تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

وقوله ـ عزوجل ـ : (بَيِّناتٍ).

أنها من عند الله جاءت ، وأنها ليست من البشر ، وأنها سماوية.

و (بَيِّناتٍ) ، أي : مبينات ما يبيّن صدق موسى في جميع ما يخبر ، ويقول ، ويبين عدله في حكمه وفعله ؛ لأن في آيات الرسل يحتاج إلى هذا : أن تبين للناس صدقهم في قولهم ، وعدلهم في حكمهم ، [و] أنهم يدعون إلى عبادة الله ، والطاعة له ، وذلك يجب على كل [ذي] عقل وطبع سليم ، فالحاجة إلى الآيات ليست إلا لصدقهم وعدلهم في حكمهم.

ثم اختلف في الآيات :

قال بعضهم : العصا ، واليد ، والحجر ، والطمس ، والخمس التي ذكر في سورة «المص» ، وهو قوله : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ...) [الأعراف : ١٣٣].

وقال بعضهم : الخمس التي ذكر في سورة «المص» ، والعصا ، والموت الذي أرسل عليهم ، واليد البيضاء ، وانفلاق البحر.

وقال بعضهم : إنها الخمس التي ذكر في سورة «المص» ، واليد ، وحل العقدة التي بلسانه ، وفي العصا آيتان.

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ العصا ، واليد ، والسنون ، ونقص من الثمرات.

ثم منهم من يجعل السنين ونقصا من الثمرات آية واحدة ، ومنهم من يجعلهما آيتين ، وكذلك العصا ، منهم من يجعلها آية واحدة ، ومنهم من يجعلها آيتين ، ومنهم من يعد الطمس ، ومنهم من لا يعد.

ونحن نجعل العصا آية واحدة ، والسنين ، ونقصا من الثمرات آية واحدة والطمس آية ، والخمس التي ذكرت في سورة «المص» ، فتكون ثمانيا فتكون التاسعة قوله : (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ) ؛ لأنه قال : لقد علمت أنها آيات ، ولم يكذبه فرعون ، ولم يستقبله بشيء يكذبه في قوله ، وهو ما قال : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) [النمل : ١٤] ، أخبر أنهم جحدوا بها بعد ما استيقنوا أنها آيات ، وحجج ظلما وعلوّا ، وما روى صفوان بن عسال المرادي : أنه قال : إن يهوديين أتيا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألاه عن التسع آيات التي ذكر أنه آتاها موسى فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا ، ولا تسحروا ، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان فيقتله ، ولا تأكلوا الربا ، ولا تقذفوا محصنة ، ولا تفروا من الزحف ، وعليكم خاصّة يا يهوديان ألا تعدوا في السبت» ، قال : فقبلا يديه ،

١٢١

ورجليه ، وقالا : نشهد أنك نبي الله ، فقال ـ عليه‌السلام ـ : «فما يمنعكما أن تسلما؟» قالا : إنا إن أسلمنا يقتلنا اليهود.

فإن ثبت هذا الخبر ، فلا يجوز أن يتعدى إلى غيره من التأويل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ).

يعنى : موسى ، صلوات الله عليه.

قال بعضهم : أمر رسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يسأل بني إسرائيل الآيات التسع التي كانت في كتبهم على التقرير عندهم أنه إنما عرف ذلك بالله ، وأنه رسول ؛ لما علموا أن تلك الآيات في كتبهم بغير لسانه ، وكان لا يخط بيده ، ولا كان اختلف إلى أحد منهم ؛ ليعرف ذلك ؛ فدلّ أنهم علموا أنه إنما عرف ذلك بوحي السماء.

وقال بعضهم : ليس هو على الأمر أن يسألهم ذلك ، ولكن لو سألتهم لأخبروك عنها كقوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ...) الآية [النحل : ٤٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً).

في عقلك ، أي : سحرت ، و «المسحور» : هو المغلوب في العقل.

وقولهم متناقض ؛ لأنهم قالوا مرة : ساحر ، ومرة : مسحور ، فالساحر : هو الذي يبلغ بالبصيرة غايته ، والمسحور : المغلوب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ).

قوله : (عَلِمْتَ) بالنصب والرفع جميعا قد قرئا ، وأمكن أن يكون قال في ابتداء الأمر : قد علمت ما أنزل هذه الآيات إلا رب السموات والأرض ، وقال في آية أخرى لما أقامها عليه (لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ).

