تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أي أدعو ربي عسى ألا أكون بعبادة غير الله شقيّا ، كما كان قومه بعبادة غير الله أشقياء.

والثاني : (أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي) إذا دعوته (شَقِيًّا) ، أي : خائبا مردود الدعاء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ) : اعتزال الدّار والمكان بالهجرة إلى الأرض المباركة التي ذكر أنه نجاه [إليها] ، واعتزل ـ أيضا ـ صنيعهم الذي كانوا يصنعون من عبادتهم غير الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) ، وقال في آية أخرى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) ذكر الهبة ؛ لأن الولد هبة من الله تعالى ، خلقه على الإفضال منه والإنعام عليه ؛ لأنه يعطى لا عن حق كان لهم عليه ، فذلك فائدة ذكر الولد هبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) هو ظاهر ، وهب له ما ذكر ، ثم أخبر ـ عزوجل ـ أنه جعلهم أنبياء.

وقوله : (وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) : اختلفوا فيه :

قال بعضهم (١) : الرحمة ـ هاهنا ـ : هي النبوة ، أي : وهبنا لهم النبوة.

وقال بعضهم (٢) : الرحمة : النعمة ، أي : من نعمته وهب لهم ما وهب من النبوة وغيرها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) اختلف فيه :

قال بعضهم : قوله : (لِسانَ صِدْقٍ) : هي الكتب التي أنزلها الله فيها أنباء صدقهم وفضلهم ، ومنزلتهم.

وقال بعضهم : (لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) هم أولادهم الذين جعلهم أنبياء [و] رسلا يذكرون ويعظون من بعدهم ؛ لأن جميع الأنبياء والرسل كانوا من نسل إبراهيم من لدنه إلى لدن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فهم كانوا لسان صدق عليّا ، حيث يذكرون بكل خير وبكل بركة ويمن.

وقال بعضهم : (لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) هو ما آمن جميع أهل الأديان به ـ أعني : بإبراهيم ـ ودانوا به جميعا ، وعلى ذلك يخرج تخصيص إبراهيم وآله بالصلاة وبالبركة

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٣ / ١٩٨).

(٢) انظر : تفسير البغوي (٣ / ١٩٨).

٢٤١

عليهم والثناء على قول قوم حيث قالوا : «اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم».

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا)(٥٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى) : هو ما ذكرنا في قوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) [مريم : ٤١] ، وقوله : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ) [مريم : ١٦] ـ على قول الحسن ـ صلة قوله : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) [مريم : ٢] ، أي : اذكر رحمة ربك موسى.

وعلى قول غيره من أهل التأويل ، أي : اذكر لهم نبأ موسى وقصته في الكتاب ، وهو ما ذكرنا فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) ، و (مُخْلَصاً) ، وقد قرئ بالنصب والخفض جميعا :

قال بعضهم (١) : (مُخْلَصاً) : أخلصه الله واصطفاه واختاره لرسالته ونبوته.

وقوله : (مُخْلَصاً) بالخفض ، أي : أخلص عبادته وتوحيده له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا).

قال بعضهم : الرسول هو الذي ينبئ ويخبر عن التأويل.

وقال بعضهم : الرسول هو الذي ينزل عليه الوحي والكتاب ، والنبي هو الذي ينبئ لا عن لسان ، وأصل النبي هو الذي ينبئ عن كل خير وبركة ، وسمي : نبيّا ، لاجتماع خصال فيه ، كالصدّيق لا يسمى إلا بعد اجتماع كل خصال الخير والبركة ما لو انفرد بكل خصلة من تلك الخصال سمّي : صادقا ، فإذا اجتمع ذلك سمي : صدّيقا ، فعلى ذلك النبي سمي نبيّا لاجتماع خصال [فيه] ، وهو ما روي في الخبر : «الرّؤيا الصّالحة جزء من خمسة وأربعين جزءا من النّبوّة» (٢) ، «والسّمت الحسن جزء من خمسة وعشرين جزءا من النّبوّة» (٣)

__________________

(١) قاله ابن جرير (٨ / ٣٥٠).

(٢) أخرجه البخاري (١٤ / ٤١٠) كتاب التعبير : باب من رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المنام (٦٩٩٤) ، ومسلم (٤ / ١٧٧٤) كتاب الرؤيا (٢٢٦٤) عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» وأخرجه البخاري (٦٩٨٧) ومسلم (٧ / ٢٢٦٤) عن أنس بن مالك عن عبادة بن الصامت باللفظ السابق.

وأخرجه البخاري (٦٩٨٨) ، ومسلم (٨ / ٢٢٦٣) بلفظ سابقه ، وأخرجه البخاري (٦٩٨٩) عن أبي سعيد الخدري بنحوه. وفي الباب عن ابن عمر وابن عباس ولقيط بن عامر وغيرهم.

(٣) أخرجه البخاري في الأدب المفرد (٤٦٨) ، (٧٩١) ، وأبو داود (٢ / ٦٦٢) كتاب الأدب : باب في الوقار (٤٧٧٦) عن ابن عباس أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن الهدي الصالح والسمت الصالح والاقتصاد ـ

٢٤٢

فهذا يدلّ أن النبي إنما سمي : نبيّا ؛ لاجتماع خصال الخير والبركة فيه ، كما ذكرنا في الصديق ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) ، فإن كان الأيمن من اليمن والبركة ، فيكون تأويله : وناديناه من جانب الطور المبارك واليمن ، وكذلك روي في الخبر أن موسى ـ عليه‌السلام ـ قال : «أتاني من جبل طور سيناء ، واطلع من جبل ساعورا ، وظهر من جبل فاران» ، ومعناه : أتانى وحي ربي من جبل طور سيناء ، «واطلع من جبل ساعورا» ، أي : أتى وحي عيسى من جبل ساعورا ، وأتى وحي محمّد في جبل فاران ؛ فهو على اليمن : يمن الجبل وبركته.

وقال بعضهم (١) : هو يمين الجبل.

وقال بعضهم (٢) : يمين موسى.

