تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

وفي الآية دلالة أن لا قصاص يجب في شبه العمد وإن كان الضرب بشيء لا نجاة فيه ؛ لأن موسى ـ صلوات الله عليه ـ كانت له قوة أربعين نفرا على ما ذكر ، فإنما لطمه لطمة ، فقضى عليه ، ثم قال : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) [القصص : ١٥] هذا يدل أنه كان لا يحل له قتله ، ثم قال : (فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) سمّاهم : ظلمة ، فلو كان يحل القتل ويجب القصاص ، لكان لا يسميهم ظلمة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً) قال بعضهم (١) : (فُتُوناً) : هو جمع فتنة ، أي : فتناك فتونا.

[وقال بعضهم : (فُتُوناً) :] هو مصدر الفتنة ، أي : ابتليناك ابتلاء ، أي : بلاء ، والفتنة في البلايا والشدائد : الغموم الّتى ذكر أنه نجاه منها.

ويحتمل : النعم والخيرات ؛ إذ لم يكن الأنبياء في جميع الأوقات في البلاء ، ولكن كانوا في وقت في بلاء وشدة ، وفي وقت آخر في نعمة وخير.

أو فتنه بهما جميعا ، على ما أخبر : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء : ٣٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ).

هذا ـ والله أعلم ـ من المنة التي ذكر ، حيث قال : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى) [طه : ٣٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى).

قال بعضهم (٢) : بالنبوة والرّسالة.

وقال بعضهم (٣) : على موعود ، أو على قدر وقت المجيء ، فكيفما كان ففيه أن مجيء العبد وذهابه وجميع سعيه يكون بقدر من الله ، وتقدير منه ، وفيه أنه يجعل الأمور بأسباب ، وإن كان يجعل [بعضها] بغير أسباب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) ، أي : اخترتك ، واصطفيتك لرسالتي ونبوّتي ، فذكر نفسه ؛ لأنه بأمره يقوم بأداء ذلك.

قوله تعالى : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٤١٣٠) وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٢٩).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤١٤١).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٤١٣٩ ، ٢٤١٤٠) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٣٦).

٢٨١

لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى)(٥٥)

وقوله : (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي) : هو ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) ، أي : لا تضعفا في الدعاء إلى ديني وتوحيدي.

[و] في حرف عبد الله بن مسعود : ولا تهينا في ذكرى في البلاغ (إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أمرهما ألا يقصرا ولا يعجزا في تبليغ الرسالة إليه ، والدعاء إلى دينه ، حيث قال : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى. فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً).

قال أبو عوسجة : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) ؛ أي : تربى بعيني ، وسئل عن العين ، فقال : العين : العلم هاهنا ، والعين في غير هذا : المال ، والعين : الأديم المتخرق ، والعين : المصدر من عان يعين ، فهو عائن ، والمفعول به معيون : إذا أصابه بعين ، والعين : الحقيقة ، كقولك : هذا بعينه ، أي : بحقيقته ، قال : والعينة : السلف ، ومثله قوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) [هود : ٣٧].

(عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ) أي : يضمه لا يضمنه.

وقال أبو عوسجة : (ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى) ، أي : وقت المجيء (وَاصْطَنَعْتُكَ) ، أي : أخلصتك (لِنَفْسِي) ، (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) أي : لا تقصرا ولا تعجزا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً) ؛ لأن القول اللّين يكون أقرّ وأثبت في القلوب ، وأنجع ، وأقرب إلى الإجابة والقبول من القول الخشن البارد ، وخاصّة في الملوك والرّؤساء ؛ إذ طباعهم لا تحتمل ذلك ، ولا تنجع فيهم ، بل أكثر صولتهم على من دونهم إنما يكون عند استقبالهم بالخلاف وبما يكرهون ، فأمر ـ عزوجل ـ رسوله موسى وهارون أن يقولا له قولا لينا ، ويلطفا معاملته ؛ ليكون أقرب وأثبت في قلبه وأنجع ؛ ولذلك قال : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى).

٢٨٢

قال الحسن : كل (لعل) من الله فهو على الإيجاب ؛ لأنه قد تذكر وخشى ، حيث قال : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ ...) الآية [الأعراف : ١٣٤] ، وحيث قال : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ) [يونس : ٩٠] لكن لم ينفعه إيمانه في ذلك الوقت ؛ لأنه إيمان دفع واضطرار.

وقال بعضهم : (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) في علومكم ، فإن كان على هذا فهو يحتمل الشك ، وإن كان على الأوّل فهو على الإيجاب لا يحصل الشك.

ثم اختلف في القول اللّين : قال ابن عباس : هو قول الله : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى. وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) [النازعات : ١٨ ، ١٩] [أي :] فتوحّد ، قال : هذا القول اللّين.

وعن الحسن (١) : (قَوْلاً لَيِّناً) : قولا له : إن لك معادا ، إن لك مرجعا.

وقال بعضهم : (قَوْلاً لَيِّناً) : قول : لا إله إلا الله.

وقال بعضهم : أي : لينا ، ونحوه (٢) ، وأصله ما ذكرنا بدءا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) ، قال أهل التأويل (٣) : قوله : (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) ، أي : يعجل بالعقوبة من قبل أن يسمع حجتنا.

أو أن يطغى بقتلنا بعد ما سمع الحجة منا.

