تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

عجبا ؛ فيكون الحساب على هذا التأويل في موضع العلم واليقين ، كأنه قال : قد علمت أن أنباء أصحاب الكهف وأخبارهم آية عجيبة لرسالتك.

والثاني : إخبار عن أحوالهم وتقلبهم من حال إلى حال ، فإن كان على هذا ، فيكون الحسبان في موضع الحسبان ، كأنه قال : قد حسبت أن أحوالهم وتقلبهم كان من آياتنا عجبا ، هذا إذا كان الخطاب به لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأمّا إذا كان الخطاب به لغيره ، فإنه يجوز على الحسبان والظن وغيره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ) : أي : انضم.

قال بعضهم (١) : الكهف : الغار في الجبل.

وقيل : الفضاء.

وقيل : الملجأ.

ولكن قد ذكرنا : أنا لا ندرى ما الكهف وما الرقيم؟ ذلك بلسانهم ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة ، وهم الفتية اسم الأحداث منهم والشبان ، لا اسم المشيخة ، ثم يكون المماليك والخدم ، ويكون الأحرار ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) :

قال الحسن : (رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي : جنة ، (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي : يسيرا ، وهو ما ذكر في قوله : (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً).

فهذا ليس بدعاء ، إنما هو تلقين وإلهام منه إياهم ، فيكون تفسيرا للأول.

وقال بعضهم (٢) : قوله : (آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي : رزقا ؛ لأنهم كانوا يفارقون قومهم ؛ لكفرهم ؛ ليسلم لهم دينهم الذي هم عليه ، وهو الإسلام ، وقد عرفوا أنه يسع مفارقة الناس طلبا لسلامة الدين ، ولكن لم يعرفوا أنه يسع قوتهم ، وما به قوام أنفسهم إلى مكان خال عن ذلك فسألوا ربهم الرزق ؛ إشفاقا على أنفسهم بقولهم : (آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) أي : رزقا (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) أي : احمل جميع أمورنا على الصواب والرشد على ما ذكرنا : أنهم عرفوا سعة المفارقة للدين ، ولكن لم يعرفوا سعة ذلك ؛ إذا كان فيه خوف هلاك أنفسهم ، فسألوا ربهم أن يحمل أمرهم ذلك على الرشد والصواب.

__________________

(١) قاله الضحاك أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٨٩٧).

(٢) قاله البغوي (٣ / ١٥٢).

١٤١

ويحتمل (آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) : نعمة وسعة ، وهيئ لنا من أمر ديننا صوابا ، يقول (آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً).

وقوله عزوجل : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) :

الضرب على الآذان : هو المحو ، محو الأسماع ، ويقال : اضرب على حديث كذا : امحه.

ثم يحتمل محو الأسماع وجهين :

أحدهما : محو الأرواح التي بها تحيا الأنفس ؛ فيكون كناية عن الموت.

أو يكون محو أرواح الأسماع التي تسمع لا الموت ، فلما قال في آية أخرى : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) [الكهف : ١٨] دل أنه إنما أراد محو أرواح الأسماع ، لا محو الأرواح التي بها حياة الأنفس ، وهو كقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ...) الآية [الأنعام : ٦٠]. وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ) ، من رقودهم ؛ (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) أي : لنعلم ما قد علمناه غائبا شاهدا ؛ إذ كان عالما بما يكون منهم ، وتأويله : ما ذكرنا : ليعلم الخلق شاهدا ، كما علم هو غائبا.

أو ليعلم المخطئ منهم من المصيب ، إذ محال وصفه بالعلم بالمخطئ ولا مخطئ ثم ، وبالمصيب ولا مصيب ثمة ، فإذا كان كذلك فيكون قوله : ليعلم المخطئ من المصيب ، والمصيب من المخطئ إذا كان ، وأصله : أنه يعلمه كائنا على ما علم أنه يكون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً).

يحتمل : (لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ) قال بعضهم : مشركيهم ومؤمنيهم.

ومنهم من قال : الملك والفتية.

وقال بعضهم (١) : هم اختلفوا في مكثهم إذ بعثوا.

قال بعضهم : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، وقال بعضهم : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ) ولكن لسنا ندرى من أي الحزبين ، وليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة ، سوى أنا ذكرنا قول أهل التأويل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ) ، الحق في النبأ : الصدق ، والحق في الأحكام : العدل ، وفي الأفعال : الصواب.

وقال بعضهم : الحق ـ هاهنا ـ : هو القرآن ، فيكون قوله (بِالْحَقِ) أي : في الحق ،

__________________

(١) قاله ابن جرير (٨ / ١٨٧) ، والبغوي (٣ / ١٥٢).

١٤٢

وهو القرآن ، أي : نقص عليك نبأهم في القرآن ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً).

هذان الحرفان معناهما واحد : الزيادة والربط ، كل واحد منهما يؤدي معنى صاحبه زيادة الهدى ، أي : ثبتناهم على الهدى.

ويجوز أن يقال : هو التثبيت والربط.

وكذلك يجوز أن يقال على التجديد والابتداء ، إذ للإيمان حكم التجدد في كل وقت ؛ إذ هو يكون منكرا جاحدا للكفر في كل وقت ؛ فهو مجدد للإيمان كذلك في كل وقت ؛ فإن شئت حملته على الثبات والزيادة على ما كان ، وإن شئت على الابتداء والتجدد ، وكذلك قوله : (فَزادَتْهُمْ إِيماناً) [التوبة : ١٢٤].

وقال الحسن في قوله : (وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي : من حكم الله أن من اهتدى زاده هدى ؛ كقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) ، لكن هذا لو كان على ما ذكر ، لكان لا يجوز أن يكفر إذا اهتدى مرة ، لا يزال يزيد له هدى ، فإذا لم يكن دلّ أنه لا يصح ذلك ، والوجه فيه ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا).

يحتمل قوله : (إِذْ قامُوا) بالحجج والبراهين.

ويحتمل : (إِذا قامُوا) بالنهوض إلى الكهف ، حين انضموا إليه.

أو قاموا لله ولدينه.

أو قاموا من عند أولئك الكفرة ، فقالوا ما ذكر : (رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي :

قالوا : ربنا هو رب السموات والأرض ورب ما فيهن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً).

يحتمل قوله : (لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) أي : لن نسميهم آلهة ؛ على ما سمى قومهم الأصنام التي عبدوها : آلهة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ قُلْنا).

