تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).

أي : يجزى كلا على قدر عمله ، لا يزيد على قدر عمله ولا ينقص عنه ، أي : لا ينقص المؤمن من حسناته ، والكافر لا يترك له سيئة ، الظلم : هو في الشاهد وضع الشيء غير موضعه.

يقول : لا يظلم ربّك أحدا ، أي : لا يكون بما يجزى كلا على علمه ظالما واضعا شيئا غير موضعه.

قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً)(٥٤)

وقوله : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ).

ذكر الله ـ عزوجل ـ : قصة آدم وإبليس في غير موضع من القرآن على الزيادة والنقصان ؛ وإنما ذكر كذلك وكرّر لما كذلك كان في الكتب المتقدمة مكررا معادا ؛ فذكر في القرآن على ما كان في تلك الكتب ؛ ليكون ذلك آية لرسالة محمد حيث علموا أنه كان لا يعرف الكتب المتقدمة.

أو أن ما كرره لحاجات كانت لهم ولفوائد تكون في التكرار ؛ ليكون لهم عظة وتنبيها في كل وقت وكل حال ، وقد يكرّر الشيء ويعاد على التذكير والتنبيه ، والله أعلم بذلك.

وقوله : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ).

اختلف فيه : قال بعضهم (١) : سمي من الجن ؛ لأنه كان من الجان الذين يعملون في الجنان ؛ فنسب إليهم.

وقال بعضهم (٢) : إن من الملائكة قبيلة يقال لها : الجن ، فكان إبليس منها ؛ فنسب إليها.

__________________

(١) قاله سعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير (٣٢١٢٦ ، ٣٢١٢٩) والبيهقي في الشعب عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤١٢).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٣١٢٠ ، ٢٣١٢١) ، وابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الشعب عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤١٢) وهو قول قتادة وغيره.

١٨١

وقال الحسن (١) : ما كان إبليس من الملائكة قط طرفة عين ؛ ولكنه من الجنّ ؛ كما قال الله فهو أصل الجن ، وهو أول من عصى ربه من الجن ، [و] إن آدم هو أصل الإنس ، وهو أبوهم ؛ فعلى ذلك إبليس أبو الجنّ.

وقال بعضهم : (كانَ مِنَ الْجِنِ) ، أي : صار من الجنّ ، وكذلك قالوا : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) [البقرة : ٣٤] أي : صار من الكافرين.

وقال بعضهم : (كانَ مِنَ الْجِنِ) ، أي : كان في علم الله في الأزل أنه يكون من الجنّ ، وكان في علم الله في الأزل أنه يكون من الكافرين وقت عصيانه ربه وإبائه السجود لآدم. وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ).

قيل (٢) : عتا وعصى ، وأصل الفسق : الخروج ، أي : خرج عن أمر ربّه ، وكذلك قال القتبي (٣) : ففسق ، أي : خرج عن طاعته ، يقال : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أنه أراد بقوله : (مِنْ دُونِي) نفسه ؛ فكأنه قال : أفتتخذونه وذريته أربابا وآلهة من دوني وهم لكم [عدو] ، وليسوا بآلهة ولا أرباب ؛ فكيف يجوز أن يتخذ العدو ربا وإلها؟!

والثاني : أنه أراد بقوله : (أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) ، أي : من دون أوليائي ؛ فكأنه قال : أفتتخذونه وذريته أولياء من دون أوليائي ، وهم لكم عدو ، أي : كيف تتخذون الأعداء أولياء ، وتتركون من هم لكم أولياء ولا تتخذونهم أولياء؟! والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) ، أي : بئس ما استبدلوا بعبادة ربهم أن عبدوا إبليس وأطاعوه ؛ فبئس ذلك لهم بدلا.

أو أن يكون قوله : (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً) ، أي : ما اتخذوا أعداءهم أولياء بدلا عن أوليائه أو بدلا عن ألوهيته وربوبيته.

وقوله : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ).

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٣١٢٣) ، وابن الأنباري في كتاب الأضداد وأبو الشيخ في العظمة ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤١٢).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣١٣١).

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٦٨).

١٨٢

قال بعضهم : قال هذا لمشركي العرب : حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، والأصنام التي عبدوها : إنها آلهة وإنها شركاؤه ، فيقول : ما أشهدتهم خلق الملائكة وخلق الأرض ولا خلق أنفسهم ، ولا كان لهم كتاب ، ولا آمنوا برسول ؛ فكيف عرفوا ما قالوا : الملائكة بنات الله ، والأصنام آلهة وشركاؤه؟! وأسباب العلم والمعارف هذا : إما المشاهدة وإما الرسل ، فإذا لم يكن لهم واحد مما ذكرنا ؛ فكيف عرفوا ربهم؟! وبم علموا ما قالوا في الله من الولد والشركاء؟! وإلى هذا يذهب الحسن.

ومنهم من قال : لاتخاذهم إبليس وذريته أولياء وأربابا ، وهو صلة ما قال : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ...) الآية ، وفيه وجوه من التأويل : يقول : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) ، أي : ما استحضرتهم خلق أنفسهم ؛ لأنهم لم يكونوا في ذلك الوقت ، ولا خلق السموات والأرض ؛ لأنه خلقهما ولم يكونوا ـ أيضا ـ شيئا.

أو (ما أَشْهَدْتُهُمْ) ما أعلمتهم تدبير خلق السموات والأرض ، ولا تدبير خلق أنفسهم ؛ فكيف قالوا ما قالوا في الله من الدعاوى؟!

والثالث : (ما أَشْهَدْتُهُمْ) أي : ما استعنت بهم في خلق السموات والأرض ، ولا في خلق أنفسهم ؛ فكيف أشركوا في ألوهيتي وربوبيتي ، وما استعنت بهم في ذلك. والله أعلم.

وقد استدل كثير من المتكلمين بهذه الآية على أن خلق الشيء هو غير ذلك الشيء لأنه قال : (ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) ، وقد شهدوا السموات والأرض ، وشهدوا أنفسهم حتى قال لهم : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١] ثم أخبر أنه لم يشهدهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم ؛ دل أن خلق السموات والأرض وخلق أنفسهم ـ غير السموات والأرض وغير أنفسهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً).