وجائز أن يكون أحد هذين في الفعل ، والآخر في القول : أن يفرط علينا أو أن يطغى أيهما كان؟ لأنه قال في الجواب لهما : (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) ، أي : أسمع ما يقول لكما ، وأرى ما يفعل بكما ، فهذا يدل ـ والله أعلم ـ أن قوله : (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) يرجع أحدهما إلى القول ، والآخر إلى الفعل ؛ لأنه قال في وقت : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ) [غافر : ٢٦] ونحوه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تَخافا) ، يحتمل على نفي الخوف ، والأمن منه ، كقوله : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) [الحجر : ٨٨] ليس على النهي عن الحزن ، فعلى ذلك الأول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّنِي مَعَكُما) : في النصر والمعونة لكم والذب عنكم والدفع ، (أَسْمَعُ) ما يقول (وَأَرى) ما يفعل ، وقد كان منه إليهما : النصر والمعونة لهما ، والدفع عنهما.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ) :

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٣٦).

(٢) ينظر : اللباب (١٣ / ٢٥٤).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٣٦) ، وهو قول مجاهد وابن زيد.

٢٨٣

يشبه أن يكون (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) هذا ، أي : لا تضعفا في تبليغ الرسالة ، ولكن قولا : (إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) لا يحتمل أن يكون أوّل ما أتياه قالا : (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) [ولكن] قد سبق منهما الدعاء إلى توحيد الله والإفراد له بالألوهية والربوبية ؛ فإذا ترك الإجابة ، فعند ذلك قالا له : (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ).

[و] هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : كأنه كان يمنع بني إسرائيل عن الإسلام ، وهم أرادوا الإسلام ، فقالا : أرسل معنا بني إسرائيل ولا تمنعهم عن الإسلام.

أو : كان يستعبدهم ، فأمره أن يستنقذهم من يديه ، كقوله : (أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) [الشعراء : ٢٢] ألا ترى أنّه قال : (وَلا تُعَذِّبْهُمْ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ) وهو ما قال : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) [الإسراء : ١٠٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى).

هذا يدل أنه لا يبدأ بالسلام على أهل الكفر ، ولكن يبدأ بأهل الإسلام ، وفيه أن تحية أهل الإسلام هو السلام ، لا قول الناس : (أطال الله بقاءك) ، ونحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) كأنه قال : والسلام على من اتبع الهدى ، والعذاب على من كذب وتولى.

والسلام هو اسم كل خير وبر.

وقال القتبي (١) : (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي : يعجل ويقدم ، قالوا : الفرط : التقدم والسبق ، وفي الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا فرطكم على الحوض» (٢) ، وهو من السبق ، وكذلك قال أبو عوسجة : (أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا) أي : يعجل ، يقال : فرط يفرط فرطا : أي : عجل ، وقال : (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) أي : لا تقصرا ولا تعجزا في البلاغ ، (وَاصْطَنَعْتُكَ) أي : استخلصتك لنفسي ، فإذا لم يفهم من قوله : (لِنَفْسِي) : ذاته فكيف يفهم (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) ما لم يفهم من الخلق ، ولا يتصور هذا وأمثاله إلا في وهم من اعتقد التشبيه ولم يعرف ربّه ، وإلّا لو عرف ربّه حق معرفته ، لكان لا يتصور في وهمه تشبيه الخلق به ، ولا

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧٩).

(٢) أخرجه البخاري (١٣ / ٢٩٣) كتاب الرقاق : باب في الحوض (٦٥٧٥ ، ٦٥٧٦) ومسلم (٤ / ١٧٩٦) كتاب الفضائل : باب إثبات حوض نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفاته (٣٢ / ٢٢٩٧) عن ابن مسعود قال : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا فرطكم على الحوض ، وليرفعن رجال منكم ثم ليختلجنّ دوني ، فأقول : يا رب ، أصحابي فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

٢٨٤

تشبيهه بخلقه ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى. قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ، وقال في آية أخرى : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) الآية [الشعراء : ٢٣ ، ٢٤] ، و (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) [الشعراء : ٢٨] ، سأله عن ماهيته ، فأجابه موسى عن آثار صنعه في خلقه ، وأنه ربّ كل شيء ، وربّ ما ذكر ، لم يجبه عما سأله من ماهيته وكيفيته ، حيث قال : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) ، فجوابه عن الماهية : ربنا فلان ، وأنه كذا ، ففيه دلالة أن الله لا يعرف من جهة الماهية والكيفية ؛ إذ لا ماهية ولا كيفيّة ؛ إذ هما أوصاف الخلق ، فالله سبحانه يتعالى عن أن يوصف بشيء من صفات الخلق.

ثم يحتمل قوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) وجوها :

أحدها : أعطى كل شيء يكون ، صورة ما قد كان معاشه وقوامه ؛ ليعلم أنه قادر على بعثهم على الصّورة التي كانت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ هَدى) فهو على قوله : أعطى كل شيء ثم هدى ، فإن كان التأويل : أعطى كل شيء صورته وهيئته ، فقوله : (ثُمَّ هَدى) للنجاة ، وإن كان أعطى جنسه وشكله ثم هداه للنسل ، وإن كان قوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) ما به معاشهم وقوامهم ، ثم هداه لما يتعيشون به ، ويقومون به ، وهداه لما يصلح لهم وما لا يصلح لهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى. قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ).

قال بعضهم : إنما سأل فرعون موسى عن القرون الأولى ؛ لأنه سمع من ذلك الرجل المؤمن حين قال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) [غافر : ٣٠] ولم يكن لموسى بهم علم ، فوكل علمهم إلى الله ، ثم أنزل الله عليه التوراة ، فبيّن له فيها أمرهم.

وقال بعضهم : سأل فرعون موسى ذلك ؛ لأن موسى أخبر أنه يبعث ، وخوفه على ذلك ، فعند ذلك قال : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) لم يبعثوا منذ أهلكوا؟ فقال له ما قال.

وقال بعضهم : قوله : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) إنّما سأله عن حال القرون الأولى أهم في الجنة أو في النار ، فقال : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي).

