، والقاع والصفصف واحد.

وقال بعضهم (٢) : هي الأرض الملساء التي لا نبات فيها ولا زرع.

وقوله : (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) قيل (٣) : لا واديا ولا أمتا ولا رابية.

وقال بعضهم (٤) : العوج : الارتفاع ، والأمت : الهبوط.

__________________

(١) قاله ابن عباس : أخرجه ابن جرير (٢٤٣١٩) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٠) ، وهو قول مجاهد وابن زيد.

(٢) قاله ابن عباس بنحوه ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٠).

(٣) قاله ابن عباس : أخرجه ابن جرير (٢٤٣٢٤) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٠).

(٤) قاله الضحاك بنحوه ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٠).

٣٠٩

وقال بعضهم : العوج : أحناء الأودية ، والأمت : التلال.

وقيل (١) : لا انخفاضا ولا ارتفاعا ، والقاع الصفصف : هو تفسير (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) ، و (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) تفسير قوله : (قاعاً صَفْصَفاً).

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) : لا خلاف له ، ليس كالداعي في الدنيا منهم من يطيعه ويجيبه ومنهم من لا يطيعه ولا يجيبه ، فأخبر أنهم في الآخرة يجيبون الداعي في أي حال كانوا لا يخالفونه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ) : لا تخشع ، لكن تنخفض وتلين عند خوف أهلها ، وترتفع عند الأمن.

أو أن يكون خشوع الأصوات كناية عنهم ، أي يخشعون ويذلون لشدة فزعهم لأهوال ذلك اليوم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً).

قيل : الهمس (٢) : الكلام الخفي الذي لا يكاد يسمعه.

وقيل (٣) : رفع الأقدام ونقلها وهو تحريكها.

قال أبو عوسجة : (يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ) [طه : ١٠٣] ، أي : أخفى صوته.

وقوله : (أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً) أي : أفضلهم.

فأمّا (قاعاً صَفْصَفاً) ، قال : القاع : الأرض الصلبة التي لا شيء فيها ، والصفصف : المستوية ، والصفاصف جمع ، والقيعان : جمع القاع ، و (عِوَجاً وَلا أَمْتاً) الأمت : هو العوج وهو التل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ) ، أي : سكنت [(فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً)] ، والهمس : الخفى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : لا تنفع الشفاعة ، ليس أن يكون لهم الشفاعة فلا تنفع ، ولكن لا شافع لهم إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة أنه لا أحد يتكلم يومئذ إلا بإذنه ، فضلا أن يؤذن لأحد

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٤٣٢٦) وعبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٠).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٤٣٣٤) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥١) ، وهو قول مجاهد.

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٤٣٣٢ ، ٢٤٣٣٣) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥١) ، وهو قول عكرمة والحسن وقتادة وغيرهم.

٣١٠

بالشفاعة ؛ كقوله : (لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [النبأ : ٣٨] يقول : الشفاعة أنه لا أحد يتكلم يومئذ إلا بإذنه فضلا ، وقال : صوابا.

والثاني : لا تنفع الشفاعة إلا من وفق له بما يستوجب الشفاعة له ورضي له قولا وسأله ذلك ، وهو قول الشهادة والتوحيد.

فيرجع أحد التأويلين إلى الشفعاء : أنه لا أحد يشفع لأحد إلا بإذنه ورضاه بالقول : قول الشفاعة ، والثاني : يرجع إلى المشفوع له : أنه لا أحد يستوجب شفاعة إلا من وفق له الرحمن في الدنيا بالتوحيد وشهادة الإخلاص ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ).

يحتمل قوله : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) قبل أن يخلقوا ، (وَما خَلْفَهُمْ) بعد ما خلقوا وكانوا.

أو أن يكون قوله : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) : ما قدموا من الأعمال ، (وَما خَلْفَهُمْ) : من بعدهم.

أو أن يكون قوله : (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) كناية عن الخيرات ، أي : لا يعلم ما يعملون من الخيرات ، (وَما خَلْفَهُمْ) من الشرور ، وما نبذوا وراء ظهورهم.

وجائز أن يكون المراد من البين والخلف : الأحوال كلها ، أي : عالم بجميع أحوالهم وبكل شيء يكون منهم ، وهو كقوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] أي : لا يأتيه الباطل البتة ؛ لأنه ليس للقرآن بين ولا خلف ، ولكن المراد ما ذكرنا ، فعلى ذلك الأول.

