تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

مترفيها ، أي : أكثرنا عددهم وسلطنا مترفيها فسّاقها ومستكبريها.

والثاني : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) ، أي : أكثرنا عددهم ومنعّميهم ؛ يذكر لهم هذا لقولهم : (وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ ...) الآية [الزخرف : ٢٣] ، وقولهم : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً ...) الآية [سبأ : ٣٥] : كانوا يزعمون أنهم لا يعذبون ؛ لأنهم قد أنعموا في هذه الدّنيا وأكثروا أموالهم وأولادهم ؛ فأخبرهم ـ عزوجل ـ أنه ما أهلك من الأمم الخالية إلا بعد ما كثر عددهم ووسع عليهم الدنيا ، لم يهلكوا في حال القلة والضيق ؛ كقوله : (ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا) ، أي : كثروا ، وقوله : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الأنعام : ٤٤] : لم يأخذ بالعذاب الأمم الخالية إلا في حال كثرتهم وأمنهم وغرّتهم بالسّعة ؛ يحذر هؤلاء ؛ لئلا يغتروا بكثرة أموالهم وأولادهم وعددهم.

ومن قال : (أَمَرْنا مُتْرَفِيها) بالتخفيف هو من الأمر ، أي : أمرنا عظماءهم وكبراءهم طاعة الرسل (١) والإجابة إلى ما دعاهم إليه ، حتى إذا عصوا رسله وتركوا إجابتهم ـ على العناد والمكابرة ـ فعند ذلك يهلكون ؛ لما ذكرنا أنه لم يستأصل الأمم الخالية إلّا بعد عنادهم في آيات الله ، ومكابرتهم في دفعها وتكذيبها ، لا يهلكهم في أول ما كذبوا آيات الله وخالفوا رسله.

وقوله : (مُتْرَفِيها) ، قال بعضهم : المترف : المنعّم ، وقال بعضهم : المترف : المكرم والمستكبر ، وكله واحد.

وفي قوله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) دلالة أن الإرادة غير المراد ؛ لأنه أخبر بتقدم الإرادة عن وقت الإهلاك ؛ دل أنها غيره ، وفيه أنه أراد السبب الذي به يهلكون ، وهو التكذيب والعناد ؛ لما علم منهم أنهم يختارون ذلك ؛ إذ لا يحتمل أن يريد هلاكهم ، وهو يعلم منهم غير سبب الهلاك ؛ فهذا يرد قول المعتزلة : إن الإرادة هي المراد ، وأنه لم يرد ما كان منهم من سبب الهلاك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ).

بما أراد إهلاكهم وجب عليهم ، أو يكون قوله : (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) بما أخبر عن الأمم الخالية ، وهو قوله : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ ...) الآية [الأحزاب : ٣٨ ، ٦٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً).

__________________

(١) في ب : الرسول.

٢١

أي : أهلكناهم إهلاكا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً).

يحتمل أن يكون الخبير والبصير واحدا ، ويشبه أن يكون بينهما فرق ؛ الخبير : العالم بأعمالهم ، والبصير بمصالحهم ومعاشهم وبجزائهم ؛ يقال : فلان بصير في أمر كذا ، وفلان أبصر من فلان.

ويحتمل أن يكون بذنوب عباده ، وهو مكرهم الذي كانوا يمكرون برسول الله ؛ فقال : وكفى بمكرهم الذي يمكرون بك.

قوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً)(٢٢)

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).

يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : أنهم كانوا يعملون بأعمالهم الحسنة في حال كفرهم من نحو الإنفاق والصّدقات وبذل الأموال ، وغير ذلك ـ يريدون بذلك العز والشرف والذكر في الدنيا ؛ فأخبر أنه من أراد بما يفعل ذلك (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ).

والثاني : يكون قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) ، أي : لا يريد بها إلا جمع الأموال وسعتها (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) ، ثم أخبر أنه لا كل من أرادها يعجل له ذلك ، ولا كل ما أراد يعجل له ذلك ؛ ولكن إنما يعجل ما أراد الله ولمن أراد شيئا يعطي له ذلك ، ثم أخبر عما يعطي في الآخرة من أراد العاجلة فقال :

(ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً).

أي : مذموما : يسمّى بأسماء قبيحة دنية مذمومة عند الخلق ، أو يذم ويلام في النار ، (مَدْحُوراً) : مطرودا من الأسماء الحسنى ومن الخيرات ، أو مبعدا عن رحمته.

وقوله : (مَذْمُوماً) : عند نفسه ، أي : يذم نفسه يومئذ ، أو مذموما عند الملائكة والخلق جميعا.

وفي قوله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ) وجهان :

٢٢

أحدهما : يحتمل أن يكون أراد بإهلاكه إياهم موتهم بآجالهم. يقول : هم كانوا عددا قليلا زمن نوح ، ثم كثروا حتى صاروا قرونا ، ثم ماتوا حتى لم يبق منهم أحد.

ويحتمل أن يكون الإهلاك ـ هاهنا ـ إهلاك استئصال : فهو يخرج على وجهين :

أحدهما : أنه قد استووا في هذه الدنيا ـ أعني العدو والولي ـ وفي الحكمة : التمييز بينهما والتفريق ؛ فلا بد من دار يفرّق بينهما فيها ويميز.

والثاني : قد هلكوا جميعا ، وفي العقل والحكمة إنشاء الخلق للإفناء خاصّة بلا عاقبة تقصد ـ عبث باطل ؛ فدل أن هنالك دارا أخرى هي المقصودة حتى صار خلق هؤلاء حكمة ، وفيه إلزام البعث.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ).

تفسير قوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) ؛ كأنه قال : من كان يريد العاجلة ، وهو كافر بربه مكذب بالآخرة (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) ، ومن كان يريد الآخرة ، وهو مؤمن بربه مصدق بالآخرة ، (وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ)(١) ، هذا يدل أنهم إنما أرادوا العاجلة بكفرهم بالآخرة ، ثم أخبر أن من أراد بعمله في الدنيا الآخرة ، ولها سعيها ما سعى ، وهو مؤمن بها.

(فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً).

أي : مجزيّا مقبولا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ).

أي : المؤمن والكافر يعطى هذا وهذا ، أي : لا نحرم عن العاجلة من أراد الآخرة ؛ يخبر أولئك الكفرة بكفرهم بالآخرة أنه ليس يعطي الدنيا وسعتها لمن يكفر بالآخرة ؛ ولكن يعطي من كفر بها ومن آمن بها ؛ لئلا يحملهم ذلك على حبهم الدنيا وطلب العز والشرف فيها ـ على كفرهم بالآخرة ؛ حيث قال : (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ) ، أي : يعطي المؤمن والكافر ، والبرّ والفاجر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً).