ما يبصر بها الحق من الباطل من لم يعاند ، ولم يكابر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً).

قال موسى ـ عليه‌السلام ـ لفرعون : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) ، مقابل ما قال له فرعون ، حيث قال : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً).

قال بعضهم : «مثبورا» : هالكا.

[و] قيل : ملعونا.

وقال بعضهم : مبدلا.

ويحتمل قوله : (لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) أي : تدعو على نفسك بالثبور ، وهو الهلاك كقوله : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) [الفرقان ١٣] أي : هلاكا.

١٢٢

والظن يكون في موضع الظن ، ويكون في موضع العلم.

وقوله ـ عزوجل (فَأَرادَ) يعني : فرعون.

(أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ).

قال أهل التأويل : أراد أن يخرجهم ، ويستخفهم (مِنَ الْأَرْضِ) أي : من أرض مصر ، لكنهم قد كانوا خرجوا طائعين قبل أن يخرجهم من حيث أمر موسى بإخراجهم ، بقوله : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) الآية [الشعراء : ٥٢] ؛ فيكون تأويل قوله : فأراد أن يخرجهم من الأرض بالقتل والهلاك من الدنيا ؛ ألا ترى أنه قال : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) [الأعراف : ١٣٧] ، أراد : من مشارق الأرض ، وإلا قد كانوا هم قد خرجوا من أرضه على ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً).

هو ما قال في آية أخرى : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً ...) الآية [يونس : ٩٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي : بعد هلاك فرعون لبني إسرائيل (اسْكُنُوا الْأَرْضَ).

اختلف فيه :

قال بعضهم : قوله (اسْكُنُوا الْأَرْضَ) : أرض مصر التي كان يسكن فرعون ، وهو كقوله : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ) [الأحزاب : ٢٧].

وقال بعضهم : اسكنوا الأرض : أرض الشام ، والأرض المقدسة ؛ كقوله : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ...) [المائدة : ٢١].

وقال بعضهم : (اسْكُنُوا الْأَرْضَ) ليس في أرض دون أرض ، ولكن اسكنوا أي أرض شئتم ، مشارقها ومغاربها ، آمنين لا خوف عليكم على ما أرادوا أن يخرجوكم من مشارق الأرض ومغاربها بالقتل كقوله : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا ...) الآية ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه.

وعلى هذا قال في قوله : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) بعث عيسى بن مريم (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي : جميعا مجتمعين من مشارق الأرض ومغاربها على ما تفرقوا.

وقال بعضهم : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) يعني : حياة عيسى ، ونزوله من السماء (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي : جميعا بانتزاع من القرى هاهنا ، وهاهنا لفوا جميعا ، وهو مثل الأوّل.

وأمّا عامة أهل التأويل فإنهم قالوا : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) : يوم القيامة (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) أي : جميعا أنتم وفرعون وجنوده حتى يروا كراماتكم التي أكرمتم بها ويروا هوانهم.

١٢٣

قوله تعالى : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)(١٠٩)

وقوله عزوجل : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ).

قال الحسن : إن في القرآن حكما وأنباء وحكمه عدل وأنباؤه صدق وحق ، وهو كقوله : (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً) [الأنعام : ١١٥] : [(صِدْقاً)] : ما فيه من الأنباء ، و (وَعَدْلاً) ما فيه من الحكم ، فبذلك الحق الذي فيه من الحكم العدل والأنباء الصدق أنزله.

ويقال : الصدق في الأخبار والأنباء ، والعدل في الأحكام والحق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ).

أى : بذلك الحق الذي به دام وقرّ فيكم ، أو كلام نحو هذا.

ويحتمل قوله : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ) أي : بالحق [الذى لله على عباده أنزله ، وبالحق](١) الذي لبعضهم على بعض.

(وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) ، أي : بذلك الحق الذي لله على خلقه دام واستقر [و] بالحق الذي لبعضهم على بعض ثبت واستقر.

وأصله أن قوله : وبالحق أنزلناه وبالحق الذي نزل الحق : اسم كل محبوب ومحمود ، والباطل : اسم كل مكروه ومذموم ، فمن اتبعه صار محبوبا محمودا ، ومن خالفه ، وترك اتباعه صار مذموما ، أو أن يكون قوله : (وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) أي : لم يأته التغيير والتبديل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً).