وقال بعضهم : إنما سأله عن أعمالهم : فما أعمال القرون الأولى؟ فقال : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي : أعمالهم عند ربي في كتاب مرقوم ، وقوله : (سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١] وقوله : (فِي كِتابٍ) قال بعضهم : الكتاب الذي أثبتت فيه أعمالهم ، وقال بعضهم (١) : في اللوح

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٢٢٠).

٢٨٥

المحفوظ ، (لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) قال : هما واحد : لا يضل ولا ينسى ذلك الكتاب ، وقرئ : (يَضِلُ) ولا يضلّ من ختم بالهدى ، و (لا يَضِلُ) أي : لا يضلّ ذلك الكتاب الذي ذكر ، ليس أنه يرجع إلى قوله : (لا يَضِلُّ رَبِّي).

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) هو على قوله : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ، (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) أي : فراشا ، والذي (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) يذكر نعمه التي أنعمها عليهم ؛ يقول : جعل لكم الأرض بحيث تفترشون ، وتعيشون فيها ، وتقرون عليها بعد ما كانت تميد بكم ، (وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) أي : طرقا تسلكون فيها ، وتختلفون إلى البلدان النائية في حوائجكم وما به معاشكم وقوامكم ما لو لا ذلك ما قام معاشكم ، ولا قضيت حوائجكم (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ) أي : الماء (أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى) : ما به معاشكم وقوامكم وقوام أنعامكم ، على اختلاف ما جعل لكل دابة من ذلك قوتا وغذاء ، ولم يجعل ذلك لغيرها ؛ لأن من الدواب ما يأكل النبات ، ومنها ما يأكل الحب ، ومنها ما يأكل اللحم ، ونحوه.

(كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ) ، أي : كلوا أنتم وارعوا أنعامكم فيما به قوامها.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) :

قال بعضهم (١) : (لِأُولِي النُّهى) أي : لأولي العقول.

وقال الحسن (٢) : إن في ذلك لآيات للذين يتناهون عما نهوا عنه.

وقال بعضهم (٣) : لآيات لأولي الورع ، وأولي النهى : هم أهل العقول ؛ لأنه بالعقل ينهى ، وبه ينتهي ، وبه يؤمر ويؤتمر ، فذلك آيات لهم ، وكذلك قال القتبي : لأولى النهي : أولي العقول ، وقال : النهية : العقل.

وقال بعضهم : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) ، أي : ما حالها؟ يقال : أصلح الله بالك ، أي : حالك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ).

يحتمل قوله : (مِنْها خَلَقْناكُمْ) وجوها :

أحدها : منها خلقنا أصلكم ، وهو خلق آدم ، لكنه أضاف خلقنا إليها وإن لم نخلق منها كما أضاف الإنسان إلى النطفة وإن لم يكن الإنسان منها ، لكنه أضاف إليها ؛ لأنها أصل

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٣٩).

(٢) وهو قول سفيان أيضا أخرجه ابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٣٩).

(٣) قاله قتادة ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٥٣٩).

٢٨٦

الإنسان ؛ فعلى ذلك إضافة خلق أنفسنا إلى الأرض.

والثاني : نسب إليها ؛ لأنا من أول ما ننشأ إلى آخر ما ننتهي إليه يكون قوامنا ومعاشنا من الخارج من الأرض ؛ فنسب خلقنا إليه ، وهو ما قال : (قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً) [الأعراف : ٢٦] واللّباس على هيئته ما هو لم ينزل من السماء ، لكنّه أضافه إليها ؛ لأنه كان بأسباب من السماء وأصله منها.

وقال بعضهم (١) : ذكر أن الملك ينطلق فيأخذ من تراب ذلك المكان الذي يدفن فيه الإنسان فيذره على النطفة التي قضى الله منها الولد ؛ فيخلق من التراب والنطفة ، فذلك معنى الإضافة إليهما ، لكن هذا سمعيّ لا يعرف إلا بالخبر ، فإن ثبت فهو هو ، وإلّا لا يجوز أن يقال ذلك رأيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفِيها نُعِيدُكُمْ).

قوله : (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) إذا متم ، أي : تقبرون فيها ، فيخرج مخرج الامتنان علينا ، وذلك لنا خاصّة دون غيرنا من الحيوان ، لئلا نتأذى بهم ، كقوله : (ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) [عبس : ٢١] أو أن يكون قوله : (وَفِيها نُعِيدُكُمْ) ، أي : تصيرون ترابا إذا متم ، فيخبر عن قدرته وسلطانه ، أي : من قدر على أن صيّر الإنسان ترابا ، بعد أن لم يكن ترابا لقادر على أن يصيره إنسانا على ما كان بعد ما صار ترابا ، وهو ما قال : (وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) أي : منها نبعثكم وننشئكم مرة أخرى ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى)(٦٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها) لم يره جميع آياته ، إنما أراه بعض آياته ، لكن إن كان المراد منها الإعلام له ، فقد أعلم الآيات كلها ؛ لأنه إنما أراه آية واحدة أو بعض الآيات ، فرؤية آية واحدة وبعضها يدل على إعلام غيرها من الآيات ، فهو على

__________________

(١) قاله عطاء الخراساني ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٣٩).

٢٨٧

الإعلام قد أعلمه كلها ، وهو ما قال له موسى : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الإسراء : ١٠٢] علم اللعين أنها الآيات وليست بسحر.

أو أن يكون يريد بالآيات كلها الآيات التي أرسلها إلى موسى ، فقد أراه آياته كلها ، فكذب بتلك الآيات وأبى أن يصدّقها ويقبلها فيسلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) قد علم اللّعين أنه لم يجئهم ليخرجهم من أرضهم ، ولكنه يريد منهم الإسلام ، لكنه أراد أن يغري قومه عليه ، كقوله : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) [الشعراء : ٣٥] فهذا إغراء منه قومه عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً) :

قال بعضهم (١) : (سُوىً) المكان الذي نحن فيه الآن ، وغير هذا المجلس.