من دونه إلها ، فسموهم : آلهة ، على زعمهم ، وعلى ما عندهم ؛ كقوله : (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] وقوله : (وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً) [طه : ٩٧] لا يجوز أن يسمي الأنبياء الأصنام التي كانوا يعبدونها : آلهة ، وهي ليست بآلهة ، ولكن قالوا ذلك على زعمهم ، وعلى ما عندهم ؛ فعلى ذلك قوله :

(لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً) ، أي : لن نعبد ، فإن كان على العبادة ، ففيه إضمار ، أي :

١٤٣

لن نعبد من دونه إلها غير الله ، كفعل قومنا ، ولو فعلنا لقد قلنا شططا ، أي : جورا وظلما.

ثم قال : (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) : يعبدونها (لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ) ، أي : هلا يأتون على تسميتهم آلهة أو استحقاق العبادة لها بحجة بينة.

ثم حرف (هلا) يستعمل في الماضي ، ويستعمل في المستقبل ، فإن كان على الماضي فهو على الإنكار ، أي : لم يكن ؛ وإن كان على المستقبل فهو على السؤال ، أي : ائتوا بحجة بينة على أنها آلهة ، كما أتوا هم : أن الله هو الإله الحق ، وأنه خالق السموات والأرض ، ورب ما فيهما.

قال القتبي (١) : (فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ) أي : أنمناهم ، والأمد : هو الغاية ، (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ) ، أي : ألهمناهم الصبر ، وثبتنا قلوبهم.

وقوله : (شَطَطاً) ، أي : غلوا ، يقال : أشط على ؛ إذا غلا في القول.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً).

أي : لا أحد أظلم ممن جعل مع الله آلهة ، وقد ذكرنا تأويله في غير موضع.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) ، وفي حرف ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله (٢) فتأويل الآية على القراءة الظاهرة : وما يعبدون إلا الله ، أي : وإن اعتزلتموهم ، والذين لا يعبدون إلا الله ، فلا تعتزلوا عبادته ؛ لأنه كانوا يعبدون الأصنام ، ويعبدون الله أيضا ويرونه معبودا ؛ فكأنهم قالوا : وإذ اعتزلتموهم والذين يعبدون إلا الله فلا تعتزلوه ، وهو كقول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ لقومه حيث قال : (قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ...) الآية [الشعراء : ٧٥ ، ٧٦] استثنى عبادة رب العالمين من بين عبادة من يعبدون من دونه ؛ إذ كانوا يعبدون الأصنام ، ويعبدون الله ويرونه معبودا ، إلا أن بعضهم لا يرون أنفسهم بلغت مرتبة عبادة الله ، فيعبدون الأصنام ؛ رجاء أن تشفع لهم عنده ، أو تقرب عبادتهم إلى الله زلفى وأمثاله.

وجائز أن يكون قوله : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) : على التقديم والتأخير ، أي : وإذ اعتزلتموهم فأووا إلى الكهف ؛ لأنهم كانوا لا يعبدون إلا الله يعني : أصحاب الكهف.

__________________

(١) انظر تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (٢٦٤).

(٢) قاله قتادة أخرجه ابن جرير (٢٢٩٢٤) وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٩٠).

١٤٤

والثاني : ما ذكرنا : وإذ اعتزلتموهم وما يعبدونهم في الحقيقة إلا الله ، وإن كانوا في الظاهر يعبدون غير الله.

وتأويل قراءة عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : وإذ اعتزلتموهم وجميع ما يعبدون من دون الله.

ويحتمل أن يكون هذا منهم ليس على القول والنطق ؛ ولكن ألقى في قلوبهم وقذف : أنهم إذ فارقوا قومهم وباينوا يأوون إلى الكهف وينشر لكم ربكم من رحمته.

وقال الحسن : إن في قومهم من قد آمن سواهم ؛ فقالوا : إنكم إذا باينتم وفارقتم فأووا إلى الكهف ، فلا تقعدوا معهم فلعلهم يلحقونكم ويطلبون لقاءكم ، فلا تقعدوا معهم.

ويشبه أن يكون قوله :

(فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، لما عزموا أن يفارقوا قومهم اعترض لهم الشيطان ، فقال : إنكم تفارقون قومكم إلى مكان ، وليس معكم شراب ولا طعام ؛ فتهلكون أنفسكم ؛ فدفعوا وساوسه ؛ بقوله : (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً).

ثم قوله : (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، قال بعضهم (١) : يخلق لكم ربكم ، كقوله : (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها) [البقرة : ٢٥٩] بالراء ، أي : كيف نخلقها.

وقال بعضهم : (يَنْشُرْ لَكُمْ) ، أي : يبسط ، والنشر : هو البسط.

قوله عزوجل : (مِنْ رَحْمَتِهِ) : يحتمل الرزق ، ويحتمل كل شيء به يدفع الهلاك عن أنفسهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً).

أي : ما ترفقون به وتنتفعون به ، وهو قول أبي عوسجة ، وهو من الرفق ، والمرفق ـ أيضا ـ مثله ؛ لأنه : ينتفع [به].

وقال القتبي (٢) : (مِرْفَقاً) : ما يرتفق به.

وقال أبو عبيدة (٣) : المرفق : ما ارتفقت به ، فأما في اليدين فهو مرفق ، والله أعلم.

__________________

(١) قاله ابن جرير (٨ / ١٩٠) ، والبغوي (٣ / ١٥٣).

(٢) انظر تفسير غريب القرآن (٢٦٤).

(٣) انظر مجاز القرآن (١ / ٣٩٥).

١٤٥

قوله تعالى : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)(٢١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ).

قيل (١) : تميل عن كهفهم (٢).

(ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ).

كانت لا تصيبهم لا عند طلوعها ولا عند غروبها ؛ لأن الكهف كان مستقبل بنات النعش ، وكل شيء يكون مستقبل بنات النعش لا تصيبه الشمس.

وقال بعضهم (٣) : لا ، ولكن كان ثمة حجاب وستر يحجب الشمس عن أن تقع عليهم ، لكن هذا لا يصلح ؛ لأن الله ـ عزوجل ـ جعل لهم ذلك آية من آياته ، وكرامة من كراماته ؛ فليس فيما لا يقع عليهم الشمس بحجاب أو ستر كبير آية ومنة ؛ إنما الآية فيما تقع الشمس عليهم ، ثم يدفع عنهم ضررها وأذاها ؛ فإذا كانوا بحيث لا تصيبهم الشمس ـ فأذاها وضررها ـ أيضا ـ لا يصيبهم ؛ فليس في ذلك كبير آية وحكمة ؛ إذ ليس فيما لا يصيب الشمس ضرر أو أذى ، ولكن يذكر لطفه ؛ حيث منع ضرر الشمس وأذاها عنهم مع إصابة الشمس إياهم ووقوعها عليهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ) يمينهم ، أو يمين القبلة ، وكذلك (ذاتَ الشِّمالِ) : شمال أولئك ، أو شمال القبلة ، فأما يمين الجبل والغار ، على

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٢٩٢٦ ـ ٢٢٩٢٧) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٩١) ، وهو قول سعيد بن جبير ، وقتادة.

