تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

قوله تعالى : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)(١٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا).

قال بعضهم : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) ، أي : لم نجعل له مثل يحيى من قبل في الفضل والمنزلة ؛ لأنه روي عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لم يكن من ولد آدم إلا وقد عمل بخطيئة أو همّ بها غير يحيى بن زكريا ؛ فإنه لم يهم بخطيئة ولا عمل بها» (١).

وقال بعضهم (٢) : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) ، أي : لم يسم أحد قبله يحيى.

وجائز أن يكون قوله : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) ، أي : يتولّى الله تسميته يحيى ، لم يول تسميته غيره ، وسائر الخلق تولى أهلوهم تسميتهم (٣).

وقوله : (قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً).

قال الحسن : إن زكريا استوهب ربه الولد ، فأجابه وبشّره ، فقال : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) ، وطلب منه الآية لذلك ، فقال : (اجْعَلْ لِي آيَةً) ، فما عابه على ذلك ، ولا وبّخه ، ولكن رحمه ، أو كلام نحو هذا.

وقال غيره : إنما أمسك لسانه واعتقله عقوبة لما سأل من الآية ، هؤلاء كلهم يجعلون ذلك منه زلة منه ، إلا أن الحسن قال : لم يعبه على ذلك ، ولا عاقبه عليه ، ولكن ذكر ذلك رحمة منه إليه ، وغيره يجعل ذلك عقوبة لما كان منه.

وجائز أن يخرج ذلك على غير ما قالوا ، وهو أن قوله : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) أي : على أيّ حال يكون مني الولد ، على الحال التي أنا عليها ، أو أرد إلى شبابي ، ففي تلك الحال

__________________

(١) أخرجه أحمد والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والحاكم وابن مردويه عن ابن عباس ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٧٣).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٣٥٠٨ ، ٢٣٥٠٩).

(٣) ينظر : اللباب (١٣ / ٧).

٢٢١

يكون مني الولد ، فذلك منه استخبار واستعلام عن الحال الذي يكون منه الولد ، ليس على أنه لم يعرف أنه قادر على إنشاء الولد في حال الكبر ، وبسبب وبلا سبب ، وعلى ذلك يخرج قوله حيث قال كذلك : (قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) ، أي : قبل أن نخلقك لم تك شيئا.

وطلب الآية والعلامة بعد ما بشر يخرج على وجهين :

أحدهما : أنّه لما بشر بالولد لعله أشكل عليه بأن تلك بشارة ملك أو غيره ، فطلب منه العلامة ليعرف أن تلك بشارة ملك ، وأنها من الله أو غيره لأنه ذكر في الآية : (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) [آل عمران : ٣٩] فطلب الآية يخرج منه على استعلام بشارة الملك ، وأن ذلك من الله لا أنه لم يعرف قدرة الله أنه قادر على خلقه في كل حال ، هذا لا يظن بأضعف مؤمن في الدنيا فكيف يظن بنبيّ من الأنبياء؟!

أو أن يكون طلب الآية منه ليعرف وقت حملها الولد ، ووقت وقوعه في الرحم ؛ ليسبق له السرور بحمله عن وقت الولادة ، وعن وقت وقوع بصره عليه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَلَيَّ هَيِّنٌ) ، لأني أخلق بسبب ، وبغير سبب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا).

قال بعضهم (١) : آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال ، وأنت سويّ صحيح.

وقال بعضهم (٢) : (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) ، أي : ثلاثا تامات بأيامها على ما قاله في آية أخرى : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران : ٤١] ذكر هاهنا ثلاث ليال وفي تلك الآية (٣) ثلاثة أيام والقصة واحدة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

قوله : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) ، قيل (٤) : أومأ إليهم.

وقيل (٥) : كتب لهم على الأرض.

وجائز أن يكون أوحى إليهم بالشفتين على ما ذكر في آية أخرى : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) [آل عمران : ٤١] ، والرمز : هو تحريك الشفة والإيماء بها.

__________________

(١) قاله السدي : أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٥٢٢) وهو قول قتادة وابن زيد.

(٢) قاله السدي : أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٥٣١).

(٣) ينظر : اللباب (١٣ / ٢٣).

(٤) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٦٩) ، وهو قول قتادة أيضا.

(٥) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٣٥٣٩) ، وهو قول السدي والحكيم.

٢٢٢

قال أبو عوسجة : عاقر وعقيم : المرأة التي لا تلد ، وقوله : (عِتِيًّا) قال : هو أشد الكبر شيبا ، أي : كبر الشيب. والمحراب ، قال : إن شئت قصرا ودارا ، وقال القتبي (١) : (عِتِيًّا) ، أي : يبسا ، ويقال : عتيّا وعتيا ، بمعنى واحد ، ويقال : ملك عات ، إذا كان قاسي القلب غير لين. وسويّا أي : سليما.

وقوله : (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) ، قد ذكرنا أنه أومأ إليهم.

وقال بعضهم (٢) : كتب لهم على الأرض.

وقوله : (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

يحتمل قوله : (أَنْ سَبِّحُوا) ، أي : صلوا لله بكرة وعشيّا ، فإن كان التسبيح هو الصلاة ، ففيه أن الصلاة كانت في الأمم الماضية في ختام الليل.

ويحتمل التسبيح نفسه والثناء على الله ، والدعاء له بالغدوات والعشيات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ).

قال بعضهم : خذ الكتاب بما قواك الله وأعانك.

وقال بعضهم (٣) : خذ الكتاب واصبر على العمل بما فيه.

وقال بعضهم (٤) : خذ الكتاب بقوة ، أي : بجدّ.

قال أبو بكر الأصم : الجدّ : هو الانكماش في العمل ، والقوة هي احتمال ما حمل عليه.

