تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

إذا كان بلغ الكرم به غايته ، وكذلك يقال : أحسن به من فلان : إذا بلغ في الحسن غايته ونحوه ؛ فعلى ذلك قوله : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ) هو وصف له على النهاية ؛ كما يقال : ما أعلمه ، وما أبصره ، وما أكرمه ، وما أحسنه : يعلمهم أنه يعلم ما غاب عن الخلق وما شاهدوا أبصر به من الأفعال التي يفعلون ، وأسمع به من الأقوال التي يتفوهون ، أي : يعلم ما غاب عنهم مما لم يفعلوا ولم يقولوا ، فالذي قالوه وفعلوه أحق أن يعلم ؛ يحذرهم عزوجل عن أفعالهم وأقوالهم ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً).

يحتمل : لا يشرك في ألوهيته وربوبيته أحدا.

ويحتمل : ولا يشرك في حكمه ، أي : الحكم له ليس لأحد دونه حكم ، إنما عليهم طلب حكم الله فيما يحكمون.

أو لا يشرك في تقديره وتدبيره الذي يدبر في خلقه أحدا.

ويحتمل : ولا يشرك في قسمته التي يقسم بين الخلق أحدا ، (وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ) ، أي : فيما جاءت به الرسل ودعت الخلق إليه.

قوله تعالى : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً)(٣١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ).

يحتمل : (كِتابِ رَبِّكَ) : اللوح المحفوظ ، أي : بلغ ما أوحي إليك من اللوح الذي عند الله من متلو [وغير متلو] ؛ كقوله : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة : ٦٧] وهو جميع ما أنزل إليه من المتلو وغير المتلو.

ويحتمل : (مِنْ كِتابِ رَبِّكَ) : الكتاب الذي أنزل عليه ، وهو القرآن ، أي : اتل عليهم ذلك الكتاب ، فإن كان هذا ففيه أن القرآن مما يتقرب بتلاوته.

١٦١

ثم في قوله : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة : ٦٧] ، وقوله : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) فريضة ضيعناها ؛ وذلك أنه أمر رسوله بتبليغ رسالته وما أنزل إليه ، ثم معلوم أن من كان في أقصى الدنيا وأبعد أطرافها لم يقدر رسوله أن يتولى التبليغ بنفسه وكذلك بعد وفاته لا يجوز أن يتولى بتبليغه ، فكان ذلك القيام يلزم المسلمين وأئمتهم بتبليغه فضيعوا ذلك ؛ ولهذا ما رخص ـ والله أعلم ـ بدخول المسلمين دار الحرب للتجارة ، ودخول أولئك دار الإسلام للتجارة أيضا ؛ لينتهي إليهم خبر هذا الدين ؛ حيث علم أنه يكون أئمة في آخر الزمان لا يهتمون لدينه ولا يتولون بتبليغ ما أمروا بتبليغه ، ويضيعون أمره ، فيلزمهم حجة الله ، وإلا ما الحاجة في تلك التجارة والأموال التي يتجرون فيها؟! ولكن ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) :

قال بعضهم : لا مبدل لسنته ؛ إذ سنته في المكذبين الإهلاك ، والمصدقين النجاة ، هذا سنته وإن أمكن تعجيلها وتأخيرها ، فأما نفس سنته فهي لا تبدل ولا تحول ؛ كقوله : (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) [الإسراء : ٧٧] و (تَبْدِيلاً) [فاطر : ٤٣].

وقال الحسن في قوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) : ما وعد وأوعد لهم في الدنيا ، فذلك في الآخرة لا يبدل ولا يحول ؛ إذ وعد للمؤمنين الجنة ، وللكافرين العذاب ، فذلك لا يبدل.

وقال بعضهم (١) : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) وهي القرآن لا يتبدل ، ولا يغير ، ولا يزداد ، ولا ينقص ؛ كقوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) [فصلت : ٤٢].

وقال بعضهم : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لحججه وبراهينه التي جعل لدينه وأقام له ذلك ، يلزم الإسلام ودينه ، إلا من قصر عليه في العبادة ، أو كان المقام عليه الحجة معاندا مكابرا.

وأما من لم يكن هذين المعنيين يسلم لا محالة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً).

هذا الخطاب وإن كان في الظاهر لرسول الله ، فهو يخرج مخرج التنبيه على ما ذكرنا في غير آي من القرآن.

وقوله : (مُلْتَحَداً) قال بعضهم (٢) : مدخلا ؛ ولذلك سمي اللحد : لحدا ؛ لما يدخل

__________________

(١) قاله الكلبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٥٨).

(٢) قاله الحسن ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٥٩).

١٦٢

فيه.

وقال بعضهم (١) : ملجأ ، والله أعلم.

وقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ).

يحتمل : واصبر نفسك بالغداة والعشي مع الذين يدعون ربهم ، فيكون فيه الأمر بالجلوس لهم بالغدوات والعشيات ؛ للتذكير وتعليم العلم ، على ما تعارف الناس الجلوس للناس لذلك في هذين الوقتين ؛ إذ ذانك الوقتان خاليان عن الأشغال التي تشغلهم عن ذلك [ذكر] الغداة والعشي لما لم يجعل عليهم بعد صلاة الغداة صلاة ، وكذلك بعد العصر ؛ للذكر الذي ذكرنا وتعليم ما يحتاجون في ليلهم ونهارهم.

أو أن يكون ذلك كناية عن صلاة الفجر والعصر ؛ لما جاء لهما من فضل وعيد لم يجئ في غيرهما من الصلوات ؛ نحو ما ذكر : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء : ٧٨] ، وما روي في العصر من الوعيد : «من فاته العصر فكأنما وتر أهله وماله» (٢) ، ونحوه أمر بصبر نفسه على حفظ هذين ؛ لما ذكرنا مع من ذكر.

أو أن يكون لا على إرادة غداة أو عشي ، ولكن بالكون مع أتباعه في كل وقت والصبر معهم.

وقال أهل التأويل : ذكر هذا ؛ لأن رؤساء كفار مكة سألوه أن يطرد أتباعه من عنده ويتخذ لهم مجلسا ، فنزل قوله : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ ...) الآية [الأنعام : ٥٢] ، وقوله : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ...) الآية.