وجائز أن يكون المراد منه : ليس البين ولا الخلف ، ولكن إخبار عن إحاطة علمه بهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً).

هذا يحتمل وجهين :

لا يحيطون بالله علما ، ولكن إنما يعرفونه على ما تشهد لهم الشواهد من خلقه ؛ لأن الخلق إنما يعرفون ربهم من جهة ما يشهد ويدل لهم من الدلالات من خلقه ، والإحاطة بالشيء إنما تكون فيما كان سبيل معرفته الحس والمشاهدات ، فأما ما كان سبيل معرفته الاستدلال فإنه لا يحاط به العلم.

والثاني : لا يحيطون به علما ، أي : بعلمه ؛ كقوله : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) [البقرة : ٢٥٥] ؛ وكقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً. إِلَّا مَنِ ارْتَضى

٣١١

مِنْ رَسُولٍ ...) الآية [الجن : ٢٦ ، ٢٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ).

قيل (١) : (عَنَتِ) : ذلت وخضعت الوجوه.

وجائز أن يكون ذكر [الوجوه] كناية عن أنفسهم ؛ لما بالوجوه يظهر الذلة والخضوع ، فكنى بها عنهم.

فإن كان ما أخبر من خضوعهم وذلهم في الآخرة ، فهو على ما أخبر من خضوع الخلائق له في الآخرة.

وإن كان بعضهم يتكبر في الدنيا ، وإن كان في الدنيا فهو على خضوع الخلقة له خضعت خلقة الخلائق كلهم له.

وقوله : (لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) قد ذكرنا تأويل الحى القيوم فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً).

أي : قد خاب من حمل الشرك ، والظلم هاهنا الشرك ، وقد خاب من حمل ما ذكر من الحمل والوزر ، وهو ما ذكر في قوله : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً. خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً) [طه : ١٠٠ ، ١٠١] أي : خاب من حمل ذلك الحمل ، والله أعلم.

وقال بعضهم (٢) : في قوله : (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) من أمر الآخرة ، (وَما خَلْفَهُمْ) من أمر الدنيا ، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ) يعني : [لا يحيط] الملائكة به (عِلْماً) ، يقول : هم لا يعلمون من كلامه إلا ما علمهم إياه ، فإن كان هذا في الملائكة خاصة ، فإنه لا يحتمل ما ذكرنا من التأويل في قوله : (وَما خَلْفَهُمْ) من الشرور وما نبذوه وراء ظهورهم ؛ لأنهم مطيعون لله لا يعصونه طرفة عين ، ويحتمل غيره من التأويلات التي ذكرنا ، والله أعلم.

وقال بعضهم (٣) : في قوله : (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) [طه : ١٠٩] : في الشفاعة ، (وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) [طه : ١٠٩] : قول : لا إله إلا الله ، مسلما في الدنيا مؤمنا حقا ، فذلك الذي رضى ، والشفاعة تحل لهم ، فأما غيرهم فلا يشفع لهم ، وهو ما ذكرنا فيما تقدم.

وقال بعضهم في قوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) أي : عملت الوجوه للحي القيوم ، قالوا : وتأويل (عَنَتِ) العمل ، أي : خضعت له بالعمل الصالح في الدنيا ، على ما ذكر

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٤٣٤٣ ، ٢٤٣٤٤) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥١).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٣٤٢).

(٣) قاله ابن عباس ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٢٣٢).

٣١٢

بعضهم (١) من الركوع والسجود وغيره ، وهو في المؤمنين خاصة ليس أن يكون تأويل قوله : (وَعَنَتِ) أي : عملت حقيقة ، ولكن من الوجه الذي ذكرنا.

وإن كان التأويل في الآخرة فهو في الفريقين جميعا يذلون له جميعا ويخضعون في الآخرة ، وإن كان من بعضهم التكبر في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ).

فيه دلالة أنه قد يستحق اسم الإيمان بدون الأعمال الصالحات ؛ حيث قال : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ).

وفيه أن الإيمان شرط في قبول الطاعات وجعلها طاعة لله ؛ حيث شرط الإيمان فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً).