أخبر أنه لم يرسله إلا للبشارة والنذارة ، لكن هذا في حق الرسالة لم يرسله إلا لهذين اللذين ذكروا ؛ لأنه قد كان امتحنه في نفسه بمحن كثيرة فلم يكن في جميع الأوقات مشغولا بهذين خاصّة ، لكنه في حق الرسالة لم يرسله إلا لبشارة ونذارة ، أي : لم يرسلك حافظا ، ولا وكيلا ، ولا مسلطا عليهم ، بل أرسلك لتبليغ الرسالة إليهم ، ثم البشارة

__________________

(١) سقط في أ.

١٢٤

والنذارة ؛ وهما أمران يكونان في عواقب الأمور البشارة تكون عاقبة كل محبوب ومحمود ، والنذارة عاقبة كل فعل مكروه ومذموم.

ثم لقائل أن يقول في قوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) البشارة : لمن أجابه فيما أمره به ودعاه إليه ، والنذارة : لمن ارتكب ما نهى عنه ، فكيف لا دلّ هذا على أن النهي يوجب الحظر والتحريم ، حيث ألحقه النذارة بارتكاب ما نهى عنه؟

قيل : إن النذارة : عاقبة كل مكروه ومذموم ، والبشارة : عاقبة كل محبوب ومحمود ، فيكون ذلك في الآداب وغيرها ، ولأن الرسل لم يبعثوا إلا لتغيير مناكير وفواحش ظهرت في الخلق وغيره من الفواحش والمناكير ، لم يبعثوا لصغائر ظهرت فيهم ، ثم دخل الصغائر والآداب فيما أرسل تبعا ، وإلا كان سبب إرسالهم الكبائر والفواحش ، فإذا كان ما ذكرنا ، كان في النهي نهي أدب ، ونهي حتم وحكم.

وبعد فإن الله ـ تعالى ـ قد أخبر أنه قد يعفو عن كثير من السيئات وما عفي عنه ، لم يلحق فيه النذارة والوعيد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ).

بالتخفيف والتثقيل (فَرَقْناهُ).

قال بعضهم : (فَرَقْناهُ) بالتخفيف ، أي : أحكمناه ، وثبتناه ؛ حتى لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه.

وقال بعضهم : فرقناه ، وقطعناه في الإنزال سورة فسورة ، وآية فآية على ما أنزل.

(لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ).

فهو. والله أعلم. لوجوه :

أحدها : ما ذكر [في] قوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ ...) ، أخبر ـ عزوجل ـ أنه إنما أنزله بالتفاريق ؛ ليثبت به فؤادك ؛ لأن ذلك أثبت في القلب وأيسر في الحفظ.

والثاني : أنزله بالتفاريق على قدر النوازل ؛ لتتجدد لهم البصيرة ، وتزداد لهم الحجة بعد الحجة ، ولو كان جملة لم يكن ليتجدد لهم ذلك ، ولا تزداد لهم البصيرة.

أو أن يكون أنزله بالتفاريق للتنبيه ؛ لينبههم في كل وقت ، ويعظهم في كل حال ؛ إذ ذلك أنبه لهم ، وأوعظ من أن يكون منزلا جملة واحدة ، ألا ترى أن الآية إذا دامت تكون في التنبيه أقل ، وإذا كانت متقطعة في الأوقات ، كانت أخوف وأنبه ، نحو كسوف الشمس بالليل ، صار بالدوام غير مخوف ، ولا منبه لهم للدوام ، وكسوفها بالنهار ، صار تنبيها ؛