وفيه دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يقولون بأن القوة تتقدم الفعل ، ثم لا تبقى وقتين ، فيكون على قولهم آخذا بغير قوة ، وقد أمره أن يأخذه بقوة ، فقولهم على خلاف ما نطق به ظاهر الكتاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا).

قال بعضهم (٥) : (الْحُكْمَ) ، أي : النبوة حال صباه.

وقال بعضهم (٦) : آتاه الله الفهم واللبّ.

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧٢).

(٢) تقدم.

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٣٥٤٥ ، ٢٣٥٤٦) وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٧٠) ، وهو قول قتادة.

(٤) قاله سعيد بن جبير بنحوه ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٧٠).

(٥) قاله ابن عباس ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٩٠).

(٦) ورد في معناه حديث عن ابن عباس ، أخرجه أبو نعيم وابن مردويه والديلمي ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٧٠) وهو قول عكرمة.

٢٢٣

وقال بعضهم : الحكمة والعلم. فكيفما كان ففيه فساد مذهب المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الله تعالى لا يخص أحدا بنبوّة ، ولا شيء من الخيرات إلا بعد أن يسبق من المختص له ما يستوجب ذلك الاختصاص ، ويستحقه ، فما الذي كان من يحيى في حال صباه وطفوليته ما يستوجب به النبوة ، وما ذكر من الحكم أنه آتاه ، فدلّ ذلك [أن] الاختصاص منه ـ يكون لمن كان ـ إفضالا منه وإنعاما ورحمة ، لا باستحقاق من المختص له واستيجابه.

وفي قوله : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) دلالة أنه كان نبيّا حيث كان أخبر أنه آتاه الكتاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) هو على قوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) وآتيناه حنانا وزكاة أيضا.

ثم اختلف في قوله : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) :

قال ابن عباس (١) : تعطفا من لدنا.

وقال بعضهم (٢) : أي : رحمة من لدنا ، وهو قول الحسن (٣).

وقال بعضهم (٤) : الحنان : المحبة.

وقال أبو عوسجة : حنانك وحنانيك كلاهما يعني : رحمتك ، وقال : أصله من التحنن ، وهو الترحم (٥).

وقال القتبي (٦) : أصله من حنين الناقة على ولدها.

وقوله : (وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا).

قال بعضهم (٧) : زكاة ، أي : صدقة تصدق بها على زكريا وزوجته في الوقت الذي لا يرجو فيه مثلهما الولد.

__________________

(١) أخرجه عبد الرزاق والفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والزجاجي في أماليه وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات من طريق عكرمة عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٧١) وهو قول مجاهد أيضا.

(٢) قاله ابن عباس : أخرجه ابن جرير (٢٣٥٤٩) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٧١).

(٣) أخرجه عبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٧١) وهو قول عكرمة وقتادة والضحاك.

(٤) قاله عكرمة وابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٣٥٥٧ ، ٢٣٥٥٨).

(٥) ينظر : اللباب (١٣ / ٢٥ ـ ٢٦).

(٦) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧٣).

(٧) قاله قتادة : أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٧١) ، وهو قول الكلبي أيضا.

٢٢٤

وقال بعضهم (١) : زكاة ، أي : صلاحا وما ينمو به من الخيرات.

وجائز أن يكون الزكاة اسم كل خير وبركة ، وهو كالبر من التقوى ، كأنه قال : أعطيناه كل بر وخير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ تَقِيًّا) عن جميع الشرور ، كقوله : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) [المائدة : ٢] أي : تعاونوا على البرّ وتعاونوا أيضا على دفع الشرور.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ) هو على قوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) [أي] : وآتيناه البرّ بوالديه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا).

بل كان خاضعا لله ذليلا مطيعا.

وقال الحسن : (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا) ، أي : لم يكن فيمن يجبر الناس على معصية الله.

وقال أهل التأويل (٢) : (وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) أي : قتالا ، أي : لم يكن ممّن يقتل على الغضب ويضرب على الغضب.

وأصله ما ذكرنا : أنه كان ـ على ضدّ ما ذكر ـ خاضعا لله ، مطيعا له ، على ما ذكر أنه لم يرتكب ذنبا ولا هم به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا).

يحتمل : (السلام عليه) الوجوه الثلاثة :

أحدها : هو اسم كل برّ وخير ، أي : عليه كل برّ وخير في هذه الأحوال التي ذكر.

والثاني : (السلام) هو الثناء ، أثنى الله عليه في أوّل أمره إلى آخره ، وبعد الموت في الآخرة ، أو أن يكون قوله : (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) أي : السلامة عليه في هذه الأحوال التي يكون للشيطان في تلك الأحوال الاعتراض والنزغ فيها ؛ لأنه وقت الولادة يعترض ويفسد الولد إن وجد السبيل إليه ، وكذلك عند الموت يعترض ويسعى في إفساد أمره فأخبر أن يحيى كان سليما سالما عن نزغات الشيطان ، محفوظا عنه حتى لم يرتكب خطيئة ، ولا همّ بها ، والله أعلم.

وفي قوله : (وَيَوْمَ يَمُوتُ) دلالة أن الموت والقتل سواء ، وإن كان في الحقيقة مختلفا ؛ لأنه ذكر في القصة أن يحيى قتل ، ثم ذكر الموت ، فدل أنهما واحد ، فهذا يرد على

__________________

(١) قاله قتادة بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٥٦١) ، وهو قول ابن جريج والضحاك.

(٢) قاله البغوي (٣ / ١٩٠).

٢٢٥

المعتزلة ، حيث قالوا : إن المقتول ميت قبل أجله ، وفيه أن قوله : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ) [البقرة : ١٥٤] إنما نهانا أن نسميهم أمواتا في جهة ليس في الجهات كلها ، حيث سمى يحيى : ميتا ، وهو كان شهيدا على ما ذكر أنه قتل.