قال أبو بكر الأصم : هذا لا يعلم إلا بالخبر ، ولا نفسره أنه ما ذا أراد به؟ مخافة التغيير ؛ لأنه ذكر في موضع الاحتجاج عليهم ، فإن زادوا أو نقصوا عما في كتبهم يبطل الاحتجاج به عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا).

قال أهل التأويل (٣) : هو تقريب بالمكان ، ولكن عندنا هو تقريب المنزلة والقدر والفضل ، هذا معروف ، وهو أسلم ، (نَجِيًّا) من المناجاة ، أي : ناجاه من حيث لم يطلع على ذلك غيرهما ، وسمّى موسى بهذا ؛ لأنه أخلص نفسه لله وسلّمها له ، ولذلك سمى المصلي ـ أيضا ـ : مناجيا ربه على ما روي في الخبر «انظر من تناجي» (٤) حيث فرغ نفسه

__________________

ـ جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة».

(١) قاله قتادة : أخرجه ابن جرير (٢٣٧٥٩) وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٩٢).

(٢) قاله ابن جرير (٨ / ٣٥٠) والبغوي (٣ / ١٩٨).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه الفريابي وابن أبي شيبة في المصنف وهناد في الزهد وعبد بن حميد وابن جرير (٢٣٧٦٠) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٩٢) ، وهو قول مجاهد وسعيد بن جبير وغيرهما.

(٤) أخرجه مالك (١ / ٨٠) كتاب الصلاة : باب العمل في الصلاة (٢٩) وأحمد (٤ / ٣٤٤) ، والبخاري في (خلق أفعال العباد) (٧١) والنسائي في الكبير (٢ / ٢٦٤ ـ ٢٦٥) من طريق أبي حازم التمار عن البياضي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج على الناس وهم يصلون وقد علت أصواتهم بالقراءة فقال : «إن المصلي يناجي ربه فلينظر بما يناجيه به ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن».

وله شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه الحاكم (١ / ٢٣٥ ـ ٢٣٦) وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي ، وانظر : الصحيحة للعلامة الألباني (١٦٠٣).

٢٤٣

عن جميع الأشغال وسلمها إليه فسمّي لذلك مناجيا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) ، هو ما ذكرنا فيما تقدم.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا)(٥٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ).

على قول الحسن هو صلة قوله : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) [مريم : ٢] أي : اذكر لهم رحمة ربك إسماعيل.

وعلى قول غيره من أهل التأويل على الابتداء ، أي : اذكر لهم نبأ إسماعيل وقصته في الكتاب على الاحتجاج له عليهم ؛ لأن هذه الأنباء والقصص كانت في كتبهم ، فأخبر رسوله عن تلك الأنباء والقصص على ما كانت ؛ ليخبرهم ؛ فيعلموا أنه إنما عرفها بالله ؛ ليدلهم ذلك على النبوة ورسالته.

ثم اختلف في إسماعيل : قال عامة أهل التأويل (١) : هو إسماعيل بن إبراهيم ، صلوات الله عليهما.

وقال بعضهم : هو الذي قالوا : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٦] ، ولكن لا نعلم ذلك إلا بالخبر عن الله ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) :

قال عامة أهل التأويل (٢) : سماه : (صادِقَ الْوَعْدِ) ؛ لأنه وعد رجلا أن يقيم عليه وأن ينتظره حتى يرجع إليه ، فأقام مكانه أياما ينتظره للميعاد حتى رجع إليه.

لكن لا يحتمل أن يكون مثل إسماعيل يعد عدة ولا يستثنى ، وقد نهى الله رسوله أن يقول : إني فاعل كذا غدا حتى يستثني ، وهو قوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤] ، ويكون قوله : (صادِقَ الْوَعْدِ) ، أي : صدّيقا ، والصّديق هو القائم بوفاء كل حق ظهر له ؛ لأن كل مؤمن يعتقد في أصل إيمانه طاعة ربه في كل أمر يأمر به والانتهاء عن كل نهى ينهاه ، ووفاء كل حق عليه ، فسماه : صادق الوعد ؛ لقيامه

__________________

(١) قاله ابن جرير (٨ / ٣٥١) ، والبغوي (٣ / ١٩٩).

(٢) قاله سهل بن عقيل ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٧٦٧) ، وهو قول مقاتل والكلبي.

٢٤٤

بوفاء كل حق ظهر له وتجلى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) قد ذكرناه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) ، أي : [يأمر] قومه بالصلاة والزكاة ، وإن كانت الصلاة هي الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة ، ففيه أنهما كانتا في الأمم الماضية ، وإن كان الدعاء والثناء وما به تزكو الأنفس وتصلح ، فهو على جميع الخلائق ، ذلك والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) ظاهر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ) هو ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) قد ذكرناه أيضا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) قال الحسن (١) : «رفعناه» ، أي : نرفعه في الجنة.

وقال أهل التأويل (٢) : رفعه إلى السماء الرابعة ، فهو ميت فيها ، وكلام نحو هذا.

ولكن عندنا : يشبه أن يكون رفعه إياه في المنزلة والقدر والرفعة عند الله وعند الناس جميعا ، على ما ذكرنا في قوله : (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) [مريم : ٥٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ، أي : بالنبوة أو الرحمة التي ذكر فيما تقدم ، والرحمة : هي النعمة ؛ فهذا يرد قول أهل الاعتزال ؛ لأنهم يقولون : لا يخص الله أحدا بالنبوة أو بشيء من الإفضال إلا من يستحق ذلك ويستوجبه ، فأخبر الله ـ عزوجل ـ أن ذلك منه إنعام وإفضال عليهم.

(مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا) :

الأنبياء كانوا من ذرية آدم ، ومن ذرية من حمل مع نوح ، ومن ذرية إبراهيم أيضا ، ومن ذرية إسرائيل ـ أي : يعقوب ـ ومن ذرّية من هداه للتوحيد واجتباه للرسالة والنبوة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) :

قال بعض أهل التأويل : هذا في مؤمنى أهل الكتاب : عبد الله بن سلام وأصحابه إذا

__________________

(١) وهو قول البغوي (٣ / ١٩٩).