قال بعضهم : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) : عن الإيمان والهدى أعوانا لديني.

والثاني : وما كنت متخذ المضلين عبادي بنصر ديني ، أو بعون أوليائي.

وقال بعضهم (١) : (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) الذين أضلوا بني آدم عونا فيما خلقت من خلق السموات والأرض وخلق أنفسهم ، وهو إبليس وذريته.

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٣١٣٨ ، ٢٣١٣٩) ، وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤١٤) ، وهو قول السدي ومجاهد.

١٨٣

أو (وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ) : أولياء ، إنما اتخذتهم أعداء ، وما كنت لأولي المضلين عضدا على أوليائي ؛ كقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] ونحوه ، وكله قريب بعضه من بعض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ).

قال (شُرَكائِيَ) ؛ على زعمهم ، وإلا : لم يكن لله شركاء.

(فَدَعَوْهُمْ).

يعني : دعوا الأصنام التي عبدوها.

(فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ).

قال أبو بكر الأصم : لم يجيبوهم في وقت ، وقد أجابوهم في وقت آخر ، وهو ما قالوا : (إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) [يونس : ٢٩] ، ولكن قوله : (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) ؛ لما كانوا يعبدونها في الدنيا ، وإنما كانوا يعبدونها طمعا أن يكونوا لهم شفعاء وأنصارا ؛ كقولهم (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] وقوله : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا* كَلَّا) [مريم : ٨١ ، ٨٢] فيكون قوله : (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) : ما طمعوا هم بعبادتهم الأصنام : من الشفاعة ، والنصرة ، ودفع ما حل بهم عنهم ، والمنع عن عذاب الله ، والله أعلم.

وقوله : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً).

أي : بين أولئك وبين الأصنام ، (مَوْبِقاً) ، قال بعضهم (١) : مهلكا.

وقال بعضهم : الموبق : الذي يفرق بينهم وبين آلهتهم في جهنم.

وقال بعضهم (٢) : نهر فيها.

وقال بعضهم (٣) : جعلنا وصلهم في الدنيا الذي كان بين المشركين وبين الأصنام موبقا ، أي : مهلكا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها).

أي : علموا وأيقنوا أنهم داخلوها.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٣١٤٢) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤١٤) ، وهو قول قتادة والضحاك وابن زيد.

(٢) قاله عكرمة أخرجه ابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤١٤) ، وعن عبد الله بن عمرو وأنس بن مالك ومجاهد أنهم قالوا : هو واد في جهنم.

انظر : تفسير ابن جرير (٢٣١٤٨ ـ ٢٣١٥٢).

(٣) قاله الفراء ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٦٨).

١٨٤

(وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً).

أي : لم تقدر الأصنام التي عبدوها أن تصرف النار عنهم : قال أبو عبيدة (١) : (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) ، أي : معدلا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا) قد ذكرناه وبيّناه في غير موضع ، وقوله : (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يحتمل وجهين :

أحدهما : (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ، أي : من كل صفة ؛ كقوله : (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) [الروم : ٢٧] ، أي : الصفات العليا.

والثاني : المثل : هو الشبيه ؛ كقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١].

فإن كان التأويل : الشبيه ؛ فكأنه يقول ـ والله أعلم ـ (وَلَقَدْ صَرَّفْنا) ، أي : بينا (فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) من كل ما بهم حاجة إلى معرفة ما غاب عنهم ؛ جعل لهم شبيها مما شاهدوا أو عرفوا ليعرفوا به ما غاب عنهم.

وإن كان تأويل المثل : الصفة ، فكأنه يقول ـ والله أعلم ـ : ولقد بيّنا في هذا القرآن من كل ما يؤتى وما يتقى صفة : يعرفون بها ما لهم وما عليهم ، [و] ما يأتون وما يتقون ، والله أعلم.

وقوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً).

قال أهل التأويل (٢) : (وَكانَ الْإِنْسانُ) يعني : الكافر (أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) ، أي : جدالا ؛ كقوله : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ).

ويشبه أن يكون قوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) ، أي : وكان جوهر الإنسان أكثر جدلا من غيرهم من الجواهر ؛ لأن الجن لما عرض عليهم القرآن والآيات قبلوها على غير مجادلة ذكرت ؛ حيث قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ...) الآية [الجن : ١] ، وكذلك الملائكة لم يذكر منهم الجدال ولا المحاجة في ذلك.

وقد ظهر [في] جوهر الإنسان المجادلات والمحاجات في الآيات والحجج ، من ذلك قوله : (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ...) الآية [آل عمران : ٦٦] ، وقوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥] ، وقوله : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت : ٤٦] ، وقوله : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) [الكهف : ٥٦] ، وأمثال هذا ؛ لذا احتيج إلى إنزال كثرة الآيات والحجج ؛ لكثرة ما ظهرت منهم المجادلة.

وفيه الإذن بالمجادلة والمحاجة في الدين على الوصف الذي ذكر ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر : مجاز القرآن (١ / ٤٠٧).

(٢) انظر : تفسير البغوي (٣ / ١٦٨).

١٨٥

قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً)(٥٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى).

أي : لم يمنع الناس أن يؤمنوا إلا التعنت والعناد ؛ لأنه قد أكثر عليهم من الحجج والآيات ما لم يعاندوا ولا كابروا ؛ لالتزامهم الإيمان بها والتصديق ، لكن الذي منعهم عن الإيمان ما ذكرنا من عنادهم وتعنتهم.

(إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ).

وسنة الأولين : الاستئصال والإهلاك ؛ فيقول : لا يؤمنون إلا في ذلك ، والإيمان لا ينفعهم في ذلك الوقت ؛ كقوله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٥].

وقوله : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً).

أي : عيانا وجهرا.

قال أبو عبيدة (١) : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً) ، أي : مقابلة ، وقبلا : استئنافا.

وقال مجاهد (٢) : (قُبُلاً) : فجأة ، وقال : قبيلا.

قال أبو عوسجة : (قُبُلاً) ، أي : مواجهة ، وكذلك قبيلا.

وقال القتبي (٣) : (قُبُلاً) ، أي : مقابلة وعيانا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ).