(٢) ينظر : اللباب (١٢ / ٤٤١).

(٣) قاله البغوي (٣ / ١٥٤).

١٤٦

ما قال أهل التأويل ، فإنه ليس للجبل يمين ولا شمال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) :

قال بعضهم : الفجوة : الظل.

وقال بعضهم (١) : الفجوة : الفضاء.

وقال بعضهم (٢) : هي سعة المكان : يخبر ـ عزوجل ـ عن لطفه ومننه : أنه قد حشرهم إلى غار كانوا يسعون فيه حتى يتقلبوا فيه ، والغار الذي يكون في الجبال لا هكذا يكون ؛ بل يكون ضيقا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ).

هذا يرد قول من ينكر جري الآيات على يدي غير الأنبياء ؛ لأنه جعل في أصحاب الكهف عددا من الآيات : كلها خارجة عن احتمال وسع الخلق وعادتهم ؛ لمفارقتهم قومهم لسلامة دينهم.

أحدها : ما أخبر أنه ضرب على آذانهم ، وأنامهم نوما خارجا عن طبع الخلق وعادتهم ، وهو ثلاثمائة سنة ، ثم بعثهم ليتساءلوا بينهم ، على ما أخبر ، عزوجل.

والثاني : لم تبل ثيابهم في مثل تلك المدة ومثل المكان ، ولم تتغير ؛ ألا ترى أنهم قالوا حين بعثوا : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ، ولو كانت ثيابهم بالية أو متغيرة ، لم يستقلوا ولا استقصروا كل هذا يوما أو بعض يوم ؛ ألا ترى أنهم فزعوا إلى الطعام ، ولم يفزعوا إلى الثياب ؛ حيث قالوا : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) ، ولو كانت ثيابهم بالية أو متغيرة ـ لكان فزعهم إلى الثياب كهو إلى الطعام ، وهو أولي.

والثالث : ما أخبر : من تزاور الشمس إذا طلعت ذات اليمين ، وقرضها إياهم ذات الشمال.

والرابع : دفع الحر والبرد عنهم ؛ إذ من طبعهما الإهلاك والفساد إذا اشتدا وكثرا.

والخامس : ما ذكر من تقليبه إياهم ذات اليمين وذات الشمال ، وحفظه إياهم عن أن تفسدهم الأرض وتأكلهم ؛ إذ من طبع الأرض ذلك عند امتداد الوقت.

والسادس : ما ذكر في الآية من الهول والهيبة إذا دخل عليهم واطلع ؛ حيث قال : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) : خوفا مما ترى فيهم من الأهوال : هذا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكيف لمن دونه؟!.

__________________

(١) قاله قتادة أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٩٣٩).

(٢) انظر تفسير غريب القرآن (٢٦٤).

١٤٧

والسابع : حفظه إياهم عن جميع الخلائق حتى لم يطلع ، ولم يعثر عليهم أحد من الخلائق.

والثامن : إبقاؤهم أحياء أكثر من ثلاثمائة سنة بلا غذاء ، والأنفس لا تبقى بلا غذاء بدون ذلك ؛ وذلك باللطف ، وأمثال هذا كثير مما يكثر عدها وإحصاؤها.

كله من آيات عظيمة خارجة عن وسع [البشر] وعادتهم ؛ فذلك لهم باختيارهم دين الله من بين قومهم ، وبمفارقتهم إياهم ؛ ليسلم لهم دينهم ؛ إذ الغلبة فيهم يومئذ الكفر ، فأكرمهم الله بذلك بالكرامات التي ذكرنا ؛ فلا ننكر أن يعطي الله أحدا من أوليائه قطع مسيرة أيام بيوم أو بساعة ، أو المشي على الماء ، ونحو ذلك ، ليس بمستبعد ولا مستنكر.

وقول أهل التأويل : إنهم كانوا كذا ، والكلب كذا ، وأساميهم كذا ، وعددهم كذا ، ونحوه ؛ فذلك مما لا يعلم إلا بخبر الصدق وقول الحق ، وقد نهى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يستفتي فيهم منهم أحدا حيث قال : (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) وما ذكر هؤلاء كله من الاستفتاء الذي نهى رسوله عن ذلك.

قال أبو عوسجة (١) : (تَزاوَرُ) أي : تميل ، وتزور مثله.

(تَقْرِضُهُمْ) ، أي : تدعهم على شمالها ، أي : أن الشمس لا تصيبهم طالعة ولا غاربة عند طلوعها وغروبها ، ويقال : قرضته : تركته ، أقرضه قرضا ، ويقال : قرضت موضع كذا ، أي : جاوزته وتركته خلفي ، ويقال : قرضه ، أي : قطعه بمقراض ، وتزاور يتزاور ، أي : عدل ومال (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) : أي سعة ، وفجوات جمع.

ويحتمل قوله : (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ) أي : ذلك النبأ وما ذكر من قصة أصحاب الكهف من آيات قدرة الله ، أو من حجج الله على إثبات رسالة رسوله ونبوته.

أو من آيات كراماته للفتية ولمن اختار دين الله وآثره على غيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً).

قد ذكرناه في غير موضع.

وقال بعضهم : (تَزاوَرُ) و (تَقْرِضُهُمْ) كلاهما واحد ، وهو أن تميل عن كهفهم فتدعهم ذات اليمين ، (وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ) أي : تدعهم ذات الشمال.

وقوله : (وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ) أي : زائفة من الكهف ، قال أبو معاذ : الزائفة : قدر ما يصلح.

__________________

(١) انظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٣٩٥) ، وتفسير غريب القرآن (٢٦٤).

١٤٨

وقال بعضهم في قوله : (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ) أي : يبوئ لكم ؛ كقوله : (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٢١] أي : تهيئ ، (وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً) الرشيد : الصالح.

وقال مقاتل (١) : (رَشَداً) ، أي : مخرجا.

(وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) : قال ابن عباس (٢) ـ رضي الله عنه ـ : غذاء تأكلونه ، وهو ما ذكرنا كل ما يترفق به ، ويقال : مخرجا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ).

قال بعضهم : لأنهم كانوا مفتحي الأعين والأبصار كاليقظان.