وفي قوله : (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) استدلال لأبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ حيث وقف في أولاد المسلمين والمشركين ، فقال : لا علم لي بهم ، ولم يقطع فيهم القول ؛ لما يجوز أن يجعل الله لهم من المنزلة والتمييز والفهم في حال صغرهم حتى يعرفوا خالقهم ومنشئهم ، على ما أعطى يحيى وعيسى في حال صباهما وصغرهما الحكم والفهم والمعرفة.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا)(٢٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ).

قال الحسن : هو صلة قوله : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) [مريم : ٢] أي : اذكر رحمة ربك مريم.

وقال بعضهم : واذكر نبأ مريم وقصتها في الكتاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا) ، أي : نحو المشرق.

ثم يحتمل قوله : (انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها) إذا بلغت مبلغ النساء فارقت أهلها ، وانتبذت منهم ؛ لئلا يقع بصر غير ذي الرحم المحرم عليها ، وألا يراها أحد ، ولا يصلح النظر إليها.

وقال بعضهم (١) : (مَكاناً شَرْقِيًّا) أي : جلست في المشرقة ؛ لأنه كان في الشتاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) :

قال بعضهم : احتجبت من دونهم بالغيبة عنهم.

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ١٩٠ ـ ١٩١).

٢٢٦

وقال بعضهم (١) : أخذت من دونهم حجابا ، أي : سترا.

وقال مقاتل (٢) : اتخذت من دونهم الجبل حجابا وسترا ، أي : جعلت الجبل بينها وبين أهلها ، فلم يرها أحد منهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) :

قال أبيّ بن كعب (٣) : هو روح عيسى ، أرسله الله إلى مريم في صورة بشر ، (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا).

وقال غيره من أهل التأويل (٤) : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) : جبريل ، وقد سمى الله جبريل : روحا في غير آي من القرآن : (رُوحُ الْقُدُسِ) [النحل : ١٠٢] وغيره.

(فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) أي : لم يكن به أثر غير البشر.

وقال بعضهم (٥) : (بَشَراً سَوِيًّا) لا عيب فيه ولا نقصان ، بل كان سويّا صحيحا كاملا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا).

فإن قيل : كيف تعوذت بالرحمن إن كان تقيّا ، وإنما يتعوذ بالرحمن من الفاجر والفاسق؟ قال الحسن : قوله : (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) مفصول من قوله : (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ) ، فيكون على الابتداء ، كأنها قالت : (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) لا ينالني منك سوء ولا يمسّني شر.

ويحتمل قوله : (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي : ما كنت تقيّا ، أي : حيث دخلت عليّ من غير استئذان منك ولا استئمار ما كنت تقيّا ، ويحتمل قوله : (إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) أي : وقد كنت تقيّا ، فعلى هذا التأويل كأنه دخل عليها على صورة بشر عرفته بالتقى والصلاح ، فكأنها قالت : قد كنت عرفتك بالتقى والصلاح فكيف دخلت عليّ بلا إذن ولا أمر؟! وقد يجوز أن يستعمل (إن) مكان (ما) ومكان (قد) ، و [هو] في القرآن كثير ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) هو على

__________________

(١) قاله ابن عباس ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٩١).

(٢) انظر : تفسير البغوي (٣ / ١٩١).

(٣) أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، والبيهقي في الأسماء والصفات ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٠).

(٤) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٣٥٨٠) وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٠) ، وهو قول وهب بن منبه وابن جريج وغيرهما.

(٥) انظر : تفسير البغوي (٣ / ١٩١).

٢٢٧

الإضمار ، كأنه قال : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) بالقول بأن أهب لك غلاما زكيّا ، أي : أرسلني إليك بهذا القول وهو قوله : (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا).

وفي حرف ابن مسعود (١) : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا).

وقوله ـ عزوجل ـ : (زَكِيًّا) أي : صالحا ، طاهرا عن جميع الشرور.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) ، أي : قالت : لم يمسسنى بشر ، يعلم أنه لم يمسها بشر لا تقي ولا غيره ، لكن كأنها قالت : لم يمسسني بشر نكاحا ولم أك بغيّا ، فمن أين يكون لي ولد؟ كأنها لم تعرف الولد إلا بسبب ؛ لذلك قالت : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ) ، أي : أخلق بسبب وبلا سبب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي : خلق الشيء بسبب وبغير سبب هيّن عليّ.

وقال بعضهم : قوله : (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ) للأنبياء الذين كانوا من قبل : إنه يخلق ولدا بلا أب ولا أمّ.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) ، أي : نجعل ولادته بلا أب على ما أخبر الأنبياء من قبل ـ آية للناس لرسالتهم ؛ لأنهم أخبروا أنه يولد ولد بلا أب ولا أم ، فكان ما أخبروا ، فدلّ ذلك أنهم إنما عرفوا ذلك بالله ؛ فيكون ذلك آية لصدقهم ، ويكون قوله : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي : ذلك الخبر الذي أخبر الأنبياء من قبل ، والوعد الذي وعد لهم أمرا مقضيّا كائنا.

وقال أهل التأويل في قوله : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) ، أي : نجعل عيسى آية للناس حيث ولد بلا أب ، وكلم الناس في المهد ، وغير ذلك من الآيات التي كانت فيه.

وجائز أن يكون آية للناس للبعث ؛ لأنه أنشأه بلا أب ولا سبب ، وهم إنما أنكروا البعث لما لم يعاينوا الولد بغير أب أيضا ثم كان ، فعلى ذلك البعث ؛ إذ لا فرق بينهما ؛ لأن من قدر على إنشاء الولد بلا أب ولا أم قدر على الإحياء بعد الموت ، بل هو أولى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَحْمَةً مِنَّا) أي : رحمة منا للخلق ؛ لأن من اهتدى واتبعه كان له به نجاة ، وهو ما قال الله تعالى لرسوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] وعلى ذلك جميع الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله إلى خلقه كان ذلك رحمة منه إلى خلقه.