(٢) قاله كعب الأحبار أخرجه ابن جرير (٢٣٧٦٨) عن ابن عباس عنه ، وهو قول أبي سعيد الخدري وأنس بن مالك ومجاهد وغيرهم.

٢٤٥

تتلى عليهم آيات القرآن بعد ما آمنوا (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا).

ويشبه أن يكون هذا في أولئك الذين ذكر أنه أنعم عليهم كانت لهم آيات في كتبهم فيها سجود إذا تليت عليهم خروا لله سجدا وبكيّا.

أو أن يكون لا على حقيقة السجود ، ولكن على الخضوع له والقبول لحججه وبراهينه التي تليت عليهم ، أو أن يكونوا لا يملكون أنفسهم إذا رأوا آيات الله وسلطانه ، ولكن وقعوا سجدا على ما أخبر عن سحرة فرعون عند معاينتهم الآيات ، حيث قال : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً) [طه : ٧](فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) [الشعراء : ٤٦] ليس أن سجدوا له ، ولكن يلقون سجدا لما لا يملكون أنفسهم عند معاينتهم الآيات.

قال أبو عوسجة : (وَبُكِيًّا) ، فيه ثلاث لغات : بكيا ، وبكيّا ، وبكيّا ، وهو جماعة الباكي.

وقوله : (نَجِيًّا) يقال : فلان نجيّ فلان ، أي : موضع [سره].

ويحتمل قوله : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) : أن يكون كناية عن الصلاة ، وصفهم ـ عزوجل ـ أنهم كانوا يكونون في الصلاة خاشعين باكين.

قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا)(٦٥)

ثم قال : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) ، أي : خلف من بعد أولئك الذين وصفهم ـ عزوجل ـ بالصلاة لله ، والخشوع لله فيها ، والبكاء ، (خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ) ، أي : جعلوها لغير الله ، وهي الأصنام التي كانوا يعبدونها ، فإذا جعلوها وصرفوها إلى غير الذي يصلي [إليه] أولئك فقد أضاعوها ؛ لأنهم كانوا يصلون للأصنام الصلاة التي كان يصلي أولئك لله.

ويحتمل أن يكون قوله : (أَضاعُوا الصَّلاةَ) ؛ لأن الصلاة هي آخر ما يترك ويضيع ؛ لأنه روى في الخبر أنه قال : «سينقض عرى الإسلام عروة فعروة ، أوّلها الأمانة ، وآخرها الصّلاة».

٢٤٦

وقال بعض أهل التأويل (١) : (أَضاعُوا الصَّلاةَ) ، إضاعتها : تأخيرها عن مواقيتها ، لا أن تركوها أصلا ، فهذا في أهل الإسلام إن ثبت ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) ، أي : آثروا الشهوات على العبادات ، وجعلوا الشهوات هي المعتمدة دون العبادات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) :

قال بعضهم (٢) : الغى : واد في جهنم ، لكن هذا لا يجوز أن يقال إلا بالخبر عن رسول الله أنه قال : واد في جهنم.

وقال بعضهم (٣) : الغى : العذاب.

وقال بعضهم (٤) : الغى : الشر.

وجائز أن يكون سمى جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا بالغواية باسم أعمالهم : غيا ، ويجوز تسمية الجزاء باسم سببه ، كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ونحوه.

ثم استثنى فقال : (إِلَّا مَنْ تابَ) عن الشرك ، (وَآمَنَ) بالله (وَعَمِلَ صالِحاً).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) ، يشبه أن يكون قوله : (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) ، أي : لا ينقصون من حسناتهم التي عملوها في حال إيمانهم لمكان ما عملوا من الأعمال في حال كفرهم ، بل يبدل سيئاتهم حسنات على ما أخبر تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) ، وقال في آية [أخرى] : (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) [الأنفال : ٣٨] أخبر أنهم إذا آمنوا وانتهوا عن الشرك لا يؤاخذهم بما كان منهم في حال كفرهم ، والله أعلم.

ثم بيّن أية جنة ، فقال : (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) ، ثم يحتمل إيمانهم بالغيب ، أي : بالله آمنوا به بالخبر وإن لم يروه ، ويحتمل الغيب : الجنة ، أي : صدقوا بها وإن لم يروها والنار والبعث بالغيب.

__________________

(١) قاله ابن مسعود ، أخرجه ابن جرير (٢٣٧٨٣) وعبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٩٩) وهو قول القاسم بن مخيمرة وعمر بن عبد العزيز ومسروق.

(٢) قاله ابن مسعود ، أخرجه الفريابي وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير (٢٣٧٩٢ ـ ٢٣٧٩٦) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه ، والبيهقي في البعث من طرق عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٠) وهو قول عبد الله بن عمرو وعائشة والبراء وغيرهم.

(٣) ذكره البغوي (٣ / ٢٠١).

(٤) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٧٩٧).

٢٤٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) أي : كان موعوده آتيا ، ولكن ذكر (مَأْتِيًّا) ؛ لأن كل من أتاك فقد أتيته ، فسمّي لذلك ما أتيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً) ، وقال في موضع آخر : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً* إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) [الواقعة : ٢٥ ، ٢٦] أي : لا يسمعون باطلا ، ولا ما يكره بعضهم من بعض ، ولا ما يأثم بعضهم بعضا إلا سلاما ، والسلام كأنه اسم كل خير وبركة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

قال الحسن (١) : إن أطيب العيش وأحبّه إلى العرب الغداء والعشاء ، فأخبرهم الله ـ عزوجل ـ أن لهم في الجنة الغداء والعشاء ، وأطيب العيش إلى العجم لباس الحرير واللؤلؤ ، فأعلمهم أن لهم في الجنة ذلك بقوله : (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ) [الحج : ٢٣].

ويقول أهل التأويل (٢) : ليس في الجنة بكرة ولا عشي ، ولا ليل ولا نهار ، ولكن يؤتون على ما يحبون من البكرة والعشي.