وقال بعضهم : وتحسبهم أيقاظا ؛ لأنهم كانوا يتقلبون في رقودهم اليمين والشمال كما يتقلب اليقظان يمينا وشمالا.

وقال بعض أهل التأويل (٣) : إنما كان يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ، ليدفع عنهم أذى الأرض وضررها ؛ لئلا يفسدوا ولا يتلاشوا ، وإن كان الله قادرا أن يدفع عنهم الأذى وضرر الأرض لا بتقليب من جانب إلى جانب وإن كان [ذلك] مما يفعله من لا يملك دفع الأذى [إلا] بما ذكرنا ، فأما من كان قادرا بذاته مستغنيا عن الأسباب التي بها يدفع فغير محتمل.

وهو : على التعليم منه إياهم : أن كيف يتقى الأذى؟ وكيف يدفع الضرر؟ فإذا لم يكن بمشهد من الخلق فلا معنى له.

وقال بعضهم : قوله : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) ؛ لأنهم كانوا في مكان الريبة واللصوص مما لا يأوي إليه إلا هارب من ريبة وشر أو قاصد ريبة وطالب عثرة ومكابرة لم يكونوا في مكان يسلم فيه ويرقد ولا يختار للنوم مثله ، فقال : (وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ) لما كانوا في مكان لا ينام فيه للخوف ، كأنهم أيقاظ وهم رقود ، والله أعلم.

ولكن لا ندري لأي معنى ذكر أنه يحسب الناظر إليهم كأنهم أيقاظ وهم رقود؟ وإذا لم يبين الله ذلك فلا نفسر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) هو ما ذكرنا أنهم : قد يتقلبون في نومهم من جانب إلى جانب ، وذكر التقليب جائز أن يكون ؛ لما ذكر بعضهم من دفع أذى الأرض وضررها.

__________________

(١) ذكره البغوي (٣ / ١٥٢) ونسبه لابن عباس.

(٢) أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٩٠).

(٣) قاله ابن عباس بنحوه ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٩٤٤) وهو قول سعيد بن جبير وقتادة.

١٤٩

أو ذكر فعله ؛ لما له في تقلبهم صنع وفعل ، والله أعلم.

وقوله : (ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ) إذ لا يفهم من ذات الشيء غير ذلك الشيء أو شيء آخر سواه ؛ لأنه ذكر ذات اليمين فهو اليمين والشمال نفسه لا غير ؛ فعلى ذلك في قولنا : عالم بذاته ، لا يفهم غير علمه ، أي : عالم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ).

قال بعضهم (١) : الوصيد : هو فناء الباب.

وقال بعضهم (٢) : الوصيد : هو عتبة الباب.

قال القتبي (٣) : الوصيد : الفناء ، ويقال : عتبة الباب ، وهذا أعجب إلىّ ؛ لأنهم يقولون : أوصد بابك ، أي : أغلقه. ومنها (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي مطبقة ، وأصله : أن تلصق الباب إلى العتبة إذا أغلقته.

فإن كان الوصيد هو عتبة الباب ، ففيه أن الكلب كان داخل باب الغار ، وإن كان الفناء ففيه أنه كان خارج باب الغار ، وفيه أيضا [أنه] أبقى الكلب ثلاثمائة سنة على ما أبقاهم ، وإن لم يكن من جوهرهم بلطفه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً).

قال بعض أهل التأويل (٤) : وذلك أن شعورهم قد طالت وأظفارهم قد امتدت وعظمت ، فكانوا بحال يرغب عنهم ويهاب (٥).

لكن هذا لا يحتمل ؛ لأنهم قالوا : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فلو كانوا على الحال التي ذكروا من تطاول الشعور وامتداد الأظفار وتغير أحوالهم ، لم يكونوا ليقولوا : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ؛ إذ لو نظروا في أنفسهم من تغير الأحوال ، لعرفوا أنهم لم يلبثوا ما ذكروا من الوقت ؛ دل ذلك أن ذلك الخوف والهيبة لا لذلك.

وقال بعضهم : لأنهم كانوا في مكان الريبة فيما لا يؤوى إلى مثله إلا لخوف ريبة أو طلب ريبة لا يأويه إلا لهذين : هارب من شر ، أو طالب شر على آخر ؛ على ما ذكرنا : أن من أقام في مهاب ومكان مخوف يهاب منه ويخاف.

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٢٩٤٥) وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٩١). وهو قول سعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك.

(٢) قاله عطاء ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٥٤).

(٣) انظر : تفسير غريب القرآن (٢٦٤)

(٤) قاله الكلبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٥٥).

(٥) ينظر : اللباب (١٢ / ٤٤٨).

١٥٠

أو أن يكونوا بحيث يهابون ويخاف منهم لئلا يدنو منهم أحد ، ولا يقرب ، فلا يوقظهم أحد ، ليبقوا إلى المدة التي أراد الله أن يبقوا فيه ؛ ولذلك يحتمل هذا المعنى في تقليب اليمين والشمال ؛ فجائز أن يكون قوله : (لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً) ذلك الخوف وتلك الهيبة : هيبة الدين ، على ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «نصرت بالرعب مسيرة شهرين» (١) ، وذلك لدينه ولحقيقة أمره ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكر من هيبة أحوالهم لدينهم الذي اختاروا من بين قومهم وفارقوهم ؛ ليسلم دينهم إلى مكان لا طعام فيه ولا شراب ؛ وذلك لحقيقة ما اختاروا من الدين ، كان ذلك لمعنى لم يطلع الله رسوله على ذلك ؛ فلا نفسر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ) أي : كما أنبأكم من أنبائهم وقصصهم أو كما ضرب على آذانهم وأنامهم سنين كذلك يبعثهم.

وقوله : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) بعثهم ؛ لما علم ما يكون منهم ، وهو التساؤل ، وهكذا جميع ما يخلق وينشئ ، إنما يخلق وينشئ ؛ لما يعلم أنه يكون منهم ؛ كقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً ...) الآية [الأعراف : ١٧٩] ذرأهم ؛ لما علم أنه يكون منهم ، وهو عمل أهل جهنم ، وكذلك قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] من علم أنه يعبده ويعمل له عمل أهل الجنة خلقه لذلك ، هكذا كل ما يخلق ، لما يعلم أنه يكون منه ؛ إذ يخرج الفعل لذلك مخرج العجز والجهل بالعواقب ، فإذا كان الله عالما بما كان ويكون ، ويتعالى عن أن يكون فعله عبثا ـ لم يجز أن يخلق شيئا لغير ما علم أنه يكون ، وهكذا في الشاهد من عمل عملا أو فعل فعلا لغير ما علم أنه يكون ـ فهو عابث أو جاهل بعواقبه ، وبالله العصمة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).