وقال بعضهم (٢) : مكانا عدلا لا نخلف نحن و [لا] أنت ذلك المكان.

وقال بعضهم (٣) : (مَكاناً سُوىً) أي : منصفا.

وقال القتبي (٤) : (مَكاناً سُوىً) ، أي : وسطا بين فريقين.

وقال الكسائى : سوى وسوى يريد به سواء ، وهما لغتان ، إلا أنه يقرأ : «سوى» وقال أبو عبيدة : هو مثل (طُوىً) وهو المنصف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ) :

قال بعضهم (٥) : يوم عاشوراء.

وقال بعضهم (٦) : يوم العيد.

وقال بعضهم (٧) : يوم سوقهم ، لكنّا لا نعلم ذلك ، وليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة ،

__________________

(١) قاله الكلبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٢٢١).

(٢) قاله قتادة والسدي ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٤١٧٥ ـ ٢٤١٧٧).

(٣) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٤١٧٣ ، ٢٤١٧٤) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٤٠).

(٤) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧٩).

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٤٠).

(٦) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٤١٨٤) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٤٠) وهو قول السدي ومجاهد.

(٧) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير (٢٤١٨٠) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٤٠).

٢٨٨

وهم قوم قد عرفوا ذلك ، حيث رضوا بذلك ولم يتنازعوا فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) بيّنوا اليوم ، وبيّنوا الوقت ، وهو وقت الضحى.

(وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) قال بعضهم (١) : أي : نهارا جهارا ، كقوله : (أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى) [الأعراف : ٩٨] نهارا ، يعني : جهارا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ) ، أي : أقبل على أمره ، وجمع كيده ، ليس على الإعراض عما دعوا إليه ، ثم أتى بهم ، وهو كقوله : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ٢٠٥] أي : أقبل على السعى في الأرض بالفساد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) ، هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : لا تفتروا على الله كذبا فيما بان لكم الحق ، وظهر لكم الحجة باتخاذكم فرعون إلها ؛ لأنكم إذا اتخذتم دونه سواه إلها ـ ولا إله غيره ـ فقد افتريتم عليه.

والثاني : لا تفتروا على الله كذبا فيما بان لكم الحق وظهر لكم الحجة ، فلا تفتروا على الله كذبا بقوله : إنه سحر ، وإنه كذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ) برفع الياء ونصبها جميعا.

(فَيُسْحِتَكُمْ) : قال أبو معاذ (٢) : يقال : أسحته وسحته ، قهره وأقهره.

وقال أهل التأويل (٣) : أي : يهلككم ويستأصلكم بعذاب.

ثم يحتمل ذلك العذاب في الدّنيا ، أوعدهم بعذاب يأتيهم إذا افتروا على الله كذبا بعد ما بان الحق ، وظهر لهم البرهان والحجة.

وقوله : (وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى) في الدنيا والآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) قال بعضهم (٤) : قوله : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) أي : [تناجى] السحرة فيما بينهم سرّا من فرعون ، فذلك قوله : (وَأَسَرُّوا النَّجْوى) من فرعون ، فقال لهم : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) يعنون : موسى وهارون.

وقال بعضهم : (فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى) من موسى وهارون ، فنجواهم أن قالوا : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما) والأشبه هنا أنهم اعتزلوا

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٢٢١).

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٨٠).

(٣) قاله ابن عباس : أخرجه ابن جرير عنه (٢٤١٨٨) ، وهو قول قتادة والسدي وابن زيد.

(٤) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٤١٩٣).

٢٨٩

قومهم وأسرّوا النجوى عنهم فيما بينهم أنهما كذا (١).

ثم قوله : (إِنْ هذانِ) بالألف ، قال أبو عبيدة (٢) : هذه لغة قوم من العرب ، يقال : مررت ورأيت رجلان ، فهو على تلك اللّغة.

وقال بعضهم : إن هذه الألف لا تسقط في الوحدان بحال ، يقال : مررت بهذا ورأيت هذا ، ونحوه ، فهو الأصل لا يحتمل السقوط في الأحوال كلها في الوحدان والتثنية.

وقال بعضهم : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ) ، أي : نعم هذان ، وذلك لغة قوم أيضا ، يقولون : (إن) مكان (نعم) ، كقول القائل في آخر بيته :

 ............................

فقلت إنّه (٣)

أي : نعم.

وقال بعضهم (٤) : لا ، ولكن هذا خطأ من الكاتب ، وكذلك عن عثمان : أنه لما نظر في الكتاب فقال : إني أرى فيه خطابا فيقومها العرب بألسنتها ، أو نحو هذا (٥).

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما) هذا القول إنما أخذوا من فرعون ، حيث قال : (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ...) الآية [الشعراء : ٣٥] ، وقوله أيضا حيث قال : (أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى) ، علم فرعون أن ذلك ليس بسحر لكنه أراد أن يغرى قومه عليه ؛ لئلا يتبعوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) اختلف فيه :

قال الحسن : قوله : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) ، أي : بعيشكم أمثل العيش ؛ لأنهم كانوا جبابرة وفراعنة ، وكانوا بنو إسرائيل لهم خدما وخولا يستخدمونهم ويستعملونهم في حوائجهم ، فكان تعيشهم بهم ، فقال : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) ، أي : يذهبا بأمثل عيشكم ، حيث قال له موسى : (فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ).

قال بعضهم (٦) : (بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) ، أي : يذهبا بدينكم ومذهبكم الأمثل ؛ لأنه يقول : إن الذي يدعوهم إليه هو الرشاد ، وأن الذي يدعوهم موسى إليه هو باطل ، وإنه سحر

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٣٠٣ ـ ٣٠٤).