أي : [ما كان] رزق ربّك وفضله محظورا. قال بعضهم : محبوسا ممنوعا. وقال بعضهم : محظورا : منقوصا ؛ فهو في الآخرة ، أي : لا ينقصون في الآخرة من جزائهم ، وروى في الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله يعطي الدّنيا على نيّة الآخرة ، ولا يعطي

__________________

(١) زاد في ب : لا يرائي فجزيا مقبولا ، السعي المشكور : هو الذي يجزى ويثاب عليه. وقوله ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها.

٢٣

الآخرة على نيّة الدّنيا» (١).

وعن الحسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان العبد همّه الآخرة كفى الله له من ضيعته ، وجعل غناءه في قلبه ، وإذا كان همّه الدّنيا أفشى الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ؛ فلا يمسي إلا فقيرا ، ولا يصبح إلا فقيرا» (٢).

وقوله : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ) ؛ للعاجلة ـ (عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) ، وأما من كان يريد العاجلة ؛ للآخرة ـ فهو ليس بمذموم ؛ فهو ما ذكر في قوله : (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) ، وهو ما قال : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ ...) الآية [هود : ١٥] ، وقوله : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ...) [الحديد : ٢٠].

وأمّا من أراد الحياة الدنيا ؛ لحياة الآخرة ـ فهو ليس بلعب و [لا] لهو ؛ لأن الدنيا لم تنشأ لنفسها ؛ إنما أنشئت للآخرة ؛ فمن رآها لها وأرادها لنفسها ـ فهو لعب ولهو ، ومن رآها للآخرة وأرادها للآخرة فهو ليس بلعب ولا لهو.

وقوله ـ عزوجل ـ : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ).

في الدنيا في الرزق وفي الخلقة : يكون بعضهم أعمى ، وبعضهم بصيرا ، أو يكون أصمّ ويكون سميعا ، ونحوه ؛ فعلى ما يكون في الدنيا على التفاوت والتفاضل يكونون في الآخرة كذلك في المنزلة والقدر عند الله ، لا في الضيق والسعة والأحوال التي يكونون في الدنيا ؛ حيث قال : (وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً).

ولم يقل : أكثر ولا أوسع ، دل أنه على القدر والمنزلة عند الله ، لا على اختلاف الأحوال التي يكونون في الدنيا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ).

قد ذكرنا فيما تقدم أن النهي في مثل هذا والخطاب ـ لرسوله ، وإن كان غير موهوم ذلك منه ؛ للعصمة التي عصمه ؛ فإنّه غير مستحيل [في ذاته](٣) ؛ لما ذكرنا أن العصمة إنما

__________________

(١) أخرجه ابن المبارك في الزهد ص (١٩٣) ، وأبو يعلى في المسند ، كما في المطالب العالية (٣١١٧) ، عن أنس بن مالك.

(٢) أخرجه ابن عدي في الكامل (١ / ٢٨٥) من طريق إسماعيل بن مسلم عن الحسن وقتادة عن أنس فذكره.

وله طريق أخرى ، أخرجه الترمذي (٤ / ٢٥٢) ، أبواب صفة القيامة والرقائق والورع (٢٤٦٥) ، ذكر العلامة الألباني في الصحيحة (٩٤٩) ، وفي الباب عن زيد بن ثابت وأبي الدرداء.

(٣) سقط في ب.

٢٤

ينتفع بها مع النهي والأمر ؛ لأنه لو لا الأمر والنهي ما احتيج إليها ، أو خاطبه به على إرادة غير ؛ على ما يخاطب به ملوك الأرض الأقرب إليهم والأعظم والخطر منهم دون خسائس الناس ورذالهم.

والثاني : أنه يخاطب كلّا في نفسه ، ليس أنه يخص رسوله بذلك ، ولكن كلّ موهوم ذلك منه.

ويحتمل أن يخاطب به كقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) [الانفطار : ٦ ، الانشقاق : ٦] ، و (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [البقرة : ٢١] ؛ ليس إنسان أحق بهذا الخطاب من إنسان ؛ فعلى ذلك الأول ، أو يقول : إنه يخاطب رسوله ؛ ليعلم من دونه أن ليس لأحد وإن عظم قدره عند الله وارتفع محله ومنزلته ـ محاباة في الدين ؛ لأن الرسل هم المكرمون على الله المعظمون عنده ؛ فما ذا لم يعف عنهم في هذا ـ لم يعف من دونهم ؛ ألا ترى أنه قال للملائكة : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩] ، وهم أكرم خلق الله ؛ حيث وصفهم الله أنهم : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ)؟! [التحريم : ٦] ؛ فعلى ذلك الرسل ؛ ألا ترى أنّه قال على أثره : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) إلى قوله : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) ، ومعلوم أن أبويه كانا ضالين ؛ فلا يحتمل أن يخاطب رسوله في قوله : وقال رب ارحمهما ؛ دل أنه خاطب به كل محتمل ذلك منه وموهوم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً).

عند الناس (١).

(مَخْذُولاً).

أي : ذليلا مقهورا ؛ لأن الخذلان هو ضد النصر والعون ؛ ألا ترى أنه قال : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ ...) الآية [آل عمران : ١٦٠]. ذكر الخذلان مقابل النصر ؛ فعلى ذلك قوله : (مَخْذُولاً) ، أي : مقهورا ذليلا غير منصور ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٢ / ٢٤٧).

٢٥

تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٣٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

قال بعضهم (١) : (وَقَضى) : حكم ، وقال بعضهم (٢) : (وَقَضى) ـ هاهنا ـ : أمر ، أي : أمر ربك ألا تعبدوا إلا إياه ، وقال بعضهم (٣) : (وَقَضى رَبُّكَ) ، أي : وصّى ربّك ، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود (٤) وأبىّ (٥) ـ رضي الله عنهما ـ أنهما كانا يقرآن : ووصى ربك ، وقال بعضهم : وعهد ربك.

وقال القتبي (٦) : (وَقَضى رَبُّكَ) ، أي : حتم ربّك ، وهو من الفرض والإلزام ، أي : فرض ربك وألزم ألا تعبدوا إلا إياه ، وكذلك «حكم» ربك وهو أشبه ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب : ٣٦] ، ثم قال : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٣٦] : دل قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) أن قوله : (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ) ـ معناه ، أي : فرض الله ورسوله وحكما أمرا.