__________________

(١) أخرجه عبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨١).

٢٢٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي : كان أمره كائنا ، وعلى التأويل الذي ذكره أبو بكر الأصم في قوله : (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) يكون قوله : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي : كان وعدا وخبرا معلوما على ما أخبر الأنبياء عن نبأ عيسى وأمّه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا).

دلّ هذا على أن الولاد لم يكن على إثر الحمل ، ولكن كان بين الولاد وبين الحمل وقت ، لكن لا يعلم كم ذلك الوقت إلا بخبر عن الله (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا).

قال بعضهم (٢) : تباعدت به ؛ حياء من أهلها.

وقال بعضهم : انفردت به مكانا قصيّا متباعدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) :

قال القتبي (٣) : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) أي : جاء بها ، من المجيء ، وألجأها إليها ، يقول : جاءت بي الحاجة إليك ، وأجاءتني الحاجة. والمخاض : هو الحمل.

ودل قوله : (فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا) أن النخلة التي ألجأها المخاض إليها كانت يابسة ، على ما قاله أهل التأويل ؛ لأنه إنما انتبذت مكانا قصيّا وتباعدت حياء من أهلها ، فلو كانت تلك النخلة رطبة ذات ثمار ، لكان الناس يأوون إليها ويقيمون عندها ، فلا يحتمل أن تأوي إليها مريم وعندها يأوي الناس ، ثم التجاؤها إلى النخلة لتتساند إليها وتستعين بها على ما تقع الحاجة للنساء وقت الولادة إلى شيء يستعن به عما ينزل بهن من الشدة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا).

يحتمل أن يكون (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) ، أي : وكنت غير معروفة.

ويحتمل أن يكون ـ على ما ذكر ـ (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) : لا أذكر بعد الموت بذلك ، لأنه ذكر أنها كانت من أهل شرف وكرم ، ومن أهل بيت النبوة ، فتمنت أن تكون غير معروفة ؛ لئلا تذكر بسوء بعدها ولا بقذف.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٣٨ ـ ٣٩).

(٢) انظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٣٢٢) ، والبغوي (٣ / ١٩٢).

(٣) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧٣).

٢٢٩

وقال أهل التأويل (١) : (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا) أي : حيضة ملقاة ، وكذلك قال أبو عوسجة : النسي : الحيض.

قال أبو بكر الأصم : لا يحتمل هذا ؛ لأنها قد عرفت قدرها عند الله ، فلا يحتمل أن تتمنى ما ذكر ، لكن الإنسان ربما يتمنى الأمر العظيم إذا اشتد به الأمر ، نحو ما يتمنى الموت في بعض الوقت لعظم ما يحل به ، فعلى ذلك غير منكر هذا من مريم أن تتمنى ما ذكر أهل التأويل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَناداها مِنْ تَحْتِها). ومن تحتها اختلف فيه :

قال بعضهم (٢) : ناداها ملك.

وقال بعضهم (٣) : ناداها ابنها عيسى.

قال أبو بكر الأصم : لا يحتمل أن يكون [الذي] ناداها ملكا ؛ لأنه قال : (مِنْ تَحْتِها) ، ولو كان ملكا لناداها من فوقها ، لكن هذا ليس بشيء ؛ لأن الملك إنما ينادي من حيث يؤمر ، من تحت ومن فوق.

وقال بعض أهل التأويل (٤) : ناداها جبريل من تحت الوادي : (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا).

والأشبه أن يكون ابنها عيسى ؛ لأنها كانت تحزن أن تشتم وتقذف به ، فعيسى إذا تكلم وصار بذلك المحل تسر هي بذلك ، لما تعلم أنه ينفي عنها بعض ما طعنت به وقذفت.

ويحتمل حزنها من وجه آخر : وهو أنها كانت حزنت خوفا على نفسها وعلى ولدها ؛ لأنها أقامت في مكان لا ماء فيه ولا طعام ، فخافت على نفسها وولدها الهلاك ، فحزنت لذلك فبشرت حيث قال لها : (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) : أمنها عن الخوف الذي كان.

ثم السري : قال بعضهم من أهل التأويل (٥) : هو الجدول ، وهو النهر الصغير.

__________________

(١) قاله عكرمة : أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨١) ، وهو قول مجاهد والضحاك.

(٢) قاله البراء ، أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٢).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٣٦٢٦ ـ ٢٣٦٢٩) وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٢) ، وهو قول قتادة والحسن وسعيد بن جبير وغيرهم.

(٤) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٣٦١٤) وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٢) ، وهو قول الضحاك وعكرمة وعمرو بن ميمون وغيرهم.

(٥) قاله البراء بن عازب أخرجه ابن جرير (٢٣٦٣٧) وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه ، وابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٣) وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، والحسن ، وسعيد بن جبير ، والضحاك ، وقتادة ، وغيرهم.

٢٣٠

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) :

فيه دلالة لزوم الكسب ؛ لأنه أمر مريم أن تهز النخلة ليتساقط عليها الرطب ، ولو شاء لسقط من غير فعل يكون منها ؛ لتجتنى هي ، وذلك عليها أهون وأيسر ؛ على ما كان رزقها عند ما كانت مئونتها على زكريا.

وفيه دلالة ألا يسع للمرء المسألة ما دام به أدنى قوة يقدر على قوته.

وفيه دليل أن زكريا كان أفضل منها وأكبر منزلة عند الله حيث رزقها عند ما كانت في عيال زكريا من غير تكلف كان من زكريا ولا مئونة ، فلما فارقت زكريا أمرها بالكسب.