الظلم هاهنا على مذهبنا : النقصان ، لا ظلم الجور ؛ لأن الثواب على الأعمال بحق الإفضال لا بحق العدل ، فإذا كان على هذا فيخرج قوله : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ) أن ينقص من حسناته شيئا أو يزيد في سيئاته شيئا ، ويجوز في اللغة ذكر الظلم على إرادة النقصان ؛ كقوله في ذكر الجنتين : (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) [الكهف : ٣٣] ، والجنة لا توصف بالظلم الذي هو ظلم جور ؛ فدل أنه أراد بالظلم هاهنا النقصان ، أي : لم تنقص ، بل أتت بثمارها وافية وافرة.

وإن كان على الظلم الذي هو ظلم الجور فهو على النهي ، أي : لا تخف منه الظلم والجور.

قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً)(١١٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا).

أي : كما ذكرنا : أن من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما ، كذلك أنزلناه في القرآن العربى.

(وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ).

حرف (لعل) في جميع ما ذكر في القرآن يحتمل وجهين :

أحدهما : على الوعد أنهم يتقون فهو على الإيجاب.

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٢) وهو قول طلق ابن حبيب.

٣١٣

والثاني : لعلهم يتقون ، أي : ألزمهم أن يتقوا بما صرف من الوعيد.

وإن كان على الوعد والإيجاب منه فهو لمن علم أنهم يتقون.

وإن كان على الإلزام ـ أي : ألزمهم ـ فهو في الكل.

ثم إن كان على الوعد فيخرج قوله : (أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً) ، فيكون كقوله : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤] إذا تذكر خشى ، وإذا خشى تذكر ؛ فعلى ذلك إذا اتقى فقد أحدث له الذكر ، وإذا أحدث له الذكر اتقى ، وإن كان ألزمهم أن يتقوا فهو على أو ثم.

ثم قال بعضهم : (ذِكْراً) ، أي : عذابا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ).

مثل هذا إنما يذكر على نوازل كانت إما قولا أو فعلا ، يقال : فتعالى الله عن ذلك ، لكن لم يذكر النوازل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ).

يحتمل ما قاله أهل التأويل (١) أن جبريل كان إذا أتاه بالسورة وبالآى فيتلوها عليه ، فلا يفرغ جبريل من التلاوة حتى يتكلم رسول الله بأولها ؛ مخافة أن ينساها ؛ فأنزل الله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ) فتقرأه من قبل أن يفرغ من تلاوته عليك ، وقد أمنه عن النسيان بقوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ...) الآية [الأعلى : ٦] ، وكذلك : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) الآية [القيامة : ١٦] ، ثم أمره عزوجل أن يسأله أن يزيد له علما.

ويحتمل أن يكون قوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ).

أي : لا تعجل بما ذكر من الوعيد لهم في القرآن من قبل أن يأتى وقته ؛ كقوله : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) [مريم : ٨٤].

وقوله : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) جائز ما قال أهل التأويل : إنه كان يتلو مع تلاوة جبريل ، فقال له : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) ، إن ثبت عنه أنه كان يتلو مع تلاوة جبريل.

وجائز النهى من غير أن كان منه ما ذكر ـ والله أعلم ـ على ما نهى عن أشياء من غير أن كان منه ذلك.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ

__________________

(١) قاله السدي بنحوه ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٢) ، ويأتي تفسير ذلك في سورة «القيامة».

٣١٤

اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى)(١٢٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).

قال الحسن وعامة أهل التأويل (١) : إن قوله : (فَنَسِيَ) ، أي : ضيع وترك ، ليس نسيان السهو ؛ لأنه عوتب عليه وعوقب به ، ولا يعاتب المرء على ما هو حقيقة السهو والنسيان ؛ فدل أنه على التضييع والترك ، ليس على النسيان والسهو ، إلى هذا يذهب هؤلاء ، لكن يقبح هذا أن يقال في آدم ، أو في نبي من أنبيائه ، أو في رسول من رسله ـ صلوات الله عليهم ـ : إنه ضيع ، والنسيان عندنا على قسمين :

نسيان يكون عن غفلة منه وشغل ، ما لو لا ذلك الشغل منه والغفلة ، لحفظه وذكره ولا ينساه ، وجائز المعاتبة على هذا النسيان ؛ إذ لو كان تكلف لكان لا ينساه ولا يقع فيه.