ثم قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) : فرض وحتم وحكم وأمر ألا تعبدوا إلا إياه ، إلا الإله المعبود الحق المستحق للعبادة والربوبية ، لا تعبدوا دونه أحدا ، وقد أبان (٧) لنا أنه هو الإله والربّ المستحق للعبادة والألوهية والربوبية ، لا الذين تعبدون من دونه من الأوثان والأصنام بوجوه ثلاثة :

أحدها : عجز العقول وجهالتها عن درك كيفية العقول وما بينها ؛ لأن العقول لا تعرف كيفية أنفسها ولا ماهيتها ، وتعرف محاسن الأشياء ومقابحها ؛ فقد عرفت الألوهية لله ، وحسن العبادة له ، وقبحها لغيره.

__________________

(١) قاله ابن جرير (٨ / ٥٧).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٢١٨٣) ، وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٠٩) ، وهو قول قتادة وابن زيد.

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢١٨٨).

(٤) أخرجه ابن جرير (٢٢١٨٦) ، والطبراني ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٠٩).

(٥) أخرجه ابن جرير (٢٢١٨٧).

(٦) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٥٣).

(٧) في أ : بان.

٢٦

والثاني : ما يوجد في جميع الخلائق من آثار ألوهيّته وربوبيته ، وجعل العبادة له شكرا له ؛ وعلى ذلك جعل في كل جارحة من جوارح الإنسان عبادة ؛ شكرا له لما فيها من آثار ألوهيته.

والثالث : السمع ، أنبأنا أن لا معبود إلا الله ، ولا ألوهيّة لسواه دونه ؛ فذلك معنى ما فرض على خلقه وأمرهم ألا يعبدوا إلا إياه ، وتأويل حكم ربّك ألا تعبدوا إلا إياه ؛ لما أنشأ في خلقة كل أحد آثار وحدانيته ، وشهادة ربوبيته استحقاق العبادة له ، فذلك تأويل من قال : قضى ، أي : حكم. وأما تأويل من قال : قضى ، أي : أمر ربك وكلف ألا تعبدوا إلا إياه ـ يكون فيه أمر بالعبادة له ، والنهي عن عبادة غيره ؛ كأنه قال : أمر ربك أن اعبدوه ، ونهاكم أن تعبدوا غيره ، ثم الفرق بين الطاعة والعبادة : يجوز أن يطاع غيره ، ولا يجوز أن يعبد غيره ؛ لأن الطاعة هي الائتمار ؛ كقوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] ، أي : ائتمروا ، وأما العبادة هي الاستسلام والخضوع له والشكر له ، ولا يجوز ذلك لغيره سوى الله ، أو أن يكون في العبادة معنى لا يدرك ، كمعنى الرحمن ؛ لا يدرك ، حيث لم يجوّز تسمية غيره به ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : وبالوالدين إحسانا.

كأنه قال : وفرض عليكم ـ أيضا ـ وحكم إحسان الوالدين (١) ، [أو أمركم بإحسان الوالدين](٢) ثم الإحسان في عرف الناس هو الفعل الذي ليس عليه ، إنما هو فضل ومعروف يصنعه إلى غيره ، هذا هو الإحسان في العرف واللغة ، لكن المراد بالإحسان إلى الوالدين هو الشكر ، لا ما ذكرنا من الإحسان المعروف عند الناس ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) [لقمان : ١٤] ، لأن الشكر هو المكافأة والجزاء لما أنعم وصنع من المعروف ؛ فهو ، والله أعلم.

وإن ذكر الإحسان في هذا وفي غيره من الآيات ، وهو قوله : (أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [الأنعام : ١٥١] ، وقال في آية أخرى : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) [النساء : ٣٦] ، وغيرها من الآيات ـ فالمراد منه ، والله أعلم : الشكر لهما ؛ لما ذكر في آية أخرى : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) [لقمان : ١٤] ، والشكر هو المكافأة : أمره أن يكافئ لهما ويجازي بعض ما كان منهما إليه من التربية ، والبر ، والعطف عليه ، والوقاية من كل سوء ومكروه : في البطن ، وبعد ما خرج من البطن حتى

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٢ / ٢٥١).

(٢) سقط في أ.

٢٧

كانا يؤثرانه على أنفسهما [في السرور ، ويجعلان أنفسهما وقاية له من كل سوء ومحذور ، فأمر الولد أن يشكر لوالديه ؛ جزاء ومكافأة لما كان منهما مما ذكر.

وهذا ذكر في الحال التي عجزاهما عن القيام لأمر أنفسهما](١) والحوائج لهما ، وذلك ـ والله أعلم ـ لأنهما إذا كانا قويين ، قادرين لحوائج أنفسهما ومنافعهما يبران ولدهما ، ويحسنان إليه ؛ فيحمل برّهما وإحسانهما إليه على الطاعة لهما في البرّ ، والإحسان إليهما على المجازاة ، وهكذا المعروف عند الناس أنه إذا بر بعضهم بعضا يبعث ذلك على المكافأة ؛ ليدوم ذلك عليهم وألا ينقطع ؛ لذلك ذكر ـ والله أعلم ـ الإحسان إلى الوالدين في الحال التي هي حال ضعف وعجز ؛ حيث قال : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما).

ثم أمره أن يذكر الحال التي هو عليها ، وهو حال طفوليته وصغره : أن كيف ربّياه ، وبراه ، وعطفا عليه ، ولانا له ـ قولا وفعلا ـ حتى لم يستقذرا منه شيئا مما يستقذر الناس بعضهم من بعض ، ولم يبعدهما عنه ما يبعد الخلق بعضهم من بعض من أنواع الأذى والخبث؟! فأمره أن يعاملهما إذا بلغا الحال التي كان هو عليها : من الجهل والضعف ، والعجز عن القيام بالحوائج على ما كان هو ، وبلغا المبلغ الذي يستقذر منهما ويبعد عنهما ، أي : لا يستقذر هو منهما ، ولا يبعد عنهما ؛ كما لم يستقذرا هما منه ، ولا ينهرهما عند السّؤال والحاجة إليه ؛ كما لم يفعلا هما [له](٢) ؛ بل يلين لهما ويذل كما لانا هما له وخضعا ، وهو ما قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ...) الآية [النحل : ٧٠] ، وقال في آية أخرى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) [الروم : ٥٤] أخبر أنه يرد من بعد القوة والعلم إلى الحال التي كانوا عليها وهو حال الضعف والجهل ؛ حيث قال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ...) الآية [النحل : ٧٨] ، وقال : (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ...) الآية [الروم : ٥٤].

فقال : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما).

وقال بعضهم : قوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) : هو كناية عن إظهار الكراهة لهما في الوجه (٣) ، (وَلا تَنْهَرْهُما) ، أي : لا تعنّفهما في القول والكلام على ما لم يفعلا هما بك.