عن ابن عباس (٣) قال : على مقادير الليل والنهار.

ويشبه أن يكون قوله : (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا) ليس على تخصيص وقت دون وقت ، ولكن الأوقات كلها في كل وقت يحبون ويشتهون ، كقوله : (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ) [الزخرف : ٧١] ، (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ) [الواقعة : ٢٠].

ويخرج ذكر البكرة والعشي : أن زمان الجنة يكون مشبها البكرة من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ومثل الوقت الذي يكون بعد غروب الشمس إلى أن يظلم ؛ لأنه أخبر أن ظله ممدود بقوله : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة : ٣٠].

ثم أخبر أن تلك الجنة التي ذكر أن فيها كذا هي (الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) يحتمل أن يكون وعد الجنة للبشر كلهم بشرائط شرط عليهم ، إن وفوا بها فلهم الجنة جميعا ، وإن لم يفوا بها فلا ، فمن وفى بشرائطه التي شرط يجعل الذي كان وعد للذي لم يف ـ إذا وفى ـ للذي وفي بذلك ، فهو الميراث الذي ذكر ، وعلى ذلك يخرج قوله :

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠١).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٣٨٠٣) وعبد بن حميد وهناد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠١).

(٣) أخرجه سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠١).

٢٤٨

(أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ. الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ...) الآية [المؤمنون : ١٠ ، ١١] ، والوارث هو الباقى من المورث والخلف عن الميت.

وقوله : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) :

قال بعضهم (١) : الخلف ـ بالجزم ـ يستعمل في موضع الذم ، والخلف بالتحريك والنصب في موضع الحمد.

وقال بعضهم : هما سواء ، ويستعملان جميعا في موضع واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ).

هذا الكلام منه لا يكون إلا عن سؤال كان منه ، كأنه قد كان استبطأ نزول جبريل عليه ، فعند ذلك قال له : إنا لا نتنزل إلا بأمر ربك.

ثم فيه أنه لم يقل ذلك له إلا بأمر الله ؛ لأن الله أخبر أنهم : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) [الأنبياء : ٢٧] : فلا يحتمل أن يقول له ذلك من تلقاء نفسه ؛ فيجعل ذلك آية في كتاب الله تتلى.

قوله ـ عزوجل ـ : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ).

كأن هذا الكلام موصول بقوله : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) ؛ لأنهما جميعا كانا يعلمان أن له ما بين أيديهم وما خلفهم وما بين ذلك ؛ فدل ذلك أنه موصول بالأوّل ، وجهة الصلة بالأوّل هو أن يقال : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) ، لا نتقدم إلا بأمره ، ولا نتأخر ولا نعمل شيئا إلّا بأمره ، وهو كقوله : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : ١].

وأمّا غيره من أهل التأويل اختلفوا فيه :

[قال بعضهم] : قوله (٢) : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) : هو الآخرة ، (وَما خَلْفَنا) : ما مضى من الدنيا ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) : الحال التي نحن فيها.

وقال بعضهم (٣) : قوله : (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) : الدنيا ، (وَما خَلْفَنا) : الآخرة ، (وَما بَيْنَ ذلِكَ) : ما بين النفختين ، وأمثال هذا ، لكن الذي ذكرنا بدءا أولى وأشبه ؛ إذ هو على الصلة بالأوّل ؛ إذ لا يتقدم ولا يتأخر ولا يعمل شيئا إلا بأمره ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٢٠١).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٢) ، وهو قول عكرمة والربيع وأبي العالية.

(٣) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٣٨١٦ ، ٢٣٨١٧) وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٢) ، وهو قول ابن عباس والضحاك.

٢٤٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا).

هذا يخرج على وجوه ثلاثة :

أحدها : ما قال بعض أهل التأويل : إن جبريل قد كان احتبس عنه زمانا ، فقال أهل مكة : قد ودعه ربّه وقلاه ؛ فنزل : (وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)(١) [الضحى : ١ ـ ٣] على ما قال المشركون ، فيخرج على هذا قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) على الترك ، أي : ما كان ربك تركك لما قال أولئك من التوديع والقلى.

ويحتمل : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) كملوك الأرض يطلب خدمهم وخولهم وقت سهوهم وحالة غفلتهم ، فيقضون حوائجهم وحوائج من يطلب منهم القيام بها ، أي : ما كان ربك بالذي يسهو ويغفل كملوك الأرض.

والثالث : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) بتأخير نزوله عن وقت النزول ، بل أنزل عليك في الوقت الذي هو وقت النزول.

فهذان الوجهان يخرجان على السهو والغفلة ، والأول على الترك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ).

أي : اصبر نفسك عليها وعلى طاعته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) ، أي : ما تعلم له شريكا تشتغل بعبادته عن عبادة الله ، إنما هو إله واحد ، لا راحة لك عن عبادته ولا ما يشغلك عنه.

وقال بعض أهل التأويل (٢) : هل تعلم أحدا اسمه : (الله) سواه؟!

وقال بعضهم (٣) : هل تعلم له مثلا وشبيها؟!

قوله تعالى : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا)(٧٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا).

__________________

(١) أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٢).

(٢) قاله الكلبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٢٠٣) وقاله ابن عباس بنحوه.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٣٨٢١ ، ٢٣٨٢٢) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٣) وهو قول مجاهد وقتادة وابن جريج.

٢٥٠

هذا الكلام يخرج على وجهين :

أحدهما : على إنكار البعث : (لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا) أي : ما أخرج حيّا.

والثانى : على التهزؤ والهزء ، جواب ما قال لهم أهل الإسلام : إنكم تبعثون وتحيون ، فقالوا عند ذلك : ذلك على التهزؤ بهم والسّخرية.

ثم ذكرهم بدء حالهم حيث لم يكونوا شيئا فخلقهم فقال : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) فإن قدر على خلقه في الابتداء ولم يك شيئا كان على إحيائه وبعثه بعد ما كان شيئا أقدر (١).