وقالوا في قوله : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) في أصحاب الكهف ، يقول : وأخبرهم ما سألوك مما أوحينا إليك من أخبار أصحاب الكهف ولا تزيد ولا تنقص عليه.

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٣٠٠٨ ـ ٢٣٠١٠) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٩٦).

(٢) أخرجه مسلم (١ / ٢٣٧) كتاب المساجد ومواضع الصلاة : باب التغليظ في تفويت صلاة العصر (١٠٢ / ٦٢٦) والنسائي (١ / ٢٥٤) كتاب المواقيت : باب التشديد في تأخير العصر من طريق سالم ابن عبد الله عن أبيه فذكره ، وأخرجه البخاري (٢ / ٢١٧) كتاب مواقيت الصلاة باب إثم من فاتته العصر (٥٥٢) ، ومسلم (١ / ٤٣٥) كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب التغليظ في تفويت صلاة العصر (٢٠٠ / ٦٢٦) من طريق نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله».

وأخرجه النسائي (١ / ٢٣٧) كتاب الصلاة : باب صلاة العصر في السفر من طريق عراك بن مالك عن نوفل بن معاوية وابن عمر ، فذكره بلفظ حديث الباب.

١٦٣

فإن كان في أمرهم نزل هذا فرسول الله كان لا يخبرهم إلا ما أوحي إليه وأنزل عليه من أمرهم ، والوجه فيه ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ).

قيل (١) : لا تتعد عنهم إلى غيرهم.

وقيل (٢) : لا تصرف ولا ترفع عينيك عنهم تجاوزهم إلى غيرهم.

(تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : إن كان على تأويل أهل التأويل أنهم سألوه أن يتخذ لهم مجلسا دون أولئك (٣) ، فيكون تأويل قوله : (تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : تريد أولئك الذين يطلبون منك مجلسا على حدة يريدون بذلك زينة الحياة الدنيا لا يريدون بذلك وجه الله.

والثاني : لو فعلت ما سألوك كان فعل ذلك [كفعل] من يريد زينة الحياة الدنيا ؛ لأن المجلس الذي يحضره الأشراف والرؤساء إنما يراد به زينة الحياة الدنيا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا).

تأويل الآية على قولنا ظاهر ، نحن نقول على ما نطق ظاهر الآية : من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ، أي : من خلقنا ظلمة الكفر بكفرهم في قلوبهم ، أو خذلناهم بكفرهم الذي فعلوا.

وأما المعتزلة فإنهم قد تحيروا فيه وتاهوا وأكثروا التأويلات فيها ، حتى أن منهم من صرف القراءة عن وجهها فقال : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا) بنصب اللام ، و (قَلْبَهُ) برفع الباء ، معناه : أن من أغفل قلبه عن ذكرنا على قول المعتزلة ، على صرف الفعل إلى القلب ، وكذلك قالوا في قوله : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) [الفلق : ٢] ؛ ليصح على مذهبهم ويستقيم.

ومنهم من قال : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) ، أي : لا تطع من وجدنا قلبه غافلا ، وقال : ذلك مستقيم في اللغة ؛ يقال : قاتلناهم فما أجبناهم ، أي : ما وجدناهم جبناء ، ويقال : فسألناهم فما أبخلناهم ، أي : ما وجدناهم بخلاء ، ونحوه من الكلام ، وهو تأويل الجبائي فيما أظن.

وقال بعضهم : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) ، أي : من خلينا بينه وبين ما يفعل وهو كما يقال لمن خلى عبده حتى أفسد كثيرا من الناس يقال : سلطت عبدك على الناس ، وهو لم يسلطه عليهم ، لكنه يقال له ؛ لما قدر على منعه عن ذلك والحيلولة بينه وبين ما فعل

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير منه (٢٣٠١٤ ، ٢٣٠١٥).

(٢) انظر : تفسير البغوي (٣ / ١٥٩).

(٣) ينظر : اللباب (١٢ / ٤٦٨).

١٦٤

أضيف ذلك إليه ؛ فعلى ذلك قوله : (أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) أي : خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم ، وهو تأويل جعفر بن حرب.

وقال بعضهم : أضاف ذلك إلى نفسه للأسباب التي أعطاهم من السعة والغناء والشرف في الدنيا ، فتلك الأسباب التي أعطاهم هي التي حملتهم على ذلك ؛ فأضيف إليه ذلك لذلك ، وهو ما قال : (وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) [الزخرف : ٣٢] وهو تأويل أبي بكر الأصم.

وقال الحسن : (أَغْفَلْنا قَلْبَهُ) أي : خذلناهم وطبعنا على قلوبهم ، وهو يقول : إن للكفر حدّا إذا بلغ ذلك الحد يخذله ويطبع على قلبه ؛ فلا يؤمن أبدا.

فيقال : خذله في أول حال الكفر أو بعد ذلك بأوقات وزمان.

فإن قال : في أول حال كفره فهو قولنا.

وإن قال : لا في أول حاله ، ولكن بعد زمان ، فهو كافر موفق ومؤمن مخذول على قوله ، فنعوذ بالله مما قال.

ثم الجواب للأول ما ذكرنا من صرف التنزيل عن وجهه وظاهره ، فلو جاز لهم ذلك ، [لجاز] لغيرهم صرف جميع الآيات عن ظاهر التنزيل ، وذلك بعيد محال.

وأما تأويل الجبائي ، أي : ما وجدناهم كذا ، فإنما يسوغ له هذا إذا كان جميع حروف (أفعل) يخرج على ما يقوله في اللغة ، فأمّا أن يقال في بعض ، فإن ذلك غير مستقيم.

وبعد فإنه لو كان كما ذكر لكان يقول : (ولا تطع من أغفلته عن ذكرنا) ، أي : وجدته غافلا عن ذكرنا ؛ لأنه نهى عن أن يطيع من وجده غافلا ، فهو لا يعلم من وجده الله غافلا ، إنما يعلم من وجده بنفسه غافلا.