وقال بعضهم : (أف) المراد به : هو (أف) لا غير ، (وَلا تَنْهَرْهُما) ، أي : لا تعنفهما ،

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : اللباب (١٢ / ٢٥٦ ، ٢٥٧).

٢٨

ولا تخشن ، لكنه ذكر أول حال الاستثقال والكراهة منه وآخرها ، أي : لا تقل لهما (أف) على ما يستثقل الناس شيئا ويكرهون في أول حال يرون شيئا مستثقلا مكروها ـ يقولون : أف ، أي : لا تقل أف ؛ لئلا يحمل ذلك على العنف والخشونة والنهر ؛ وعلى هذا المعنى قالوا في قوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ...) الآية [النور : ٣٠] ، قال بعضهم : يغضوا من أبصارهم وليحفظوا فروجهم ؛ لأن النظر بالبصر يحمله على الزنى في الفرج ؛ ومنه يكون بدء الفجور.

وقال بعضهم قوله : (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور : ٣٠] : ذكر أوّل حال وآخرها ؛ ليمتنعوا عن كل ذلك ؛ فعلى ذلك قوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) : ذكر أوّل الحال وآخرها.

والثانى ، أي : لا تظهر في وجهك من الكراهة والاستثقال ليحمل ذلك على العنف والانتهار. فإن كان تأويل قوله : (أُفٍ) ـ (أف) لا غير ، ففيه حجة لأبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ في قوله : إذا نفخ المصلي في موضع سجوده ، فهو كلام يقطع صلاته ؛ حيث قال : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) ، أي : لا تتكلم به ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً).

حيث نهاه أن يقول لهما : أف ، ونهاه أن ينهرهما ؛ فإذا امتنع عن الأفّ والنهر كان بعد ذلك قولا ليّنا لطيفا.

قال أبو عوسجة : يقال : نهرته وانتهرته ، وهو الخشن من الكلام شبه الوعيد.

وقال أبو بكر الكيساني : الكريم : هو الذي يولي على آخر نعمه ، ويهنيه بترك الأذى والمنّ ؛ كقوله : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] ، وقال غيره : في وصف السخي ، فقال : الذي يبذل ما احتوى عليه لمن احتاج إليه ، وقطع طمعه عما احتوى عليه غيره عند حاجته إليه. ويشبه أن يكون الكريم قريبا منه.

فإن قيل : إن الوالدين كالمجبولين المطبوعين على البرّ لأولادهما ، والشفقة عليهم ، ولا كذلك الأولاد ؛ فكيف يشبه بر من كان مجبولا به مطبوعا عليه ـ برّ من لم يكن ذلك بطبعه.

قيل : لذلك ذكر هذا في الولد دون الوالدين ، وأمرهم بذلك ؛ لأن ما يفعل الوالدان من البرّ والإحسان إلى الولد يفعلان بطبع ، والولد لا ؛ لذلك كان ما ذكر والله أعلم. ولهذا ما لم يجعل ولم يشرع قتل الوالد بولده ؛ إذ [ليس] القصاص حياة بينهم ، وشرع قتل الولد بوالديه ؛ إذ في الوالدين من الشفقة والرحمة ما يمنع قتل الولد ، وليس في الولد ذلك ؛

٢٩

فجعل في قتل الولد والديه القصاص ، ولم يجعل في قتل الوالدين ولدهما ؛ فعلى ذلك هذا في البرّ والإحسان.

فإن قيل : ما الحكمة فيما قرن الله من شكر والديه شكره في غير آية من القرآن : (اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) [لقمان : ١٤].

قيل : لأنه بهما كان نماؤه من أول حاله إلى آخر ما انتهى إليه من التغذية والتربية والوقاية من كل سوء والحفظ من كل آفة وشر.

وفي الآية دليل لقول أبي حنيفة ؛ حيث قال في المكاتب : إذا اشترى والده أو أمّه صار مكاتبا ، وإذا اشترى أخاه أو ذا رحم محرم منه ـ لم يصر مكاتبا ؛ لأن الأب والأم يصيران كذلك بحق الجزاء والشكر ؛ فعليه ذلك ، وأمّا الأخ وغيره من المحارم بحق المعروف ؛ فملكه لا يحتمل ذلك.

والخطاب من الله ـ وإن كان مع رسوله ـ فالمراد منه غيره ؛ لأن رسول الله معلوم أنه لم يدرك والديه في الوقت الذي أرسل إليه وخاطبه بما خاطب ؛ دلّ أنه أراد بالخطاب غيره ـ كل محتمل [منه](١) ذلك وموهوم منه ـ وأمره أن يعاملهما بالمعاملة التي ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).

يحتمل أن يكون الجناح كناية عن اليدين ؛ لأن اليدين في الإنسان بموضع الجناح للطائر ، وجناح الطائر يداه ؛ فكأنه قال : اخفض واخضع لهما بيديك كما أمره أن يخضع لهما بلسانه بقوله : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) ، أي : اخضع لهما قولا وفعلا.

ويحتمل أن يكون الجناح كناية عن النفس ، أي : اخضع لهما بجميع النفس والجوارح ، وقوله : (الذُّلِ) : يحتمل أن يكون المراد من الذل : الذل نفسه ، أي : كن لهما كالمستعين المحتاج إليهما لا كالمعين لهما قاضي الحاجة ، ولكن ذليلا كالمستعين من الآخر رافع الحاجة إليه. ويحتمل أن يكون الذلّ كناية عن الرحمة التي تكون في القلب ، أي : اخضع لهما برحمة القلب والجوارح جميعا ؛ ألا ترى أنه قال : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] ، أي : رحماء على المؤمنين أشداء على الكافرين ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩]. وذكر مقابل الذل في تلك الآية ـ الرحمة في هذا ، ومقابل العزة ـ الشدة؟! فعلى ذلك يحتمل أن يكون قوله : جناح الذل كناية عن الرحمة ؛ فيكون معناه : أن اخضع لهما

__________________

(١) سقط في أ.

٣٠

بالظاهر والباطن جميعا على ما ذكرنا في قوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً).

قال بعضهم : (رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) ، ويحتمل أن يكون على الإضمار ؛ فيكون ـ والله أعلم ـ كأنه قال : رب ارحمهما كما رحماني وربياني صغيرا.