أي : لم نرسلهم إلا بما يوجب لهم البشارة والنذارة إنما أرسلوا للأمر والنهي ليأمروا الناس بالطاعة ـ طاعة الله ـ وينهوهم عن معاصيه ؛ لهذا أرسلوا ، فالبشارة لمن اتبع أمرهم وانتهى ما نهوا عنه ، والنذارة لمن ارتكب ما نهوا عنه ؛ فيكون البشارة للمتبعين لهم في أمرهم والنذارة للمرتكبين المنهي ، والله أعلم.

__________________

(١) انظر : مجاز القرآن (١ / ٤٠٧).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٣١٥٦ ، ٢٣١٥٧) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤١٥).

(٣) انظر : تفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (٢٦٩).

١٨٦

وقوله : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ).

ويحتمل قوله : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ) : ما نسبوه إلى السحر والكهانة والإفك وغيره ، به يجادلونه ؛ وهو باطل.

أو أن يكونوا عرفوا أن ما يجادلونهم به ويحاجونهم باطل ، وأن ما يدعوهم [إليه] الرسول حق وصدق ونور ، لكن يعاندونه ويجادلونه ، وعندهم [أنهم] على باطل ، كقوله : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ ...) [الصف : ٨] الآية : عرفوا أنه نور لكنهم عاندوه في المجادلة والمحاجة بالباطل ، والله أعلم.

وقوله : (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ).

أي : ليبطلوا به الحق.

وقوله : (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً).

قال بعضهم : آياته : الشمس والقمر وغيره ، (وَما أُنْذِرُوا) : ما أنذر به الرسل ، هو القرآن. وقال بعضهم : قوله : (وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) : القرآن والحجج التي أقامها وما أمروا به غير القرآن ، هي المواعيد ـ هزوا.

وقال [أصحاب] هذا التأويل : تأويل الأول باطل لا يصح ؛ لأنه قال على أثره : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها) ، يقول : هذا يدل أنه أراد بالآيات ما ذكرنا من الحجج والبراهين ، لا ما ذكر.

وجائز أنهم إذا لم يعملوا بآياته ولم يستعملوها نسبهم إلى الهزء بها والسخرية ، وإن لم يهزءوا بها ، وهو ما سماهم : عميا وبكما وصما ؛ لما لم ينتفعوا بهذه الحواس ، ولم يستعملوها فيما جعلت له ، وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك ؛ فإذا كان فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

ثم يحتمل مجادلتهم إياهم : ما قالوا : هذا سحر ، وكهانة ، وإنه إفك ، وشعر ، ونحوه.

أو أن يكون مجادلتهم قولهم : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٤] ، وقولهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [إبراهيم : ١٠] ، وأشباه ذلك من المجادلات التي كانت بينهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها).

يحتمل قوله : (ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) ، أي : وعظ بالآيات التي نزلت بمكة بمكذبي الرسل من الأمم الماضية ؛ فيكون تأويله ، أي : لا أحد أظلم على نفسه ممن وعظ بآيات ربّه فأعرض عنها ما لو اتعظ بما وعظ كان به نجاته.

أو أن يكون تذكيره بآيات ربه ، وهو ما أقام من حججه وبراهينه على توحيده ورسالة الرسول ، فلم يقبلها ولم يصدقها ، أي : لا أحد أظلم على نفسه ممن لم يتعظ بما ذكر من

١٨٧

الآيات والحجج ولم يقبلها ، والله أعلم.

وقوله : (فَأَعْرَضَ عَنْها) : يحتمل الإعراض في الآية ، أي : لم يقبلها ، ولم يكترث إليها ، ولم ينظر فيها ، أو أعرض عنها بعد ما عرفها أنها آيات وحجج ؛ تعنتا وعنادا.

وقوله : (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ).

يحتمل ؛ أي : نسي من الخيانة والشرك.

أو أن يكون قوله : (وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) موصولا بالأول ، أي : لا أحد أظلم على نفسه ممّن وعظ ، وجعل له سبيل للتخلص والنجاة مما قدمت يداه ، فلم يتعظ به ؛ والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً).

إن الكفر مظلم إذا أتى به إنسان يستر على نور القلب وعلى نور كل جارحة منه ، والإيمان منير ينير القلب ، وينير كل جارحة منه وعضو ، وهو ما ذكرنا في غير موضع : أن الإنسان إنما يبصر بنورين ظاهرين : بنور نفسه ، وبنور ذلك الشيء ، فإذا ذهب أحدهما ، ذهب الانتفاع بالآخر ، والإيمان ما ذكرنا : أنه منير ، وفي القلب نور ، فإذا اجتمع النوران معا ـ فعند ذلك انتفع به ، فجعل يفقه ويعقل الشيء بنور القلب وبنور الإيمان ، وكذلك كل جارحة منه ، الأذن والبصر واللسان ، جعل يبصر الحق به ، ويعتبر به ، ويستمع الحق والصواب.

والكفر مظلم يمنع ويستر على نور الجوارح ؛ فجعل لا يبصر ، ولا يعتبر ، ولا يستمع ، ولا يتكلم بالحق ، وهو ما ذكرنا : أن الإنسان إنما يبصر الشيء بنور العين وبنور الهواء ؛ فإذا ذهب أحدهما صار لا يبصر شيئا ؛ فعلى ذلك ما ذكرنا.

وفي الآية دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنه لا يخلو الكفر من أن يكون مظلما قبيحا ذميما بنفسه أو بالله تعالى.

فإن قيل : صار كذلك.

قيل : لئن جاز ذا جاز حدوث الأشياء بنفسها ؛ إذ لا فرق بين أن يكون الشيء مظلما قبيحا ذميما بنفسه وبين أن تكون الأشياء بأنفسها على ما كانت ، فإن بطل [كونه] بنفسه مظلما قبيحا ثبت أن الله هو الذي جعله مظلما قبيحا ، وهو ما نقول نحن : إن الله خلق فعل الكفر من الكافر مظلما قبيحا ، وخلق فعل الإيمان من المؤمن منيرا حسنا ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً).

هذا في قوم مخصوصين علم الله أنهم لا يؤمنون أبدا ، وإلا لا يحتمل في جميع الكفار ؛ إذ من الكفار من قد آمن.

