تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

حرف أبيّ.

فإن قيل : كيف احتج على قتله وإهلاكه بما علم أنه يلحق أبويه منه الطغيان والكفر ، وقد ترك ، إبليس وجنوده يعيشون إلى آخر الدهر ، على علم منه أنهم يحملون الناس على الطغيان والكفر ، ويرهقونهم أنواع المعاصي والفواحش؟! وكذلك هؤلاء الظلمة الذين لا يكون منهم إلا كل شر وجور على الناس ثم تركهم على علم منه بما يكون منهم؟! فما معنى الاحتجاج في قتله وإهلاكه بما ذكر من إرهاق الطغيان والكفر بالوالدين؟!

قيل : لهذا جوابان :

أحدهما : أن الله ـ تعالى ـ قد يمتحن البشر بمعان وعلل وأشياء ، تحملهم تلك المعاني والأشياء على الرغبة والحث فيما امتحنهم ، وإن كان له الامتحان لا على تلك المعاني والعلل ، نحو ما امتحنهم بأنواع العبادات والطاعات بثواب وجزاء ذكر لهم فيها لو فعلوا ، وإن كان له الامتحان بذلك على غير ثواب ولا جزاء ، وكذلك العقوبات وغير ذلك من المحن ؛ فعلى ذلك الأول.

والثاني : ذكر هذا لتطيب به أنفسهم ؛ إحسانا منه إليهم ، وإنعاما عليهم ؛ إذ له أن يميتهم صغارا وكبارا ، وعلى ذلك يخرج قوله : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ ...) الآية [الشورى : ٢٧] ، وقد وسع على كثير من الخلق ، وكذلك قوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً ...) الآية [الزخرف : ٣٣] ، وقد جعل لكثير من الخلق ذلك ، لكن هذا لما له أن يفعل ذلك للكل ، فمن لم يفعل ذلك له إنما لم يفعل إحسانا منه وإفضالا ؛ فعلى ذلك الأول إنما ذكر ما ذكر إحسانا منه وإفضالا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً).

قال بعضهم (١)(خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) ، أي : صلاحا ، (وَأَقْرَبَ رُحْماً) : أي : أوصل رحما وأبرّ لوالديه.

وقال بعضهم : (خَيْراً مِنْهُ زَكاةً) ، أي : عملا ، (وَأَقْرَبَ رُحْماً) ، أي : أحسن منه برّا لوالديه.

قال أبو عوسجة : (رُحْماً) ، من الرحم والقرابة.

وقال القتبي (٢) : (رُحْماً) ، أي : رحمة وعطفا.

وذكر أنهما قد أعطيا خيرا منه ، أي : خيرا من القتيل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ

__________________

(١) انظر : تفسير البغوي (٣ / ١٧٦).

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧٠).

٢٠١

لَهُما).

اختلف في ذلك الكنز :

قال بعضهم (١) : كان ذلك الكنز مالا كنزه أبوهما.

قال ابن عباس (٢) : حفظ ؛ لصلاح أبيهما ، ما ذكر منهما (٣) صلاح.

وقال بعضهم (٤) : كان ذلك الكنز مصحفا فيها علم.

قال أبو بكر الأصم : لا يحتمل على أن يكون علما ؛ لأن العلم ممّا يعلمه العلماء ويشترك الناس فيه ؛ فلا يحتمل أن يحفظ ذلك لهما دون الناس ؛ فإن ثبت وحفظ ما روي في الخبر فهو مال وعلم.

وروي عن ابن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كان تحت الجدار الّذي قال الله في كتابه (وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما) لوح من ذهب فيه مكتوب : بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن؟! [و] عجبت لمن أيقن بزوال الدّنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها؟! لا إله إلا الله ، محمد رسول الله» (٥) فإن حفظ هذا عن رسول الله ففيه مال وعلم ؛ لأن اللوح من الذهب مما يكثر ويعظم قدره ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).

أي : نعمة من ربك وإحسانا عليهما ؛ إذ كان [له] ألا يحفظ ذلك لهما ، ولا يوصله إليهما على ما لم يعط لكثير من اليتامى والمساكين شيئا من ذلك ، لكن ذلك منه إليهما فضل وإنعام ورحمة عليهما ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي).

هو ما ذكرنا أنه أخبر عن أمر الله فعل ما فعل ، لا عن أمر نفسه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).

أي : تأويل ما قلت لك في بدء الأمر : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ، ثم لا يحتمل أن

__________________

(١) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٢٦٧ ـ ٢٣٢٦٩).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٣٢٧١) وابن المبارك وسعيد بن منصور وأحمد في الزهد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه كما في الدر المنثور (٤ / ٤٢٥).

(٣) في الدر المنثور : عنهما.

(٤) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٣٢٥٦ ، ٢٣٢٦٤) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٢٥) وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد والحسن.

(٥) أخرجه ابن مردويه ، عن علي بن أبي طالب مرفوعا والبيهقي عنه موقوفا ، وأخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه والبزار عن أبي ذر مرفوعا ، وهو قول ابن عباس والحسن وجعفر بن محمد وغيرهم.

انظر : الدر المنثور (٤ / ٤٢٤ ، ٤٢٥).

٢٠٢

يكون موسى حيث أمر بالذهاب إلى ذلك الرجل والاتباع له والصحبة معه ؛ ليتعلم منه العلم ، فلم يستفد منه إلا علم ما أنكر عليه ، وسبب حل ذلك له ؛ إذ كان ذلك بإنكار ما أنكر عليه من الأفعال التي هي في الظاهر منكرة ، لكن جائز أن يكون استفاد منه علوما كثيرة سوى ذلك ، لكنه لم يذكر لنا ذلك ، والله أعلم.

وقول أهل التأويل : اسم الغلام الذي قتله صاحب موسى «خشنوذ» ، أو لا أدري ما ذا؟ ووالده : اسمهما كذا ، لا نعلم ذلك ، وليس لنا إلى معرفة أساميهم حاجة ، وكذا اسم الغلامين اليتيمين صاحبي الجدار : أصرم وصريم ، ولا أدري ما ذا؟ [و] لا حاجة بنا إلى ذلك.