ثم أقسم أنهم يبعثون فقال : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) ، أي : لنجعلهم والشياطين الذين أضلّوهم ، كقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ ...) الآية [الصافات : ٢٢ ، ٢٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) :

قال بعضهم (٢) : (جِثِيًّا) : جماعات ، كقوله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) [الزمر : ٧١].

وقال بعضهم (٣) : (جِثِيًّا) على الركب ؛ لأنّ أقدامهم لا تحمل ؛ لشدّة هول ذلك اليوم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) :

قال بعضهم : الشيعة : الصنف ، أي : من كل صنف ، والشيعة : الأتباع ، كقوله : (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) [القصص : ١٥] أي : من أتباعه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) ، أي : تمردا وعنادا ، والعاتي : هو القاسي المتمرد في عتوّه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَ) ، أي : لنخرجن ، أي : نبدأ بهم من كان منهم أشد على الرحمن تمردا وعنادا وهم القادة والرؤساء منهم ، فيقذفون في النّار أولا ، ثم الأمثل [فالأمثل] على المراتب التي كانوا في الدّنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) ، أي : أعلم بمن أولى بها

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٣ / ١٠٧ ، ١٠٨).

(٢) قاله ابن عباس كما في تفسير البغوي (٣ / ٢٠٣).

(٣) قاله الحسن والضحاك كما في تفسير البغوي (٣ / ٢٠٣).

٢٥١

صليّا ، أي : يصلي بالنار ، وهم القادة والكفرة.

[وقوله : (يَلْقَوْنَ غَيًّا) قال أبو عوسجة : الغيّ : الشرّ] ، (جِثِيًّا) ، قال : جماعات ، والجاثي : هو الراكب على ركبتيه ، والشيعة : الصنف من الناس.

وقال القتبي (١) : (جِثِيًّا) : جمع جاث ، وفي التفسير : جماعات.

وقال قتادة (٢) في قوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) قال : لا سمى لله ولا عدل ولا مثل ، كل خلقه يقر له ويعرفه ويعلم أنه خالقه.

وقال بعضهم (٣) : لا يسمى أحد باسمه ، يعني : بالله.

وقال بعضهم (٤) : بالرحمن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها).

اختلف فيه : قال بعضهم : الآية في الكفرة خاصّة ، واستدلّ بأوّل الآية بقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) إلى آخر ما ذكر ، والمؤمنون لا يحشرون مع الشياطين ، ولكن إنما يحشر الكفار مع الشياطين ، كقوله : (احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ. مِنْ دُونِ اللهِ) [الصافات : ٢٢ ، ٢٣] ، ويكون قوله : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) على ابتداء منع الورود عليها والنجاة منها.

وقال بعضهم : الآية في المؤمنين والكافرين جميعا ، لكن اختلف في الورود :

فقال بعضهم (٥) : الورود : الحضور دون الدخول ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ أخبر أن من أدخل النار فقد أخزاه بقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) [آل عمران : ١٩٢].

وقال بعضهم (٦) : الورود : الدخول فيها ، واستدلّ بقوله : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) [الأنبياء : ٩٨] وبقوله : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ...) الآية [هود : ٩٨] ، يقول : يدخل الفريقان جميعا فيها ، لكنها تصير جامدة وبردا على المؤمنين على ما صارت بردا وسلاما على إبراهيم ، ثم تصير

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧٥).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٣٨٢٤).

(٣) تقدم أنه قول الكلبي.

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، والبيهقي في الشعب عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٣).

(٥) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٨٤٤ ، ٢٣٨٤٥).

(٦) قاله ابن عباس : أخرجه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير (٢٣٨٣٣ ، ٢٣٨٣٥) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٥).

٢٥٢

حارة محرقة للكفار والظلمة.

قال الحسن : لا يحتمل أن يدخل أهل الإيمان النار ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ آمن المؤمنين أن يكون عليهم خوف أو حزن بقوله : (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٣٨] ، فلو كانوا يدخلون النار ، لكان لهم خوف وحزن ، وقد أخبر أن (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) دلّ أنهم لا يدخلونها.

وجائز أن يكونوا واردين جميعا ، داخلين فيها ، لا دخول تعذيب فيها وعقاب ؛ لأنه ذكر أن ممرهم جميعا على الصراط لجهنم كالسطح للدار ؛ كمن حلف ألا يدخل دارا فتسور بسورها أو صعد سطحا من سطوحها حنث ويصير داخلا فيها ؛ فعلى ذلك جائز أنهم إذا مرّوا على الصراط نجا أهل الإيمان فمرّوا به ، وتزل أقدام الكفار فيها ؛ فبقوا فيها ، فكان الفريقان يوصفان بالدخول على الوجه الذي وصفنا.

وقال بعضهم : ورود المسلمين : المرور بهم على الجسر بين أظهرها ، [و] ورود المشركين : أن يدخلوها. وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الزّالّون والزّالّات» (١) وما ذكر الحسن أنه من المرسلين ألا يكون عليهم خوف ولا حزن ، فجائز أن يكون الله يدخلهم فيها على غير جهة العقوبة فلا يكون لهم خوف ولا حزن ، ألا ترى أنه أخبر أنه جعل الملائكة أصحاب النار بقوله : (وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً) [المدثر : ٣١] ثم لا يكون لهم خوف ولا حزن وهم ممن أوعدوا بها إذا خالفوا أمر الله وعصوه بقوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ ...) الآية [الأنبياء : ٢٩] ؛ ألا ترى أنه أخبر أن أهل الجنة يطلعون على أهل النار ثم لا يخافون ولا يحزنون بقوله : (فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥] وهم في الدنيا إذا اطلعوا عليها لا شك أنهم يخافون ويحزنون ويسوءهم ذلك أشدّ الخوف ثم في الآخرة لا ، فعلى ذلك جائز أن يكونوا يردونها ويدخلونها ولا يخيفهم ذلك ولا يحزنهم ولا يسوءهم ، والله أعلم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) أي : قضاء واجبا ، (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) الشرك والفواحش (٢)(وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) على ركبهم.

قوله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٣٨٤٩).