وقال الحسن : هو في القوم الذين جعل على قلوبهم الغطاء والطبع ، إذ من قوله : إن للكفر حدا إذا بلغ الكافر ذلك الحد طبع على قلبه ؛ فلا يؤمن أبدا.

١٨٨

وقال بعضهم : هو في قوم عادتهم العناد والمكابرة وتكذيب الآيات والحجج ؛ فأخبر أنهم لا يؤمنون أبدا ؛ لعنادهم ، وأصله ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ).

يحتمل على وجهين :

أحدهما : (الْغَفُورُ) حيث ستر عليهم ولم يعاقبهم وقت عصيانهم ، و (ذُو الرَّحْمَةِ) يقبل توبتهم إذا تابوا.

والثاني : (الْغَفُورُ) إذا استغفروا أو تابوا ، و (ذُو الرَّحْمَةِ) يرحمهم ويتجاوز عنهم ما سبق لهم من الذنوب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ) في الدنيا.

(بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) :

قال الحسن : جعل الله لكل أمة يهلكون ـ لهلاكهم ـ موعدا وأجلا [كقوله] : (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ) [هود : ٨١] ، وقال في آية أخرى : (تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ) [هود : ٦٥] ، وجعل موعد هذه الأمة الساعة ؛ وهو قوله : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) [القمر : ٤٦].

قال بعض أهل العلم : أهلك الله كل أمة كذبت رسولها ؛ لتتعظ الأمة التي تأتي بعدها ، وجعل هلاك أمة محمد بالساعة ؛ لأنه ليس بعدها أمة تتعظ به.

وقوله : (لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً).

قيل (١) : ملجأ.

وقال القتبي (٢) : لا وئلت نفسك ، أي : لا نجت ، ويقال : وأل فلان إلى كذا ، أي : لجأ.

وقوله : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً).

فيه دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنهم يجعلون المهلك هالكا قبل أجله ، وقد أخبر لمهلكهم موعدا لا يتقدم ولا يتأخر طرفة عين.

وفي قوله : (قَدَّمَتْ يَداهُ) : ذكر تقديم اليد ، وإن لم يكن لليد صنع في ذلك ؛ لما في العرف الظاهر : أنه إنما يقدم ويؤخر باليد ، وكذلك ما ذكر من الكسب : (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠] ؛ لأنه في الشاهد إنما يكتسب باليد ونحوه ، فهو يرد على

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٣١٦٢) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤١٦).

(٢) انظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٤٠٨) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (٢٦٩).

١٨٩

أصحاب الظواهر : أن الخطاب على مخرج الظاهر ؛ حيث لم يفهم من ذكر اليد هاهنا اليد نفسها ؛ ولكن فهم غير اليد.

قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً)(٧٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ ...) الآية.

قال أهل التأويل (١) : (لا أَبْرَحُ) ، أي : لا أزال حتى أبلغ كذا ، فإن كان على هذا فهو ظاهر ، وإلا : حرف البراح ، يعرف البراح عن المكان ، أي : لا أبرح المكان حتى أبلغ مجمع البحرين ، وهو كأنه على الإضمار ، أي : لا أبرح أسير معك حتى أبلغ كذا ، كأنه سبق من فتاه : أنه يسير إلى ذلك المكان دونه ؛ على ما يقول الخادم لمولاه إذا أراد أن يسير لحاجة : أنا أسير ، وأنا أذهب ـ فعند ذلك قال له موسى : (لا أَبْرَحُ) ، أي : لا أفارقك ، وأسير معك.

(حَتَّى أَبْلُغَ).

ما ذكر ، أي : أمرت بذلك.

وقال بعضهم : سماه : فتى ؛ لأنه كان خادمه يخدمه.

وقال بعضهم : سمّاه : فتى ؛ لأنه كان يتبعه ويصحبه ؛ ليتعلم منه العلم.

وقوله : (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ).

أي : ملتقى البحرين.

وقوله : (أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً).

قيل (٢) : زمانا ودهرا ، وقيل (٣) : الحقب : ثمانون سنة.

__________________

(١) قاله ابن جرير (٨ / ٢٤٥) والبغوي (٣ / ١٧١).

(٢) قاله ابن عباس وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٣١٧٦ ، ٢٣١٧٧).

(٣) قاله عبد الله بن عمرو ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣١٧٣).

١٩٠

وقال بعضهم : هو بلغة قوم : سنة.

وقال بعضهم : هو على التمثيل : على ما يبعد.

وقيل (١) : سبعون سنة ، ونحوه ، والله أعلم.

وقوله : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما).

أضاف النسيان إليهما ، وإن كان الذي نسيه هو فتاه.

وقال بعضهم : أضاف النسيان إليهما على الترك ؛ لأنهما فارقا ذلك المكان وتركا الحوت فيه ، وإنما أضاف النسيان إليهما ؛ لما تركاه جميعا فيه وفارقاه ، وإن كان الفتى هو الذي نسيه دون موسى [فقد نسى موسى] أن يستخبره عنه ؛ فقد كان منهما جميعا النسيان : من الفتى الإخبار والتذكير ، ومن موسى : الاستخبار عن حاله.

وقال بعضهم : أضاف ذلك إليهما ؛ لما نسيا مكان الرجل الذي أمر موسى أن يأتيه ويقتبس منه العلم ، فهو على الجهل يخرج على هذا التأويل ، أي : جهلا مكانه ، والله أعلم.

وقوله : (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً).

قال أبو عوسجة : سربا ، أي : دخل في البحر كما يدخل في السرب ، والسرب : هو داخل الأرض يقال بالفارسية : سمج.

وقال القتبي (٢) : سربا ، أي : مذهبا ومسلكا.

وقول أهل التأويل : إن الحوت كان مشويّا فأحياه الله.

وقال بعضهم : كان طريا.

ولكن ليس لنا إلى معرفة الحوت أنه كان مشويّا أو طريّا حاجة ، وهو قادر على أن يحييه مشويّا أو طريّا في أي حال كان ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا جاوَزا).

يعني : مكانه.

(قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً).