(٢) ينظر : مجاز القرآن (٢ / ٢١).

(٣) البيت لعبد الله بن قيس الرقيات وتمامه :

ويقلن شيب قد علا

ك وقد كبرت ....

والبيت في ديوانه ص (٦٦) ، وخزانة الأدب (١١ / ٢١٣) ، وشرح أبيات سيبويه (٢ / ٣٧٥).

(٤) هو قول عائشة وقد تقدم.

(٥) أخرجه ابن أبي داود في المصاحف وابن الأنباري ، كما في كنز العمال (٤٧٨٤ ـ ٤٧٨٦).

(٦) قاله ابن زيد أخرجه ابن جرير (٢٤٢٠٥) وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٤١).

٢٩٠

وفساد ، كقوله : (ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ) [غافر : ٢٦] ، وحيث قال : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) [غافر : ٢٩] ، وحيث قالوا : (أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ) [الأعراف : ١٢٧] ، ونحوه ، يدعى أن ما يدعوهم إليه هو الرشاد ، وأن الذي يدعو موسى إليه هو السحر والفساد.

وقال بعضهم (١) : قوله : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) ، أي : خياركم وأشرافكم والأمثل منكم.

قال القتبي (٢) : (فَيُسْحِتَكُمْ) ، أي : يهلككم ويستأصلكم ، يقال : سحته الله ، وأسحته ، وقال : (وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) ، أي : الأشراف ، ويقال : هؤلاء طريقة قومهم : أي : أشرافهم ، اشتقاق الطريقة من الشريف ، ويقال : أراد : بسنتكم ودينكم ، و (الْمُثْلى) : مؤنث أمثل ، مثل كبرى وأكبر.

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) ، أي : حيلتكم.

وقال أبو عوسجة : (بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى) ، أي : بدينكم الأفضل ، وهو من الأمثل.

وقال أبو عبيدة (٣) : (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي : مصلى ، والصف : المصلى ، وقال : حكى عن بعضهم أنه قال : ما استطعت أن آتى الصف اليوم أي : المصلى.

وقال القتبي (٤) : (صَفًّا) : أي : جميعا ، وكذلك [قال] غيره من أهل التأويل (٥).

وقوله : (مَنِ اسْتَعْلى) أي : غلب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ) حرف الإجماع يستعمل في العزم مرة والاجتماع ثانيا : أما في العزم فما ذكر في الخبر : «لا صوم لمن لم يجمع رأيه من اللّيل» أي : لمن لم يعزم ، على ما روى في الخبر : «لا صوم لمن لم يعزم من الليل».

وأما الاجتماع فظاهر ، فإن كان على الاجتماع ، فكأنه قال : فاجتمعوا على عمل واحد لا تختلفوا فيه.

وعلى العزم ، أي : اعرفوا شيئا واحدا ؛ واقصدوا أمرا واحدا لكي تغلبوا.

__________________

(١) قاله أبو صالح أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم ووكيع في الغرور عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٤١) وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة بنحوه.

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٨٠).

(٣) ينظر : مجاز القرآن (٢ / ٢٣).

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٨٠).

(٥) منهم مقاتل والكلبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٢٢٣).

٢٩١

(ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) قال بعضهم : جميعا غير متفرقين ، وقال بعضهم : (ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) أي : المصلى الذي كان موعود الاجتماع ، وهو يوم الزينة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى) قيل : من غلب ، كقوله : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤] أي : غلب.

وجائز أن يكون قوله : (اسْتَعْلى) ، أي : من طلب العلو ، وأراد أن يسعد بما وعد فرعون للسحرة من الأجر إذا كانوا هم الغالبين ، كقوله : (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ. قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الشعراء : ٤١ ، ٤٢] فذلك هو ما طلبوا منه ، فأخبر أنهم يظفرون بذلك ، هذا إذا كان القول من فرعون ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (٧٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى. قالَ بَلْ أَلْقُوا) ، إنما ألقوا بأمر من الله وإذن منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) إلى موسى (مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى. فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) أي : وقع في قلبه الخوف ، وخاف إذ صنع القوم ما صنعوا من السّحر ، ثمّ يحتمل ذلك الخوف منه وجهين :

أحدهما : خاف على ما طبع البشر عليه من خوف الطبع ، لا خوف غلبة ؛ لأنه قال لهم : (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) [يونس : ٨١] كان يعلم ـ صلوات الله عليه ـ أن تمويهات السحر لا تبطل حجج الله وآياته ، فدل ذلك أنه خاف خوف الطبع والجبلّة ، لا خوف القهر والغلبة.

أو أن يكون خوفه لما أخذ سحر أولئك أعين الناس ؛ خاف موسى أن يمنعهم ذلك عن أن يبصروا ما جاء هو من الآية والبرهان.

وقال بعضهم (١) : خاف أن يشكوا فيه فلا يتابعوه ، ويشك فيه من تابعه ، وهو ما ذكرنا

__________________

(١) قاله مقاتل كما في تفسير البغوي (٣ / ٢٢٤).

٢٩٢

قريبا منه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) أي : الغالب ، فإن كان الخوف الذي ذكر خوف طبع وما جبل عليه المرء ، فيكون قوله : (لا تَخَفْ) على تسكين القلب وتثبيته ، وإن كان الثاني فهو على البشارة له ، والإخبار على ألا يمنع سحر أولئك عن أن يبصروا ما تأتي به أنت من الآية ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) هذا يدل أن سحر أولئك إنما صار بعد ما ألقوا ما في أيديهم ، لم يكن سحرا وقت كونه في أيديهم ، وكذلك عصا موسى إنما صارت آية وحجة بعد ما ألقاها من يده لم تكن وقت كونها في يده ، وكذلك حيث قال : (وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) ، أي : تلقم وتأكل ما صنعوا (إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) أي : لا يفلح الساحر حيث أتى بسحره ، وإلا قد أفلح سحرة فرعون ، وفي حرف ابن مسعود : أين أتى.