ونسيان آخر يقع فيه من غير سبب كان منه لا يملك دفعه ، وذلك نسيان ما لا يعاتب عليه ولا يعاقب به ، وهكذا الكلفة من الله تعالى والمحنة : أنه جائز أن يكلف ويمتحن من لا يعلم ولا يعقل الكلفة وقت تكليفه إياه بعد أن يحتمل عقله إدراك ذلك لو استعمله ، فأما من كان عقله لا يحتمل إدراك ما كلفه وإن استعمله وأجهد نفسه فيه ، فإنه لا يكلف البتة ؛ فعلى ذلك النسيان الذي ذكر من آدم جائز أنه لو تكلف ، حفظه وذكره ؛ فإنما عوتب لذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً).

قال الحسن : أي : منعا من الشيطان.

وقال بعضهم (٢) : حفظا لم يحفظ أمره.

__________________

(١) قاله ابن عباس ومجاهد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٤٣٧٧ ، ٢٤٣٧٨).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٤٣٨٧) وابن مندة ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٣) وهو قول عطية وابن زيد.

٣١٥

وقال بعضهم (١) : صبرا ، ونحوه.

والعزم : حقيقة القصد والقطع على الشيء ، وهو ضد النسيان الذي ذكر.

وقال بعضهم (٢) : العزم : هو المحافظة على أمر الله والتمسك به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ).

أي : قال [بعضهم] : لو لا قول أهل التأويل في سجود الملائكة لآدم إلى حقيقة السجود ، وإلا جائز أن يصرف الأمر بالسجود إلى الخضوع له ، والسجود : هو الخضوع ؛ حيث قال : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [البقرة : ٣٣] وقد يؤمر الإنسان بالخضوع لمن يتعلم منه العلم.

وقوله تعالى : (فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى).

قال أهل التأويل (٣) : ليس شقاء الدين ، ولكن تعب النفس والنصب في العمل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى). أي : لا تصيبك الشمس.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى).

أي : لا يفنى.

(فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ) قد ذكرنا هذا فيما تقدم.

قال أبو عوسجة (٤) : قوله : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ) [طه : ١١١] ، أي : ذلت ، يقال : عنا يعنو عنوا ، وقال : (وَلا هَضْماً) [طه : ١١٢] أي : ظلما ، يقال : هضمته ، أي : ظلمته ، وأهضمته مثله.

وقال أبو عبيدة (٥) : الهضم : النقصان ، وقال : (قاعاً صَفْصَفاً) [طه : ١٠٦] : القاع : الأرض التي يعلوها الماء ، وهو قريب مما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ تعالى ـ : (وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى).

كل من عصى ربه فقد غوى ، العصيان والغواية واحد (٦).

وقوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى).

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٣٨١ ـ ٢٤٣٨٣).

(٢) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٣٨٨).

(٣) قاله الحسن بنحوه ، أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٥).

(٤) انظر : تفسير غريب الحديث ص (٢٨٢).

(٥) انظر : مجاز القرآن (٢ / ٣١).

(٦) ينظر : اللباب (١٣ / ٤١١ ، ٤١٢).

٣١٦

قوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ) يحتمل وجوها :

أحدها : اجتباه للتوبة وهداه لها.

أو اجتباه ربه للرسالة وهداه لها.

أو اجتباه ربه للدين وهداه للتوحيد ، وهذا جائز عندنا ، للتوحيد والإيمان حكم التجدد والحدوث في كل وقت وكل ساعة ؛ لأنه مأمور بترك الكفر ونفيه في كل وقت ، فإذا كان مأمورا بترك الكفر في كل وقت منهيا عنه كان مأمورا بالإيمان والتوحيد ، فإذا كان ما ذكرنا دل أن للإيمان والتوحيد حكم التجدد والحدوث في كل وقت ، وإلا ظاهر قوله : (ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ) : أنه لم يكن يجتبيه قبل ذلك فاجتباه من بعد ، لكن الوجه ما ذكرنا من اجتبائه إياه للرسالة ، واجتبائه للتوحيد والطاعات والخيرات ونحوه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ).

قال الحسن : قوله : (اهْبِطا) أي : آدم والشيطان ، (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، يعني : ذرية آدم وذرية إبليس بعضهم لبعض عدو (١).