وقولهم : كان صاحب موسى خضرا ، وأنه إنما سمى : خضرا ؛ لأنه جلس على فروة بيضاء فاخضرت ؛ فذلك ـ أيضا ـ مما لا يعلم إلا بالخبر عن الوحي ـ وحي السماء ـ فلا نقول فيه إلا قدر ما ذكره الكتاب ؛ فإنه يخرج ذكره مخرج الشهادة على الله من غير حصول النفع لنا في ذلك عمل أو غيره ، وليس في الكتاب إلا ذكر عبد من عبادنا ، وذكر الغلام ، وذكر الفتى ، وذكر غلامين يتيمين في المدينة ، وأمثاله يقال ما فيه ولا يزاد على ذلك ؛ مخافة الشهادة على الله بالكذب ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)(٩٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً).

في الآية دلالة أن الآية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يسأل هو عن خبر ذي القرنين ؛ لأنه قال (وَيَسْئَلُونَكَ) ، ولم يقل : «سألوك» ، والخبر الذي روى عقبة بن عامر الجهني يدل على ذلك ، أيضا ؛ لأنه روى أن نفرا من أهل الكتاب جاءوا بالصحف والكتب ، فقالوا لي : استأذن

٢٠٣

لنا على رسول الله : لندخلن عليه ؛ فانصرفت إليه فأخبرته بمكانهم ؛ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما لي ولهم يسألون عما لا أعلم ، إنما أنا عبد لا علم لي إلا ما علّمني ربّي» ، ثم قال : «أبغني وضوءا أتوضأ به» ، فتوضأ ، ثم قام إلى مسجد في بيته ، فركع فيه ركعتين ، فما انصرف حتى بدا لي السّرور في وجهه ، ثم قال لي : «اذهب فأدخلهم ومن وجدت بالباب من أصحابي» ، فأدخلهم فلما رآهم النبي قال لهم : «إن شئتم أخبرتكم كما تجدونه في كتابكم» (١) ؛ فهذا إن ثبت يدل أنه نزل عليه نبأ ذي القرنين وخبره قبل أن يسأل.

وأما أهل التأويل قالوا جميعا : إنه سئل قبل أن ينزل عليه خبره ، ثم نزل من بعد السؤال ، والله أعلم.

ثم اختلف فيه :

قال الحسن : كان نبيّا ، دليله : ما قال : (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) ؛ قال : هذا تحكيم من الله إياه فيما ذكر ، ولا يولي الحكم إلا من كان نبيّا.

وأما علي بن أبي طالب (٢) فإنه سئل عن ذلك : كان نبيا أو ملكا؟ فقال : لا واحد منهما.

وقال غير هؤلاء : إنه كان ملكا ؛ يدل على ذلك الخبر الذي روى عقبة بن عامر الجهني : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن خبره وبنائه ، قال : فقال رسول الله : «كان غلاما من الروم أعطي ملكا فسار حتى بلغ كذا ...» (٣) ، على ما ذكر في الخبر ، والأشبه أن يكون أنه كان ملكا ؛ ألا ترى أنه قال : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ).

أي : ملكنا له الأرض له جملة ، ذكر تمكين الأرض له جملة يصنع فيها ما يشاء ، لم يخص له ناحية منها دون ناحية ، وليس كقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً ...) الآية [القصص : ٥٧] ، وكقوله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) [الأحقاف : ٢٦] : هاهنا خص مكانا لهم دون مكان ، وأما في ذي القرنين ذكر التمكين له في الأرض ، لم يخص ناحية منها دون ناحية ؛ فهو أن ملكه ومكنه الأرض كلها.

وقول الحسن : إنه حكمه وولى له الحكم ـ فهذا لا يدل أنه كان نبيّا ؛ لأن الملوك هم الذين كانوا يتولون الجهاد والغزو في ذلك الزمان ؛ ألا ترى إلى قوله : (ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٤٦] : أن الملوك هم الذين كانوا يتولون الجهاد والغزو والقتال في ذلك مع العدو فعلى ذلك هنا.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٣٢٧٥) وابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٣٦).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٣٢٧٦ ـ ٢٣٢٧٨) وابن عبد الحكم في فتوح مصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٣٥).

(٣) تقدم.

٢٠٤

وقوله : (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) ، وأما من آمن كذا : يحتمل هذا منه إلهام من الله ـ تعالى ـ أو تعليم الملك الذي كان فيه ، أو كان معه نبي فأخبر له بذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً).

اختلف في ذلك :

قال بعضهم (١) : علم المنازل : أي : منازل الأرض ومعالمها وآثارها.

وقال [بعضهم](٢) : العلم والقوة.

وقال بعضهم : أعطاه السبب الذي به صلاح ما مكن له ، وملك له مما يقع له الحاجة إليه.

وقال بعضهم : ذلك السّبب كان أنعاما : كان عليها يحمل الخشب ، فيتخذ منه سفينة إن استقبله بحر ، فيعبر بها ، ثم ينقضها ويحمل الخشب على الأنعام ويعبر البر على الدواب ، فذلك السبب الذي ذكر.

وأصله : أنه ذكر أنه أتاه السبب الذي به صلاح ما مكن له وملك عليه ، ولم يبيّن ما ذلك السبب ؛ فلا ندري ما أراد بذلك؟ والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ).

كأنه أراد وطلب أن يعرف أنها أين تغرب؟ حيث قال : (وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) ، وفيه لغتان : (حامِيَةً) و (حَمِئَةٍ) ، قالوا من قرأها : (حامِيَةً) أراد : في عين حارة ، ومن قرأ (حَمِئَةٍ) ـ مهموزة بغير ألف ـ أراد الحمأة : وهي الطينة السوداء ، والله أعلم بذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً).

قال بعضهم : كانوا كفارا ومؤمنين الفريقان جميعا ، فقال في الكفار : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) ، وهو القتل ، [و] قال في المؤمنين : (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) : ليس على التخيير ؛ ولكن على الحكم في كل فريق على حدة.