(٢) ينظر : اللباب (١٣ / ١٢٠ ـ ١٢١).

٢٥٣

الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا)(٧٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) قد ذكرناه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) : كأن هذا القول من الكفرة خرج جواب ما احتج عليهم أهل الإيمان بالآيات التي ذكروا حجابا عليهم ، فيقولون : إنكم تقولون : إن الدنيا والآخرة لله ، فقد وسع علينا الدنيا وضيق عليكم ، فعلى ذلك يوسع الآخرة علينا ويضيق عليكم كما فعل في الدنيا ؛ إذ لا يجوز أن يوالينا في الدنيا ويعادينا في الآخرة ، وعلى هذا قولهم : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) [سبأ : ٣٥] ، فظنوا أنه لما وسع عليهم وأحسن بهم الندى والمجلس كذلك يكونون في الآخرة ، فأكذبهم الله ، وردّ عليهم ذلك فقال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً). أخبرهم بما عرفوا هم أنهم كانوا أهل السعة والزينة ، ثم أهلكوا بتكذيبهم الرسل وعصيانهم ربهم ، فلو كان ما ذكر هؤلاء الكفرة لكانوا لا يهلكون ؛ فيلزمهم بما ذكر أن من وسع عليه الدنيا وضيق عليه الآخرة إنما يكون بحق المحنة ، لا بحق المنزلة والقدر ، وأمّا الثواب والجزاء فهو بحق القدر والمنزلة والخذلان.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَثاثاً) قيل : المتاع والمال ، (وَرِءْياً) أي : منظرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) ، أي : خيرا وسعة في الدنيا ، (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ) هو العذاب والهلاك الذي وعدهم رسول الله في الدنيا ، (وَإِمَّا السَّاعَةَ) القيامة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) :

هذا يدل أن قولهم : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) أرادوا : الخدم والحواشي ، حيث قال : (وَأَضْعَفُ جُنْداً).

قال أبو عوسجة : (حَتْماً مَقْضِيًّا) أي : واجبا ، (نَدِيًّا) أي : مجلسا ، وأندية : جمع ، والأثاث : المتاع ، (وَرِءْياً) منظرا ، (وَنَمُدُّ لَهُ) أي : نطيل عذابه.

وقال القتبي (١) : (نَدِيًّا) مجلسا ، يقال للمجلس : ندي وناد ، ومنه قيل : دار الندوة التي كان المشركون يجلسون ويتشاورون بها في رسول الله ، والأثاث : المتاع ، والرئي : المنظر ، والبشارة ، والهيئة.

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧٥).

٢٥٤

وقوله : (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) ، أي : يمد له في ضلالته ، (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) ، أي : نرثه المال والولد الّذى قال : (لَأُوتَيَنَ).

وقوله : (وَيَأْتِينا فَرْداً) لا شيء معه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) :

جميع ما ذكر الله ـ عزوجل ـ من زيادة الهداية وابتداء الهداية فهو إنما يزيد له الهداية ويهديه ابتداء إذا كان من العبد رغبة في ذلك وبغية وطلب ، [و] إذا كان مهتديا يزيد له الثبات على ما كان عليه في وقت رغبته وطلبه منه.

أو إن لم يكن مهتديا يهده ابتداء هداية في وقت رغبته وقبوله ، على هذا يخرج عندنا ما ذكر بحق الزيادة أو بحق الابتداء.

ويحتمل قوله : (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) ، أي : يوفقهم ـ إذا اهتدوا وعرفوا وحدانية الله ـ لأنواع الخيرات والطاعات.

وقالت المعتزلة : البيان ، وهي هداية عامة ، والهداية الثانية [شرح] الصدر لها والتوفيق ، وهي هداية خاصّة تكون في وقت ثان بحق الثواب ، فعلى زعمهم يجيء ألا يكفر أحد بعد ما هداه الله مرة أبدا ؛ لأنهم يقولون : إذا اهتدوا وقبلوا هدايته مرة ، يوفقه ويشرح صدره في الوقت الثاني ، فهو أبدا يكون على الهداية والإيمان ، فإذا وجد عن كثير ممن اهتدوا مرة الكفر من بعد ، دلّ أن تأويلهم فاسد ، وأن التأويل ما ذكرنا نحن : أنه يزيد لهم الهداية وقت رغبتهم وطلبهم الهداية إن كان بحق الزيادة أو بحق الابتداء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا).

يحتمل (وَالْباقِياتُ) : الأمور الباقيات التي لها البقاء ، أي : ما يبقى لكم عند الله خير مما يبطل ؛ لأن الله تعالى وصف الحق والخير بالبقاء والمكث ، ووصف الباطل بالذهاب والتلاشى بقوله : (فَأَمَّا الزَّبَدُ ...) الآية [الرعد : ١٧] ، وقال في آية : (مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً ...) الآية [إبراهيم : ٢٤] ، وقال : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ...) الآية [إبراهيم : ٢٦] ، وقال في آية : (وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) [الإسراء : ٨١] أي : ذاهبا.

فيشبه أن يكون قوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ) ، أي : الأعمال التي لها البقاء خير لكم عند الله ثوابا من التي ليس لها البقاء.

ويحتمل (وَالْباقِياتُ) ، أي : ما أبقى الله لكم في الآخرة من الثواب خير لكم مما أعطى لكم في الدنيا ؛ لأن هذا فان وذاك باق ، والله أعلم.

٢٥٥

قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً)(٨٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً).

قال بعضهم (١) : هذا القول قاله العاص بن وائل السهمي لما حاجه أهل الإيمان في أمر الآخرة أنها لهم دون الكفرة ، فقال لهم عند ذلك : (لَأُوتَيَنَّ مالاً) في الآخرة إن كان ما تقولون أنتم حقّا ، إنما نبعث ونحيا كما أوتيت في هذه الدنيا.