فأما إذا كان ما ذكرنا لم يكن للنهي عما ذكر معنى ؛ فدل أن تأويله فاسد وخيال ، وأن إضافته إليه لمعنى يكون من الله.

وأما جواب جعفر بن حرب أنه على التخلية والتسليط ، فهو إنما يقال : سلطت عبدك على كذا على الذم لا على المدح ؛ فلا يجوز أن يقال ذلك في الله على الذم ويضاف إليه أيضا ذلك.

وكذلك يقال لأبي بكر حيث قال : إنما أضاف ذلك إليه للأسباب التي ذكر أنه أعطاهم ، يقال له : ذلك يضاف على الذم : إنك أعطيت كذا حتى فعل كذا ، فأما أن يقال على المدح فلا ؛ فيبطل قوله وتأويله ؛ فدل إضافة ذلك إلى نفسه أنه كان منه في ذلك معنى يستقيم إضافته إليه ، وهو ما ذكرنا من خلق الظلمة في قلوبهم بكفرهم الذي اختاروا

١٦٥

وخذلانه إياهم لما اختاروا وآثروا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً).

قال بعضهم (١) : (فُرُطاً) أي : ضياعا وهلاكا.

وقال بعضهم : (فُرُطاً) أي : خسرانا وخسارا.

وقال أبو عوسجة : هو من التفريط.

وقال غيره : أفرط في القول (٢) كما قال : (إنا رءوس من مضر إن نسلم يسلم الناس بعدنا) على ما ذكر في بعض القصة.

وقال أبو عبيدة (٣) : فرطا ، أي : ندما.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ).

كأنه على الإضمار ، أي : قل : قد جئتكم بالحق من ربكم.

أو يقول : قل لهم : قد تعلمون أني قد جئتكم من الآيات والحجج على ما أدعوكم إليه ما لا يحتمل بليتي ويخرج عن وسعي وطاقتي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ).

ثم يحتمل هذا وجوها :

أحدها : من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ؛ فإنه إنما يعمل لنفسه ليس يعمل لأحد سواه ؛ كقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) [فصلت : ٤٦] ، وقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ...) الآية [الإسراء : ٧] ؛ فعلى ذلك يقول ، والله أعلم.

والثاني : يقول : إني بلغت الرسالة إليكم فلا أكرهكم أنا على الإسلام ولا أحد سواي ، فمن شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر ، فإنه إنما يؤمن باختياره ومشيئته ، ومن كفر فإنما يكفر باختياره ومشيئته لا يكره على ذلك.

والثالث : أن الإيمان والكفر قد بين الله لهما العواقب ما عاقبة من اختار الإيمان وما عاقبة من اختار الكفر ، وهو ما قال : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ...) إلى آخر ما ذكر ، وقال للمؤمنين : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً. أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ...) الآية. يقول : قد بين لكل واحد منهما عاقبة ، فمن شاء اكتسب لنفسه في العاقبة الجنان وما فيها من النعيم ، ومن شاء اكتسب ما ذكر في العاقبة من النار وأنواع العذاب ، فذلك كله يخرج على الوعيد.

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٠٢٤ ، ٢٣٠٢٥) وعن خباب (٢٣٠٢٧).

(٢) زاد في أكلمة كأنها : ليس.

(٣) انظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٦٦) ، مجاز القرآن (١ / ٣٩٨).

١٦٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) وقت دخولهم النار أو هو في الآخرة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) يحتمل هذا وجهين :

أحدهما : على إرادة حقيقة السرادق.

والثاني : على التمثيل ، أي : يحيط بهم النار فلا يقدرون على الخروج منها على ما يمنع السرادق من الخروج في الدنيا ودفع الحرّ والبرد ، فإن كان على حقيقة السرادق فهو ـ والله أعلم ـ على ما جعل الله لهم من أنواع ما كانوا يتفاخرون في الدنيا من اللباس والطعام والشراب وغير ذلك يجعل لهم في الآخرة من ذلك النوع من النار ، وهو ما ذكر : (سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) ، وما قال : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) والشراب ما ذكر من الصديد والغسلين ، وغير ذلك من النوع الذي كانوا يتفاخرون به في الدنيا ويمنعهم عن الإيمان جعل لهم في الآخرة من ذلك النوع من النار وبه يعاقبهم ، فعلى ذلك جائز أن يكونوا يتفاخرون به في الدنيا بالسرادق إذا خرجوا في السفر ، فيعاقبهم الله في النار بذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ).

يحتمل استغاثتهم هو ما ذكر في الآية (أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ) [الأعراف : ٥٠] فيغاثون (بِماءٍ كَالْمُهْلِ) ، ويحتمل : أن يطلبوا في النار الماء بعد ما طعموا فيها منها فيغاثون بالمهل.

ثم المهل : قال عامتهم (١) : المهل : هو دردي الزيت أو العصير ، لكنهم اختلفوا في معنى التشبيه به :

قال بعضهم : يشبهه به لغلظه ؛ لأن الشيء الغليظ يكون ألصق وآخذ من غيره.

وقال بعضهم : شبهه به لسواده.

وقال الحسن وأبو بكر : تشبيهه به ؛ لكثرة تلونه من الحمرة والصفرة والسواد ونحوه لشدته ، وهو ما ذكر : (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ) [المعارج : ٨] شبهه كالمهل لتلونه ؛ لشدة ذلك اليوم وهو له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَشْوِي الْوُجُوهَ) ذلك الشراب ، (بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) أي : ساءت النار مرتفقا ، اختلف فيه :

قال بعضهم (٢) : المرتفق : المتكأ.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٢٠٤٣ ، ٢٢٠٤٥) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٠٠) وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وغيرهما.

(٢) انظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٤٠٠).

١٦٧

وقال بعضهم (١) : المجتمع ، أي : بئس الاجتماع.

وقال بعضهم (٢) : مجلسا.

وقال بعضهم : بئس المنزل النار قرناؤهم فيها الكفار والشياطين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً).

قال بعضهم : هو على التقديم والتأخير كأنه قال : إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم ، ثم قال : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً. أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ...) إلى آخر ما ذكر.

وقال بعضهم : ليس على التقديم والتأخير ، ولكن على ما ذكر أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم ، ثم بين ما لهم فقال : (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ...) إلى آخر ما ذكر.