١٢٥

للانقطاع ؛ على ذلك الأوّل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) ظاهر هذا خرج على التخيير ، لكن المراد منه يخرج على حتم المواعظ ، وتأكيد الوعيد ، وتغليظه ، وكذلك قوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] ، ظاهره على التخيير [لكن الحكماء](١) لم يفهموا منه على ما خرج ظاهره ، لكن فهموا منه تأكيد الوعيد وحتم الوعظ ، وهكذا المعروف في الشاهد أن إنسانا لو أمر آخر بأمره ووعظه مرارا فلم ينجع فيه ، يقول له : إن شئت فافعل ، وإن شئت لم تفعل على ما لو فعلت ، أو لم تفعل فإنما ضرر ذلك عليك إن تركته ، ونفعه يرجع إليك لو فعلت ؛ فعلى ذلك قوله : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فلا ضرر علينا في ترككم الإيمان به ، ولا يرجع نفعه إلينا لو آمنتم به ، إنما نفعه لكم وضرره عليكم إن شئتم فعلتم وإن شئتم لم تفعلوا ، فهو كقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] ، وكقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ...) الآية [فصلت : ٤٦] ، ونحو ذلك مما يخبر ؛ إذ كل من عمل خيرا فلنفسه عمل ، ومن عمل شرّا فعلى نفسه ضرر ذلك ؛ فهذا ينقض على أصحاب الظواهر ، حيث قالوا : يفهم من الخطاب ظاهره لا يتعدى عن ظاهره ، حيث لم يجب أن يفهم من قوله : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) التخيير ، لكن فهموا الوعيد الوكيد الغليظ ، وحتم المواعظ.

فإن قيل : ما الحكمة في لزوم الأمر وافتراضه ، إذا كان ما يأمرنا وينهانا لمنافع أنفسنا ولضرر على أنفسنا ، ومن لم يعمل في الشاهد لنفسه ، ولا سعى لنفع نفسه ، فلا لائمة عليه ، ولا مؤاخذة.

قيل : في الحكمة أن يفرض علينا السعي في فكاك أنفسنا ، ودفع الهلاك عن أنفسنا ، وفي أمره إيانا أمر بالسعي في فكاك أنفسنا ، ودفع الهلاك عنها ، وحاصل أمره ونهيه يكون المنفعة لنا لا له ، وكذلك الضرر ، وعلى ذلك يخرج قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ ...) الآية [هود : ١٠١] ، وعلى ذلك يخرج دعاء آدم وغيره : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...) الآية [الأعراف : ٢٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً).

وهذا أيضا ينقض على أصحاب الظواهر ؛ لأنه لا كل من أوتي العلم منهم يخرّ للأذقان على ما خرج ظاهره ، فدلّ أن الاعتقاد ليس بالظاهر على ما قرع السمع ، ولكن على ما توجبه الحكمة.

ثم قوله : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : إن الذين أوتوا منفعة العلم يخرّون للأذقان سجدا.

__________________

(١) سقط في أ.

١٢٦

ثم يحتمل قوله : (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً) على التمثيل ، ليس على حقيقة السجود ، ولكن على الانقياد لما سمعوا ، والخضوع له ، والذلة ؛ على ما ذكرنا من التمثيل في قوله : (انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤] ليس على حقيقة الانقلاب على الأعقاب ، ولكن على التمثيل للرجوع وترك العمل ، فعلى ذلك الأول ، وكقوله : (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) [البقرة : ١٠١] على ترك العمل به.

ويحتمل : أن يكون السجود كناية عن الصلاة ، أي : يصلون لله.

ويحتمل أن يكون على حقيقة السجود ، خروا لله سجدا إذا تتلى عليهم آيات الله وحججه ، وهو كسجود سحرة فرعون حين عاينوا آيات الله ، وحججه ، وهو كقوله : (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) [الأعراف : ١٢٠] ، فعلى ذلك يحتمل سجود هؤلاء ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا) عما قالت الملاحدة فيه.

(إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً) أي : قد كان موعود ربنا لمفعولا وكذلك قوله : (أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) [الأحزاب : ٣٧] ، (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) [الأحزاب : ٣٨] أي : كان ما يأمر الله كائنا ومفعولا أي : قد كان ما يأمر ووعده مفعولا وهو ما ذكرنا «كان وعد الله مفعولا».

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ).

فإن كان التأويل من السجود : الصلاة ، ففيه دليل لقول أبي حنيفة ـ رحمه‌الله ـ : إن المصلي إذا بكى في صلاته ؛ خوفا على نفسه ، وإشفاقا أو سرورا على ما أنعم الله عليه وأكرمه به ، لم تفسد صلاته ، وإذا كان البكاء للتسلي مما حل به من الشدائد والبلايا تفسد صلاته ، وأصله : أن البكاء إذا كان لله فهو لا يفسد الصلاة ، وإذا كان للدنيا أو لحاجة نفسه فهو يفسد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً).