وفيه دلالة : أن الآيات التي تكون للأنبياء يجوز أن يجريها على غير أيدي الأنبياء ، حيث جعل لمريم نخلة يابسة رطبة تثمر رطبا ، وحيث جعل من تحتها سريّا ، أي : نهرا جاريا ، وحيث رزقها عند ما كانت في عيال زكريا من غير تكلف أحد ، فذلك يشبه آيات الأنبياء والرسل ويقاربها.

وهذه المحن التي امتحن بها مريم في الظاهر عظيمة عند الناس ، وفي الباطن من أعظم كراماته إليها : أنه أخبر أنه ـ تعالى ـ اصطفاها على نساء العالمين بقوله : (إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٤٢] ، وسماها : صدّيقة بقوله : (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [المائدة : ٧٥] ، وذلك لا يسمّى إلا من بلغ من البشر في الصدق والصبر له غاية ، والله أعلم.

وقال بعضهم (١) في قوله : (فَناداها مِنْ تَحْتِها) أي : من تحت النخلة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً).

أي : كلي الرطب الذي يتساقط عليك ، واشربي من السرى الذي جعل تحتك (٢).

و (وَقَرِّي عَيْناً) أي : وارضي مكان ما حزنت عليه وخفت على نفسك وعلى ولدك ، أو طيبي نفسا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) أي : صمتا وسكونا ، وكذلك روى في بعض الحروف ، وهو في حرف أبي ، وقال : ثم قوله : (فَقُولِي) ليس على القول نفسه ، ولكنه إشارة ، أشارت إليهم : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) فإن كان على هذا ، ففيه دلالة أن الإشارة إذا كانت بحالة مفهمة المراد تعمل عمل القول نفسه والكلام ؛ ولذلك وقع الطلاق بالإشارة والنكاح ، وكل عقد من الأخرس وغيره إذا كانت الإشارة مفهومة معقولة.

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٢).

(٢) ينظر : اللباب (١٣ / ٤٩).

٢٣١

وقال بعضهم : قوله : (فَقُولِي) هو على حقيقة القول ، أي : أمرت أن تقول : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) ، فكأن نذرها الصوم للرحمن بعد هذا القول (١) ، وإلى هذا يذهب الحسن.

قوله تعالى : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ)(٤٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ) أي : بعيسى قومها تحمله : (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا).

قال أبو بكر الأصم : لقد فريت عظيما من الأمر ، لكنه يخرج تأويل فريت من التقدير ، يقال : فري ، أي : قدر.

وقال بعضهم (٢) : لقد افتريت عظيما ، وهو قذف صريح بالزنى ، كقوله : (يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) [الممتحنة : ١٢].

وقال بعضهم : (شَيْئاً فَرِيًّا) كل قائم عجب ، أو من عمل فهو فري ، وهو هاهنا عجب فري ، وهذا أقرب ؛ إذ لا يجوز أن يحمل كلامهم على تصريح القذف وثم لتعريض القذف مساغ ووجه ، والله أعلم.

وقوله : (يا أُخْتَ هارُونَ) قال بعضهم (٣) : كانت أخت هارون بن عمران أخي موسى ، وعلى ذلك روى خبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٤) ، فإن ثبت فهو هو.

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٥١ ، ٥٢).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٣٦٨٢) وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٦) وهو قول قتادة والسدي وغيرهما.

(٣) قاله السدي ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٦٩٣).

(٤) في الباب عن المغيرة بن شعبة ، أخرجه مسلم (٣ / ١٦٨٥) كتاب الآداب : باب النهي عن التكني بأبي القاسم (٩ / ٢١٣٥) والترمذي (٥ / ٢٢٠ ، ٢٢١) أبواب التفسير : باب «ومن سورة مريم» ، (٣١٥٥) وأحمد (٤ / ٢٥٢) ، وابن جرير (٢٣٦٩٢) ، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والنسائي وابن ـ

٢٣٢

وقال بعضهم : لا ، ولكن كان لها أخ من أبيها يقال له : هارون بن ماتان ؛ لذلك نسبوها إليه فقالوا : (يا أُخْتَ هارُونَ).

وقال بعضهم (١) : إن هارون كان رجلا صالحا ناسكا فيهم ، فشبهوها به ونسبوها إليه ؛ لصلاحها ونسكها.

وقال بعضهم : إن بني إسرائيل تسمّي كل صالح : هارون ؛ حبّا لهارون ؛ لذلك سموها ونسبوها إلى هارون ، لنسكها وصلاحها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) أي : ما كان أبوك ما ذكر ولا أمّك ولا أنت ، فمن أين كان لك هذا؟! هذا تعريض من الكلام : ليس بتصريح ، فهو ما ذكرنا : أنهم قالوا ذلك على التعجب وليس على تصريح الفرية والقذف لها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ).

أي : آتاني علم الكتاب ، ولا نفسّر أىّ كتاب هو : الإنجيل أو التوراة أو غيره؟ لأنه قال في آية أخرى : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٤٨] فذكر الكتاب وذكر معه التوراة والإنجيل ؛ فهذا يدلّ أن الكتاب غير التوراة والإنجيل.

وقوله : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا. وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ).

هذا يدل أنّه قد تكلم بعد هذه الكلمات ، وليس كما قال أهل التأويل : إنه تكلم بهؤلاء ، ثم لم يتكلم بعد ذلك إلى أن بلغ المبلغ الذي يتكلم الصبيان ؛ لأنه أخبر أنه جعله نبيّا وجعله مباركا ، فلا يحتمل أن يكون نبيّا ولا يتكلم ولا يدعو الناس إلى دين الله ، وأيّ بركة تكون فيه إذا لم يتكلم بكلام خير ؛ فدل ذلك منه أن ليس على ما قالوا هم ، والبركة هي اسم كل خير وصلاح ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا).