وتأويله ما ذكر : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً).

وقوله : (لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) قالوا ذلك ، لما لم يروا في أنفسهم آثارا وأعلاما تدل على طول المكث والمقام فيه ، ثم لما تذكروا أحوالهم ، وما يرى النائم في نومه من العجائب وأشياء كثيرة ، عرفوا أن ذلك القدر من الأشياء ومثل ذلك من العجائب التي رأوا لا يحتمل أن يكون في يوم أو بعض يوم ، فعند ذلك وكلوا الأمر إلى الله ، فقالوا : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ).

وأما الذي أماته مائة عام لما بعثه قطع القول في ذلك ، ولم يكل الأمر إلى الله حيث

__________________

(١) تقدم.

١٥١

قال : (قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) ؛ لأنه كان ميتا ، والميت لا يرى شيئا ، ولم يكن في نفسه آثار تدل على ذلك ، فقطع القول فيه ، ولم يكل الأمر إلى الله.

وأما النائم فإنه يرى في نومه أشياء فيعرف أنه لا يكون في وقت قصير ؛ لذلك وكلوا الأمر إلى الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ).

فيه أنهم لما فارقوا ومعهم زاد وهو الورق ، أمر بعضهم بعضا : أن يبعث بالورق ، ليأتيهم بالطعام ، وفيه أنه أضاف الورق إليهم ، ولا شك أنه كان له فيه نصيب حيث قال : (بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) ، وفيه دلالة جواز المناهدة في الأسفار وغيرها ؛ إذ كان ذلك الورق بينهم ، وفيه دلالة جواز الوكالة ، وأنها ليست بمبدعة ، ولكن كانت في القرون الماضية وهي متوارثة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً).

اختلف فيه : قال بعضهم (١) : قوله : (أَزْكى طَعاماً) أي : أحل طعاما ؛ لأن بعض أهل تلك المدينة يذبحون للأصنام وباسم الأوثان التي كانوا يعبدونها ، فأمروا بأن يأتيهم بحلال يحل لهم أكله والتناول منه.

وقال بعضهم (٢) : (أَزْكى) : أرخص وأكثر ؛ لأنهم في مكان لا يدرون متى يخرجون منه ، فطلبوا الأكثر ؛ لشدة حاجتهم إليه ويكفي لوقت مقامهم ونحوه.

وقال بعضهم (٣) : (أَزْكى طَعاماً) أي : أطيب وأجود ؛ لأن الطيب أزيد للعقول وأصلح للأنفس وأنفع ؛ ولذلك جعل الله أرزاق البشر ما هو أطيب وألين ؛ لما يزيد ذلك في العقول والفهم ، وجعل لغيرهم من الدواب كل خشن خبيث ، لما ليس لهم عقول يحتاج إلى ما يزيد لها فيها ، وأصل الزكاء : النماء والزيادة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً).

يحتمل قوله : (وَلْيَتَلَطَّفْ) أي : ليرفق بهم ؛ لئلا يشعروا أنه من أولئك الذين فارقوهم لدينهم.

أو أمره بالتلطف ، أي : بالسماحة والسهولة في الشراء ؛ لما جاء في الخبر : «رحم الله

__________________

(١) قاله ابن عباس ، أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٩٢) ، وهو قول سعيد بن جبير.

(٢) قاله عكرمة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٩٦١) و (٢٢٩٦٢)

(٣) قاله الضحاك ومقاتل بن حيان كما تفسير البغوي (٣ / ١٥٥).

١٥٢

سهل البيع سمح الشراء» (١).

(وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) أنه فلان بن فلان وأنه من قوم كذا فيعرفون أنه من أصحاب الكهف.

أو لا يشعرن بمكانكم أحدا ، من الناس.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ).

يحتمل : يقتلوكم أو ما أرادوا بكم.

(أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ) ، أي : في دينهم الكفر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً).

أي : ما دمتم في ملتهم ودينهم ، هذا كأنهم لم يعرفوا التقية ، وإلا لو أعطوهم بلسانهم ولم يعطوهم بقلوبهم ، لكانوا قد أفلحوا.

أو عرفوا التقية إلا أنه لم يكن للقرون الماضية التقية ، ولم يؤذن لهم فيها.

أو هي رخصة رخص لهم ، والأفضل ألا يعطي ذلك ولا يظهر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ).

اختلف في قوله : (وَكَذلِكَ) ؛ قال بعضهم : كما أخرج المبعوث بشراء الطعام من الكهف مع الورق المتقدم ضربها ، فكان ذلك بسبب إعلام أهل المدينة عن الفتية (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) ، أي : أطلعنا عليهم.

وقال بعضهم : كما أعلم عن أنباء الفتية وأصحاب الكهف وقصصهم من أولها إلى آخرها ، (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي : أطلعنا عليهم ، والله أعلم.

وجائز أن يكون قوله : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ) أي : كما ضرب على آذانهم ليعلموا أن ما وعد لهم الرسل عن الله حق.

ثم اختلف في اطلاعهم عليهم :

قال بعضهم : أطلع الله الملك الذي هربوا منه وأهل المدينة بعد ما أنامهم ، لكن حيل بينهم وبين أولئك.

وقال بعضهم : أطلعهم قبل أن ينيمهم ، فحيل بينهم وبينهم ، فسدوا باب الكهف ، فبقوا هنالك ، ثم أنامهم بعد ذلك ما ذكر ، فهلك ذلك الملك ، وانقرض تلك القرون ، ثم ولي ملك آخر مسلم صالح ، ثم أطلع ذلك الملك عليهم ، وأمثال ذلك قد قالوا ، فلا ندري

__________________

(١) أخرجه البخاري (٥ / ٢٧) كتاب البيوع : باب السهولة والسماحة (٢٠٧٦) ، والترمذي (٢ / ٥٨٦) أبواب البيوع : باب ما جاء في سمح البيع (١٣٢٠) ، وابن ماجه (٣ / ٥٥٠ ، ٥٥١) كتاب التجارات : باب السماحة في البيع (٢٢٠٣) ، وأحمد (٣ / ٣٤٠) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى».

١٥٣

كيف كانت القصة؟ وفي ظاهر الآية أنه أطلع عليهم بعد ما أنامهم وبعثهم ، وليس فيه بيان أنه من أطلع عليهم الملك الأول أو الثاني أو القوم أو غيرهم؟ ولا يجوز أن يقطع القول فيه أنه فلان ؛ لأن هذه الأنباء ذكرت في القرآن حجة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلو قطع القول على شيء أو زيد أو نقص عما كان في كتبهم ، خرجت عن أن تكون حجة له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ).