أي : يزيد ما يتلى عليهم من القرآن خشوعا وخضوعا لهم أو للآيات.

وقال الحسن : الخشوع : هو الخوف الدائم [في القلب](١).

قوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)(١١١)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى).

__________________

(١) سقط في أ.

١٢٧

ذكر هذا ـ والله أعلم ـ لأن العرب كانت لا تعرف الرسل والكتب المنزلة من السماء ولا يؤمنون بهما ، وكانت لا تعرف ذكر الرحمن ولا التسمية (١) به وكذلك غيره من الأسماء ، لما لا سبيل إلى معرفة ذلك إلا بألسن الرسل والأنبياء ، وإما بالكتب المنزلة من السماء ، فإذا لم يؤمنوا بالرسل ، ولا عرفوا الكتب ، حملهم ذلك على الإنكار والجحود لأسمائه ، ولذلك قالوا : (وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠] وقوله : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) [الرعد : ٣٠] أي : يكفرون بذكر الرحمن واسمه ؛ لما ذكرنا.

أو أن يكونوا أنكروا اسم الرحمن ؛ لما لم يعرفوا أنه مأخوذ من الرحمة ، [ولو عرفوا : أنه من الرحمة ما أنكروا ؛ على ما لم ينكروا «الرّحيم» ؛ لأنهم عرفوا أن الرحيم مأخوذ من الرحمة](٢) وأما الله فهم يسمون كل معبود إلها ، وعلى ذلك سموا الأصنام التي كانوا يعبدونها : آلهة ، ويقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، فيسمون الله لما هو المعبود عندهم ، ورجعت عبادتهم الأصنام إلى الله ؛ حيث زعموا (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ، كانوا يطلبون بعبادتهم الأصنام القربة إلى الله ؛ لذلك أنكروا غيره من الأسماء ؛ على أن العرب لم ينكروا لشىء واحد اسمين وأكثر ، وعرفوا أن اختلاف الأسماء ، وكثرتها لا يوجب اختلاف المسمى بها ، ولا يوجب عددا منه ، وأن ما قالوا : إنه كان يدعو حتى الآن إلى عبادة واحد ، فالساعة يدعو إلى عبادة اثنين وأكثر ، إنما قالوا على التعنت والعناد ، وإلا قد عرفوا لشىء واحد اسمين وأكثر ، لكنهم أنكروا لله ذلك ؛ لما ذكرنا ؛ تعنتا منهم ، وعنادا ، على هذا يجوز أن ـ تتأوّل الآية ـ والله أعلم.

ثم اختلف في تخصيص ذكره بهذين الاسمين :

قال بعضهم : وجه تخصيصهما ؛ لأنهما اسمان مخصوصان له ، لا يجوز أن يسمى غيره بهذين الاسمين ، وأما غيرهما من الأسماء فإنه يجوز أن يسمى غيره بها.

وقال الحسن : خصّ بذكرهما ؛ لأنهما اسمان معظمان عند الخلق ما لم يجعل لغيرهما من الأسماء من التعظيم ما جعل لهذين.

وقال أبو بكر الأصم : خص بذكر هذين ؛ لأن غيرهما من الأسماء أسماء أخذت عن صفاته ، وأما هذان فهما ليسا أخذا عن صفته.

__________________

(١) في أ : الثقة.

(٢) سقط في أ.

١٢٨

وقال الزجاج (١) : الرحمن : هو مأخوذ من الرحمة إلا أنه النهاية في الرحمة ؛ لأنه «فعلان» ، وهو ما يقال : غضبان ، إذا انتهى غضبه غايته ، وإلا قوله : «الرحيم» و «الرحمن» كلاهما من الرحمة إلا أن الرحمن «فعلان» والفعلان هو النهاية من وصف الرحمة ؛ لما ذكرنا ، وغيره من الخلائق لا يبلغون في الرحمة ذلك المبلغ ؛ لذلك خصّ بذكر «الرحمن» دون «الرحيم».

وهذا كله واحد ليس فيه خلاف ، وأصله ما ذكرنا لا يشرك غيره في هذين ، ويجوز في غيره.

وقوله عزوجل : (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي : أسماؤه التي يسمى بها كلها الحسنى ، ليس شيء منها قبيحا.