يحتمل : الصلاة المعروفة والزكاة المعهودة.

ويحتمل : الصلاة : الثناء له والدعاء في كل وقت وفي كل مكان ، والزكاة : كل ما تزكو به النفس وتصلح وتنمو من كل خير.

فإن كان الأوّل الصّلاة المفروضة والزكاة المعروفة ، فهو على تعليم الناس ، كأنه قال :

__________________

ـ المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٦) من طريق علقمة بن وائل عن المغيرة بن شعبة قال : لما قدمت نجران سألوني فقالوا : إنكم تقرءون : (يا أُخْتَ هارُونَ) ، وموسى قبل عيسى بكذا وكذا ، فلما قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سألته عن ذلك ، فقال : «إنهم كانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم».

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٦٨٧).

٢٣٣

أوصاني أن أعلم الناس وأعلمهم من الزكاة ؛ إذ لم يكن يملك عيسى ما تجب فيه الزكاة ، فهو يخرج على إعلام الناس عن حكم الزكاة ، أو أن يكون على المواساة ، فذلك مما قل وكثر سواء.

وإن كان الثاني فهو وغيره من الناس في تلك الزكاة سواء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَرًّا بِوالِدَتِي) أي : جعلني برّا بوالدتي ، صلة بقوله : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) و (وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) ، وجعلنى برّا بوالدتى.

(وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا) ، قد ذكرناه في قصة يحيى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا).

هذا ـ أيضا ـ قد ذكرناه في قصة يحيى ، غير أن الله تعالى هو مسلّم على يحيى في تلك الأحوال ، وهاهنا ذكر أن عيسى سلم على نفسه.

وذكر في بعض القصّة : أن عيسى ويحيى ـ عليهما‌السلام ـ التقيا ، فقال يحيى لعيسى : «أنت خير مني». فقال عيسى : «بل أنت خير مني ، سلّم الله عليك ، وسلمت أنا على نفسي» ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي : ذلك عيسى بن مريم ، ليس على ما قالت النصارى وغيرهم أنه ابن الله ، وأنه ثالث ثلاثة على ما قالوا ، ولكن عيسى بن مريم عبد الله كما أقر هو بالعبودية حيث قال : (إِنِّي عَبْدُ اللهِ).

ويحتمل قوله : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) أي : ذلك الذي أنبأتهم من نبأ عيسى : (قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي : هؤلاء الكفرة حيث أنكروا أنه ليس على ما أنبأتهم من نبئه ، أي : الذي يشكون فيه هو قول الحق ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ).

نزّه نفسه عن أن يتخذ ولدا ؛ لأنه لا تقع [له] الأسباب التي لها يتخذ الولد ويطلب منه.

أو يقول : إن اتخاذ الولد يسقط الألوهية ؛ لأن الولد في الشاهد يكون شكل الأب وشبيها له ، فلا يحتمل أن تكون الألوهية لمن يشبه الخلق ؛ لأن الولد في الشاهد إنما يتخذ ويطلب لأحد وجوه ثلاثة :

إمّا لوحشة تأخذه فيستأنس به.

وإمّا لحاجة تمسّه فيستغنى به في دفعها.

أو لخوف يخاف من أعدائه فيستنصر به ، فإذا كان الله سبحانه يتعالى عن ذلك وله من سرعة نفاذ أمره ما ذكر في قوله : (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [البقرة : ١١٧] ،

٢٣٤

فمن له من سرعة نفاذ الأمر ما ذكر ، لا تقع له الحاجة إلى الولد في معنى من المعاني ولا وجه من الوجوه ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

ثم قول أهل التأويل : إنه نفخ في جيب مريم ، أو في أنفها ، أو في غيره ، وغير ذلك من القصص التي ذكروها ممّا ليس في الكتاب ذكرها ـ فلا يجوز أن يقال ذلك إلا بخبر عن الله تعالى ، أو عمن أوحى إليه ، فإنه لم يعلم صدقه ولا ثبوته ، فنذكر مقدار ما في الكتاب لا يزاد على ذلك ولا ينقص ؛ لأن هذه الأنباء لما ذكرت لرسول الله لتكون آية لرسالته ونبوّته ؛ لأنها كانت مذكورة في الكتب المتقدمة ، وكان هنالك من يعرفها ، فذكرت له هذه الأنباء على ما كانت في كتبهم ؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله ، فلو زيد فيه أو نقص لكانت غير دالة لهم على ذلك.

قال القتبي (١) : الصوم : الإمساك ؛ صوما : أي : صمتا ، فريّا : أي : عظيما عجبا ، والبغى : يقال : امرأة بغي ونسوة بغايا ، أي : فاجرات ، وكذلك قال أبو عوسجة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ).

إنهم كانوا يعرفون أن الله هو ربهم حيث قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، ونحوه ، فكأن عيسى قال لهم : ارجعوا إلى عبادة الذي تعرفون أنه ربّى وربكم ، واتركوا العبادة لمن تعرفون أنه ليس بربّكم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) : اختلف فيه :

قال بعضهم : اختلف الذين تحزبوا في عيسى في حياته ، منهم من قال : هو ساحر.

وقال بعضهم : هو كاهن.

وقال بعضهم : كذا من هذا النحو.

وقال بعضهم (٢) : اختلف الذين تحزبوا في عيسى بعد ما رفع [من] بينهم :

فمنهم من قال : هو الله ، وقال بعضهم : هو ابن الله ، وقال بعضهم : ثالث ثلاثة ، وأمثال ما قالوا على علم منهم أنه لم يكن على ما وصفوه وقالوا فيه ، لكنهم عاندوا وكابروا.