يشبه أن يكون الرسل من قبل كانوا يخبرون قومهم أن نفرا يهربون من ملكهم ؛ إشفاقا على دينهم ، ويلتجئون إلى الكهف فينامون كذا وكذا سنة ، ثم يبعثون ، فأكذبهم قومهم بما أخبروا قومهم من أنبائهم ، فقال : (أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا) أن ما وعد الرسل وأخبروهم من نبأ أصحاب الكهف حق.

والثاني : يحتمل أن يكونوا ينكرون البعث والساعة ، والرسل يخبرون أنهم يبعثون ، فأطلع على أولئك ؛ ليعلموا أن البعث والقيامة حق ؛ لأن الأعجوبة في إبقاء أنفس أصحاب الكهف في نومهم ثلاثمائة سنة أو أكثر بلا غذاء يغتذون ، ولا طعام يطعمون ، ولا شيء تقوم به الأنفس ـ إن لم تكن أكثر وأعظم من إحياء الموتى وجمع العظام الناخرة البالية لا تكون دونه ؛ لما لم يروا الأنفس لا تبقى أياما بلا غذاء فضلا أن تبقى سنين كثيرة ثلاثمائة أو أكثر ، فبعث هؤلاء ؛ ليعلم من أنكر البعث [أن] من قدر على إبقاء الأنفس مدة مديدة طويلة بلا غذاء تغتذي [به] لقادر على إحياء الموتى وبعثهم بعد الموت.

أو أن يكون ما ذكرنا بدءا : أن الرسل السالفة كأنهم أخبروا قومهم عن قصة أصحاب الكهف فكذبوهم ، فأطلع الله نبأهم وخبرهم ؛ ليعلم أولئك أن الذي أخبرهم الرسل حق وصدق ، والله أعلم.

ثم إن هذه الأنباء والقصص المتقدمة ذكرت في القرآن حجة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ودلالة في إثبات رسالته ، فلا يجوز أن يقطع القول في شيء لم يبين فيه ولم يوضح ولم يفسر ؛ لما يخاف فيه الكذب على الله ، ولا الزيادة فيها والنقصان على ما ذكر فيه ؛ لما لعلها تخرج مخالفة لما ذكر في كتبهم ؛ فلا يكون له فيها حجة ولا دلالة.

فإن قيل : كيف علموا أن ما أخبرهم الرسل حق إذا كانوا لا ينكرون أن وعد الله حق ، ولكن يظنون أن ما وعدهم الرسل ويخبرونهم إنما هو اختراع منهم لا وعد من الله وخبر عن الله؟

قيل : علموا أن ذلك حق بوجوه :

أحدها : ما رأوا من الدراهم التي كانت في يدي المبعوث بشراء الطعام من الضرب المتقدم ، وإن كان يجوز أن تكون تلك الدراهم من كنز أصاب ذلك الرجل لا من دراهم

١٥٤

أصحاب الكهف ، فإذا صدقوا ذلك الرجل فيما أخبر أنها من دراهم أصحاب الكهف ، فتصديق الرسل أولى وخبرهم أحق أن يصدق.

والثاني : علموا لما رأوا أنه أنامهم مدة طويلة خارجة عن العادة ، وحفظهم من كل ضرر وأذى وفساد ، وأبقاهم من غير طعام ولا شراب ، على علم منهم أن الأنفس لا تبقى ولا تقوم بغير طعام ولا شراب بدون تلك المدة بكثير ، فضلا أن تبقى إلى مثل تلك المدة ؛ فعلموا أن من قدر على حفظ ما ذكرنا وإبقائهم ، لقادر على البعث والإحياء ولا يعجز عن شيء يريد كونه ، وأنه فعال لما يريد.

والثالث : علموا أن ذلك حق ؛ لما رأوا أنه أنامهم وقتا طويلا ، وحفظهم عن جميع الآفات ، ثم بعثهم وأحياهم ـ أنه لم ينمهم ولم يبعثهم إلا لعاقبة تتأمل وحكمة تقصد ؛ فعلى ذلك إحياء الخلق وإماتتهم ليس إلا لعاقبة تتأمل وحكمة تقصد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ) :

لسنا ندري في ما ذا تنازعوا في أمرهم فيما بينهم :

أقوله ـ عزوجل ـ : (فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) ، أو تنازعوا في السبب الذي به التجئوا إلى الكهف؟

ويشبه أن يكون تنازعهم في البناء الذي ذكر في المسجد وغيره ، ويحتمل في عددهم ونحوه ، ولكن لا نقطع القول فيه ؛ إذ وكل أمرهم إلى الله حيث قال : (رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) ، ثم قوله : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) يحتمل بناء المسجد عليهم إكراما لهم وإعظاما ؛ ليذكروهم في ذلك المكان على قرب منهم ، على ما ظهر عندهم من إكرام الله إياهم.

أو يتخذون مسجدا لعبادة أنفسهم ، ليعبدوا الله على قرب منهم ؛ ليسألوا من بركتهم ونحوه ، والله أعلم.

قوله تعالى : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً)(٢٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً

١٥٥

بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ).

قال بعضهم (١) : عددهم كان سبعة والثامن الكلب (٢) ؛ لأنه ذكر في الثالث والخامس (رَجْماً بِالْغَيْبِ) ، أي : قذفا بالغيب وظنا ، وقيل : ترجمة بالغيب ، أي : بلا علم ولم يذكر في قوله : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، وكذلك قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ وقال : «أنا من القليل الذين استثناهم الله ، وكانوا سبعة والثامن الكلب» (٣) ، لعل ابن عباس قال : «أنا من القليل» ظنا واستدلالا بالذي ذكر ، أو كان سماعا [سمع] من رسول الله ذلك.

وقال الحسن وأبو بكر وغيرهما : إن الله تعالى قال : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ) ، ثم استثنى قليلا من عباده ، فلا نعلم بأن أولئك القليل من الملائكة أو من البشر أو منهم؟ فلا ندري من هم؟ ولا كم عددهم؟ وبه نقول نحن ، وهو ما قال : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) نهى رسوله أن يستفتي منهم أحدا ؛ لما يحتمل أن يكون ذلك غير مبين في كتبهم ، فلا يطلع رسوله خوف التكذيب.

ثم اختلف في وقتهم : قال [بعضهم] : كان فيما بين عيسى ومحمد.