وقال فيما قال : (اهْبِطُوا) [البقرة : ٣٦] عنى : آدم وحواء وإبليس ، والهبوط : ليس هو الانحدار والتسفل من المكان العالى المرتفع ، إنما هو النزول في المكان ، فجائز أن يكون قوله : (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) [البقرة : ٣٦] أراد ذريتهما : ذرية آدم وذرية إبليس ، وعلى ذلك يخرج قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) يعني : الذرية ، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى) وقت اتباعه الهدى ، أو لا يضل ولا يشقى إذا ختم بالهدى ، أو لا يضل طريق الجنة ولا يشقى في النار ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) هو الشدة والضيق ، ثم اختلفوا فيه.

قال بعضهم (٢) : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) في الدنيا ، وإن كانت في الظاهر واسعة عليه ؛ لأنهم ينفقون ولا يرون لنفقتهم خلفا ولا عاقبة ، ويريدون الدنيا أنها تدوم ، فذلك يمنعهم عن التوسيع في الإنفاق ؛ خوفا لنفاد ذلك المال وبقاء أنفسهم ؛ لما ذكرنا أنهم لا يرون لنفقتهم خلفا ولا عوضا ولا عاقبة لها ، فذلك الضنك.

وقال بعضهم : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) ؛ لأنهم يعصون بما أعطوا من المال وأنعموا فيه ؛ لأن توسعهم يكون في معصية ، فنفى عنهم الانتفاع به كما نفى عنهم السمع والبصر

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٤٠٣).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٤٤١٦) وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٨).

٣١٧

واللسان باستعمالهم هذه الجوارح في المعصية على قيامها ؛ لما ذهبت منافعها في الطاعة.

وقال بعضهم (١) : (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) في عذاب القبر ، لكن لا يقال لمن في القبر : إن له معيشة ضنكا حتى يوصف بالضيق ، وعذاب القبر سبيل معرفته السمع ، فإن ثبت السمع وإلا فالترك أولى.

وقال قائلون (٢) : ذلك في الآخرة ـ والله أعلم ـ كقوله : (مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ) [الفرقان : ١٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى).

قال بعضهم (٣) : نحشره أعمى عن حججه في دينه ، لكن متى كانت له الحجج في الدنيا حتى يعمى عنها في الآخرة؟!

وقال بعضهم (٤) : نحشره يوم القيامة أعمى : عمى الحقيقة ؛ كقوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) [الإسراء : ٩٧] فهو على حقيقة عمى البصر ، وهو أشبه ، والله أعلم.

وقال مجاهد (٥) : قوله : (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى) قال : بلا حجة لى ، (وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) في الدنيا لكن الأشبه هو ما ذكرنا من حقيقة ذهاب البصر ؛ إذ لم يكن للكافر حجة في الدنيا حتى يقول : (وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً).

ثم اختلف فيه :

قال بعضهم : ذلك بعد ما حوسبوا وسيقوا إلى النار ـ نعوذ بالله من النار ـ فعند ذلك يعمى عليه البصر.

وقال بعضهم : لا ولكن يبعثون من قبورهم ويحشرون عميانا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى).

أي : كما أتتك آياتنا فصيرتها كالشىء المنسي ، لم تكترث إليها ولم تنظر فيها ولم ترغب فيها ، كذلك تصير في النار كالشيء المنسي عن رحمته ، لا يكترث إليك ولا ينظر إليك.

أو أن يقول : كما ضيعت آياتنا التي أتتك لنجاتك كذلك تضيع أنت وتترك في النار لا

__________________

(١) هو قول أبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن مسعود ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٤٤١٧ ـ ٢٤٤٢١ ـ ٢٤٤٢٤) وله طرق أخرى عنهم ، ذكرها السيوطي في الدر المنثور (٤ / ٥٥٧).

(٢) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير (٢٤٤١٠) وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٨).

(٣) قاله أبو صالح بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٢٤٤٢٧) وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٨).

(٤) قاله مجاهد : أخرجه ابن جرير عنه (٢٤٤٢٩).

(٥) أخرجه ابن جرير (٢٤٤٣٠) وهناد كما في الدر المنثور (٤ / ٥٥٨).

٣١٨

نجاة لك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ).

أي : كذلك نجزي كل من أسرف في الدنيا ولم يؤمن بآيات ربه ، ليس أحد المخصوص بذلك دون غيره ، ولكن كل من كان [هذا] صنيعه في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى).