وقال بعضهم : حيث كان. وحيث وحوث لغتان ، وهو قول الكسائي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى) ؛ لأنهم عرفوا حقيقة ما أتى به موسى ، فعلموا أنه سماوى وأنه آية ليس بسحر ، فآمنوا إيمانا لم يرتابوا فيه قط ، وهذا يدل أن كل ذي بصر وعلم في شيء يكون أبصر وأعلم في ذلك الشيء من غيره ؛ حيث لم ينظروا لما رأوا ما أتى به موسى وعاينوا وقتا ينظروا فيه ، بل لسرعة معرفتهم ، لم يملكوا أنفسهم ، بل ألقوا على وجوههم على ما أخبر ؛ حيث قال : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) [الشعراء : ٤٦] و (سُجَّداً).

وقال القتبي (١) : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) : أي : أضمر خوفا.

وقال غيره : وقع في قلبه حيث أنّى كان.

وقال أبو عوسجة : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) ، أي : يظن ، يقول : يخيل إلى ، أي : يريني فهمي وعلمي أن هذا الشيء كذا وكذا ، (فَأَوْجَسَ) أي : أحس. (تَلْقَفْ) وتلقم : واحد.

وقوله تعالى : (قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ).

قال بعضهم : يعني : موسى.

وقال بعضهم : كبير السحرة الذي علم غيره السحر.

وقال في آية أخرى : (إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها ...) الآية [الأعراف : ١٢٣] ، قد علم اللعين أن ذلك ليس بسحر ولا مكر مكروا به ، لكنه أراد أن

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٨٠).

٢٩٣

يموّه على قومه ويلبس عليهم أمر موسى وما جاء [به] من الآيات والحجج ؛ لأنه هو الذي رباه ونشأ بين ظهرانيه وأهله ، فعلم أنه لم يتعلم السحر من أحد ، [و] لما فارقه وخرج من عندهم إلى مدين لم يكن هناك من يتعلم منه السحر ، لكنه أراد التمويه والتلبيس على قومه ، وكذلك أهل مكة حيث نسبوا رسول الله إلى السحر والكهانة والافتراء والجنون وغيره ، علموا أنه ليس بساحر ولا كاهن ولا مجنون ولا مفتر ؛ لأنه نشأ بين أظهرهم صغيرا لم يؤخذ عليه كذب قط على أحد من الخلائق ، فكيف على الله تعالى؟ ولا رأوه اختلف إلى أحد من السحرة والكهنة في تعلم ذلك ، لكنهم أرادوا بذلك التمويه والتلبيس على الناس ؛ لئلا يتبعوه ولا يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من دين الله وتوحيده.

ثم الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ لو لم يكن معهم الآيات المعجزة ولا الحجج النيرة ، كانت أنفسهم وما طبعوا عليه من السيرة الحسنة والأخلاق الكريمة الجميلة وما اختاروا من الأمور العظيمة الرفيعة ـ دالة على رسالتهم ونبوتهم ، فكيف وقد جاءوا بالآيات المعجزة والبراهين المنيرة؟ وما بطبع السحرة من السيرة المذمومة والأخلاق الدنيئة والأمور الخسيسة ، يدل على كذبهم وافتعالهم ، فكيف أشكل عليهم معرفة السحر من الرسالة والتمويه من الحجة ، لكنهم أرادوا بذلك ما ذكرنا من التمويه على قومهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ).

يشبه أن يكون هذا الوعيد منه في وقتين : أوعدهم أولا بقطع اليد والرجل من خلاف على الإبقاء ؛ رجاء أن ينتهوا عما اختاروا ، فإذا لم ينتهوا عنه ، فعند ذلك أوعدهم بالقتل والصلب ؛ إذ في القتل والصلب إتلاف ما دونه من الجوارح ، فإن كان على هذا ففيه أن كل حد يراد به الإبقاء ، فإنه لا يؤتى على الجوارح كلها ، والقطع في السرقة قد يراد به الإبقاء ؛ لذلك لا يؤتى على الجوارح كلها ، وكذلك [حد] قطاع الطريق ؛ إذ يراد به الإبقاء لم يزد على قطع اليد والرجل من خلاف.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى).

لو ذاق اللعين شيئا من عذاب ربه لم يقل مثل هذه المقالة ، ولو لا ما عرف من حلم ربه ، وإلا لم يتجاسر أن يتكلم بمثل هذا ويوعدهم أن عذابه أشدّ من عذاب الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ).

أي : لن نؤثرك بالربوبية والعبادة لك والطاعة على ما جاءنا من البينات على ربوبية الله وألوهيته وعبادته.

٢٩٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِي فَطَرَنا).

قال بعضهم : لو نؤثرك على الذي خلقنا ، لكن غيره كأنه أشبه ، وهو أن قوله : (وَالَّذِي فَطَرَنا) على القسم ، أي : بالذي فطرنا ، كأنهم أيأسوه عن العود إلى عبادته وخدمته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) ليس على الأمر لكن على عناد لك ، أي : إنك وإن فعلت بنا ما أوعدت فإنا لا نؤثرك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : إنما تقضي في هذه الحياة الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى).

يحتمل قوله : (وَاللهُ خَيْرٌ) معبود وثوابه أبقى من ثواب غيره.

أو أن يكون هذا جواب قوله : (وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى) فيقول : عذاب الله أبقى ، والله أعلم.

قال أبو عوسجة : جذوع النخل : ساق النخل وأصله.

قوله تعالى : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى)(٧٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى. وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى).