فيه دلالة : أن لا بأس للرجل إذا أصابته مشقة وجهد أن يذكر أصابني كذا ، وللمريض يقول : بي من المرض كذا ، ولا يخرج ذلك مخرج الشكوى والجزع عن الله ؛ حيث قال موسى : (لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً) : تعبا وجهدا.

وقوله : (قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ).

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٢٣١٧٤ ، ٢٣١٧٥).

(٢) انظر : مجاز القرآن (١ / ٤٠٩) ، وتفسير غريب القرآن ص (٢٦٩).

١٩١

وفي حرف ابن مسعود : أن أذكر له.

قال الحسن : لم يكن نسيه ؛ ولكن تركه متعمدا مضيعا ، وإنما أضاف إلى الشيطان ؛ يقول : إن الشيطان حملني حتى تركت ذكره لك ، وكذلك يقول في قوله في قصة آدم : (فَنَسِيَ) [طه : ٨٨] ، أي : ضيع أمره وتركه ، ونحوه من المحال ، ولكن لا يحتمل أن يترك أن يذكر له عمدا ، والشيطان مما يسعى بالحيلولة في مثل هذا : في أمر الدّين ، وفي النعم إذا كثرت واتسعت على إنسان ؛ فيسعى بالإنساء في مثله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً).

قال بعضهم : عجب موسى من الفتى أن كيف نسي أن يذكره ، وقد احتاج إلى أن يتحمل مئونة عظيمة في حمله؟!

وقال بعضهم : عجب موسى منه حين يبس له الماء وأثره فيه ، والله أعلم.

ثم ذكر موسى بخبر الحوت ، وما صنع فقال.

(ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ).

أي : نطلب من حاجتنا من الظفر بذلك الرجل ، يقول ذلك لفتاه.

ثم في الآية وجوه من الفوائد :

أحدها : أن يلزم الإنسان طلب العلم واقتباسه ؛ إذ كان به وبالناس حاجة إليه ، وإن بعدت الشقة ونأى الموضع ؛ حيث قال موسى : (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً).

وفيه : أن لا بأس لاثنين أن يسافرا ولا كل واحد واثنين يكونان شيطانين ، على ما ذكر في بعض الأخبار : «إنّ الواحد شيطان ، والاثنين شيطانان» (١) ، ولكن واحدا دون واحد ، واثنين دون اثنين.

وفيه : أنه لا يسافر إلا بالزاد ؛ حيث تزود موسى والفتى الحوت الذي ذكر حين خرجا إلى حيث أمر موسى أن يخرج في مجمع البحرين : فأمّا أهل التأويل فإنهم قالوا جميعا : إنه أمر موسى أن يأتي الخضر ؛ ليتعلم منه العلم ، ولكن ليس في القرآن ذكر الخضر ؛ إنما فيه ذكر عبد من عباده ؛ حيث قال : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا).

__________________

(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٤٢) كتاب الجهاد : باب في الرجل يسافر وحده (٢٦٠٧) ، والترمذي (٣ / ٣٠١) أبواب الجهاد : باب ما جاء في كراهية أن يسافر الرجل وحده (١٦٧٤) ، ومالك (٢ / ٩٧٨) كتاب الاستئذان : باب ما جاء في الوحدة في السفر ، وأحمد (٢ / ١٨٦) وابن خزيمة (٢٥٧٠) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الراكب شيطان ، والراكبان شيطانان ، والثلاثة ركب».

١٩٢

وفيه : أن الثنيا إنما تلزم في كل فعل مستقبل مما يشك فيه ويرتاب ، فأما ما كان سبيل معرفته الوحي واليقين ـ فإنه لا يستثنى فيه حيث قال موسى لفتاه (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) : قال ذلك من غير ثنيا ؛ لأنه ـ عزوجل ـ أمره أن يأتيه ، ولا يحتمل أن يؤمر بالإتيان في مكان ، ثم هو يشك أنه لعله لا يأتيه ؛ لذلك قطع القول فيه ، وكذلك قول ذلك العبد الصالح لموسى : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) : قطع القول فيه من غير ثنيا ؛ لأنه علم بالوحي أنه لا يصبر على ما يرى منه ، وأمّا موسى فإنه قد استثنى فيما وعد أنه يصبر ؛ لأنه أضاف إلى حادث من الأوقات على الشك منه أنه يصبر أو لا يصبر ، وعلى الارتياب ليس على اليقين ، فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) مما ذكرنا.

وفيه : أن الرجل إذا اختلف إلى عالم يقتبس منه العلم ويتعلم منه ، فرأى منه مناكير ومظالم ـ يلزمه أن يفارقه ، ولا يتعلم منه العلم ؛ كصنيع موسى بصاحبه ؛ لما رأى ؛ من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وغيره مما كان منكرا وظلما في الظاهر ، وإن كان ما فعل هو فعل الأمر كره موسى صحبته ، وندم على ذلك أشدّ الندامة حتى جعله على علم من ذلك كله ، فهكذا الواجب على الرجل إذا رأى مناكير من الذي يأخذ منه العلم ومظالم أن يفارقه ولا يأخذ من علمه ، والله أعلم.

وفي قوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) دلالة أن الاختيار والمستحب في الثنيا أن يكون في ابتداء الكلام ؛ لأن موسى ابتدأ به ، وكذلك قوله : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) [البقرة : ٧٠] ، فإذا تركه في أول كلامه أو نسي يستثنى في آخره ؛ فيعمل عمله في دفع الخلف في الوعد والكذب ، وعلى هذا تأوّل بعض النّاس قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف : ٢٤] ، أي : استثن في آخره إذا نسيت في أوّل كلامك ، والله أعلم.

ثم هذه القصص والأنباء التي ذكرت لرسول الله على أثر سؤال كان منهم ، على ما ذكرنا في قصة أصحاب الكهف وغيرها من القصص ، أو على غير سؤال ، ولكن كانت في كتبهم ؛ فذكرها له ليعلم أنّه إنما عرف بالله تعالى.

ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي أمر موسى على طلب العلم من عند ذلك الرجل وبعثه عليه.