أو أن يكون قوله : (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) أي : كل أعمال صالحة ، وأمور حسنة له ، أي : تنسب إليه ، وتضاف ، ولا يجوز أن يضاف وينسب ما قبح منها ، وسمج ، وأصله : ما ذكرنا [أنه ينسب إليه](٢) كل حسن ، وكل صالح على الإشارة [ولا يجوز أن ينسب إليه كل قبيح سمج على الإشارة](٣) والتسمية به ، وهو ما يذكر : «التحيات لله ، والصلوات والطيبات ...» إلى آخره ، ينسب إليه كل طيب ، وكل حسن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : له أسماء حسنة يسمى بها.

والثاني : أن كل حسن يسمى به غيره فهو راجع إليه في الحقيقة ، وهو مسمى به ، وكل حسن منسوب إليه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) ، اختلف أهل التأويل في ذلك :

قال بعضهم : قوله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) أي : لا تجعل صلاتك في مكان غيظا للمشركين (وَلا تُخافِتْ بِها) ، أي : ولا تسر عن أصحابك فتخفى عنهم ، لكن ابتغ بين ذلك سبيلا.

وقال بعضهم : لا تجعل كل صلواتك في جماعة ، ولا تخافت بها ، ولا كلها في غير

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن وإعرابه (٣ / ٢٦٤).

(٢) في أ : إليه ينسب.

(٣) سقط في أ.

١٢٩

جماعة.

(وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) ، ولكن اجعل بعضها بالجماعة ، وبعضها لا بالجماعة.

وقال بعضهم : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) ، أي : لا تجاوز الحد في الأمور والأعمال التي أمرتك بها ، ولا تقصرها عن الحدّ الذي حددت لك فيها ، ولكن ابتغ بين ذلك سبيلا.

وقال بعضهم (١) : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ) مراءاة للناس ، (وَلا تُخافِتْ بِها) أي : ولا تعجب بها للإخفاء.

وجائز أن يكون قوله : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء : ١١٠] أي : لا تجهر بجميع الأذكار التي في الصلاة أو بجميع القراءات التي فيها ولا تخافت بالكل ، ولكن بعضها بالجهر وبعضها بالمخافتة.

وقال بعضهم (٢) : إنه كان يجهر في صلاته بحيث يسمعه المشركون فيؤذونه ، فأمره ألا يجهر بها لئلا يؤذوه ، ولا يخافت كل المخافتة ، فيسمع أصحابك فيأخذوا قراءتك.

وقال بعضهم (٣) : ذلك في الدعاء إلى الله وتوحيده في حق التبليغ ، والمسألة وأمثاله ، ولكن لا يجوز أن يقطع التأويل في هذا وأمثاله ، فيقال : إنه كان كذا إلا بخبر منه ثابت ؛ لأن الخطاب به خطاب له ، فقطع التأويل فيه والقول على شيء واحد شهادة على الله وعلى رسوله ، ولا تحل الشهادة على الله ، ولا على رسوله إلا بالإحاطة أنه أراد ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ).

ذكر في هذه الآية جميع ما يقع به الحاجة إلى التوحيد ؛ لأن من نفى التوحيد وأنكره إنما نفى لأحد الوجوه التي ذكر :

منهم من قال له بالولد ، وهم اليهود والنصارى.

ومنهم من قال بالشريك ، وهم مشركو العرب.

ومنهم من قال له بالولي والعون من الذل وهم الثنوية وغيرها حيث قالوا : أنشأ هذا النور ؛ ليستعين به على التخلص من ويلات الظلمة فنزّه نفسه ، وبرّأها عن جميع ما قالوا

__________________

(١) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٨٤٦) وعن الحسن (٢٢٨٤٢ ـ ٢٢٨٤٥).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٢٨٢٥ ـ ٢٢٨٢٦) ، وابن إسحاق ، والطبراني ، وابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٧٤) ، وهو قول الضحاك ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وغيرهم.

(٣) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير (٢٢٨٠٩) ، وابن أبي شيبة ، وابن منيع ، ومحمد بن نصر ، وابن المنذر ، وابن مردويه عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٧٥) ، وهو قول عائشة وعطاء ومجاهد وغيرهم.