وقال بعضهم : كانوا كلهم كفارا ؛ فيكون تأويل قوله : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) : إذا لم يجيبوك ، (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) : إذا أجابوك وآمنوا بالله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً. وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى).

هذا أنه حكم بذلك بتعليم نبي أو ملك كان معه ، أو حكم بذلك ؛ لما كان عرف أن سنة الله في الكفار القتل والإهلاك ، وفي المؤمنين الترك والإحسان ، أو ألهم إلهاما

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٣٢٨٧) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٤٥) ، وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك.

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٣٢٨١) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٤٥) وهو قول قتادة وابن جريج والضحاك.

٢٠٥

بذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً).

قال الحسن : (يُسْراً) ، أي : عارفا.

وقال بعضهم (١) : (يُسْراً) : معروفا.

وقال بعضهم : (اليسر) : هو اسم كل خير وبركة ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) ، أي : بلاغا لحاجته.

وقال غيره ما ذكرنا من السبب الذي به ملك طريق المغرب والمشرق وبه بلغ ما بلغ ، والله أعلم.

ثم اختلفوا فيم سمي ذا القرنين :

قال بعضهم (٢) : سمّي ذا القرنين ؛ لأنه دعا قومه إلى توحيد الله والإيمان به ؛ فضربوه على قرنه الأيمن ، ثم غاب ما شاء الله ، وفي بعض الأخبار مات ، ثم حضر فدعاهم ثانيا فضربوه على قرنه الأيسر ؛ فبقي عليه لذلك أثر ؛ فسمي لذلك ذا القرنين ، لا أن كان له قرن كقرن الثور.

وقال بعضهم (٣) : سمي ذا القرنين ؛ لأنه كان له ذؤابتان ، أعني : ضفيرتان.

وقال بعضهم (٤) : سمي ذا القرنين ؛ لأنه بلغ قرني الشمس : مغربها ومطلعها.

وقال بعضهم سمي : ذا القرنين ؛ لأنه عاش حياة قرنين ، والله أعلم بذلك ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) بالسبب الذي ذكر أنه أعطاه كما بلغ مغرب الشمس ، (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً).

قال الحسن (٥) : إن تلك الأرض تميد وتميع ، لا تقر ولا تسكن ، لا تحتمل البناء والحجر ؛ فإذا طلعت الشمس طلعت عليهم ، لما لم يكن لهم بناء ولا ستر تهوروا في البحار فإذا ارتفعت عنهم خرجوا.

وقال ابن عباس : إن الشمس إذا طلعت كانت حرارتها أشد عند طلوعها من غروبها ؛

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٣١٠ ، ٢٣٣١١).

(٢) قاله علي بن أبي طالب ، وقد تقدم.

(٣) قاله قتادة ، أخرجه الشيرازي في الألقاب ، وهو قول يونس بن عبيد أخرجه ابن عبد الحكم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٣٧ ـ ٤٣٨).

(٤) قاله أبو العالية أخرجه ابن المنذر وأبو الشيخ ، وهو قول ابن شهاب أخرجه ابن عبد الحكم كما في الدر المنثور (٤ / ٤٣٨).

(٥) أخرجه ابن جرير (٢٣٣١٤) والطيالسي ، والبزار في أماليه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٤٨) ، وفي الطبري : تغوروا في الماء.

٢٠٦

فتحرق كل شيء حتى لا تبقى لهم ثوبا ولا بناء ولا خشبا ولا غيره إلا أحرقته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً).

اختلف في قوله : (كَذلِكَ) :

قال بعضهم : قوله : (كَذلِكَ) ، أي : كذلك أخبرنا رسول الله من نبأ ذي القرنين ، وخبره على ما كان.

وقال بعضهم : كذلك أعطينا له من السبب حتى بلغ مطلع الشمس كما بلغ مغربها بالسبب الذي ذكر.

وقال بعضهم : كذلك قيل له في المطلع من قوله : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) ، كما قيل له في المغرب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً).

قال بعضهم : [هو] صلة قوله : (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) ، (وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) ، أي : عن علم سأتلو عليكم.

وقال بعضهم : هو على الابتداء ، ليس على الربط والصّلة على الأول ، أي : قد أحطنا علمنا بما لديه.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً).

ما ذكرنا في بلوغه مغربها ومطلعها ، أي : أعطينا له من السّبب حتى بلغ بين السدّين في بعض القراءات (السَّدَّيْنِ) بالنصب ، فإن كان بين اللغتين فرق ؛ فيشبه أن يكون (السَّدَّيْنِ) بالرفع : الجبلين اللذين كانا هنالك ، و (السَّدَّيْنِ) بالنصب : هو بناء ذي القرنين ، وإن لم يحتمل الفرق ـ فهو ما بنى هو أو مكان في الخليقة (١).

ثم اختلف في ذلك السدّ.

قال بعضهم : هو المنفذ الذي كان بين طرفي الجبل الذي كان محيطا بالأرض ، يدخل فيه يأجوج ومأجوج إلى هذه الأرض ؛ فسد ذو القرنين ذلك المنفذ.

وقال بعضهم : لا ؛ ولكن كانا جبلين : أحدهما : ستر بين يأجوج ، والثاني : بين مأجوج ؛ فسدّ ذلك ، والله أعلم كيف كان؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً).

قال الحسن : كانوا يفقهون ما به صلاح معاشهم ، وما به بقاؤهم ، ولكن كانوا لا يفقهون الهدى من الضلال ، والخير من الشرّ ، ونحوه.

__________________

(١) في أ : مكانا في الحلقة.

٢٠٧

وقال بعضهم (١) : (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) : من غير كلامهم ولسانهم ؛ ولكن يفقهون بلسانهم وكلامهم ، وذو القرنين كان يعرف الألسن كلها ؛ ففقهوا هم [منه] وفقه هو منهم ؛ حيث قالوا (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) ، أي : جعلا أجرا ، (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).