وقال الحسن : قائل هذا القول هو الوليد بن المغيرة وهو ما قال تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً. وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً. وَبَنِينَ شُهُوداً. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ. كَلَّا) [المدثر : ١١ ـ ١٦] وكان يطمع أن أزيد له في الدنيا أبدا ، فقال : (كَلَّا) ردّا على ذلك ، وقال هاهنا : (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) أنه يكون له في الآخرة ذلك على التأويل الأوّل ، أو في الدنيا في وقت آخر ؛ ذلك على تأويل الحسن ، (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً. كَلَّا) ردّا على ما ادعوا (سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) أي : سنحفظ.

(وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) :

قال بعضهم : قوله : (وَنَمُدُّ لَهُ) أي : نزيد له من العذاب في كل يوم ، كقوله : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) [النبأ : ٣٠] وقال بعضهم : (وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا) ، أي : نعذب بلا انقطاع له ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) : قال بعضهم (٢) : أي : نرثه المال والولد الذي

__________________

(١) ورد في معناه حديث عن خباب بن الأرت ، أخرجه البخاري (٩ / ٣٥٥) كتاب التفسير : باب قوله : (أفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ ...) الآية (٤٧٣٢) ، ومسلم (٤ / ٢١٥٣) كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (٣٥ / ٢٧٩٥) ، والترمذي (٥ / ٢٢٥) أبواب التفسير : باب «ومن سورة مريم» (٣١٦٢) ، وأحمد (٥ / ١١٠ ، ١١١) وابن جرير (٢٣٨٩٩) من طريق مسروق عنه قال : جئت العاص بن وائل السهمي أتقاضاه حقا لي عنده ، فقال : لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقلت : لا حتى تموت ، ثم تبعث ، قال : وإني لميت ثم مبعوث؟! قلت : نعم قال : إن لي هناك مالا وولدا ؛ فأقضيكه. فنزلت هذه الآية : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) ، والحديث يروى عن ابن عباس والحسن مرسلا كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٥ ، ٥٠٦).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٣٩١١) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٦) ، وهو قول مجاهد وقتادة.

٢٥٦

قال : (لَأُوتَيَنَ) أي : لله ما يقول بأنه له من المال وغيره لا له.

وقال بعضهم : قوله : (وَنَرِثُهُ) : أنه يعطى في الجنة ما يعطى المؤمنون فنرثه عنه ونعطيه غيره ، وجائز إضافة الوراثة إليه على إرادة أوليائه ، أي : يرثه ذلك أولياؤه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَأْتِينا فَرْداً) في الآخرة لا شيء معه ولا أهل ، كقوله : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) [الأنعام : ٩٤].

ويحتمل قوله : (وَيَأْتِينا فَرْداً) في الدنيا في وقت لا شيء معه ولا أهل ولا ولد ، على تأويل من يقول في قوله : (لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) : في الدنيا ، والله أعلم.

ثم اختلف أهل التأويل في العهد الذي ذكر : أن له عند الله : قال بعضهم (١) : شهادة أن لا إله إلا الله في الدنيا.

وقال بعضهم (٢) : قدم عملا صالحا.

وقال بعضهم : الصلاة ، وهو قول مقاتل.

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : «اتخذوا عند الرحمن عهدا ؛ فإن الله يقول يوم القيامة : من كان له عندي عهد فليقم» ، فقيل : كيف هو؟ قال : «اللهم فاطر السموات والأرض ، عالم الغيب والشهادة إني أعهد إليك في هذه الحياة الدنيا أنك لا تكلف إلى بعمل يقربني من الشر ويباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك ، فاجعله لي عندك عهدا تؤديه إلى يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد» (٣). ويرفع ابن مسعود هذا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والأول أشبه إن ثبت الخبر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا. كَلَّا).

فإن كان على حقيقة العز ، فهو في القادة منهم والمتبوعين الذين عبدوا تلك الأصنام والأوثان ؛ ليتعزّزوا بذلك ، ولا يذلّون ، وتدوم لهم الرئاسة التي كانت لهم في الدنيا ، فظنوا أنهم إن آمنوا تذهب تلك الرئاسة والمأكلة عنهم.

ويحتمل قوله : (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) أي : نصرا ومنعة ، فإن كان هذا فهو في الرؤساء منهم والأتباع في الدنيا والآخرة.

أما ما طمعوا بعبادتهم الأصنام النصر في الآخرة ، وهو كقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٦).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٣٩٠٥) وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٦).

(٣) أخرجه أحمد (١ / ٤١٢) بنحوه.

٢٥٧

لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ؛ طمعوا بعبادتهم النصر والشفاعة في الآخرة.

وأمّا في الدنيا ظنوا أنّ آلهتهم التي عبدوها ينصرونهم في الدنيا ، حيث قالوا : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) [هود : ٥٤] ، فكيفما كان فقد رد الله عليهم ما طمعوا منها ـ عزّا كان أو نصرا ـ بقوله : (كَلَّا) ؛ لأنهم أذلّوا أنفسهم لخشب ، وحنوا ظهورهم لها ، فكفى بذلك ذلّا وصغارا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ) :

قال الحسن : سيكفر عبّاد الأصنام في الدنيا بمن عبدوه في الآخرة أنهم ما كفروا وما عبدوها ، كقوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) [الأنعام : ٢٣] ، ينكرون في الآخرة أن يكونوا أشركوا معه غيره أو عبدوا دونه.

وقال غيره من أهل التأويل : سيكفر المعبودون بالعابدين لهم ، ويتبرءون منهم ، وهو كقوله : (وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ) [يونس : ٢٨] ، وقوله : (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) [النمل : ٨٦] ونحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) :

قال بعضهم (١) : (ضِدًّا) ، أي : عونا ، وتأويل العون : هو أن يلقى تلك الأصنام معهم في النار ، فيحرقون فيها معهم ، فيزداد لهم عذابا ؛ فكانت على إحراقهم ، وعلى هذا يخرج.

وقول من يقول : الضدّ : البلاء ، أي : يكونون بلاء عليهم على ما ذكرنا وهو ما قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ...) الآية [الأنبياء : ٩٨] ، فإذا صاروا حصبا كانوا بلاء وعونا على إحراقهم.