١٣٠

فيه ونسبوا إليه ؛ لأن الولد في الشاهد إنما يطلب ، إمّا للتسلي ، وإمّا للاستئناس والله يتعالى عن أن يقع له الحاجة إلى ذلك ، ويتعالى عن أن يكون له شريك لأن الشركاء في الشاهد ؛ إنما تتّخذ للمعونة ، والتقوي بهم على بعض ما لهم ، وما هم فيه ، والولي من الذل إنما [يتخذ] في الشاهد ؛ للاستنصار والاستعانة على أعدائه ، والله يتعالى عن أن تقع له الحاجة إلى شيء من ذلك فنفى عنه جميع معاني الخلق وجميع ما ينسب إليهم ويضاف ويصفون به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) :

أي : صفه بما وصف نفسه ، وانف عنه جميع معاني الخلق فيكون في ذلك تعظيمه وتكبيره.

أو يقول : اعرفه بما ذكر ، فإذا عرف هكذا فقد عظمته وكبرته.

والولد في الشاهد إنما يتخذ ، ويطلب لوجوه :

أحدها : للتسلي به والاستئناس عن وحشة.

أو لحاجة تمسّه فيستعين به على قضائها.

أو لذل يخافه من عدوّ له فيستنصر به عليه ، والله يتعالى عن أن يصيبه شيء من ذلك.

وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ) :

أي : لم يتخذ الأولياء ؛ ليستعزز بهم من الذل ، بل إنما اتخذ أولياء رحمة منه ، وفضلا ؛ ليتعززوا هم بذلك ويكونوا عظماء ، وذكر : (لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) وقد خلق الأولاد للخلق ؛ ليعلم أن ليس في خلق الشيء ما يصلح أن يتخذ لنفسه.

وقوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) ولو كان على ما تقوله المعتزلة ، لكان له شريك في الملك على قولهم ؛ لأنهم يقولون : إن الله لم يرد لأحد من الكفرة الملك لهم وإنما أراد لأوليائه ؛ فعلى قولهم صار الفراعنة شركاء له في الملك حيث لم يكن ما أراد هو وكان ما أرادوا هم ، والله أعلم والحمد لله رب العالمين.

* * *

١٣١

سورة الكهف مكية

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً)(٨)

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) :

تأويل الحمد هاهنا وفي أمثاله ـ والله أعلم ـ أي : حق الحمد للذي منه وصلت إلى كل أحد نعمة أي : أنها وصلت على أيدي من وصلت إلى كل من وصلت فإن حق الحمد والثناء له في تلك النعمة وإن حمد من دونه ؛ إذ منه ذلك ، لا من الذي وصلت على يده ، وأن الذي وصلت على يديه كالمستعمل له ؛ فحق الحمد والثناء له لا من دونه.

أو أن يكون قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أي : قولوا : له الحمد والثناء ؛ لأنه في جميع ما ذكر الحمد له ألحق به شيئا : إمّا قدرته وسلطانه ، وإما نعمه التي أنعم على الخلق كقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ...) الآية [الأنعام : ١].

و (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية [فاطر : ١] و (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) [الإسراء : ١١١].

وقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) ونحوه.

ما ذكر الحمد لنفسه والثناء إلا ذكر على أثره ما قدرته وسلطانه.

وأما نعمه ، فما كان المذكور على أثره النعمة فهو يستأدي به شكره وحمده.

وإن كان الملحق به القدرة والسلطان فيخرج القول منه مخرج الأمر بالتعظيم له والهيبة والإجلال ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً) أي : لم يجعله عوجا ، ويجوز زيادة اللام في مثله ؛ كقوله : (رَدِفَ لَكُمْ) [النمل : ٧٢] ، وردفكم ؛ هذا جائز في اللغة ثم قوله : (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً) أي : لم يجعله عوجا ، وهو يخرج على وجهين :

١٣٢

أحدهما : على التقديم والتأخير على ما قاله أهل التأويل ، أي : أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعله عوجا.

والثاني : على زيادة (بل) كأنه قال : (أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا بل جعله قيما) ؛ على أحد هذين الوجهين يخرج والله أعلم.

ثم قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً) إذا لم يكن عوجا كان قيما ، وإذا كان قيما كان غير عوج ، في كل واحد من الحرفين معنى الآخر ، إلا أن من عادة العرب تكرار الكلام وإعادته على التأكيد ، كقوله : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) [النساء : ٢٥] وإذا كن مسافحات لم يكن محصنات ، حرفان مؤديان معنى واحدا ، إلا أنه كرّر ، لما ذكرنا [أن] من عادة العرب التكرار ، وكذلك ما ذكر : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) البأس : هو الشديد ، والشديد هو البأس ، هما واحد ، فعلى ذلك الأول.