وقال هو : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) : فهم ذو القرنين منهم ، وفهموا منه أيضا ما ذكرنا ؛ فدل ذلك أنهم كانوا يفقهون بلسان غيرهم ، وفي الآية دلالة أنهم لا يفقهون شيئا قليلا من القول ، وإن كانوا لا يفقهون كثيرا ؛ لأنه يقول : (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) ؛ فهو يتكلم على العرف لا على النفي رأسا ، والله أعلم.

وقوله : (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) : جعلا وأجرا ؛ (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ).

على تأويل الحسن يكون قوله : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي) من النبوة (خَيْرٌ) ؛ لأنه يقول : إنه كان نبيا ؛ حيث قال له : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ).

وعلى قول غيره يكون (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي) : من الملك والسبب الذي أعطاني ، وأبلغ به مغرب الشمس ومطلعها (خَيْرٌ) مما تذكرون.

وقوله : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) ، أي بما أتقوى به ، (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) ، أي : سدّا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) ، أي : قطع الحديد.

وقال بعضهم : سألهم الحديد ؛ لأن المكان مكان الحديد.

وقال بعضهم : إن الحديد كان ألين لهم وأطوع من اللّبن أو القطر ، ولكن لا يعلم ذلك إلا بالسمع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ).

أي : بلغ ذلك السد رأس الصدفين ، وهما جبلان ، وسوى بهما ، والله أعلم.

وقوله : (قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً).

أي : أصب عليه قطرا ، قيل : نحاسا ، وقيل : رصاصا ، ذكر أنه كان يبسط الحديد صدرا ، ثم يبسط الحطب فوقه صدرا ، ثم حديدا فوق الحطب ، حتى بلغ رأس الجبلين ، وسوى بهما على هذا السبيل ، ثم أذيب القطر ، فصب فيه ، فجعل القطر يحرق الحطب ، ويذيب الحديد ؛ حتى دخل القطر مكان الحطب ، وصار مكانه ؛ فالتزق القطر بالحديد ، على هذا ذكر أنه بنى ذلك السدّ.

وقال الحسن : كأنه القطر له كالملاط لنا ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٨٠).

٢٠٨

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ).

أي : يعلوه ، يعني : على ذلك السد وما استطاعوا له نقبا في أسفله ، ولا يزاد على المذكور في الكتاب في هذه الأنباء ، والقصص ، خوفا للشهادة على الله ، والكذب عليه ، ولكن نذكر مقدار ما ذكر في الكتاب ، لا نزيد على ذلك ، وفي الكتاب القدر الّذي ذكرنا ، والله أعلم.

قال القتبي (١) : يقال للجبل : السدّ و (زُبَرَ) : قطع ، والقطر : النحاس ، وقوله : (أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي : يعلوه. يقال : ظهر فلان السطح إذا علاه ، وكذلك قال أبو عوسجة ، وقال : (السَّدَّيْنِ) : ناحيتي الجبل ، والردم : السدّ ، و (الصَّدَفَيْنِ) : هو مثل السدّين ، (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) ، أي : أصب عليه نحاسا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) يحتمل أنه السدّ الذي بني وحال بينهم وبين يأجوج ومأجوج ، فذلك منه رحمة ، أي : برحمته كانت تلك الحيلولة ، أو كان ذلك نعمة من الله ، والرحمة هي النعمة ، أي : هذا السدّ بينكم وبينهم نعمة من ربي عليكم.

ثم فيه وجهان :

أحدهما : ذكر أن ذلك كان برحمة من الله إذا فرغ منه ، وقد كان في الابتداء حين سألوه أن يجعل لهم السدّ أضاف الفعل إلى نفسه حيث قال : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) دلّ ذلك أن ما فعل برحمة منه وفضل ، وأن له في ذلك صنعا.

والثاني : فيه أن له أن يفعل بالخلق ما ليس هو بأصلح لهم في الدين ؛ لأنه لا يخلو إما أن كان الأول لهم أصلح في الدين ، ثم فعل الثاني ، فلا يكون الثاني أصلح لهم في الدين ، وإذا كان الأصلح لهم في الدّين الثاني فالأول لم يكن ، ثم ذكر أن ذلك رحمة منه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) ، أي : فإذا جاء الذي به كان وعد ربي وهو الموعود ؛ ولأن الوعد لا يجيء فكأنه قال : موعود ربّي ، وهو خروج يأجوج ومأجوج ، أو فتح ذلك السدّ (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أي : كسرا أو هدما على ما ذكرنا ، و (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) أي : هدمه وسواه بالأرض.

وقال القتبي (٢) : (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) ، أي : ألصقه بالأرض.

(يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي : يجول بعضهم في بعض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) هذا وعد والأول موعود.

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧٠).

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧١) ، ومجاز القرآن (١ / ٤١٥).

٢٠٩

قوله تعالى : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً)(١٠٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي : يجول بعضهم في بعض.

ثم يحتمل قوله : (يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) ، عند السدّ الذي بناه ذو القرنين ، يموجون عنده في فتح ذلك السدّ ، أو يذكر هذا لكثرتهم وازدحامهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) ظاهره على الماضى ، والمراد منه : المستقبل ، أي : ينفخ في الصور فيجمعهم جمعا ، ومثل هذا كثير في القرآن يذكر الماضي بحرف المستقبل ، والمستقبل بحرف الماضي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً).

يحتمل : أن يكون عرضها عليهم قبل أن يدخلوا فيها ، كقوله : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [الشعراء : ٩١].

ويشبه أن يكون العرض كناية عن التعذيب بها بعد ما أدخلوا فيها كقوله : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦] ، وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) قد ذكرنا فيما تقدم في غير موضع أن ظلمة الكفر تستر وتحجب نور القلب ، ونور كل حاسّة من حواسّه من السمع والبصر والفؤاد وغيره ؛ إذ لكل حاسّة من هذه الحواس نور وضياء في سريتها ألا تبصر ولا تسمع الحق والحجة إلا بنورين جميعا : نور الظاهر ، ونور السرية والباطن.