قال أبو عوسجة : السرادق : البناء الذي يبنى من الكرابيس يشبه الدار والحجرة ، (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) ، أي : متكأ ومنزلا.

وقال القتبي (٣) : السرادق : الحجرة التي تكون حول الفسطاط ، قال : وهو الدخان يحيط بالكفار يوم القيامة ، وهو الظل ذو الثلاث الشعب ، و (كَالْمُهْلِ) دردي الزيت ، ويقال : ما أذيب من النحاس والرصاص ، و (وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) ، أي : مجلسا وأصل الارتفاق : الاتكاء على المرفق.

وقوله : (أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ).

يذكر ثواب المؤمنين الذين تركوا شهواتهم في الدنيا لها.

(وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ).

قالوا (٤) : الإستبرق : الديباج الغليظ ، والسندس : وهو الرقيق والغليظ منه لا يلبس ، لكنه كأنه جمع بين ما يلبس وبين ما يبسط ، فذكر اللبس لما يلبس ، كما يقال : أطعمت فلانا طعاما وشرابا والشراب لا يطعم.

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٣٠٥١ ـ ٢٣٠٥٣) وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٠٠).

(٢) قاله القتبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٦٠).

(٣) انظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٣٩٨) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (٢٦٧).

(٤) قاله ابن جرير (٣ / ٢٢١) ، والبغوي (٣ / ١٦١).

١٦٨

وقيل : إن الإستبرق هو الرقيق من الديباج بلغة قوم ، فإن كان ما ذكر فكأنه إنما ذكر ذلك لأولئك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ).

قال بعضهم (١) : (الْأَرائِكِ) : السرر في الحجال ، والأريكة : السرير في الحجلة.

وقال بعضهم (٢) : (الْأَرائِكِ) : السرر عليها حجال.

وقال أبو عوسجة : (الْأَرائِكِ) : الوسادة.

(وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً) قيل : منزلا.

وأصل هذا : أنه وعد لهم في الآخرة ما كانت أنفسهم ترغب فيه في الدنيا ليتركوا ذلك في الدنيا للموعود في الآخرة ، وكذلك حذرهم في الآخرة بأشياء تنفر [منها] أنفسهم وطباعهم في الدنيا ؛ ليحذروا ما يستوجبون الموعود في الآخرة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً)(٤٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ ...) إلى آخر ما ذكر.

جائز أن يكون هذا المثل كان في الأمم المتقدمة وكتبهم ، سئل رسول الله عن ذلك ليعلم وليتبين لهم صدقه بأنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يدعي على ما سئل هو عن قصة ذي

__________________

(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٣٠٤٥) ، وعبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٠٣).

(٢) قاله مجاهد ، أخرجه ابن أبي شيبة وهناد وعبد بن حميد وابن جرير عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٠٣).

١٦٩

القرنين وبنائه ونبأ أصحاب الكهف وأخبارهم ؛ ليتبين لهم صدقه ؛ إذ علموا أن تلك الأنباء والقصص لا يعلم ولا يعرفها إلا من علم كتاب الله ؛ إذ كان ذلك في كتب الله ، وهو لم يعرف تلك الكتب ؛ لأنها كانت بغير لسانه ، ولم يروه اختلف إلى من يعرفها ليتعلم منه ، ثم أنبأهم على ما كان في كتبهم ، فدل أن ذلك إنما عرف بالله وأنه صادق فيما يدعي من الرسالة ، على هذا يجوز أن يقال ـ والله أعلم ـ فيكون في ذلك آية لرسالته ونبوته.

أو أن يكون قوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ ...) إلى آخره ، أي : اضرب لهم مثلك ومثلهم مثل رجلين ، فيكون مثلك ومثلهم مثل ما ذكر من رجلين ... إلى آخره (١).

أو أن يكون قوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ ...) أي : اضرب للمعتبرين والمتوسمين مثل رجلين ، كل رجلين هذا سبيلهما ، يرغب أحدهما في الدنيا وزينتها ويطلبها لا يرى غيرها ، والآخر يرغب في الزهد فيها وترك الطلب لها والرغبة في الآخرة ، فإن كان على هذا أو ما ذكرنا من ضرب مثله ومثل أولئك ، فهو على الابتداء ، فيخرج على الاعتبار والتفكر فيما ذكر تنبيها وإيقاظا ، وإن كان على السؤال عما كان فهو ليس على الاعتبار ، ولكن على الإنباء أنه رسول ، ففيه آية لرسالته ونبوته.

ثم قوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً) ، أي : بين الجنتين ، (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها) ، أي : حملها ، ولم يقل : (آتتا أكلهما) ، خرج على اسم واحد وإن كان في المعنى على التثنية ، وذلك جائز في اللغة ؛ كقولك : كلتا المرأتين صالحة ، وكلانا صالح ، وفيه قول الشاعر :

كلانا شاعر من حي صدق

ولكن الرحى نقلوا الثفالي

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً) أي : لم تنقص من ثمرها شيئا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً) أي : أجرينا بينهما مياها جارية.

وقوله : (وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ) قال بعضهم : من قرأ : (ثَمَرٌ) بالرفع فهو كل ما كان يملك من الجنان وغيرها ، ومن قرأ بالنصب فهو على الثمر.

وقال بعضهم : الثمر بالنصب فهو الثمر ، والثمر بالرفع فهو جميع الثمار ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ) يكلمه أو يجيبه أو ينازعه ويناظره : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) لا يحتمل أن يكون هذا الخطاب منه على الابتداء ؛ لأنه لا يصلح على الابتداء ؛ فيشبه أن يكون كان من صاحبه له وعيد وتخويف ، فعند ذلك قال له

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٢ / ٤٨٣ ـ ٤٨٤)

١٧٠

ما ذكر.

أو أن يكون قال : يعطيني ربي في الآخرة مثل ذلك أو خيرا منها ، فقال له عند ذلك : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) ، أي : قد تفضل علي في الدنيا وفضلني عليك فيفضلني أيضا في الآخرة عليك ، حيث قال : (لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) إن كان ما تزعم صدقا أنا نبعث ونرد إلى الله وإلا على الابتداء لا يصلح.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ).