وقول أهل التأويل (١) : إن هذا منسوخ نسخه قوله : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ ...) الآية [التوبة : ١١٣] ـ بعيد ؛ وأمكن أن تكون الآية في المؤمنين والكافرين ؛ فالرحمة التي ذكر : تكون في الكافرين سؤال الهداية لهم وجعلهم أهلا للرحمة والمغفرة ؛ وذلك جائز كقول نوح لقومه : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) [نوح : ١٠] ، أي : استهدوا ربكم ؛ فيهديكم فيغفر لكم ما كان منكم ؛ إنه كان لم يزل غفارا ؛ إذ لا يحتمل أن يأمرهم بالاستغفار ويعدهم بالمغفرة على الحال التي هم عليها ، وكذلك استغفار إبراهيم لأبيه.

أو أن تكون من الرحمة التي يتراحم بعضهم [بعضا ، والشفقة](٢) التي تكون بين الناس كما يتراحم الصغار والضعفاء ، ثم مثل هذه المعاملة التي أمر الولد أن يعامل أبويه يلزم المؤمنين من جهة الدين ومكارم الأخلاق أن يعاملهم الناس بعضهم بعضا ، غير أن هذا فيما بين الناس ليس بفرض لازم ، وذلك [فرض](٣) لازم ؛ لأنها بحق الشكر والجزاء لهما بما كان منهما إليه من البرّ والإحسان ، وحق التربية والتعظيم حقهما وجليل قدرهما وخصوصيتهما ، وهو كما يقال لرسوله : (وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٢١٥] ، وإلا فقد وصف المؤمنين بتراحم بعضهم على بعض ؛ على ما ذكر : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩] ، وأمرهم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ).

قال بعضهم (٤) : قوله : (أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من أسرار المحبة لهما والبر والكرامة. وقال [بعضهم](٥) : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) ، أي : أعلم ما تفعله نفوسكم ، وهو كما

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٢٢٠٩) ، (٢٢٢١١) ، والبخاري في الأدب المفرد وأبو داود وابن المنذر من طرق عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣١١) ، وهو قول قتادة وعكرمة.

(٢) في ب : لبعض في الشفقة.

(٣) سقط في أ.

(٤) قاله ابن جرير بنحوه (٨ / ٦٣).

(٥) سقط في أ.

٣١

قال عيسى ـ عليه‌السلام ـ : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] ، أي : تعلم ما تفعله نفسي ، ولا أعلم ما في نفسك من التدبير والتقدير ؛ فعلى ذلك هذا.

وجائز أن يكون قوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) ـ صلة قوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ...) الآية ، أي : ربكم أعلم بما في ضميركم : من الاستقذار إياهما ، والاستثقال ، والكراهة إذا بلغا المبلغ الذي ذكر ، ولكن لا تظهر ذلك لهما ولا يوافق ظاهرك باطنك.

أو أن يقول : ربكم أعلم بما في نفوسكم [ولا يعلم غيره ما في نفوسكم ؛ فلا تراءون الناس بما في قلوبكم](١) ؛ ولا تصرفوا ما في ضميركم إلى من لا يعلم ذلك ؛ يخاطب الكل على الابتداء ألا يجعل ما في قلبه لغيره ؛ بل يخلص (٢) له ، أو أن يكون قوله : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) ، أي : ما تفعله أنفسكم وتدبّرها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ).

أي : تصيروا صالحين ؛ لأن قوله : (تَكُونُوا) إنما هو في حادث الوقت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً).

يشبه أن يكون قوله : (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) صلة قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ، و (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) أي : لم يزل غفورا للأوابين ولمن يشاء. ثم اختلف في الأواب :

قال بعضهم (٣) : الأوّاب : الرجّاع التواب ، وهو قول أبي عوسجة.

قال القتبي (٤) : الأوّاب : التائب مرة بعد مرة ، وهو من : آب يئوب ، أي : رجع ، وهما واحد.

وقال بعضهم (٥) : الأواب : المطيع ، وقيل (٦) : المسبح ونحوه.

وقال أبو عوسجة في قوله : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) ، أي : لن لهما وارفق بهما ؛ ذكر برّ اللسان للوالدين ولطفه إياهما قولا وفعلا ، وليس في ظاهر الآية ذكر البر بالمال والإنفاق عليهما ؛ فيشبه أن يكون ذلك داخلا في قوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، أو

__________________

(١) في أ : فلا يرون الناس.

(٢) في أ : يختص.

(٣) قاله سعيد بن جبير ومجاهد أخرجه بن جرير عنهما (٢٢٢٣٠) و (٢٢٢٣٥) ، وهو قول الضحاك.

(٤) وقاله أيضا سعيد بن المسيب أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٢٢٢) و (٢٢٢٢٩) ، وينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٥٣).

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٢٢١٧) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣١١) ، وهو قول قتادة.

(٦) قاله ابن عباس ، أخرجه ، ابن جرير عنه (٢٢٢١٥) ، وهو قول عمرو بن شراحبيل.

٣٢

لم يذكر ذلك ؛ لما أن المال للولد مال لهما ؛ ألا ترى إلى ما روي عن جابر بن عبد الله قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومعه أبوه فقال : يا رسول الله ، إن لي مالا ، وإن لي أبا وله مال ، وإن أبي يريد أن يأخذ مالي ؛ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنت ومالك لأبيك» (١) أو لا ترى ـ أيضا ـ أنه أضاف بيوت الولد إليهما ؛ حيث قال : (أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ) [النور : ٦١] ؛ قوله : (مِنْ بُيُوتِكُمْ) [النور : ٦١] ـ معناه : بيوت أبنائكم.

وقال بعضهم في قوله : (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) : إنه صلاة الضحى ، ويروى في ذلك خبر : روى زيد بن أرقم قال : خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على قوم وهم يصلون الضحى ؛ فقال : «صلاة الأوّابين ، إذا رمضت الفصال» (٢) ، وفي خبر آخر عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلاث : «أمرني أن أصوم ثلاثا في كل شهر ، وألا أنام إلا على وتر ، وأن أصلي ركعتي الضحى ، فإنها صلاة الأوابين» (٣) ، وقد يروى أحاديث كثيرة في الحث على صلاة الضحى وفعلها ، وأنه صلى هو : ركعتين ، وأربعا ، وستّا ، وثمانيا ـ ما يكثر ذكرها ويطول ، ومن صلاها فإنما صلاها على سبيل التطوع ، ليس على سبيل اللزوم الواجب والسّنة المؤكدة ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاها مرة وتركها مرة ؛ فكان كصلاة الليل يدرك فاعلها الفضل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ).

كأن الآية هي صلة قوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، أي : وقضى ـ أيضا ـ أن تؤتي ذا القربى حقه ومن ذكر ، أي : فرض ، وحتم ، وحكم ؛ على اختلاف ما قالوا ، وهو كقوله : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ...) الآية [النساء : ٣٦] أمر ـ عزوجل ـ ببر الوالدين ، والشكر لهما ، وصلة ذي القربى ، فريضة ، ومن ذكر.