قال بعضهم (١) : وذلك أن موسى قام خطيبا في قومه ، فخطب خطبة لم يخطب قط

__________________

(١) ورد في معناه حديث عن ابن عباس :

أخرجه البخاري (٩ / ٣٣١ ـ ٣٣٢) كتاب التفسير : باب قوله : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) (٤٧٢٦) ، ومسلم (٤ / ١٨٤٧) ، كتاب الفضائل : باب من ـ

١٩٣

مثلها ؛ فأعجبه ذلك ، فوقع عنده أن ليس أحد أعلم منه ؛ فأخبر أن في مجمع البحرين رجلا أعلم منك ؛ فأمر بالمصير إليه والتعليم منه.

وقال بعضهم : لا ، ولكن موسى قد أعطي التوراة ، وفيها علوم كثيرة ؛ فظن أنه ليس أحد أعلم منه ؛ فأخبر : أن في مجمع البحرين عبدا من عبادنا أعلم منك ؛ فأمر بالمصير إليه. والتعليم منه ؛ فإن كان على ما ذكر أهل التأويل من السبب فيخرج الأمر له بالمصير إليه والتعلم منه مخرج العقوبة له والعتاب لما خطر بباله ووقع في وهمه ما وقع.

وجائز أن يكون الأمر له بالمصير إليه والتعلم منه ابتداء ؛ محنة من الله ـ تعالى ـ إياه بتعلم العلم من غير سبب كان [من] موسى على ما يؤمر المرء بتعلم العلم ابتداء من غير سبب ؛ محنة من الله يمتحنه بها ؛ نحو ما أمر موسى بالمصير إلى طور سيناء ، وأعطي هنالك التوراة في الألواح على غير سبب كان منه ، ولكن ابتداء محنة يمتحنه بها ؛ فعلى ذلك يحتمل أمره له بالمصير إلى ما أمر والتعلم منه ابتداء محنة يمتحنه بها.

وقول أهل التأويل : إن صاحب موسى الذي أمر موسى بالمصير إليه والتعلم منه ـ الخضر ، وفتاه الذي كان يصحبه ويتبعه يوشع بن نون ، فذلك لا يعلم إلا بالسمع والخبر عمن يوحى إليه ؛ فيعلمه بالوحي ، وأمّا من أخبر بذلك وقاله لا عن وحي ـ فلا يعلم ذلك ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة ؛ إنما الحاجة إلى معرفة ما أودع فيه من أنواع الحكمة والعلوم ، وأما ما ذكروا أنه فلان ، وأنه كان في موضع كذا في البحر ، وأن موسى قال له كذا ، وهو قال لموسى كذا ـ فإن سبيل معرفة ذلك السمع ، فإن ثبت السمع فيه ، وإلا : لم يجب أن يذكر فيه أكثر مما ذكر في الكتاب ؛ لأن هذه الأنباء والقصص التي ذكرت في القرآن إنما ذكرت ؛ لتكون آية لرسالة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلو قيل فيها ما لم يذكر في كتبهم من الزيادة والنقصان ـ لكان ذلك سببا لإكذابه لا تصديقه على ما يدعي من الرسالة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ).

أي : فقد الحوت هو ما كنا نبغي أنه كان ذلك علما لوجود مكان ذلك الرّجل.

وقوله : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً).

قال بعضهم ، أي : رجعا عودهما على بدئهما.

[و] قال بعضهم (١) : أي : رجعا يقصان طريقهما وآثارهما الذي مشيا فيه يطلبان المكان

__________________

ـ فضائل الخضر (١٧٠ / ٢٣٨٠) ، والترمذي (٥ / ٢١٤ ـ ٢١٦) كتاب التفسير : باب «ومن سورة الكهف» (٣١٤٩) ، وأبو داود (٢ / ٦٤٠) كتاب السنة : باب في القدر ، (٤٧٠٧) وابن جرير (٢٣٢٠٨) من طريق سعيد بن جبير عنه.

(١) قاله البغوي (٣ / ١٧٢).

١٩٤

الذي فقد الحوت فيه ، إذ ذلك المكان هو مكان علم وجود ذلك الرجل الذي أمر موسى بالمصير إليه.

وقال بعضهم : اقتفيا أثر الحوت في الماء ، لكن الأول أشبه ؛ لأن في الآية ذكر آثارهما لا ذكر أثر الحوت.

وقوله : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا).

يحتمل قوله : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) النبوة (١) ؛ حيث قال لموسى : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) : لا يحتمل أن يقول له هذا إلا على علم وحي ، وحيث قال : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) : أخبر أنه لم يفعل ما فعل عن أمر نفسه ، ولكن أمر الله ، والله أعلم.

ويحتمل قوله : (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) كل خير وبركة أعطاها الله إياه.

أو أن يكون رحمة القلب والشفقة التي كانت منه على أهل السفينة ؛ بخرقها ، وقتل ذلك الغلام الذي قتله ؛ إشفاقا منه على والديه أو على الناس ، وإقامة الجدار الذي كاد أن ينقض فأقامه ، وأمثاله.

وقوله : (وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) : هو ظاهر.

وقوله : (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ).

في قوله : (هَلْ أَتَّبِعُكَ) دلالة أنه كان على سفر ، ولم يكن مقيما في ذلك المكان ، ومن يتعلم من آخر علما فإنه يتبعه حيث يذهب هو في حوائجه لا يؤمر بالمقام حيث يقيم المتعلم ؛ لأنه قال : (هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ).

وقوله : (مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً).

يحتمل : أي : أرشدني إلى ما علمت ، أو تعلمني مما علمت من الرشد والصواب (٢).

وقوله ـ تعالى ـ : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً).

بما ترى مني من الأمور ما يخرج في الظاهر مخرج المناكير.

أو يقول : إنك نبي ورسول ، والرسول إذا رأى منكرا في الظاهر لا يسع له ترك الإنكار عليه والتغيير ، وأنت لا تصبر على ما ترى مني ؛ لما لم تعرف سببه ؛ ألا ترى أنه وسع له الإنكار عليه والتغيير ؛ حيث قال له : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً).

أي : ما لم تعلم علما ، والله أعلم.

وقوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً).