كأنه قد سبق منه الوعيد لهم بعذاب ، ثم قال : (وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى) من العذاب الذي أوعدتم ، وإلا فعلى الابتداء لا يقال هذا.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى)(١٣٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) جميع ما ذكر في القرآن مثل هذا (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) ، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا* أَوَلَمْ يَرَوْا) ، وأمثاله كله أنه قد بين لهم وراء ذلك ، أي : قد بين لهؤلاء أنهم قد وافقوا أولئك الذين أهلكهم من القرون الماضية وما نزل بهم بتكذيبهم الرسل والآيات التي أتوا بها ، وهم آمنون يمشون في مساكنهم ، فكيف أمن هؤلاء من عذاب الله [مع] موافقتهم أولئك في جميع صنيعهم.

أو يقول : أفلم نبين لهم سنتى فيمن كان قبلهم من القرون الماضية بتكذيبهم الرسل وردهم الآيات ، وهم كانوا آمنين في مساكنهم فكيف أمن هؤلاء من عذابه وقد ساووا أولئك في جميع صنيعهم وفعلهم ، وهما واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى).

قال بعضهم (١) : (لِأُولِي النُّهى) : هم الذين انتهوا عما نهاهم الله عنه ، وهم ذوو العقول ، وقد ذكرنا هذا في غير موضع.

قال أبو عوسجة : (وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى) [طه : ١١٩] ، أي : لا تظهر للشمس ، والظمأ : العطش ، والضحى : الحر.

قال أبو عبيدة : وقال أبو عوسجة : وطفقا وعلقا واحد ، يقال : علق يعلق علقا فهو

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٤٧٥) والبغوي (٣ / ٢٣٥).

٣١٩

عالق وطافق.

وقال : يقال من الخصف : خصفت الخف ، إذا أنعلته ، ونعلت الخف ، ويسمى ذلك : النعيلة ، والنعائل جمع.

وقال : قوله : (مَعِيشَةً ضَنْكاً) [طه : ١٢٤] ، أي : ضيقة.

قال أبو عبيدة (١) : وكل ضيق ـ منزل أو غيره ـ فهو ضنك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى).

هو على التقديم والتأخير ، أي : لو لا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى ، لكان العذاب لازما لهم ، يقول ـ والله أعلم ـ : يلزم كل إنسان بما عمل.

قال : والأجل المسمى : الساعة التي قال : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٦].

وجائز أن يكون قوله على غير التقديم والتأخير ، لكنه على الإضمار ، أي : لو لا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما ولكن سيلزمهم إلى أجل مسمى ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) [النحل : ٦١].

وقوله : (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) بما يكون بحق الإفضال أو توجبه الحكمة ، لكان العذاب لازما لهم ، وحق الإفضال ما سبق منه من الوعيد أنه يؤخر ، ولا يقال فيما كان طريقه الإفضال : لم تفضلت؟ وأصل هذا : لو لا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما ، لو لا ما سبق من وعده : أنه لا يعذب هذه الأمة تعذيب إهلاك وقت تكذيبهم الرسل وردهم الآيات ، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى ، وهو ما ذكرنا ، وهو قوله : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) [القمر : ٤٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) : يصبر رسوله على أذاهم بلسانهم من السب والنسبة إلى السحر والجنون والافتراء على الله ونحوه ، وإن كان وعد أنه يعصمه منهم حتى لا يقدروا على إتلافه وإهلاكه ؛ لأن في حفظ نفسه من الإتلاف والإهلاك آية من آيات رسالته ؛ إذ بعثه إلى الفراعنة والجبابرة الذين كانت همتهم وعادتهم قتل من يخالفهم في شيء وإهلاك من يستقبلهم بما يكرهون ؛ فدل عجزهم عن إتلافه وإهلاكه وحفظ نفسه منهم : أنه كان ذلك لآية في نفسه ، وأما أذاهم إياه باللسان ليس في حفظه عنه آية ؛ لأن ذلك لو كان آية ، لمنعهم وذلك مما لم يؤثر نقصا في نفسه أو شيئا ؛ ألا ترى أنهم قالوا في الله ما لا يليق به من الولد وغيره ، فدل أنه ليس في حفظ نفسه عن أذاهم بلسانهم آية ، إنما الآية فيما ذكرنا من حفظ نفسه من الإتلاف ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر : مجاز القرآن (٢ / ٣٢).

٣٢٠