يحتمل : أي : ظالم نفسه ، ويحتمل : أن يكون قوله : (لِنَفْسِهِ) : بدنه ، وهو ظالم المعنى الذي يكون في النفس به يستعملها فيما تستعمل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً).

قال بعضهم : (ما أَظُنُ) ، أي : ما أثق وما أعلم.

وقال بعضهم : هو الظن ؛ لأن صاحبه كان يناظره فيه ، فاضطرب في فنائها وقيام الساعة فشك فيه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً) ما دامت نفسه ، أو كأنه لم يشاهد الهلاك ، ولم ينظر إليه ؛ فقال ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً) ، أي : لو رددت إلى ربي ـ على ما تزعم ـ [لأجدن] خيرا منها منقلبا إن كنت صادقا.

وقوله : (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ).

أي : خلق أصلك من تراب ، وخلقك من نطفة ، ثم سواك رجلا ، أي : صححك وقومك رجلا.

جائز أن يكون محاجته إياه في هذه ، لإنكاره البعث ، أي : كفرت وأنكرت قدرة الله على البعث والإعادة ، وهو خلق أصلك من تراب ، وخلق نفسك من نطفة ، فأنت إذا مت وهلكت تصير ترابا أو ماء ، فإذا قدر على خلق أصلك من تراب ، وخلق نفسك من ماء [فإنه] لقادر على إعادتك وبعثك بعد ما صرت ترابا أو ماء.

أو يكون محاجته في إنكاره حكمة الله ؛ فيقول : خلق أصلك من تراب ، وخلق نفسك من نطفة ، ثم سواك رجلا وصححك ؛ فإن لم يبعثك ويعدك كان خلقك وخلق أصلك بما ذكر عبثا غير حكمة ؛ إذ من بنى بناء ثم نقضه على غير قصد الانتفاع به كان في بنائه عابثا في الابتداء تائها سفيها غير حكيم ؛ فعلى ذلك : خلقك وخلق أصلك من غير إعادة من بعد يكون سفها على غير حكمة ، وهو ما قال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً ...) الآية

١٧١

[المؤمنون : ١١٥] : صير خلقهم على غير رجوع إليه عبثا.

أو يكون محاجته في تسفيهه إياه في عبادته غير الله ، يقول : أكفرت نعمة الذي خلق أصلك من تراب ، وخلق نفسك من نطفة ، ثم سواك صحيحا ، فصرفت شكر نعمه إلى غيره ، وعبدت غيره على هذه الوجوه الثلاثة.

ويحتمل محاجته إياه إما في إنكار قدرته في بعثه وإعادته ، أو إنكاره الحكمة في البعث ، أو في إنكاره نعمه وصرفه الشكر إلى غيره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي).

كأنه قال : لكن الذي خلق أصلك من تراب ، وخلق أصلك من نطفة هو ربي ، ولا أشرك بربي أحدا.

وقال الخليل : (لكِنَّا) إنما هو على تأويل : لكني أنا أقول هو الله ربي ؛ كقوله : (إِنِّي أَنَا أَخُوكَ) [يوسف : ٦٩] إنهم حين ألقوا الألف من (أنا) أثبتوها بعد النون ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ) ، نظرت إلى ما أنعم الله عليك وقمت بشكره دون أن اشتغلت بازدرائى ، ونظرت إلى قلة ذات حالي ويدي ، واشتغلت بالافتخار على ، وكذلك قال : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً).

ثم ذكر طمعه ورجاءه على ربه وخوفه ؛ حيث قال : (فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ).

ويرسل على جنتك حسبانا من السماء.

قال أهل التأويل (١) : الحسبان : العذاب ، إلا أن أبا بكر الأصم قال : عذابا على حساب ما عملوا ، وذلك جزاؤه في الكفرة ، وهو ما ذكر في الجنتين اللتين أهلكهما ؛ حيث قال : (ذَواتَيْ أُكُلٍ ...) [سبأ : ١٦] إلى قوله : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ ...) الآية [سبأ : ١٧].

وقال أبو عوسجة : (حُسْباناً) أي : عذابا زاده على حساب ما عملوا ، وذلك جزاؤه في الكفرة ، وهو ما ذكر في الجنتين اللتين له ، والحسبان : الصغار من النبل ، والحسبانة واحدة ، والحسبان جمع ، والأول عذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً).

قال أبو عوسجة (صَعِيداً زَلَقاً) : الذي ليس عليه نبت ، و (زَلَقاً) ، أي : تسوية.

وقال القتبي (٢) : الصعيد : الأملس المستوي ، والزلق : الذي يزول عنه الأقدام.

__________________

(١) قاله ابن عباس : أخرجه ابن جرير عنه (٢٣٠٧٠) ، وهو قول قتادة والضحاك وابن زيد.

(٢) انظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٤٠٣) ، وتفسير غريب القرآن ص (٢٦٧).

١٧٢

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً).

هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : يقول : (وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً) من السماء ، أي عذابا ، فتصير (صَعِيداً زَلَقاً) أملس لا نبات عليها ، أو يذهب بمائها ؛ فتهلك بذهاب الماء ؛ إذ هلاك البساتين يكون بذهاب الماء مرة ، وبالعذاب النازل عليها ثانيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : لن تستطيع له طلبا ، أي : تصير بحال لا تستطيع له طلبا ، أو لن تستطيع له وجودا.

وقال في قوله : (إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ) ، بالنصب ؛ لأن الكلام مبني على قوله : (إِنْ تَرَنِ) ، وجعل (أَنَا) صلة ، وأمّا قوله : (أَنَا أَكْثَرُ) فوصف (أَنَا) بـ (أَكْثَرُ) ؛ فارتفع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ).

أي : أهلك بثمره.

(فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها).

هكذا عادة الناس : أنهم إذا أصابهم خسران أو مصيبة ، يقلبون كفهم بعضهم على بعض ؛ على الندم والحسرة على ما فات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها).

قيل : ساقطة على عروشها.

ويحتمل (خاوِيَةٌ) : ذاهبة البركة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً).