يحتمل أن الثنيا منه على الأمرين جميعا على الصبر الذي وعد ، وعلى قوله : (وَلا

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٢ / ٥٢٩ ـ ٥٣٠)

(٢) ينظر : اللباب (١٢ / ٥٣١).

١٩٥

أَعْصِي لَكَ أَمْراً) ، ويشبه أن يكون على وعد الصبر خاصة دون قوله : (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) ؛ لأنّ قوله : (وَلا أَعْصِي لَكَ) عهد منه ، والثنيا لا يستعمل في العهود ، وأما قوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) إنما هو فعل أضافه إلى نفسه ، فلا بد من أن يستثني فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) ، ما تنكره نفسك وتكرهه ، (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) أني لما ذا فعلت ما فعلت؟.

قوله تعالى : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(٨٢)

وقوله : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها).

هذا الكلام يخرج على وجهين :

يخرج على الإنكار عليه ، أي : خرقتها ؛ لتغرق أهلها ، أو لتعيبها ، أو لما ذا هذا الخرق؟ استفهام لو لا قوله : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً).

فإن كان على الأول على الإنكار عليه والردّ ـ فقوله : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) : ظاهر ، أي : جئت شيئا عظيما شديدا.

وإن كان على الاستفهام ، فهو على الإضمار ؛ كأنه قال : أخرقتها لتغرق أهلها؟! فلئن خرقتها لتغرق أهلها ، لقد جئت شيئا إمرا عظيما شديدا ؛ وإن كان التأويل على الإنكار ـ فهو كما يقال لمن يبني بناء ثم يترك الإنفاق عليه في عمارته : بنيت لتخرب أو لتهدم ، وكما يقال لمن زرع زرعا ، ثم ترك سقيه : زرعت لتفسده ، ونحوه ، وإن كان لم يبن لذلك ، ولم يزرع لما ذكر ، ولكن لما كذلك يصير في العاقبة إذا ترك سقيه أو عمارة ما

١٩٦

بنى.

فإن قيل : كيف قال له موسى : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) ، وبعد لم يعلم أن ذلك الخرق مغرق أهلها ، وقد يجوز أن يكون غير مغرق؟!

قيل : إنما أخبر عما يئول الأمر في العاقبة ، والظاهر من الخرق أن يغرق في الآخرة ، وهو كما ذكرنا من أمر البناء والزرع : بنيت لتخرب ، وزرعت لتفسد ، وإن لم يكن بناؤه وزراعته لذلك ، فعلى ذلك قول موسى لصاحبه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً).

هذه الآية [ترد] على المعتزلة ؛ لأنه قال له : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) : دل أنه كان يحتاج إلى استطاعة تقارن الفعل لا تتقدم الفعل فيكون بها الفعل ، وإلا قد كانت له أسباب لو لم يؤثر غيرها لاستطاع الصبر معه ؛ دل أن استطاعة الفعل [لا تتقدم على الفعل] ولكن تقارنه.

وقال الحسن : إنما يقال هذا ؛ للاستثقال كما يقول الرجل لآخر : لا أستطيع أن انظر إليك بغضا ، وهو ناظر إليه ، لكن يقال ذلك على الاستثقال والبغض ليس على حقيقة نفي الاستطاعة ؛ فعلى ذلك الأوّل ، فيقال له هو كما يقال : لا أستطيع أن انظر إليك نظر الرحمة ، فهو وإن كان ناظرا إليه لما ذكر ـ فهو غير ناظر إليه نظر رحمة وشفقة ؛ فهما سواء وهو ما يقوله ، والله أعلم.

وقوله عزوجل : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ).

يحتمل هذا الكلام وجوها :

أحدها : على التعريض من الكلام ، أي : لا تؤاخذني بما لو نسيت ؛ كقول إبراهيم حيث قال : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ. فَقالَ إِنِّي ...) [الصافات : ٨٨ ، ٨٩] ، ونحوه ، أي : سأسقم.

والثاني : على حقيقة النسيان ؛ نسي قوله : (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) بعدها ؛ لما رأى من المناكير في الظاهر ، وهكذا كانت عادة الأنبياء أنهم إذا رأوا منكرا لا يملكون أنفسهم حزنا وغضبا على ما رأوا فلا ينكر أن يكون نسي ما قال له.

وقال بعضهم : على التضييع والترك ، فهو يخرج على الأول ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً).

قال بعضهم (١) : لا تكلفني من أمري ما يعسر عليّ.

وقال بعضهم : الإرهاق : هو الشدة والتعب.

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ١٧٤).

١٩٧

وقال بعضهم (١) : (وَلا تُرْهِقْنِي) ، أي : لا تغشني عسرا.

وقوله : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ).

يحتمل هذا الكلام ـ أيضا ـ وجهين :

على الإنكار ، والردّ عليه.

والثاني : على الاستفهام والسؤال على ما ذكرنا في الأول : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس؟ أو بحق؟ أو لما ذا؟

أو على الإنكار والردّ على ما رأى في الظاهر قتل نفس ولم يعرف الوجه الذي به يجب القتل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً).

هو على ما ذكرنا على الإنكار ظاهر ، وعلى الاستفهام والسؤال على الإضمار : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس فلئن فعلت لقد جئت شيئا نكرا ، أي : منكرا :

ثم اختلف في قوله : (نُكْراً).

قال بعضهم : (نُكْراً) : أكبر من قوله : (إِمْراً) لأن فيه مباشرة القتل وإهلاك النفس بغير نفس ؛ فهو أكبر وليس في نفس الخرق إهلاك ، وإنما هو سبب الإهلاك ، وقد يجوز ألا يهلك.

وقال بعضهم : قوله : (إِمْراً) أكبر من قوله : (نُكْراً) ؛ لأن فيه إهلاك جماعة ، وهاهنا إهلاك واحد ، فهو دون الأول ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً).

ما ذكرنا في الأوّل.

وقوله : (قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً).

في ترك المصاحبة عذر ؛ لما قلت لي : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ، ولم أصبر.

وقوله : (فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما).

سمّى : قرية ، وهي كانت مدينة ؛ ألا ترى أنه قال في آخره : (وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) ؛ دل أنها كانت مدينة ، والعرب قد تسمي المدينة : قرية.