أصل هذا ـ والله أعلم ـ : أن من قبل من الله حياته بالشكر وطيبها بالأعمال الصالحات ، طيب الله حياته وعيشه في الآخرة ، [و] من لم يقبل حياته من الله بالشكر في الدنيا ، بل كفر بها وخبثها وقبحها بالأعمال القبيحة الخبيثة الدنية خبث حياته في الآخرة وعيشه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى).

هى ما يرتفع ويعلو ، والدركات : ما يتسفل وينحدر في الأرض ، والدرجات للمؤمنين في الآخرة ؛ لاختيارهم في الدنيا الأعمال الصالحة الرفيعة العالية ، فعلى ما اختاروا في الدنيا من الأعمال الرفيعة العلية ، فلهم في الآخرة مقابل ذلك الدرجات العلى ، وأما الدركات فهي لأهل الكفر مقابل ما اختاروا في الدنيا من الأعمال الدنية الخبيثة أخزاهم ،

٢٩٥

كمثل من زرع بذر الشوك لم يحصد برّا قط.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى).

أي : ذلك الذي ذكر جزاء من صلح عمله وأنماه ، والزكاة : هي النماء في اللغة.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى)(٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى)(٨٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) : وهو السير بالليل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً) أي : اضرب بعصاك البحر ، اجعل لهم طريقا في البحر يابسا ؛ كقوله : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ ...) الآية [الشعراء : ٦٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى).

أي : لا تخاف لحوق فرعون وجنوده ، ولا تخشى غرق البحر ، ليس على النهي ، ولكن على رفع الخوف عنه والأمن عن أن يدركهم ويلحقهم ؛ ألا ترى أنه قال : (قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء : ٦١ ، ٦٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ).

دل قوله : (بِجُنُودِهِ) على أن كان معه جنود لا جند واحد ، وأما العدد فإنهم كذا وكذا ألفا وقوم موسى كذا وكذا ألفا ، فذلك لا يعلم إلا بالخبر وليس بنا إلى معرفة ذلك حاجة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) ؛ أي : من الغرق والهلاك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى).

قال بعضهم : وأضل فرعون قومه وما هداه الله.

وقال بعضهم : وأضل فرعون قومه وما هداهم حيث قال : (وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ) [غافر : ٢٩].

وقيل : أضل قومه وما هدى نفسه.

وقال بعضهم : (وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى) [طه : ٧٦] ، أي : آمن ؛ وذلك أنه بالإيمان تزكو الأعمال وتنمو ، وبه يثاب عليها ويؤجر.

٢٩٦

وقال القتبي (١) : (لا تَخافُ دَرَكاً) أي : لحاقا.

وقوله : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ) أي : لحقهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ).

هذا خبر يخبر عما أنعم عليهم ومن على أوائلهم وآبائهم من حضر رسول الله ، يذكر هؤلاء بما أنعم ومنّ على أولئك ، وإلا لم يكن هؤلاء يومئذ ، وفيه تذكير النعم والمنن على الصحابة في أواخر أمورهم ؛ لأنه أمنهم في آخر أمرهم من عدوهم وأيأسهم عن عود هؤلاء إلى دينهم.

وفيه تذكير لنا فيما أنعم علينا ومنّ في أوائل أمورنا وآخرها ، ليس التذكير لبني إسرائيل خاصة ، ولكن لكل من أنعم عليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ).

لسنا ندرى أن الأيمن هو اسم ذلك الجبل ، أو سماه الأيمن ؛ ليمنه وبركته ، وقال ـ عزوجل ـ في آية أخرى : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) [القصص : ٣٠].

أو سماه الأيمن من يمين موسى عليه‌السلام.

فإن كان هو من اليمن والبركة فهو كذلك ؛ لأنه به كان بدء وحى موسى عليه‌السلام.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى).

يذكر هؤلاء ما وسع على أوائلهم من الرزق وأخصهم ؛ ليستأدى بذلك الشكر على ما أنعم عليهم ، وذلك تذكير لنا ولمن وسع عليه ذلك ؛ إذ لم يزل علينا يوسع الرزق من أول عمرنا إلى آخره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ).

أي : قلنا لهم : كلوا من طيبات ما رزقناكم.

ثم يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون قوله : (طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي : من حلالات ما رزقناكم ، فإن كان على هذا ففيه دلالة أنه يرزق ما ليس بحلال.

والثاني : (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي : ما تطيب به أنفسكم ، ففيه دلالة أنه يجوز لنا أن نختار من الأطعمة ما هو أطيب إن كان على ما تستطيب به الأنفس.

وقوله تعالى : (وَلا تَطْغَوْا فِيهِ).

الطغيان : هو المجاوزة عن الحدود التي جعلت ، أي : لا تطغوا فيما رزقكم من

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٨١).

٢٩٧

الطيبات وتجعلونه في غير ما جعل وتتجاوزوا عن القدر الذي جعل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) برفع الحاء والخفض جميعا ، يحل أن ينزل عليكم غضبي ، ويحل بالرفع : يجب.

وقوله : (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى).

قيل (١) : (هَوى) : هلك ، أي : من يجب عليه عذابي فقد هلك ، وكذلك قال القتبي (٢) : (هَوى) ، أي هلك ، يقال : هوت أمه : هلكت.

وقيل : (فَقَدْ هَوى) ، أي : سقط في النار ، يقال : هوى في موضع كذا (٣).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى).

يحتمل قوله : (لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) عن الشرك ، ورجع عنه ، وآمن بتوحيده ، وعمل صالحا فيما بين ذلك ، (ثُمَّ اهْتَدى) : في حفظ أمره والنهي عما نهى.

والثاني : (لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ) : عن جميع المناهي وآمن بجميع ما أمر.

وقوله : (ثُمَّ اهْتَدى) أي : دام على ذلك وثبت ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) [فصلت : ٣٠].