فالكفر يستر ويغطي ذلك النور ، فجعل لا يبصر الحق ولا ينظر العبر ، ولا يتفكر ولا يتجلى له الحق بنور الظاهر.

وللإيمان نور وضياء ، يبصر به ، ويسمع ، ويرفع له غطاء كل شيء حتى يتجلى له الحق ، ويعرف به حسن [كل حسن] وقبح كل قبيح ، فهو كما يرى الإنسان الشيء بنور بصره وبنور الهدى ، فإذا ذهب أحدهما صار بحيث لا يبصر ولا يرى شيئا ؛ فعلى ذلك إنما يعرف الشيء ، ويظهر له حقيقته بنورين : بنور القلب وبنور الحواس ، فإذا غطى ظلمة الكفر نور القلب ، صار لا يبصر شيئا ، ولا يعتبر ، ولا يسمع ، ولا ينطق بالحق ، والإيمان

٢١٠

ينور ذلك ويضيء ، فجعل يبصر كل شيء ، ويتجلى له الحق من الباطل ، وعرفوا الآيات من التمويهات ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) ، فيه وجهان من الدلالة :

أحدهما : أنه نفى عنهم استطاعة السمع ، وقد كان لهم السمع ؛ فدل أن الاستطاعة التي هي استطاعة الفعل تقترن بالفعل ، لا تتقدم ولا تتأخر.

والثاني : فيه دلالة أن هنالك استطاعة ، هم يستفيدون بها وعد الله ويستوجبونه ؛ فضيّعوها باشتغالهم بغيرها حيث عوتبوا واستوجبوا ذلك العتاب والتوبيخ بالتضييع الذي كان منهم. فلو لم يكن [كذلك لم يكن] للعتاب والتوبيخ الذي عوتبوا ووبخوا معنى.

قال قوم : إنما نفى عنهم ذلك للاستثقال الذي كان منهم.

وقد يقال مثله على المجاز ؛ للاستثقال دون الحقيقة ، يقول الرجل لآخر : ما أستطيع أن انظر إليك لكذا ، وهو ناظر إليه ، لكن قد ذكرنا : أنه على الوجه الذي قال : لا أستطيع أن انظر إليك وهو ناظر إليه ، غير مستطيع النظر إليه وهو نظر رحمة وشفقة.

وقال بعضهم : هو على الطبع ، وهو قول الحسن.

وقال بعضهم : إنما نفى ذلك عنهم ؛ لما لم ينتفعوا به ، كما نفى عنهم السمع والبصر والنطق ؛ لما لم ينتفعوا به ، ليس على أنهم لم يكن لهم تلك الحواس ، فعلى ذلك ما نفى عنهم من الاستطاعة لما لم ينتفعوا بها ، ليس على أنها ليست قبل ، هكذا نفى عنهم ذلك لما عموا وصموا عن ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) [قيل فيه بوجوه] :

[الأول :] قال بعضهم : تأويله : أفحسب الذين عبدوا في الدنيا الملائكة والرسل واتخذوهم من دوني أولياء أن يكونوا لهم أولياء في الآخرة ، ويتولون شفاعتهم يشفعون لهم وينصرون ، كلا لن يصيروا لهم أولياء ، كقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣].

والثاني : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي) المخلصين (دُونِي أَوْلِياءَ) ويتولونهم ، أي : لا يقدرون على أن يتخذوا أولياء من دوني ، وقد كانوا يدعون المؤمنين إلى دينهم ، والتولي لهم ، وهو ما قال : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) [النحل : ٩٩ ، ١٠٠]

والثالث : (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أن ما عبدوا واتخذوا (مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) أني أمرتهم

٢١١

بذلك أو أذنت لهم حيث قالوا : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٢٨] ونحوه ، كلا إنه [ما] أمرهم بذلك أو أذن لهم في ذلك.

ومن قرأ : (أَفَحَسِبَ) على الجزم فهو على إسقاط ألف الاستفهام ، يعني : فحسب الذين كفروا ، فهو يخرج على وجوه ثلاثة :

أحدها : فحسب الذين كفروا واتخذوا عبادي من دوني أولياء ما أعتدنا لهم من جهنم ، كقوله : (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها ...) الآية [المجادلة : ٨].

والثاني : أحسب الذين كفروا ما اتخذوا من دوني أولياء ، أي : أما كفاهم ذلك وما حان لأن يرجعوا إلى عبادتي وألوهيتي ، وقد أقمت لهم الآيات والحجج على ذلك.

والثالث : حسب لهم من الذل ما اتخذوا من دوني أولياء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً).

قال بعضهم : نزلا هو النزول وهو من النزول.

وقال بعضهم (١) : هو المنزل والإنزال ، أي : يأكلون فيها النار ؛ يكون مأكلهم ومشربهم من النار.

قال القتبي (٢) : النزل ما يقدم للضيف ولأهل العسكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

يشبه أن يكون هذا خرج على مقابلة قول كان من رؤساء الكفرة وجواب لهم ، وهو أن الرؤساء منهم كانوا يوسعون الدنيا على بعض أتباعهم ويحسنون إليهم ، ثم صار أولئك الأتباع أتباعا لرسول الله ودخلوا في دينه فضاقت عليهم الدنيا ، وذهبت المنافع التي كانت لهم منهم ، فعيرهم بذلك أولئك الكفرة ، ووبخوهم على ما اختاروا من الدين أنه لو كان حقّا لا تسع عليهم ، [في] الدنيا كما اتسع علينا وعليهم ما داموا على ديننا ، أو كلاما نحو هذا ، فأجابهم الله بذلك ، فقال : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ...) الآية.

ويحتمل : أن يكون على الابتداء في أهل الصوامع منهم والرهبان الذين اعتزلوا النساء ، وحبسوا أنفسهم لعبادة الأصنام والأوثان ، وجهدوها فيها ، وحملوا على أنفسهم الشدائد والمشقة ، فأخبر ـ عزوجل ـ أن هؤلاء أخسرهم أعمالا وأضلهم سعيا من الذين طلبوا الدنيا والرّئاسة فيها ، ولم يفعلوا ما فعل هؤلاء وإن كانوا في الكفر سواء.