وقال بعضهم : ذلك كان قبل بعث موسى ، وهو قول الحسن وأبي بكر وهؤلاء ، وهذا أشبه ؛ لأنهم إنما سألوا عنهم أهل التوراة وهم اليهود ، فلا يحتمل أن يكون بعد عيسى وهم لا يؤمنون بالإنجيل.

وقول أهل التأويل : كان أساميهم وعددهم [كذا ، ليس لنا إلى معرفة أساميهم وعددهم] حاجة ، ولو كانت لتولى الله بيان ذلك في الكتب.

وقال القتبي (٤) : (رَجْماً بِالْغَيْبِ) أي : ظنا بالغيب ، أي : يقولون بالظن.

وقيل (٥) : قذفا بالغيب على غير استيقان ، وهما واحد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) إلى قوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) يحتمل الخطاب بهذا لكل الناس ، ليس أحد أولى به من غيره ؛ فيخرج ذلك مخرج التعليم لهم في ترك المراء مع الكفرة إلا مراء ظاهرا ، وكذلك في ترك الاستفتاء ، وكذلك علمهم

__________________

(١) هو قول ابن عباس الآتي ذكره.

(٢) ينظر : اللباب (١٢ / ٤٥٦ ـ ٤٥٧).

(٣) أخرجه ابن جرير (٢٢٩٧٤ ـ ٢٢٩٧٨) ، وعبد الرزاق والفريابي ، وابن سعد ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، من طرق عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٩٣).

(٤) انظر : مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٣٩٨) ، تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (٢٦٦).

(٥) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٩٧١ ، ٢٢٩٧٢).

١٥٦

وأدبهم ألا يعدوا عدة إلا والثنيا بها ملحقة.

ويحتمل أيضا أن يكون الخطاب به لرسول الله ، لكن ليس لأنه قد كان منه ما ذكر من المراء والاستفتاء والوعد بغير ثنيا ، ولكن خاطب به رسول الله ليتأدب غيره من الناس بذلك الأدب ، وهو كما خاطبه بقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [الأنعام : ١٤] ونحوه من الخطاب الذي خاطبه به ، فخاطبه به لا لأنه كان منه ذلك أو كان فيه ما ذكر ، ولكن لما ذكرنا من الوجوه فيما تقدم.

ثم اختلف في قوله : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً) :

قال بعضهم : ذلك في أمر أصحاب الكهف ، أي : لا تمار فيهم ولا تستفت فيهم منهم إلا قدر ما كان في كتبهم ، فإنك لو ماريتهم بما ليس في كتابهم كذبوك ، ولكن قدر ما في كتبهم ؛ هذا كان على المسألة ، فإن كان على غير المسألة في غير أمر أصحاب الكهف على ابتداء المحاجة والحجاج فهو يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : لا تمار فيهم إلا بما هو أظهر ويعرفون ذلك ظاهرا ، من نحو ما يعرفون أن الأصنام التي عبدوها لا تنفع ولا تضر ولا تبصر ولا تسمع ، ونحو ذلك مما يعرفون أنها كذلك.

والثاني : لا تحاجهم بلطائف الحكمة ودقائقها ، ولكن بشيء محسوس ظاهر من الآية ، لا بما يلطف ويدق ، على ما يحاجهم الأنبياء بآيات حسيات.

وفي قوله : (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً) دلالة ألّا يسع النظر في كتاب الفلاسفة إلا على جهة العرض لما فيها على كتاب الله فيؤخذ بما يوافقه ويترك الباقي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

لو كان فهم الخطاب على ظاهر ما خرج ، لكان في قوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) نهى عن العدة بالثنيا ، فإذ لم يفهم هذا ، ولكن فهموا : لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن تقول إن شاء الله ، على إضمار القول ؛ دل أن الخطاب ليس يحمل على ظاهر المخرج ، ولكن على ما توجبه الحكمة والدليل.

ثم نهى أن [يعد] عدة ولا يستثني فيها ، وقاس بعض الناس الأيمان على العدات فيقول : إذا حلف ، فإنه يلزمه أن يستثني فيها ، وذلك فاسد ؛ لأن الأيمان تخرج على تعظيم الرب وإجلاله ، فلا يجوز أن يؤمر بالثنيا فيها ؛ لأن الثنيا نقض ذلك التعظيم ،

١٥٧

وكذلك ما روي : «إذا حلفتم فاحلفوا بالله ولا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت» (١) نهى عن الحلف بغير الله ؛ لما في الحلف به تعظيم لذلك الشيء ، وأما العدة ، فإنما هي إضافة الفعل إلى نفسه ، وهو لا يملك تحقيقه ؛ لذلك أمر أن يلحق الثنيا فيه ؛ لئلا يلحقه الخلف في الوعد إذا لم يفعل ما وعد ، وعلى ذلك ذكر عن الأنبياء أنهم إذا وعدوا استثنوا فيه ؛ كقول موسى : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً ...) الآية [الكهف : ٦٩] ، ثم إذا لم يصبر لم يعاتبه بترك الصبر ، ولو كان خلفا لعاتبه ، كما عاتب موسى حيث قال : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) [الكهف : ٧٢] وقد ظهر من الأنبياء والرسل الأيمان والقسم ، ثم لم يذكر عن أحد منهم الثنيا في ذلك ؛ دل أن الثنيا في العدات لازمة وفي الأيمان لا.

وفي قوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) دلالة ألا يكون شيء إلا بمشيئة الله حيث ندبه إلى الثنيا ، ثم إذا خرج على غير ما وعد لم يلحقه الخلف في الوعد ؛ دل أنه قد شاء ذلك ، وأنه إذا لم يشأ شيئا لم يكن ؛ لأنه لو كان شيئا لم يشأ هو ، أو شاء شيئا فلم يكن ـ لم يكن لقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) معنى إذا كان ما لم يشأ هو ، ولم يكن ما هو شاء ؛ دل أن [ما] شاء هو كان ، وما لم يشأ لم يكن.

وفيه أنه قد شاء كل طاعة وخير من العبد ، فلو لم يشأ ما ليس بطاعة ، لكان لا يستثني ، وقد علم أنه قد شاء ذلك ، فدل ثنياه على أنه قد يشاء ما ليس بطاعة إذا علم أنه يختار ذلك ، وذلك على المعتزلة.

فإن قيل : إنما أمر بالثنيا في العدة ؛ لما لعله سيموت قبل أن يفعل ما وعد ، أو تذهب عنه القدرة فيعجز عما وعد.