قوله تعالى : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً)(٨٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى).

قال بعضهم (٤) : إن موسى ـ صلوات الله عليه ـ خرج بنفر من قومه إلى الجبل ؛ ليأخذ التوراة ، فعجل حتى خلفهم وتركهم وراءه ، فعند ذلك قال له ربه : (وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى).

وقال بعضهم : لم يخرج بنفر ، ولكن خرج وحده وترك قومه ، فأصابهم ما أصاب من

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٢٢٧).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٨١).

(٣) ينظر : اللباب (١٣ / ٣٤٣ ـ ٣٤٤).

(٤) قاله البغوي (٣ / ٢٢٧).

٢٩٨

الافتتان بالعجل الذي اتخذه السامري.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي).

هذا على التأويل الأول ، أي : هم يجيئون على أثري.

وعلى التأويل الثاني ، أي : تركتهم على ديني وسبيلي ، وهو قول الحسن وقتادة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى).

أي : عجلت إليك ربّ فيما دعوتني إجابة وطاعة فيما أمرتني ؛ لترضى ، هذا على التأويل الذي قال : إنه خرج وحده.

وعلى التأويل الذي يقول : إنه خرج بنفر يقول ـ والله أعلم ـ : (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى) ؛ إذ لم يكن لي سبب ولا معنى يمنعني عن الإسراع إلى ما دعوتني وأمرتني.

وهكذا عندنا أن من لزمه أمر الله وفرضه ، لزمه الإسراع والعجلة إلى القيام بأدائه ، إذا لم يكن هناك سبب يمنعه عن التعجيل له والقيام به ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ).

الفتنة : هي المحنة التي فيها شدائد وبلايا ، ومعنى الافتتان هاهنا : هو ما فتنهم بالعجل الذي اتخذه السامري ، جعله جسدا بدم ولحم على ما ذكر ، ونفخ فيه الروح ، وجعل له خوار ، فذلك معنى الافتتان منه إياهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ).

أضاف الإضلال إلى السامري ؛ لأنه كان سبب إضلالهم حيث اتخذ لهم العجل ، ودعاهم إلى عبادته ، وقال : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) ، فأضاف الإضلال إليه ؛ لما ذكرنا من دعائه إليه والسبب الذي كان منه ، وإلا لم يكن لأحد إضلال أحد ، وأضاف الافتتان إلى نفسه ؛ لما ذكرنا من جعل العجل جسداني من لحم ودم وروحاني.

فإن قيل : ما معنى إجراء ما أجرى على يدي السامري مع ضلالة من الآية؟

قيل : هو ـ والله أعلم ـ أنه لو ادعى لنفسه الرسالة ، لكان لا يتهيأ له ذلك ، لكنه إنما ادعى أنه إله وآثار العبودية فيه ظاهرة قائمة يعرف كل أحد أنه ليس بإله ، وأما الرسالة فإنه يجوز أن تشتبه على الناس وتلتبس عليهم ، فيمنع الله ـ عزوجل ـ من ليس برسول إذا ادعى الرسالة إقامة دلالة الرسالة لاشتباهها على الناس ، وأما الألوهية فلا يمنع عن إجراء ذلك ؛ لأن آثار العبودة وأعلام العجز فيها ظاهرة يعرفها كل أحد.

وهكذا من أتى [أهل] قرية لم يبلغهم هذا القرآن فقرأ هذا القرآن وقال : إني رسول الله إليكم [لم] يقدره الله على قراءته ، ولو ادعى الربوبية لم يمنع ؛ لأن آثار العجز عن إتيان

٢٩٩

مثله ظاهرة وفي الرسالة لا ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً).

والأسف : هو النهاية في الغضب ، والنهاية في الحزن ، وهكذا جبل الله رسله وأنشأهم على نهاية الغضب لله والأسف له عند معاينتهم الخلاف لله والتكذيب له ؛ كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ ...) الآية [الشعراء : ٣] ، وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً).

على تأويل الحسن : وعدا حسنا ، هو الثواب الذي وعد لهم بالدين والسبيل.

(قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) ، أي : على ديني وسبيلي.

وقال بعضهم (١) : (وَعْداً حَسَناً) أي : عدلا وصدقا ؛ حيث وعد لهم أنه يرجع إليهم عند رأس أربعين أو ثلاثين ليلة ، على ما ذكر ـ عزوجل ـ : (أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ) على تأويل الحسن : أفطال عليكم عهد ما وعد لكم من دون الثواب والجزاء على دينه وسبيله حتى نسيتم ذلك.

وعلى تأويل من قال : إن الوعد هو ما وعد أنه يرجع إليهم على رأس كذا يقول : أفطال عليكم ومضى وعدي حتى فعلتم ما فعلتم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

أي : أم تعمدتم الخلاف فيحل عليكم غضب من ربكم.

(فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي) يحتمل الموعد الوجهين اللذين ذكرناهما فيما مضى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا) برفع الميم وكسره : فمن قرأه (بِمَلْكِنا) برفع الميم ، أي : بسلطاننا وطاقتنا ، أي : لم نفعل بسلطاننا وطاقتنا.

ومن قرأه : (بِمَلْكِنا) بكسر الميم [أي] : بما ملكت أيدينا.

وقال الكسائي : من قرأ (بِمَلْكِنا) ، معناه : بسلطاننا ، ومن قرأه : (بِمَلْكِنا) بكسر الميم ونصبه معناهما : وهو ما ملكت أيدينا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ).

قيل : أثقالا من زينة القوم ، أي : من حلى القبط.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقَذَفْناها) ، أي : قذفنا ما حملنا من حليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ).

أي : كذلك قذف ما حمل السامري من حليهم.

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٢٢٧).

٣٠٠