وقال بعضهم : (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) : الذين تحزبوا واختلفوا في رسول الله لما بعث ، فمنهم من قال : إنه ساحر ، وإنه كاهن ومجنون ، وإنه مفتر ، وإنه كذاب ، ونحو ما قالوا فيه على علم منهم أن ما يقول هو يوافق كتبهم ، وأن كتابه مصدق لكتبهم ، وأنه يؤمن

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧٤).

(٢) قاله قتادة وابن جريج ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٣٧١٩ ، ٢٣٧٢٠).

٢٣٥

بالرسل الذين يؤمنون هم بهم ، لكنّهم قالوا ذلك على المعاندة والمكابرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا).

قال أصحاب التأويل : الويل : الوعيد ، واختلفوا فيه ، [وهو] ـ والله أعلم ـ الويل لكل كافر ، ما من كافر إلا وله ذلك الوعيد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) :

وصف ذلك اليوم بالعظم ؛ لما فيه مجمع الأوّلين والآخرين ، ويشهده الجن والإنس والملائكة ، فهو مشهد يوم عظيم.

ويحتمل أنه وصفه بالعظم ؛ لأنه هو المقصود في خلق العالم في الدنيا ، فهو إنما خلقهم لأمر عظيم وهو ذلك اليوم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) :

قال الحسن : يكونون سمعاء وبصراء في الآخرة ، ليس على ما كانوا في الدنيا عميا بكما صمّا.

وقال بعضهم (١) : ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا.

وقال بعضهم : لا يصح هذا ؛ لأن هذا ليس على وجه النهر والتعجب ، ولكن تأويله أي : يسمعون ما قالوا ويبصرون ما عملوا.

وقال بعضهم : (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) أي : (أَسْمِعْ) بحديثهم إليهم وأعلمهم و (وَأَبْصِرْ) كيف نصنع بهم يوم يأتوننا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

أي : في حسرة بينة ، أو في هلاك بيّن ، وقد ذكرنا ذلك في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) :

قال عامة أهل التأويل (٢) : الحسرة : هي أن يصور الموت بصورة كبش أملح ، فيذبح

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٣٧٢٧ ـ ٢٣٧٢٩) وعبد الرزاق وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٩).

(٢) ورد في معناه حديث عن أبي سعيد الخدري : أخرجه البخاري (٩ / ٣٥٤) كتاب التفسير : باب (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ...) الآية ، (٤٧٣٠) ، ومسلم (٤ / ٢١٨٨) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها : باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء (٤٠ / ٢٨٤٩) والترمذي (٥ / ٢٢١) أبواب التفسير باب «ومن سورة مريم» ، (٣١٥٦) ، وأحمد (٢ / ٤٢٣) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ٣٩٣) ، وسعيد بن منصور وأبو يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم ، وابن حبان وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨٩) من طريق أبي صالح عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح ، فينادي مناد : يا أهل الجنة فيشرئبون ، وينظرون ، فيقول : هل ـ

٢٣٦

بين الجنة والنار ، فينظر إليه أهل النار وأهل الجنة ، فيندم أهل النار ويكون لهم الحسرة ؛ لما كانوا يطمعون الموت يتأملون منه ، فذلك الحسرة التي ذكر ، ولكن هذا لا يعلم إلا بخبر عن رسول الله ، فإن ثبت شيء عنه فهو ذاك ، وإلا فالحسرة لهم هي أعمالهم التي عملوا في الدنيا ، وهو ما قال : (كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) [البقرة : ١٦٧] ، وقوله : (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) [الزمر : ٥٦] ، وقوله : (يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها) [الأنعام : ٣١] ، ونحوه كل عمل عملوا في الدنيا يكون لهم ذلك حسرة في الآخرة وندامة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) ، أي : أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.

(وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) ، أي : هم كانوا في غفلة من هذا (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها).

هذا ـ والله أعلم ـ كناية عن فناء الخلق جميعا وبقاء الخالق ، فذلك معنى الوراثة ، والله أعلم.

وعلى ذلك سمّي الوارث في الشاهد : وارثا ؛ لأنه باق بعد فناء مورثه ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا)(٥٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ).

قال الحسن : هو صلة (كهيعص. ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) [مريم : ١ ، ٢].

يقول : اذكر رحمة ربك إبراهيم ، وكذلك يجعل جميع ما ذكر في هذه [السورة] من نحو هذا صلة ذلك ، كأنه ذكر (كهيعص) في كل ذلك ؛ لأنه يجعل تفسير (كهيعص)

__________________

ـ تعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، هذا الموت وكلهم قد رآه ، ثم ينادي : يا أهل النار فيشرئبون ، وينظرون فيقول : هل تعرفون هذا؟ فيقولون : نعم ، هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح ثم يقول : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار ، خلود فلا موت ، ثم قرأ : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ ...) الآية.

٢٣٧

في كل ذلك على ما ذكر على إثره ، وكذلك يقول في جميع الحروف المقطعة : إن تفسيرها ما ذكر على إثرها.

وأمّا غيره من أهل التأويل فإنه يقول : واذكر لهم نبأ إبراهيم وقصته في الكتاب لهم ، واذكر في الكتاب نبأ موسى وخبره وذكره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) :

الصديق : إنما يقال لمن كثر منه ما يستحق ذلك الاسم ، وكذلك التشديد إنما يشدد إذا كثر الفعل منه وصار كالعادة له والطبع ، فكأنه سمى بهذا لما لم يكن يجعل بين ما ظهر له من الحقوق والفعل وبين وفائها وأدائها إليها نظرة ولا مهلة ، بل كان يفي بها ويؤديها كما ظهر له ، ولذلك سماه ـ والله أعلم ـ : وفيّا بقوله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧] ، وقال في آية أخرى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة : ١٢١] سماه : وفيّا ، كانت عادته القيام بوفاء ما ظهر له وإتمام ما ابتلاه به ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) إذا دعوته (وَلا يُبْصِرُ) لو عبدته (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) إذا احتجت إليه وسألته.