ثم اختلفوا في قوله : (حَقَّهُ) :

قال بعضهم : ذلك الحق فريضة ، وهو الزكاة ؛ حيث جعل تلك صلة ما هو فرض ،

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (٢ / ٧٦٩) كتاب التجارات ، باب : ما للرجل من مال ولده ، حديث (٢٢٩١) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٤ / ١٥٨) كتاب القضاء والشهادات ، باب : الوالد هل يملك مال ولده أم لا؟ وفي مشكل الآثار (٢ / ٢٣٠).

(٢) أخرجه أحمد (٦ / ٤٤٠).

(٣) أخرجه أحمد (٢ / ٣١١) ، والبيهقي (٢ / ١٢٠) ، من طريق مجاهد عنه قال :

أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثلاث ونهاني عن ثلاث : أمرني بركعتي الضحى كل يوم ، والوتر قبل النوم ، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ، ونهاني عن نقرة كنقرة الديك ، وإقعاء كإقعاء الكلب ، والتفات كالتفات الثعلب.

٣٣

وهو الشكر لله ، وجعل العبادة له وشكر الوالدين ؛ جزاء لما كان منهما إليه ، وقد ذكرنا أن ذلك فرض لازم ؛ فعلى ذلك صلة هؤلاء ؛ إذ صلتهم فريضة ؛ لما جاء من المواعيد الشديدة في قطع الرحم ، والترغيب في صلتهم.

ومنهم من قال : ذلك الحق نفل ؛ ألا ترى أنه قال : (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) ، (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) [الإسراء : ٢٩] ، وقال : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها) [الإسراء : ٢٨] ، فلا يحتمل ما ذكر من الإعراض عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها في الفرض ، دل أنّه في النفل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً).

قال بعضهم (١) : التبذير والإسراف : واحد ، وهو المجاوزة عن الحدّ الذي جعل في الإنفاق والحقوق ، والمجاوزة : عن المحق ، إلى غير (٢) المحق.

روي عن ابن مسعود (٣) أنه سئل عن التبذير ؛ فقال : إنفاق المال في غير حقه. وكذلك قول ابن عباس (٤) ، رضي الله عنه.

وقال بعضهم : التبذير هو الإنفاق فيما لا ينتفع به. ويحتمل ما ذكرنا أنه يترك الإنفاق على المحق وهم ذوو القربى ، وينفق على الأجنبيين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ).

أي : كانوا أولياء الشياطين.

(وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً).

أي : كفورا لنعم ربه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها).

عن الحسن قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل فيقول : «ما لآل محمد ـ وإنّهم لتسعة أهل أبيات ـ إلا صاع من طعام» (٥) فأنزل الله تعالى : (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) ، أي : عدهم أن

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٢٥٤).

(٢) في أ : وغير.

(٣) أخرجه الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والبخاري في الأدب المفرد وابن جرير (٢٢٢٤٤) ، (٢٢٢٥٠) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢٠).

(٤) أخرجه سعيد بن منصور والبخاري في الأدب المفرد وابن جرير (٢٢٢٥٢) و (٢٢٢٥٣) والبيهقي في شعب الإيمان ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢٠).

(٥) لم أجده مرسلا ، وهو موصول من حديث أنس.

أخرجه البخاري (٥ / ٢٢) ، كتاب البيوع باب شراء النبي بالنسيئة (٢٠٦٩) ، والترمذي (٢ / ـ

٣٤

سوف يأتي بالرزق.

عن ابن عباس (١) ـ رضي الله عنه ـ قال في قوله : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) : إذا سألوك ، وليس عندك شيء انتظرت من الله رزقا يأتيك ، (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً) : يكون ـ إن شاء الله ـ شبه العدة. وأمثال هذا قالوه.

ويحتمل قوله : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) : إعراض الوجه ، ويحتمل إعراض الإجابة ؛ فذلك يكون بالاستثقال والاستخفاف (٢) ، ولما ليس عنده شيء يعطيهم ثانيا ، لكن لا نعرف أن الإعراض كان للاستثقال والاستخفاف ، أو لما ليس عنده ما يعطيهم ؛ فأمر أن يبين لهم أن الإعراض [عنهم](٣) ليس للاستثقال والاستخفاف ، وكذلك ترك الإجابة لهم ، ولكن لما ليس عنده شيء ؛ ليعلموا أنّ الإعراض عنهم ليس للاستخفاف ولا للاستثقال ؛ ولكن لما ليس عنده ما يعطيهم ، أو يطلب ما يعطيهم ، وهو ما قال : (فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً).

أجمع أهل التأويل أن هذا الإعراض هو السؤال ؛ لأنه كان يعرض عنهم لابتغاء ما يعطيهم ، فذلك الإعراض يرجع منفعته إلى السؤال.

ثم اختلفوا في قوله : (مَيْسُوراً) :

قال بعضهم (٤) : عدهم عدة حسنة : إذا كان ذلك أعطيناك.

وقال بعضهم (٥) : أي : عدهم خيرا.

وقال بعضهم (٦) : قل لهم قولا لينا وسهلا.

وقال أبو عوسجة : (مَيْسُوراً) ، أي : حسنا ، وهو من التيسير ، ونحو ذلك قالوا ، أي :

__________________

ـ ٥٠٢ ، ٥٠٣) ، أبواب البيوع باب ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل (١٢١٥) ، والنسائي (٧ / ٢٨٨) ، كتاب البيوع باب الرهن في الحضر وابن ماجه (٤ / ٨٩ ، ٩٠) ، كتاب الرهون : باب حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة (٢٤٣٧) ، وأحمد (٣ / ١٣٣ ، ٢٠٨) ، من طرق عن قتادة عنه أنه مشى إلى النبي بخبز سنخة ولقد رهن النبي درعا له بالمدينة عند يهودي وأخذ منه شعيرا لأهله ولقد سمعته يقول :

ما أمسى عند آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم صاع بر ولا صاع حب وإن عنده لتسع نسوة.

(١) أخرجه ابن جرير (٢٢٥٩) ، ومن طريق آخر أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢١) ، وهو قول عكرمة ومجاهد وقتادة وغيرهم.

(٢) زاد في ب : مرة.

(٣) سقط في أ.

(٤) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٢٦١).

(٥) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٢٦٥).

(٦) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير (٢٢٢٦٥) ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢١).

٣٥

اردد عليهم ردّا حسنا ؛ ليقع عندهم أن الإعراض لما ليس عنده شيء لا لوجه آخر والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ).

فى الإنفاق إذا كان عندك.

(وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ).

فيلومك من رجاك ؛ ولكن كما (١) قال : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ...)

الآية [الفرقان : ٦٧] أمر الله أن ينفقوا نفقة ليس فيها سرف ولا إقتار ، وهو قول ابن عباس (٢) ـ رضى الله عنه ـ وغيره.

وقال بعضهم : لا تمسك عن النفقة فيما أمرك ربك به من (٣) الحق ، ولا تبسطها كل البسط فيما نهاك عنه ؛ فتقعد كذا.

وقال بعضهم (٤) : هذا نهي عن البخل والسّرف ، فلئن كان هذا نهيا عن البخل كان قوله : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) نهيا عن الجود ، ولا يحتمل أن ينهى أحد عن البخل والجود ؛ لأنهما غريزتان طبعيّتان ، ولا ينهى أحد عما كان سبيله الطبع والغريزة ، ولكن ما ذكرنا ـ والله أعلم ـ من كف اليد وقبضها عن الإنفاق في الحق و [ذي] الحق ، وبسطها في غير الحق وذي الحق.

وقال أبو بكر الأصم : دل قوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) أن قول اليهود : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) [المائدة : ٦٤] : أنهم لم يريدوا حقيقة اليد ، ولكن التضييق والتقتير ، وكذلك لم يرد بقوله : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) [المائدة : ٦٤] ـ حقيقة بسط اليد ، ولكن أراد التوسيع في الرزق والتكثير ؛ ألا ترى أنه قال : (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) [المائدة : ٦٤].

ثم يحتمل الخطاب في هذه الآيات الوجوه الثلاثة التي ذكرنا فيما تقدم في غير موضع : أحدها : أنه خاطب رسوله بذلك كله ، وشارك فيه قومه ، وفي القرآن كثير أنه خاطب رسوله بأشياء فيشرك قومه في ذلك.

والثاني : خاطب كلّا في نفسه نحو ما ذكرنا في قوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) [الانفطار : ٦ ، الانشقاق : ٦] ، و (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [البقرة : ٢١] ، وقوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)

__________________

(١) في أ : لما.

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٢٢٧١) ، و (٢٢٢٧٢) ، وابن أبي حاتم بنحوه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢٢).

(٣) في أ : عن.

(٤) قاله الحسن ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٢٢).

٣٦

[الإخلاص : ١] ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) [الفلق : ١] ، [و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)](١) ونحوه من الخطابات ، خاطب كل أحد في نفسه ؛ إذ لا يحتمل أن يخاطب في : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) رسول الله خاصة ، ولا يخاطب غيره ؛ بل الخطاب به كل الناس وكل إنسان.

والثالث : خاطب رسوله على إرادة غيره على سبيل الخصوصية له ، نحو ما يخاطب ملوك الأرض خواصهم وأعقلهم من رعيتهم ؛ على إرادة ذلك الخطاب غير المخاطبين ؛ فعلى ذلك يحتمل هذا ، أو أن يكون خاطب بقوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ) غيره ممّن يمسك ، ويخاطب بقوله : (وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) رسول الله ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحتمل أن يكون ما ذكر ، وقد يحتمل البسط ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً).

يحتمل قوله : (مَلُوماً) : عند نفسك وعند الناس ، تلوم نفسك بأنك : لم أنفقت؟! وعند الناس : لمّا لم تجد ما تنفق عليهم ، وعند الله ـ أيضا ـ إذا أنفقت في غير حق.

(مَحْسُوراً) : قال القتبي (٢) : أي : تحسرك العطية وتقطعك ، كما يحسر السفر البعير فيبقى منقطعا :

وقال أبو عوسجة : هو من الحسرة ، وهي الندامة ، يقال : حسر الرجل فهو محسور ، وقال : التبذير : الفساد ، و (مَلُوماً) ، أي : ملوما محزونا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ).

أي : هو يوسع الرزق على من يوسع ، وهو يقتّر ويضيّق على من يضيق ويقتر ، أي : ذلك إلى الله لا إلى الخلق ؛ ليقطعوا الرجاء من الخلق ، ويروا ذلك من الله لا يرون من غيره.

والثاني : ذكر هذا ؛ ليدوم الفضل لمن ذكر الفضل ، ويتبين لهم حيث قال : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) [الإسراء : ٢١].

ومن الناس من قال بأن قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) صلة قوله : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) ، يقول ـ والله أعلم ـ إنك إن منعته وحرمته ، وكان في تقدير الله التوسيع عليه والبسط ـ لم يضره منعك ولا حرمانك ، ولو وسعت عليه وبسطت ، وكان في تقديره التضييق والتقتير لم ينفعه بسطك ولا توسيعك ؛ ليعلموا أن التوسيع والبسط ، والتضييق والمنع من الله ، أو ذكر ليقطعوا الرجاء من الخلق

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٥٤).

٣٧

ويطمعوا في رحمته وفضله ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً).

أي : عالما بأعمالهم ، بصيرا بمصالحهم وما لهم وما عليهم ، أو أن يكون الخبير والبصير واحدا ، أو ذكر هذا ؛ ليعلم أنه على علم بما يكون ـ منهم أنشأهم ـ : من الخلاف لأمره والردّ والتكذيب لرسله ، ولم يخرج فعله وإنشاؤه إياهم على علم بما يكون منهم عن الحكمة ؛ لأنه لا منفعة له في طاعتهم إياه وائتمارهم ، ولا مضرة ولا منفعة في خلافهم إياه ؛ بل المضرة والمنفعة في ذلك راجعة إليهم ، لذلك كان إنشاؤه إياهم على علم بما يكون منهم حكمة ، ومن ملوك الأرض سفهاء وجهلاء ؛ لأن ما يرسلون من الرسل ، ويعملون من الأعمال ، ويسعون لمنافع أنفسهم ، ولدفع مضارّهم ؛ فإذا فعلوا شيئا يضرهم ـ على علم منهم بالضرر ـ كان ذلك سفها ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً)(٣٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ).

قال أبو بكر الأصم : إنّ من عادة العرب أنهم كانوا يقتلون البنات ويقتلون البنين ؛ إذا صاروا بحيث لا ينتفعون بهم ، ويقتلون الآباء والأمهات ؛ إذا بلغوا أرذل العمر ؛ فنهى الله أهل الإسلام عن الاستنان بسنتهم ، وأمر أن يبرّوا الآباء والأمّهات إذا بلغوا ذلك المبلغ ، وهو ما قال : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما ...) إلى آخر ما ذكر.