والأخسر : هو الوصف بالخسران والنهاية والغاية ، وجائز أن يستعمل (أفعل) في

__________________

(١) قاله ابن جرير (٨ / ٢٩٢) ، والبغوي (٣ / ١٨٥).

(٢) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧١).

٢١٢

موضع (فعل) ، هذا في اللغة غير ممتنع ، فيكون تأويله : قل هل ننبئكم بالخاسرين أعمالا ، كقوله : الله أكبر ، أي : كبير.

وقوله ـ عزوجل ـ : (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) يحتمل وجهين :

أحدهما : (ضَلَ) : أي : ذلوا لعبادتهم التي عبدوا تلك الأوثان والأصنام ، وخذلوا أنفسهم بذلك ، وعلى ذلك يخرج قوله : (أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [التوبة : ٦٩] : أذلوا أنفسهم في الدنيا بعبادتهم الأصنام.

والثاني : (ضَلَّ سَعْيُهُمْ) الذي سعوا في الدنيا بعبادتهم الأصنام في الآخرة ؛ لأنهم قالوا : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، ونحوه ، فضلّ ما أمّلوا في الآخرة بسعيهم في الدنيا والآخرة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) وهم يحسبون بعبادتهم الأصنام التي عبدوها أنهم يحسنون بما أنفقوا على أولئك ووسعوا أنهم يحسنون صنعا ، أي : خيرا أو معروفا ، أي : ليس لهم ذلك بصنع للخير ، وفيه دلالة أنهم يؤاخذون بفعلهم الذي فعلوا ، وإن جهلوا الحق ، وهكذا قولنا : إن من فعل فعلا وهو جاهل ، فإنه يؤاخذ به بعد أن يكون له سبيل الوصول إلى الحق بالطلب أو بالتعلم ، حيث هم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا.

ثم أخبر من هم؟ فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) : حججه وبراهينه.

وقال الحسن : دينه ، وقد ذكرنا ذلك في غير موضع.

وقوله : (وَلِقائِهِ) البعث أو المصير إليه ، وهو مذكور أيضا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً).

أي : لا نقيم لهم وزنا ، وهو ما قال ـ عزوجل ـ :

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] فإذا لم تربح لهم [كانت] حسرات عليهم.

وقوله : (لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ) [النحل : ٢٥] ، هذا يدل أن قوله : (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) ، قد يقام عليهم الوزن (١).

ثم أخبر ـ عزوجل ـ عن جزائهم ؛ فقال : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً).

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٢ / ٥٧٤).

٢١٣

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً)(١١٠)

ثم ذكر للمؤمنين من الثواب والجزاء بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ، واختاروا فيها مقابل ما ذكر للكفرة ؛ فقال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً).

كأن الجنان التي وعد للمؤمنين أربعة : جنات النعيم ، وجنات المأوى ، وجنات عدن ، وجنات الفردوس ، ثم كان في [كل] واحدة منها ـ أعنى الجنان ـ فيها معنى الأخرى ؛ لأنه قال : (جَنَّاتُ الْمَأْوى) [السجدة : ١٩] وهو ما يؤوى إليه ، و (جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [المائدة : ٦٥] ظاهر ، و (جَنَّاتِ عَدْنٍ) [التوبة : ٧٢] من المقام أو غيره ، و (الْفِرْدَوْسِ) سميت فردوسا ؛ لأنها تكون ملتفة محفوفة بالأشجار ، ففي كل واحدة منها ذلك كله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نُزُلاً) قيل : منزلا من النزول.

وقيل : من النزل وهو من الأنزال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) أي : تحولا ، أخبر أنهم لا يملون ولا يسأمون عن نعيمها ، كما يمل أهل الدنيا عن نعيمها ويسأمون ؛ لأن المسرور بها يمل عن نعمة ، ويرغب في أخرى ، فأخبر أن أهل الجنة لا يملون فيها ، ولا يسأمون ، ولهم فيها ما يشتهون ، ولهم فيها ما يتخيرون.

وروي أن ابن عباس (١) سأل كعبا عن الفردوس ؛ فقال : هي جنات الأعناب بالسّريانية.

وقال بعضهم (٢) : ما ذكرنا أنها سميت : [فردوسا] لكثرة أشجارها والتفافها.

وروي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، الفردوس أعلاها درجة من فوقها يكون الفردوس ، منها يتفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس» (٣).

وقال القتبي (٤) : (لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً) أي : تحولا ، وكذلك قال أبو عوسجة : هو من

__________________

(١) أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٥٨).

(٢) قاله الضحاك بنحوه ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٨٦).

(٣) أخرجه الترمذي (٤ / ٢٩٧) ، كتاب صفة الجنة : باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها (٢٥٣١) ، وأحمد (٥ / ٣١٦ ، ٣٢١) ، وعبد بن حميد (١٨٢) ، وابن جرير (٢٣٤٠٧) ، وابن أبي شيبة ، والحاكم ، والبيهقي في البعث ، وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٥٧).

(٤) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧١).

٢١٤

التحول ، وقال : (نُزُلاً) ، قال : هذا من الطعام والشراب ، وجمع النزل : أنزال ، وجمع الفردوس : فراديس. وقال القتبي (١) : النزل : ما يقدم للضيف ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي).

يشبه أن يكون هذا خرج مقابل قوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] ، وقوله : (وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) [يوسف : ١١١] وجوابا لما ذكر فيه تبيانا لكل شيء ، وتفصيل كل شيء ، فقالوا : كيف يحتمل هذا المقدار أن يكون فيه تبيان كل شيء وتفصيل كل شيء؟ فقال ـ عزوجل ـ عند ذلك جوابا لقولهم : إنه لو بسط ما أودع فيه من نحو المعاني والحكمة ، وشرح ذلك فكتب بما ذكر لبلغ القدر الذي ذكر وازداد.