إن كان هذا القول في الدنيا ؛ فذلك منه توبة ؛ لأن التوبة هي الندامة على ما كان منه.

وقال بعضهم : هذا القول منه في الآخرة ، فإن كان في الآخرة فإنه لا ينفعه ذلك ، والله أعلم ، وهكذا كل كافر يؤمن في الآخرة ، لكن لا ينفعه.

وقوله : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً).

هذا ـ والله أعلم ـ مقابل ما قال : (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً) ، أي : لم يغنه عن عذاب الله ما ذكر من النصر ، ولا قدر أن يقوم بنفسه منتصرا بالمال الذي ذكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُنالِكَ).

قال بعضهم : عند ذلك.

١٧٣

وقال بعضهم : هنالك ، أي : هكذا ولاية الله ، ثم اختلف في تلاوته وتأويله :

قرأ بعضهم (١)(الْوَلايَةُ لِلَّهِ) بالفتح ، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود : هنالك الولاية لله الغفور وهو الحق : بالرفع ، وفي حرف حفصة : وهنالك الملك والولاية لله الغفور ذي الرحمة.

وقرأ بعضهم : (لِلَّهِ الْحَقِ) ، أي : الولاية الحق لله ، و (الْوَلايَةُ) بالنصب من الموالاة.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : لا يبقى أحد إلا تولى الله وآمن به وعلم أنه حق ، والولاية بالكسر من الإمارة والملك على ما ذكر في حرف حفصة.

وفي حرف أبيّ هنالك الولاية لله الحق لله يقرأ : الولاية لله وهو الحقّ ، ويقرأ : هنالك الولاية لله الحقّ ، بالخفض ، ويقرأ : هنالك الولاية الحقّ لله (٢).

وذكر هذا المثل لرسول الله ـ والله أعلم ـ لأن فيه دلالة رسالته ، وحجة توحيد الله وقدرته وسلطانه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً) ، أي : ثواب هذا المؤمن منها أفضل ثوابا في الآخرة وأفضل عاقبة من عقبى ذلك الكافر.

قال ابن عباس (٣) ـ رضي الله عنه ـ قوله : (وَاضْرِبْ لَهُمْ) : يعني : لأهل مكة (مَثَلاً رَجُلَيْنِ) : أخوين من بني مخزوم :

أحدهما مسلم والآخر كافر ، وهما الرجلان اللذان ذكرهما الله في سورة الصافات : (إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ...) [الصافات : ٥١] إلى قوله : (فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٥٥] : تصدق المسلم منهما بماله وطلب الآخرة ، وطلب الآخر به الدنيا.

وعن ابن مسعود قال (٤) : كانا أخوين ورثا من أبيهما مالا فاقتسماه ، فأما أحدهما التمس بماله الدنيا وزينتها ، وأمّا الآخر تصدّق به وطلب الآخرة حتى لم يبق له شيء إلى هذا يذهب هؤلاء ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)(٤٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ).

__________________

(١) انظر : تفسير ابن جرير (٨ / ٢٢٨) ، والبغوي (٣ / ١٦٣).

(٢) ينظر : اللباب (١٢ / ٤٩٨)

(٣) انظر : تفسير البغوي (٣ / ١٦١).

(٤) انظر : تفسير البغوي (٣ / ١٦١).

١٧٤

اختلف أهل التأويل في ضرب هذا المثل :

قال بعضهم : ضرب هذا لمشركي العرب ؛ لأنهم ينكرون فناء الدنيا وهلاكها ؛ لأنها لا تبيد أبدا ، فيقول : إن الذي يعاينون من فناء ما ذكر من النبات وغيره وهلاكه ـ هو جزء منها ؛ فإذا احتمل جزء منها الفناء والهلاك ؛ فعلى ذلك الكل.

وقال بعضهم : وجه ضرب هذا المثل ، وهو أن أهل الدنيا وطلابها إذا ظفروا بالدنيا وطمعوا الانتفاع بها والاستمتاع بها ، كما طمع الزراع الظفر بذلك الزرع ، والوصول إلى الانتفاع به ، ثم حيل بينهم وبين الانتفاع بالزرع والوصول إلى مقصودهم فعلى ذلك الدنيا يحال بين أهلها وطالبيها وبنيها.

وقال بعضهم : وجه ضرب مثل الدنيا بما ذكر من النبات ـ للتزيين والتحسين لأهلها والتعجيب لهم ؛ لأنها تتزين وتحسن لأهلها كالنبات الذي ذكر أنه يعجب أهلها ويتزين لهم ثم يفسد ويصير مواتا ؛ فعلى ذلك الدنيا ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ...) [الحديد : ٢٠] الآية : هكذا وما فيها كله مشوب بالآفات والفساد.

في هذا المثل وجوه من الحكمة والدلالة.

أحدها : العظة والاعتبار للمتفكرين والمعتبرين ، والحجة على المعاندين والمكابرين : في إنكارهم حدث العالم ومحدثه ، وإنكارهم فناء العالم ، وإنكارهم البعث.

أمّا حدث العالم ؛ لما عاينوا حدوث أشياء منه واحدا بعد واحد ؛ فعلى ذلك الكل ، وأراهم أيضا فناء أشياء منها حتى لم يبق لها أثر ، ثم حدث مثلها ، فإذا ظهر هذا في بعض منها ؛ فكذلك الكل ؛ فإذا ظهر حدوثه وفناؤه لا بد من قاصد يحدثها.

وفيه دلالة البعث بما أراهم [أنه] يجدد ويحدث هذه الأنزال والأشجار والنبات وغيره والعود على ما كان بعد فنائه ؛ فعلى ذلك إعادة العالم الذي هو المقصود في إنشاء تلك الأشياء ، وذلك أولى بالإعادة من غيرهم من الأشياء ؛ إذ هم المقصودون في خلق غيرهم من الأشياء.

وبعد ، فإنهم قد اتفقوا على أن خلق الشيء وفناءه للهلاك خاصّة من غير مقصود وعاقبة ـ عبث ليس بحكمة ، فلو لم يكن بعث ولا إعادة لم يكن في خلقه إياهم حكمة ؛ لأنه يحصل خلقه للفناء والهلاك خاصّة.