وقوله : (اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ).

قال الحسن : كان ذلك الجدار بهيئة عند الناظر أنه يسقط.

وقال أبو بكر الأصم : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) الإرادة : صفة كل فاعل له حقيقة الفعل ، أو

__________________

(١) قاله ابن جرير (٨ / ٢٥٨) ، وأبو عبيدة في مجاز القرآن (١ / ٤١٠) ، وابن قتيبة في تفسير غريب القرآن ص (٢٧٠).

١٩٨

ليس له حقيقة الفعل ، بعد أن يضاف إليه الفعل ، ألا ترى أنه يقال للجدار : سقط ، وإن كان في الحقيقة يسقط.

وعندنا أنه : إنما يقال ذلك لقرب الحال ، وعند الإشراف على الهلاك والسقوط ؛ ألا ترى أنّ الرجل يقول : إن أردت أن أموت ، وأردت أن أهلك ، وأردت أن أسقط ، وهو لا يريد الموت ولا السقوط ؛ ولكنه يذكر ذلك لإشرافه على الهلاك وقرب الحال إليه ، ليس على حقيقة الإرادة ؛ فعلى ذلك قوله : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) ، أي : شرف وقرب على حال السقوط ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً).

هذا القول من موسى يحتمل وجهين :

أحدهما : قال (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) ؛ لشدة حاجته إلى الطعام ؛ لئلا يقع لهما حاجة إلى أهل تلك البلدة ؛ إذ قد وقع لهما إليهم حاجة ؛ حيث قال : استطعما من أهلها مرة فلم يطعموهما ؛ فأراد أن يأخذ على ذلك أجرا ؛ لئلا يقع لهما حاجة إليهم ثانيا.

والثاني : قال له ذلك ، لما لم ير أهل تلك البلدة أهلا ليصنع إليهم المعروف ؛ لما رأى فيهم من البخل والضنة في الطعام ؛ حيث استطعماهم فلم يطعموهما ؛ بخلا منهم وضنة ، والله أعلم.

وذكر في بعض القصّة أن الجدار الذي أقامه صاحب موسى كان طوله خمسمائة ذراع ، وقامته مائتي ذراع ، وعرضه أربعين ذراعا ، أو نحوه تحته طريق القوم ، لكن لا حاجة لنا إلى معرفة ذلك ؛ إنما الحاجة إلى ما فيه من أنواع الحكمة والفوائد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً).

أي : سأنبئك بيان ما قلت لك : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ، ثم بين وفسره له ؛ فقال : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها).

أي : أجعلها معيبة.

[و] قوله : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) :

ذكر في بعض الحروف : وكان أمامهم ملك.

(يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً).

فعلى ذلك التأويل فيه (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) ، أي : أجعلها معيبة ، لئلا يأخذها ذلك الملك غصبا ؛ إذ كان لا يأخذ إلا سفينة صالحة صحيحة (١) ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ).

__________________

(١) انظر : اللباب (١٢ / ٥٥١).

١٩٩

اختلف في سن ذلك الغلام :

قال بعضهم (١) : كان ذلك الغلام كبيرا بالغا ، والعرب قد تسمّي الرجل البالغ الذي لم يلتح بعد ـ أو لم تستو لحيته ـ غلاما ؛ لقربه بوقت البلوغ ، ولذلك قال له موسى : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) ، والصغير مما لا يقتل إذا قتل نفسا بغير حق ؛ فلو كان صغيرا لم يكن لقول موسى : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) [معنى] ، وهو كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قال : «إنّ أيمانكم تحقن دماءكم» إذا ظهر منهم الدّم وكقوله : «لو لا الأيمان لكان لي ولها شأن» (٢) إذا ظهر منها الزنا ، فعلى ذلك قوله : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) : لو كانت محتملة القتل بالنفس ، والله أعلم.

ثم اختلف في سبب قتل ذلك الغلام :

قال بعضهم (٣) : قتله ؛ لكفره ، كان كافرا ، وكذلك في حرف أبيّ بن كعب : وأما الغلام فكان كافرا (٤) ؛ ألا ترى أنه قال : (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) : دل هذا أنّه كان بالغا كافرا ؛ إذ لو لم يكن كافرا لم يلحق والديه منه الطغيان والكفر.

وقال بعضهم (٥) : إنما قتله ؛ لأنه كان لصّا قاطع طريق ؛ يقطع الطريق على الناس ويأخذ أموالهم.

وعلى قول من يقول : إنه كان صغيرا ، قتله ؛ لأنه علم أنه لو بلغ كان كافرا ، والله أعلم بذلك ، وليس لنا إلى معرفة ذلك السبب الذي قتله ـ حاجة ، ولا أنه كان صغيرا أو كبيرا ؛ لأنه أخبر أنه إنما قتله بأمر الله لا من تلقاء نفسه ؛ حيث قال : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) ، ولكن إنما فعلته بأمر الله ، ولله أن يأمر عبدا من عباده بقتل الصغير على ما له أن يميته وعلى ما يأمر ملك الموت بقبض أرواح الخلق ؛ فعلى ذلك له أن يميته على يدي آخر ، وأن يقبض روحه ؛ إذ له الخلق والأمر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً).

ليس هو الخوف ، ولكن العلم ، أي : علمنا أنه يرهقهما طغيانا وكفرا ، وكذلك ذكر في

__________________

(١) قاله الحسن ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٧٤).

(٢) أخرجه البخاري (٩ / ٣٨١) ، كتاب التفسير : باب (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) الآية (٤٧٤٧) ، وأبو داود (١ / ٦٨٤) كتاب الطلاق : باب في اللعان (٢٢٥٤) ، والترمذي (٥ / ٢٣٩ ـ ٢٤٠) أبواب التفسير باب «ومن سورة النور» (٣١٧٩) ، وابن ماجه (٣ / ٤٦٠) كتاب الطلاق : باب اللعان (٢٠٦٧) ، عن ابن عباس أن هلال بن أمية قذف امرأته فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو لا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن».

(٣) انظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٢٦٥) ، والبغوي (٣ / ١٧٦).

(٤) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٢٤٥).

(٥) قاله الكلبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٧٤).

٢٠٠