وقال بعضهم (٢) : (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) : أي : قرناء في النار بعضهم بعضا ، ويتبرأ بعضهم من بعض ، ويخاصم بعضهم بعضا ، ويكذب بعضهم بعضا ؛ فذلك كلّه ضد عليهم ، ضدّ ما طمعوا منها ؛ لأنهم عبدوها في الدّنيا رجاء أن يكونوا لهم شفعاء في الآخرة ونصراء ، فكانوا لهم على ضدّ ذلك أعداء.

وقال ابن عبّاس (٣) : يكونون ضدّا : أي : حسرة ، وكلّه واحد.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٣٩١٢) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٦) وهو قول مجاهد.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٩١٥) ، وهو قول قتادة.

(٣) أخرجه عبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٦).

٢٥٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) :

قال بعضهم (١) : (أَرْسَلْنَا) : أي : سلّطنا عليهم ، كقوله : (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) [النمل : ١٠٠].

وقال بعضهم : (أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ) : أي : قيضناهم بهم ، كقوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) [الزخرف : ٣٦] فهما في الحقيقة واحد ؛ لأنه إذا أرسلهم اتصلوا بهم ، فإذا اتصلوا بهم قيضوا وقرنوا بعضهم ببعض.

وقال الحسن ، وأبو بكر الأصم ، وغيرهما : (أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) : أي : خلينا بينهم وبينهم ، ولم نمنعهم منهم [على] ما ذكر.

لكن لو كان تأويل الإرسال التخلية وتأويل القيض كذلك ، لم يكن لتخصيص الكفار بذلك معنى ؛ إذ قد كان ذلك القدر من التخلية بينهم وبين المسلمين.

[و] إن كان تأويل التخلية : أنه لم يمنعهم عنهم ، وخلى بينهم ـ فدلّ تخصيص الكفار بهذا وأمثاله [على أن] ليس هو التخلية لا غير ، وأن تخصيص هؤلاء بهذا وأمثاله من قوله : (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [التوبة : ٩٣](وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً) [الأنعام : ٢٥] ، ونحوه ، وإن كان هنالك من الله معنى في الكفار ليس ذلك في المؤمنين ، وفي المؤمنين معنى ليس ذلك في الكافرين ، وهو ـ والله أعلم ـ إذا علم في المؤمنين الرغبة والإجابة ، وفقهم على ذلك وهداهم ، وإذا علم من الكفار خلاف ذلك وضدّه خذلهم وأضلّهم ، فذلك تخصيصه إياهم بما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) :

قال بعضهم (٢) : تزعجهم إزعاجا.

وقال بعضهم (٣) : تشليهم إشلاء وتغريهم إغراء.

وقال الحسن (٤) : تحركهم تحريكا.

وقال بعضهم : تقدمهم إقداما إلى الشر.

وقال بعضهم : توقعهم إيقاعا ، ونحوه ، وكله واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) ، أي : لا تكافئهم على أذاهم إياك ، ولا

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٢٠٨).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٣٩٢٤ ـ ٢٣٩٢٦) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٧).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٥٠٧) ، وهو قول ابن زيد.

(٤) وهو قول ابن جرير (٨ / ٣٧٩).

٢٥٩

تعاقبهم ، (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا) أي : أنفاسهم يتنفسون في الدنيا ، فهي معدودة تنقضي آجالهم عن قريب ، فلا تكافئهم على ذاك وما يستقبلونك بالمكروه والسوء.

ثم وجه ما ذكر من إرسال الشياطين عليهم والتمكين لهم من الوسوسة في الصّدور ، أعني : صدور المؤمنين ، والنزغ في روعهم من غير أن يملكوا القهر والقسر على ذلك ، وما جعلهم بمحل لا نراهم نحن ، وهم يروننا ، على ما أخبر (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف : ٢٧] ، فهو ـ والله أعلم ـ أن من علم بحضرته وقربه عدوّا له يراقبه ويطلب الفرصة عليه يكون أحذر وأهيب له ممن لا يعلم ذلك ولا كان بقربه وحضرته عدو ، وعلى ذلك ما جعل الله ـ عزوجل ـ من الحفظة والكرام الكاتبين ـ صلوات الله عليهم ـ على بني آدم ، رقباء عليهم في قليل ما يفعلون ويتفوهون وكثيره ، وإن كان قادرا على حفظ ذلك عليهم والتذكير لهم واحدا بعد واحد ، شيئا على إثر شيء ، وذلك لما ذكرنا أن من علم أنّ عليه رقيبا يراقبه ويكتب عليه كل قليل وكثير كان أحذر وأهيب ممن لم يعلم ذلك على نفسه رقيبا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) أي : الذين اتقوا مخالفة أمر الله في كل ما لا يغلب عليهم ؛ لأن المؤمن لا يرتكب المعصية إلا لغلبة شهوة ، أو لغلبة رجاء إلى مغفرة ربه ونحوه ، أو توبة يضمرها بعد ارتكابها ، وعلى هذا يكون ارتكاب المؤمن مخالفة ربّه.

وقوله : (إِلَى الرَّحْمنِ) أي : إلى ما وعد لهم الرحمن من الثواب.

وقوله : (وَفْداً) الوفد في الشاهد : هم أهل الكرامة والمنزلة يبعثون لأمور ، فكأنه قال : إن المتقين يحشرون وهم مكرمون معظمون ، ولهم منزلة عند الله وقدر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) ، الوارد : هو طالب الماء ، والورد الجمع ، فكأنه قال : ونسوق المجرمين إلى جهنم عطاشا طلاب الماء ، على ما قاله أهل التأويل.

والمجرم ، قال أبو بكر الأصم : هو الوثاب في المعصية ، وأصل الإجرام : الاكتساب ؛ ولهذا قال بعض النّاس في قوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) [المائدة : ٢] أي : يكسبنكم ، وأصله هو كسب الإثم.

وقوله : (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ) فيه أنهم إنما يساقون على كره منهم ؛ إذ ذكر في الكافرين السوق وذكر في المؤمنين الجمع والحشر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) [الشفاعة] إنما تكون فيمن استوجب

٢٦٠