وفي قوله : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ...) الآية دلالة علمه وتدبيره وقدرته ؛ لأنه أخبر أنه ينزل من السماء ماء يختلط به نبات الأرض ، والماء من طبعه إفساد النبات إذا اختلط به

١٧٥

فإذا لم يفسده ولكن أحياه بالاختلاط ـ دل أن في الماء معنى به يحيا النبات لا يعلم ذلك غيره ، دل أنه عالم بذاته.

والتدبير هو ما جعل منافع السماء متصلة بمنافع الأرض مع بعد ما بينهما ؛ دل أن ذلك كان بواحد عليم مدبر قادر بذاته.

وأن من قدر على ما ذكر من الإحداث والإفناء ـ قادر على الإعادة والبعث ، والله الموفق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَصْبَحَ هَشِيماً).

قيل : كسيرا مكسورا.

(تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً).

هو مفتعل من (قدرت).

وقوله ـ عزوجل ـ : (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) كأن هذا ذكر على مقصود الناس : أن من كان قصده في الدنيا : كثرة المال والبنين ، فهو زينة الحياة الدنيا ، وهو الفاني والذاهب على ما ذكر (١) ، ومن كان مقصوده في هذه الدنيا الخيرات والآخرة ـ فهي الباقيات أبدا.

ثم اختلف في (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) : قال بعضهم (٢) : هو قوله : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ؛ والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ؛ وعلى ذلك روى في بعض الأخبار عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا وإنّ سبحان الله والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر هنّ الباقيات الصّالحات» (٣).

وفي بعض الأخبار أنه قال لأصحابه : «خذوا جنّتكم» ، قالوا من عدوّ حصرنا؟ قال : «خذوا جنّتكم من النّار ؛ فقولوا : سبحان الله ، والحمد لله ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله ؛ فإنّهنّ المقدّمات المؤخّرات الباقيات الصّالحات» (٤).

وفي بعض الأخبار لأبي الدرداء : «خذهنّ قبل أن يحال بينك وبينهنّ ؛ فإنهنّ الباقيات

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٢ / ٥٠١).

(٢) قاله عثمان بن عفان ، أخرجه ابن جرير (٢٣٠٨٨ ـ ٢٣٠٩٠) ، وأحمد وابن المنذر عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٠٩) ، وهو قول ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم.

(٣) أخرجه سعيد بن منصور وأحمد وابن مردويه عن النعمان بن بشير ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٠٨).

(٤) أخرجه النسائي في الكبرى (٦ / ٢١٢) ، وابن جرير (٢٣١٠٠) ، وابن أبي حاتم والطبراني في الصغير والحاكم وصححه ، وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٠٨) ، وله شاهدان عن أنس وعائشة ذكرهما السيوطي في المصدر السابق.

١٧٦

الصالحات ، وهنّ كنز من كنوز الجنة» ؛ قال : وما هي يا رسول الله؟ فذكر : «سبحان الله ...» إلى آخره (١).

فإن ثبتت هذه الأخبار فهي الأصل لا يجوز غيره.

وقال بعضهم : الباقيات الصالحات : الصلوات الخمس ، وهو قول ابن عباس (٢) وغيره ، فأيهما كان ، ففيه معنى الآخر ، وإن كل واحد منهما يجمع جميع أنواع الخيرات والعبادات في الحقيقة ؛ لأن «سبحان الله» هو تنزيه الرب عن كل آفة وعيب ، و «الحمد لله» هو الثناء له بكل نعمة وصلت منه إلى الخلق ، وجعله مستحقّا للحمد والثناء له دون من سواه ، وإن «لا إله إلا الله» : هو لا معبود سواه ، وألّا يستحق العبادة غيره ، و «الله أكبر» : هو الإجلال عن كل ما قيل فيه ونفي كل معاني الخلق عنه ، و «لا حول ولا قوة إلا بالله» : هو التبرى ، وقطع الطمع عمن دونه وتفويض الأمور بكليتها إليه والتسليم له ؛ فكل حرف من هذه الحروف يجمع في الحقيقة كل أنواع العبادات والخيرات لما ذكرنا ، وكذلك الصلوات ـ أيضا ـ تجمع كل أنواع العبادات ؛ لأنه يستعمل كل جارحة من جوارحه فيها في كل حال منها ؛ فهي تجمع جميع العبادات.

والأصل في قوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) أنها كل الخيرات والطاعات ؛ لأن الله ـ تعالى ـ ذكر ووصف الحق بالبقاء والثبات في غير آي من القرآن ، ووصف الباطل بالبطلان والتلاشي والذهاب ؛ من ذلك قوله : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ...) الآية [الرعد : ١٧] ، وقال : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً ...) الآية [إبراهيم : ٢٤] ، وأمثاله ؛ فعلى ذلك قوله : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) هي باقية.

(خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً).

أي : خير ما يأملون.

قال أبو عوسجة (٣) : (فَأَصْبَحَ هَشِيماً) أي : يابسا باليا.

وقال القتبي (٤) ومنه سمي الرجل : هاشما.

__________________

(١) أخرجه الطبراني وابن شاهين في الترغيب في الذكر ، وابن مردويه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٠٨).

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٣٠٨٢) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤١٠) ، وهو قول سعيد بن جبير وقتادة وإبراهيم وغيرهم.

(٣) انظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٤٠٥) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة ص (٢٦٨).

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٦٨).

١٧٧

وقال أبو عوسجة : (تَذْرُوهُ الرِّياحُ) ، أي : تطير به.

وقال القتبي (١) ، أي : تنسفه ؛ كقوله : (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه : ١٠٥].

وعن ابن عباس قال (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) ، أي : خير ما يثاب الناس عليه (وَخَيْرٌ أَمَلاً) ، أي : خير ما يأمل الناس عن أعمالهم يوم القيامة ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(٤٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً).

يذكرهم ـ عزوجل ـ عن شدة أهوال ذلك اليوم وأفزاعه حيث سار أثبت شيء رأوا في الدنيا ، وتكسر أصلب شيء رأوا في الدنيا ، وهو الجبال ؛ لشدة أهوال ذلك اليوم وأفزاعه.