ويحتمل أن يكون قوله : (ما لا يَسْمَعُ) أي : لا يجيب لو دعوته واحتجت إليه ، (وَلا يُبْصِرُ) حاجتك إذا احتجت إليه ، (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) ، أي : لا ينصرك.

وقال بعضهم : (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) من عذاب الله في الآخرة.

يقول : كيف لا تعبد من إذا دعوته سمع ، وإذا عبدته أبصر ، ونصرك إذا احتجت إليه وسألته (١) ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) ، أي : من بيان ما يحل بك بعد الموت ، إذا مت على ما أنت عليه ، (ما لَمْ يَأْتِكَ) ذلك (فَاتَّبِعْنِي) إلى ما أدعوك إليه من دين الله ، (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) ، أي : دينا عدلا سويّا قيما لا عوج فيه ، فهذا يدلّ منه أنه قد أوحى [إليه] في ذلك الوقت ، ويشبه أن يكون عرف ذلك استدلالا منه واجتهادا على غير وحي ، كقوله : (هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) [الأنعام : ٧٨] حتى انتهى إلى قوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) [الأنعام : ٧٩] وكل ذلك كان له من الله ؛ ألا ترى أنه قال في آخره : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣].

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٧٣ ـ ٧٤).

٢٣٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) ، هم لم يكونوا يعبدون الشيطان عند أنفسهم ، ولكن يحتمل إضافة عبادتهم إلى الشيطان وجوها :

أحدها : أن الأصنام التي عبدوها كانت لا تأمرهم بالعبادة ولا تدعوهم إليها ثم عبدوها ، فإنما عبدوها بأمر الشيطان وبدعائه إياهم ، فأضاف ذلك إليه للأمر الّذي كان منه بذلك.

والثاني : ذكر أن الشيطان كان ينطق من جوف الصنم ، فعبدوها لكلامه ، فكأنهم عبدوا الشيطان ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ).

قال بعضهم (١) : قوله : (إِنِّي أَخافُ) : أي : أعلم أنه يمسّك عذاب من الرحمن لو دمت على الكفر وختمت به ، فإن كان تأويله العلم فهو على هذا الشرط يخرج.

ويحتمل أن يكون الخوف في موضع الخوف ، أي : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) إن لم تنجز وعدك (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) أي : قرينا في العذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) ولا شك أنه كان راغبا عن عبادة آلهتهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) يحتمل وجوها :

أحدها : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن دينك الذي أنت عليه (لَأَرْجُمَنَّكَ) ، أي : لأقتلنّك.

والثاني : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عن قذف آلهتنا وسبّها وذكرها بسوء (لَأَرْجُمَنَّكَ) ، أي : لأشتمنّك مكان شتمك وقذفك آلهتنا ، فالرجم يشتمل على هذه الوجوه الثلاثة : القتل ، والطرد ، والشتم ، فإن كان على القتل فهو مقابل الدين ، أي : لئن لم تنته عن دينك لأقتلنّك ، وإن كان على الطرد فهو مقابل الدعاء ، أي : لئن لم تنته عن دعائك إياي إلى ما تدعو لأطردنك ، وإن كان علي الشتم فهو مقابل الشتم ، أي : لئن لم تنته عن شتمك آلهتنا لأشتمنّك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).

قال بعضهم (٢) : طويلا.

وقال بعضهم (٣) : دهرا.

__________________

(١) قاله ابن جرير (٨ / ٣٤٧) ، والبغوي (٣ / ١٩٧).

(٢) قاله الحسن ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٧٤٥ ، ٢٣٧٤٦).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٧٤٢) وهو قول سعيد بن جبير وغيره.

٢٣٩

فإن كان (مَلِيًّا) ، أي : بعيدا فهو على بعده منه ، أي : ابعد مني ، وتباعد مني داره ومقامه.

وإن كان على الدهر والطول فهو يخرج ، أي : لا تكلّمني أبدا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) يحتمل أنه ليس على أن سلّم عليه ، ولكن كلمه بكلام السداد ، كقوله : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) [الفرقان : ٦٣] هو أن يقولوا لهم كلام السداد ليس على أن يسلموا عليهم.

ويحتمل (سَلامٌ عَلَيْكَ) على حقيقة السلام المعروف ، لكنه يخرج على الإضمار ، أي : (سَلامٌ عَلَيْكَ) إذا أسلمت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) إذا أسلمت على نحو ما قلنا.

ويحتمل قوله : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) أي : أسأل ربي ليوفقك على السبب الذي تستوجب به الاستغفار ، وتكون أهلا للاستغفار.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا).

قال بعضهم (١) : أي : برّا لطيفا.

وقال بعضهم (٢) : (حَفِيًّا) : عالما.

وقال بعضهم (٣) : إنه كان عودني الإجابة.

قال أبو عوسجة : الحفي : العالم بالأمر ، ويقال : حفى الرجل يحفي : إذا سار بلا نعل ولا خف ، وجمعه : حفاة ، واحتفى يحتفي : إذا اجتنى حشيشا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) :

الاعتزال ـ هاهنا ـ اعتزال هجرة إلى أرض الشام ، ومفارقته إياهم مفارقة المكان والدار ، كقوله : (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ٧١] ، فقوله : (وَنَجَّيْناهُ) النجاة بالفراق منهم.

وقوله : (وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : وأعتزلكم وما تعبدون من دون الله أيضا ، ففيه إخبار عن اعتزاله عنهم بالدار والمكان ، وعن فعلهم أيضا ، اعتزلهم عن الأمرين جميعا.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٣٧٥٦) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٩١) ، وهو قول ابن زيد أيضا.

(٢) قاله الكلبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٩٨).

(٣) قاله مجاهد ، أخرجه عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٩١).

٢٤٠