وقال الحسن : قوله : (لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي) أي : لخلق ربي ، أي : لو قال ما خلق وأملى : أني خلقت كذا ، وخلقت كذا ، فيكتب جميع ما خلق ، لبلغ القدر الذي ذكر. ويرجع تأويله إلى ما خلق من أصناف الخلق وأجناس الأشخاص.

وقال أبو بكر الأصم : قوله : (لِكَلِماتِ رَبِّي) لبيان ما خلق ربي ، فهو يرجع إلى الأول ، وقال : فائدة ما ذكر هو أن يعرفوا أن خلائقه وما أنشأ ، لمما يخرج عن الوقوع في الأوهام ، فالذي أنشأ ذلك وخلقه أحرى أن يكون خارجا عن الوقوع في الأوهام والتصور فيها.

والثاني : يعرفوا قدرته وسلطانه ، وإحاطة علمه بالخلائق ، وما أنشأ فيعلموا : أن من قدر على هذا فهو على البعث الذي أنكروا أقدر ، ومن أحاط علمه بما ذكر فهو على الإحاطة بأفعالهم وأقوالهم أعلم وأعرف ؛ ليكونوا على الحذر أبدا في كل وقت.

ثم يحتمل قوله : (لِكَلِماتِ رَبِّي) حججه وآياته التي أقامها على وحدانيته وربوبيته ، أي : لو كتب ذلك لبلغ ذلك الذي ذكر.

وإن كان المراد من الكلمات : القرآن ، فالتأويل ما ذكرنا بدءا : أنه كان خرج على الجواب والمقابلة لقول كان منهم ، [وهو] ما قاله الحسن وأبو بكر إن كان كلماته خلقه أو البيان عن خلقه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) :

__________________

(١) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٧١).

٢١٥

هذا ليس على التحديد ، ولكن على التعظيم والإبلاغ ، وهو ما قال : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧] دل هذا على أن قوله : (وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) ، أن ليس لذلك المدد حدّ ولا نهاية ؛ ولكن ذكر على التعظيم له والإبلاغ.

وفيه دلالة أن ليس لما خلق الله من العلوم نهاية ولا غاية يدركها الخلائق ، ولكن يؤخذ من كل جنس شيء ، فيعمل به.

وفيه أن ليس الأمر بتعلم العلم ، والمقصود منه العلم نفسه ، ولكن المقصود منه العمل بما يعلم ؛ إذ ليس للعلوم نهاية ولا يبلغ ذلك البشر ، فدلّ أنّه كما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ).

أمره أن يخبرهم أنه بشر مثلهم ، ثم يكون لذلك الأمر وإخباره إياهم أنه بشر مثلهم ، وجوه من المعنى :

أحدها : أنهم كانوا يسألونه آيات خارجة عن وسع البشر وطوقهم ، فأمره أن يخبرهم أنه بشر مثلهم ، لا يقدر على ما يسألونه من الآيات التي تخرج عن وسع البشر وطوقهم ، وليس لأحد التحكم على الله ، والتخير عليه في شيء ، إنما ذلك إلى الله إن شاء أنزل وإن شاء لم ينزل ، وأنا لا أملك شيئا من ذلك.

والثاني : ذكر هذا ليعرفوا أنه إذا جاء من الآيات التي لا يحتمل وسع البشر أن يأتوا بمثلها ، أنه إنما أتى بذلك من عند الله لا من ذات نفسه ؛ إذ علموا أن وسع البشر لا يحتمل ذلك ، فلما أتاهم بذلك إنما أتى بها من عند الله وأنه رسول على ما يقول.

والثالث : أمره أن يقول لهم هذا : إنه بشر مثلهم ؛ لئلا يحملهم فرط حبّهم على أن يتخذوه إلها ربّا على ما اتخذ قوم عيسى عيسى إلها ربّا ؛ لفرط حبّهم إيّاه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) فإن كانت الآية في مشركي العرب ـ فهم ينكرون البعث ولا يرجونه لكنّه يكون ذكر لقاء ربه لهم ؛ لأنهم عرفوا في أنفسهم قديم إحسان الله إليهم [و] نعمه عليهم ، فأمروا أن يعملوا العمل الصالح ليستديموا بذلك الإحسان الذي كان من الله إليهم ، فيحملهم العمل على التوحيد بالله والإقرار بالبعث.

وإن كانت الآية في المؤمنين ، فيكون تأويله ؛ (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ) ، أي : ثواب ربه (فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) ليثاب عليه ؛ إذ الثواب إنما يكون للعمل الصالح دون غيره ، وفيه ما ذكرنا أن المقصود من العلم العمل الصالح ، والعلم مما ليس له نهاية فالأمر بطلب ما لا نهاية له ليس لنفسه ولكن للعمل به ، والله أعلم.

٢١٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) ، يحتمل : حقيقة الإشراك في العبادة والألوهية ، على ما أشرك أولئك : أشركوا الأصنام والأوثان التي عبدوها في عبادته وألوهيته ، ويحتمل : المراءاة في العمل الصالح ، على ما يرائي بعض أهل التوحيد في بعض ما يعملون من الطاعة والخيرات ، والله أعلم بالصواب. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.

* * *

٢١٧

سورة مريم وهي مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا)(٦)

قوله : (كهيعص).

قيل (١) : اسم من أسماء القرآن.

وقيل : اسم من أسماء الله تعالى ، وعلى ذلك روى عن علي (٢) ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : يا كهيعص ، اغفر لي.

قال أبو بكر الأصم : لا يصح هذا من على ؛ لأن هذا لم يذكر في أسمائه المعروفة التي يدعى بها.

وقال بعضهم : حروف من أسماء الله افتتح بها السورة فهو ما ذكرنا ، وهو الأوّل ، وقال بعضهم : الكاف مفتاح اسمه كاف ، والهاء مفتاح اسمه هاد ، والعين مفتاح اسمه عالم ، والصاد مفتاح اسمه صادق.

وقال ابن عباس (٣) : الكاف من كريم ، والهاء من هاد ، والياء من حكيم ، والعين من عليم ، والصاد من صادق.