وقال في آية أخرى : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ. وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) [القارعة : ٤ ، ٥] ، وقال في آية أخرى : (وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً) [المزمل : ١٤] ، وقال في آية أخرى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨] ، وقال في آية أخرى : (هَباءً مَنْثُوراً) [الفرقان : ٢٣] ، وأمثاله يذكرهم عن شدة أهوال ذلك اليوم وأفزاعه ؛ حيث صار أثبت شيء في الدنيا وأشده ـ على الوصف الذي ذكره ، وبدون هذه الأهوال والأفزاع التي ذكر ـ لا تقوم أنفس البشر في الدنيا ؛ فقيامها لمثل هذه الأهوال التي ذكر أحرى ألا تقوم ؛ ألا ترى أن موسى ـ عليه‌السلام ـ كان أشد الناس وأقوى البشر ، ثم لم تقم نفسه ؛ لاندكاك الجبل حتى صعق إلا أن الله حكم أن لا هلاك يومئذ بعد ما أحياهم ، وإلا كانت أنفسهم لا تقوم بدون ما ذكر من الأهوال.

ثم ما ذكر من أحوال الجبال يكون ذلك في اختلاف الأحوال والأوقات : يكون في ابتداء ذلك اليوم ما ذكر أنها تسير وأنهم يرونها جامدة ، وهي ليست بجامدة ، ثم تصير كثيبا مهيلا ، ثم تصير كالعهن المنقوش في وقت ، ثم تصير هباء منثورا تكون على الأحوال التي ذكر ، على اختلاف الأحوال والأوقات ، على قدر الشدة والهول ، والله أعلم.

ثم يحتمل قوله : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨] ؛ لشدة ذلك اليوم تتراءى كأنها جامدة ، وهي تمر مرّ السحاب ، وقد يتراءى في الشاهد مثله ؛

__________________

(١) ينظر : تفسير غريب القرآن ص (٢٦٨).

١٧٨

للهول والفزع.

والثاني : تتراءى ، أي : لازدحام الجبل واجتماعها ، وقد يتراءى في الشاهد : السائر كالجامد والساكن ؛ للكثرة والازدحام ؛ نحو عسكر عظيم يسير يراه الناظر إليه كأنه ساكن لا يسير ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

ثم يحتمل أن يكون هذه الأهوال التي ذكر لأهل الكفر والعصاة منهم ، وأما أهل الإيمان والإحسان يكونون في أمن وعاقبة من تلك الأهوال ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا ...) الآية [فصلت : ٣٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً).

أي : ظاهرة ليس عليها بناء ولا شجر ولا جبال ولا حجر ولا شيء تصير مستوية ـ على ما ذكرنا ـ (قاعاً صَفْصَفاً. لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) [طه : ١٠٦ ، ١٠٧].

ويحتمل قوله : (وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً) ، أي : يكون أهلها بارزين له ؛ كقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً).

أي : نجمعهم جميعا ؛ كقوله : (قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ. لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الواقعة : ٤٩ ، ٥٠]

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا).

قال بعضهم : عرضوا على ربك جميعا.

ثم يحتمل قوله : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ) للحساب. وقال بعضهم : يعرضون على مقامهم ، أي : يعرض كل فريق على مقامه ، أي : يبعث ؛ كقوله : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) [الشعراء : ٩٠ ، ٩١].

ويحتمل معنى العرض عليه في ذلك اليوم ، وإن كانوا في جميع الأحوال والأوقات في الدنيا والآخرة معروضين عليه عالم بأحوالهم ؛ لما يقرون له جميعا يومئذ منكرهم ومقرهم ـ بالعرض والقيامة ، كقوله : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) [إبراهيم : ٢١] ، (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩] ، والأمر في جميع الأوقات لله ، وكذلك هم بارزون له في جميع الأحوال ، لكنّه خصّ ذلك اليوم بالإضافة إليه بما يقرون له جميعا في ذلك اليوم بالألوهية له والملك ، ويعرفون حقيقته ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

يحتمل هذا وجوها :

[الأول] يحتمل لقد جئتمونا بالإجابة والإقرار لنا كما أجاب خلقتكم في أول خلقنا

١٧٩

إياها في الدنيا.

والثاني : لقد جئتمونا كما قلنا في الدنيا : إنكم تبعثون ، وتحشرون ، وتقوم لكم الساعة.

والثالث : ما قاله أهل التأويل : لقد جئتمونا فرادى بلا أنصار ينصرونكم ، ولا أعوان يعينونكم على ما كنتم في الابتداء.

وقال بعضهم : كما خرجتم من بطون أمهاتكم عراة وحفاة ليس معكم مال يمانعكم ولا أنصار تناصركم ، وهو ما قال : (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ ...) [الأنعام : ٩٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً).

هذا يدل أن تلك الأهوال التي ذكر إنما تكون للعصاة ، ومن أنكر البعث ؛ حيث قال : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً) يعني : القيامة. وهذا يدل أن الأهوال والأفزاع التي ذكر في الآية الأولى تكون للعصاة والفسقة من خلقه دون المؤمنين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَوُضِعَ الْكِتابُ).

قيل : الحساب ، ويحتمل : الكتاب الذي كتبته الملائكة ، وضع ذلك الكتاب في أيديهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ).

أي : خائفين وجلين وقال بعضهم : لما نظروا في الكتاب فرأوا من أعمالهم الخبيثة فيه عند ذلك خافوا مما فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً).

من الأعمال السيئة.

(إِلَّا أَحْصاها) ، أي : حفظها ، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة من الحسنات والسيئات إلا أحصاها.

ويحتمل قوله : (لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) ، أي : لا يترك شيئا ممّا يجزى به الإنسان وما لا يجزى به (إِلَّا أَحْصاها) ، أي : حفظها.

(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا) ، في الدنيا ، (حاضِراً) ، في الآخرة ، محفوظا غير فائت عنه شيء ولا غائب منه.

وقال بعضهم : إنما هو قول الملك يقول لهم ذلك ، كقوله : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق : ١٨] ، أي : حفيظ ، والله أعلم.

١٨٠