وفي قتل ما كانوا يقتلون من البنات قطع التناسل والتوالد الذي كان المقصود من إنشاء هذا العالم ؛ ذلك إذ المقصود من إنشاء العالم هذا الذي ذكرنا ، وفي قتل البنات قطع ذلك وذهاب المقصود من إنشائه ، ثم قال :

٣٨

(نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ).

أي : هم لا يأكلون من أرزاقكم ؛ بل لكل منكم رزق على حدة ، ليس في بقائهم نقصان في رزقكم ولا في فنائهم زيادة ؛ بل كلّ يأكل رزقه ، أو لا ترون أنّه قد أنشأ لهم رزقا لا شركة لكم فيه ، وهو ما أنشأ لهم من اللّبن في الضرع ، ولا تنتفعون أنتم به؟! فظهر أن كلّا يأكل رزقه ، لا يدخل بعض في رزق بعض نقصانا. ثم قال :

(إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) [أي : إن قتلهم في العقول كان خطأ كبيرا](١) ، لما ذكرنا أن في قتلهم قطع ما به قصد في إنشاء هذا العالم وفنائه ، أو يقول : (إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً) : في الأمم الخالية. ويشبه أن يكون خطاب ما خاطب هؤلاء الآيات : من قتل الأولاد ، والزنى ، وقتل النفس بغير حق ، وغير ذلك ما تقدم وما تأخر ؛ لوجهين :

أحدهما : ما كان للعرب أفعال وعادات السوء ممّا يخرج على السفه والقبح في العقل ، خارجة عن الحكمة تنهاهم عن ذلك.

والثاني : ذكر هذا ونهى ؛ لما علم أنه قد يكون في خلقه من يفعل ذلك خشية ما ذكر ، ويحملهم ذلك على ما ذكر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً).

أي : في العقل كان وقت ما كان فاحشة ؛ لأن في إباحة الزنى ذهاب المعارف التي بها يوصل إلى الحكمة والعلم ، أو كان فاحشة في الحكمة ؛ ألا ترى أنه قال : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) [الأعراف : ٢٨] : دل قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ـ على أن هنالك فحشاء قبل الأمر في الحكمة أو في العقل ، حتى قال : (لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) ؛ إذ لو لم يكن ـ لكان قال : لا يأمر ، حسب ، وفي إباحة قتل الأنفس ذهاب ما به قصد من إنشاء العالم.

أخبر ـ عزوجل ـ : [في قتل الأولاد أنه](٢)(كانَ خِطْأً كَبِيراً) ، وهو ما يعظم في العقل ، وذكر في الزنى فاحشة ، وهو ما يفحش في العقل والحكمة ، وذكر في قتل النفس الإسراف ، وقال : (فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) ، والإسراف هو المجاوزة عن الحدّ الذي جعل له.

ويحتمل قوله : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) ، أي : لا تزنوا ؛ فإنه كان فاحشة ، ويحتمل : لا تقربوا الأسباب التي بها يوصل إلى الزنى (٣).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : اللباب (١٢ / ٢٧٠ ، ٢٧١).

٣٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِ).

والحق ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لا يحلّ دم امرئ مسلم إلّا فى ثلاث : كفر بعد إسلام ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس بغير حقّ» (١).

حرم الله قتل النفس بغير حق ؛ إذ في إباحته ذهاب ما قصد من إنشاء [هذا](٢) العالم ، وفي التحريم حياة الأنفس ، وفي إباحة الزنى ذهاب المعارف وجهالتها ، وفي تحريمه (٣) : حياة المعارف وإبقاؤها. والوصول إلى الحكمة والعلوم التي يطلب بعضهم من بعض ؛ إذ لا يعرف أهل الحكمة من غيرهم ؛ ففي ذلك ذهاب العلوم والحكمة.

وفي القتل على الدّين ـ إذا استبدله ـ حياة الدّين ؛ لأن من تفكر قتل نفسه إذا ترك الدّين ـ أعني دين الإسلام ـ ورجع عنه ، لم يترك دينه الإسلام ، ومن تفكر رجمه بالزنى ـ امتنع عن الزنى وتركه ، ومن تفكر أنه يقتل إذا قتل غيره ـ امتنع عن قتله ؛ ولذلك قال : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩].

فإن قيل ـ في المرأة إذا ارتدت عن الإسلام ـ : إنها لا تقتل.

قيل : لأنه ليس في قتلها حياة الدّين ؛ لأن النساء أتباع للرجال في الدين ؛ لأنهنّ يسلمن

__________________

(١) أخرجه الشافعي (٢ / ٩٦) كتاب : الديات ، الحديث (٣١٨) ، والطيالسي (ص ـ ١٣) ، الحديث (٧٢) ، وأحمد (١ / ٦١).

والدارمي (٢ / ٢١٨) كتاب : السير ، باب : لا يحل دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله ، والترمذي (٤ / ١٩) كتاب : الديات ، باب : ما جاء لا يحل دم امرئ مسلم ، الحديث (١٤٠٢) ، والنسائي (٧ / ١٠٣) كتاب : تحريم الدم ، باب : الحكم في المرتد ، وابن ماجه (٢ / ٨٤٧) كتاب : الحدود ، باب : لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث ، الحديث (٢٥٣٣) ، والحاكم (٤ / ٣٥٠) كتاب : الحدود ، وابن الجارود (ص ـ ٢١٣) رقم (٨٣٦) من حديث عثمان.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

وأخرجه الطيالسي (ص ـ ٢١٦) ، الحديث (١٥٤٣) ، وأحمد (٦ / ٢١٤) ، وأبو داود (٤ / ٥٢٢) كتاب : الحدود ، باب : الحكم فيمن ارتد ، الحديث (٤٣٥٣) ، والنسائي (٧ / ١٠١ ـ ١٠٢) باب الصلب والحاكم (٤ / ٣٦٧) من حديث عائشة ، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي.

وأخرجه البخاري (١٢ / ٢٠١) كتاب : الديات ، باب : قوله تعالى : إن النفس بالنفس ، حديث (٦٨٧٨).

ومسلم (٣ / ١٣٠٢) كتاب : القسامة ، باب : ما يباح به دم المسلم (٢٥ / ١٦٧٦) ، والترمذي (١٤٠٢) ، وأبو داود (٤٣٥٢) والنسائي (٧ / ٩٢) وابن ماجه (٢٥٣٤) ، والدارمي (٢ / ٢١٨) ، والدارقطني (٣ / ٨٢) ، والبيهقي (٨ / ١٩) ، وأحمد (١ / ٣٨٢ ، ٤٢٨ ، ٤٤٤ ، ٤٦٥) ، عن عبد الله بن مسعود مرفوعا بنحوه.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : تحريمها.

٤٠