وقال الربيع بن أنس (٤) : الياء من قوله : (وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) [المؤمنون : ٨٨].

وقال الكلبي (٥) : هو ثناء أثنى الله على نفسه ؛ فقال : كاف هاد عالم صادق ، يقول : كاف لخلقه ، هاد لعباده ، عالم ببريّته وبأمره ، صادق في قوله.

__________________

(١) قاله قتادة : أخرجه ابن جرير (٢٣٤٧٦) ، وعبد الرزاق وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٦٦).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٣٤٧٣).

(٣) أخرجه عبد الرزاق وآدم بن أبي إياس وعثمان بن سعيد الدارمي في التوحيد وابن جرير (٢٣٤٤٠ ، ٢٣٤٥٦ ، ٢٣٤٦٤) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الأسماء والصفات ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٦٥).

(٤) أخرجه ابن جرير (٢٣٤٥٣) ، وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٦٦).

(٥) أخرجه ابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٦٥).

٢١٨

وقال بعضهم : لم ينزل الله كتابا إلا وله فيه سرّ لا يعلمه إلا الله ، وسرّ القرآن فواتحه.

وقال بعضهم : تفسيره ما ذكر على أثره ، وهو قول الحسن ، وأمثال هذا قد أكثروا فيه ، وقد ذكرنا الوجه في الحروف المقطعة فيما تقدم في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : على الأمر ، أي : اذكر لهم رحمة ربك عبده زكريا بالإجابة له عند سؤاله الولد في الوقت الذي أيس عن الولد في ذلك الوقت ؛ فيكون فيه دلالة رسالته ، حيث ذكر لهم رحمة ربه على زكريا ، وأخبرهم على ما في كتبهم.

والثانى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) : هذا ذكر رحمة ربك لعبده زكريا في دعائه ، وعلى هذا التأويل يكون الذكر هو القرآن ، وقد سمى الله القرآن : ذكرا في غير آي من القرآن ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا).

قال بعضهم : نداء خفيّا في قلبه على الإخلاص من غير أن ينطق به.

وقال بعضهم : نداء خفيّا عن قومه ومن حضره.

ثم يحتمل وجهين :

أحدهما : أخفاه وأسرّه منهم إخلاصا لله وإصفاء له.

والثانى : أخفاه وأسره منهم حياء أن يعيبوه أن سأل ربه الولد في وقت كبره وإياسه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي : ضعف ورق (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) : اعتذر إليه ، وقدم زكريا ما حل به من الكبر وبلوغه الوقت الذي لا يطمع في ذلك الوقت الولد ، أي : بلغت المبلغ الذي ضعف بدني ، ورق عظمي ، ثم سأل ربه الولد ليس على أنه كان لا يعرف قدرة الله أنه قادر على هبة الولد ، وإنشائه في كل وقت في وقت الكبر والضعف ، وبالسبب وبغير السبب ؛ لكنه لأنه يعرف أنه [لا] يسع ويصلح سؤال الولد وهبته في الوقت الذي كان بلغ هو ، وهو الوقت الذي لا يطمع فيه الولد في الأغلب ، وهو ما ذكر في سورة آل عمران : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [٣٧] فعند ذلك عرف زكريا أنه يسعه دعاء هبته الولد وسؤاله في وقت الإياس ، حيث رأى [عند] مريم فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء غير متغيرة عن حالها ، فسأل عند ذلك ربه الولد ، وهو قوله : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ...) الآية [آل عمران : ٣٨] ، والله أعلم.

٢١٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا).

قال بعضهم (١) : أي : كنت تعودني الإجابة في دعائى إياك فيما مضى.

وقال بعضهم : أي : لم يكن دعائي مما يخيب عندك ، وهما واحد ، ذكر مننه وفضله [الذي] كان منه إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي).

قال الحسن : خاف مواليه أن يرثوا ماله ، فأما علمه ونبوته فمما لا يورث.

قال أبو بكر الأصم : هذا لا يصح ، لا يحتمل أن يخاف زكريا وراثة ماله مواليه ؛ فيسأل ربه لذلك الولد ليرثه ماله ، ولكن خاف أن يضيّع مواليه دينه وسننه من بعده ؛ فسأل ربه أن يهب له الولد ليقوم مقامه في حفظ دينه وسننه.

وقال : لا يحتمل وراثة المال ؛ لما روي في الخبر : «إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» ، فلا يخلو هذا من أحد وجهين :

إمّا أن كان هذا في المال له خاصّة دون سائر الأنبياء ، وإما إذن لم يكن زكريا نبيّا فدلّ هذا أنه لا يحتمل وراثة المال فدلّ أنه على العلم : أن يضيع الموالي علمي من ورائي.

ويحتمل قوله : (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) ، وسؤاله الولد وجها آخر ، وهو أنه سأل ربه الولد الرضى الطيب ؛ ليذكر هو به بعد وفاته بالأعمال والصنيع الذي كان منه في حياته ، ويدعى له ، لئلا ينقطع ذكره ، ودعاء الخلق له ، وهذا هو المعروف في الخلق أنهم يذكرون ويدعون لهم بالخيرات التي كانت في حال حياتهم ، إذا كان له ولد صالح فعلى ذلك سؤال زكريا الولد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي : لا تلد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا. يَرِثُنِي) أي : يلي أمري.

وقوله : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ).

قال بعض أهل التأويل : ما ذكرنا : يرثني مالي ، ويرث من آل يعقوب النبوة ، وقيل : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) وارثا يرثني مكاني ، ونبوتي ، ويرث من آل يعقوب الملك ؛ لأنهم كانوا ملوكا ، وكانوا أخواله ، وهو كان حبرا ، والله أعلم بذلك.

ولكن قوله : (يَرِثُنِي) ما كان له من العلم والحكمة والدّين وغيره ، ويرث من آل يعقوب ما كان لهم من العلوم وغيرها ، فإن ثبت أن آل يعقوب كانوا أخواله ، ففيه دلالة أن ذوي الأرحام يرثون بعضهم من بعض ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله ابن جريج ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٤٨٢).

٢٢٠