قيل : إن الأوهام لا ترجع إلى ذلك ، بل الإمكان مشروط فيه وإن لم يذكر ؛ نحو ما لا يؤمر الإنسان بالطيران ؛ لعدم الإمكان فيه موجودا فهو كالمشروط وإن لم يذكر ، فعلى ذلك في العدات والأيمان وغيرها.

__________________

(١) أخرجه البخاري (١١ / ٥٣٨) كتاب : الأيمان والنذور ، باب : لا تحلفوا بآبائكم ، حديث (٦٦٤٧) ، ومسلم (٣ / ١٢٦٦) كتاب : الأيمان ، باب : النهي عن الحلف بغير الله ، حديث (٢ / ١٦٤٦) ، والترمذي (٤ / ٩٣) كتاب : النذور والأيمان ، باب : ما جاء في كراهية الحلف بغير الله ، حديث (١٥٣٣) ، والنسائي (٧ / ٤) كتاب : الأيمان ، باب : الحلف بالآباء حديث (٢٧٦٦) ، والحميدي (٢ / ٢٨٠) رقم (٦٢٤) ، والطيالسي (١ / ٢٤٦ ـ منحة) رقم (١٢١١) ، وابن الجارود (٩٢٢) ، وأحمد (٢ / ٧ ، ٨) ، وأبو يعلى (٩ / ٣١٤) رقم (٥٤٣٠) ، والطحاوي في مشكل الآثار (١ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥) ، والبيهقي (١٠ / ٢٨) كتاب : الأيمان ، باب : كراهية الحلف بغير الله عزوجل ، كلهم من طريق الزهري عن سالم عن أبيه به مرفوعا.

وقال الترمذي : حديث ابن عمر ، حديث حسن صحيح.

١٥٨

وجائز أن يكون المراد بهذا الخطاب غير النبي ، وهو الأشبه ؛ لما لا يحتمل أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعد عدة ولا يذكر الثنيا ؛ لما يعرف ألا يكون شيء إلا بمشيئة الله وإرادته ، وأما غير النبي فجائز ألا يعرف ذلك ؛ لذلك كان غيره أولى به يخرج منه على التعريف لهم والعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) :

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) أي : إذا ذكرته بعد ما نسيت فاذكره ؛ كقوله : (وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأنعام : ٦٨] فعلى ذلك هذا.

والثاني : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) ، أي : الثنيا في آخر الكلام إذا نسيت أوله ـ أعني : الثنيا ـ إذ المستحب أن يستثني في أول كلامه على التبرك ؛ كقوله : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) [البقرة : ٧٠] استثنوا أولا ثم وعدوا ، فهو المستحب ، فكأنه قال : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ) : الثنيا في آخر كلامك (إِذا نَسِيتَ) في أوله وهو الثنيا ، وهذا يرد على أصحاب الظاهر ؛ لأن ظاهر الكتاب أن يخاطبهم بذكره إذا نسوا ، ولا يجوز أن يخاطب أحدا في حال نسيانه ، فإذ لم يفهم من هذا هذا ، دل أنه لا يفهم على ما خرج ظاهره ، ولكن على ما يصح ويوجب الحكمة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً).

قال بعضهم : أي : قل : عسى أن يهديني ربي لآية هي أوضح على دلالة رسالتي وآخذ مما تسألونني من أمر أصحاب الكهف ؛ لأنهم كانوا : يسألونه عن خبرهم فيستدلون على رسالته وصدقه ؛ فيقول : قد هداني ربي لآية على دلالة رسالتي أوضح مما تسألونني وآخذ للقلوب ؛ إذ كانت له آيات حسيات على رسالته.

وقال الحسن : قوله : (وَقُلْ عَسى) وعسى من الله واجب ، أي : قد هداني ربي الرشد والصواب ، وأما غيره من أهل التأويل يقولون : إنه وعد لأولئك أن يخبرهم غدا عما يسألونه ، وقال : عسى أن يرشدني ربي لأسرع من هذا الميعاد الذي وعدت ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ).

قال بعضهم : هو صلة قول أولئك الذين قالوا : (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ...) الآية ، مع قوله : إنهم لبثوا في كهفهم ما ذكرنا ، فأمره أن يقول لهم : (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ...) الآية.

١٥٩

وقال بعضهم (١) : هو قول الله ، أخبر أنهم لبثوا ما ذكر من المدة ، وازدادوا تسعا ، قال بعضهم : تسع سنين ، لكن ليس فيه بيان أنه أراد تسع سنين أو تسعة أشهر أو تسعة أيام ، فلا ندري أراد بذلك ذا أو ذا (٢)؟ فالأمر فيه إلى الله على ما أمر رسوله أن يقول لهم : (اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

فإن قيل في قوله : (ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ) : ألا قال : ثلاثمائة سنة ، كما يقال : ثلاثمائة رجل وثلاثمائة درهم ونحوه؟

قال بعض أهل الأدب : إنه لم يضف ثلاثمائة إلى سنين ، ولكنه أراد إتمام الكلام بقوله : (ثَلاثَ مِائَةٍ) ؛ لذلك نون فيها ، ثم أخبر ما تلك الثلاثمائة؟ فقال : سنين على القطع من الأول ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا).

هو ما ذكرنا : أنه جعل علم مدة لبثهم في كهفهم إلى الله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

يحتمل هذا وجوها ثلاثة :

أحدها : له علم ما غاب عن أهل السموات وأهل الأرض ؛ كقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).

والثاني : له علم ما غيب وأسر أهل السموات والأرض بعضهم من بعض.

والثالث : له علم غيب ما شاهد أهل السموات وأهل الأرض ؛ لأن فيما شاهدوا من الأشياء وعاينوها غيبا وسرية لم يعلموه ، من نحو الشمس شاهدوها وعرفوا أنها شمس ، ولكن لم يعلموا ما فيها من المعنى الذي به صلاح الأشياء ومنافعها ، وكذلك القمر ، وإنما شاهدوا هذه الأشياء ، ولكن لم يعرفوا المعنى الذي به صارت نافعة للأشياء ومصلحتها ، وكذلك السمع والبصر والعقل ونحوه من الحواس ، عرفوا هذه الحواس على ظواهرها ولكن لا يعرفون المعنى الذي به يسمعون ويبصرون ويفهمون ، فيقول : له علم ما غاب عنكم من هذه الأشياء التي شاهدتموها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ).

هذا كلام يتكلم على النهاية والغاية والإبلاغ من الوصف ، ويقال : أكرم به من فلان ،

__________________

(١) قاله مجاهد ، أخرجه ابن جرير (٢٢٩٩٩ ، ٢٣٠٠٠) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٩٦).

(٢) ينظر : اللباب (١٢ / ٤٦٤)

١٦٠