ثم اختلف في قوله (قَيِّماً) قال بعضهم :

القيم : هو الشاهد ، أي : القيم على الكتب المتقدمة ، والشاهد عليها في الزيادة والنقصان ، وفي التغيير والتحريف يبين ما زادوا فيها ، وما نقصوا وما حرفوه ، وما غيروه ، كقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ...) الآية [البقرة : ٧٩]. وقوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [النساء : ٤٦]. وقوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً ...) الآية [آل عمران : ٧٨] كانوا يحرفون نظمه ورصفه ، ومنهم من كان يحرف أحكامه وشرائعه ؛ فهذا القرآن شاهد ، وقيم في بيان ما فعلوا.

وقال بعضهم قوله : (قَيِّماً) أي : ثابتا قائما أبدا لا يبدّل ، ولا يغير ، ولا ينسخ ولا يزداد ، ولا ينقص ، وهو على ما وصفه (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ ...) الآية [فصلت : ٤٢]. وهو على ما وصف الحق بالثبات والقيام والباطل بالذهاب والتلاشي (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ ...) الآية [الرعد : ١٧] وما وصف الكلمة الطيبة بالثبات والقيام لها ، والخبيثة بالزوال والتغيير والذهاب فعلى ذلك هذا القرآن ، لأنه حق.

وقال بعضهم (١) : (قَيِّماً) ، أي : مستقيما ، وتأويل المستقيم : المستوي الموافق ، أي : يصدق بعضه بعضا ، ويوافق أوله آخره ، وآخره أوله ، أي : لم يخرج مختلفا ، وهو على ما قال : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ، ولو كان من عند غير الله على ما قال أولئك الكفرة ، لكان خرج مختلفا متناقضا ، ينقض أوله

__________________

(١) قاله الضحاك أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٨٢).

١٣٣

آخره ، وآخره أوله ، فإذ لم يكن دل أنه من عند الله نزل ، ولو كان على ما يقولون أصحاب العموم والظاهر أيضا لم يكن قيما ولا مستقيما ، بل يخرج مختلفا متناقضا ؛ لأنهم يعتقدون على العموم والظاهر ، ثم يخصّون بدليل ، فهو مختلف ، وأصله قيم بالحجج والبراهين على أي تأويل كان ، وبالله التوفيق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) :

أي : أنزله على عبده ، لينذركم بأسا شديدا ، أي : لينذر ببأس شديد ، والبأس : العذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ لَدُنْهُ).

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أنزل على عبده الكتاب من لدنه ، أي : من عنده.

والثاني : لينذركم الكفار بأسا شديدا ينزل من عنده ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ).

فيه دلالة : أنه قد يكون المؤمنون يستحقون اسم الإيمان ، وإن لم يعملوا الصالحات ، حيث ذكر المؤمنين ، ثم ذكر الأعمال الصالحات ، خص المؤمنين بعمل الصالحات ، لكن البشارة المطلقة إنما تكون للمؤمنين الذين عملوا الصالحات ؛ لأنه لم يذكر البشارة المطلقة في جميع القرآن إلا للمؤمنين الذين عملوا الصالحات ، ثم المؤمنون الذين عملوا غير الصالحات في مشيئة الله : إن شاء عفا عنهم ، وإن شاء عذبهم بقدر عملهم الذي كانوا عملوا ، وإن شاء قابل سيئاتهم بحسناتهم فإن فضلت حسناتهم على سيئاتهم ، بدل سيئاتهم حسنات على ما أخبر : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ...) [الفرقان : ٧٠] هم في مشيئة الله على ما ذكر ، وليست لهم البشارة المطلقة التي للمؤمنين الذين عملوا الصالحات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) :

لا سوء فيه ولا قبح.

وقوله : (أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً) دون قوله : (... لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) [الأحزاب : ٤٤] ، (كَبِيراً) [الإسراء : ٩] في الذكر لكنه صار مثله بقوله : (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) لا يخرجون منه أبدا ، وهم مقيمون فيه.

ثم يحتمل وجهين :

أحدهما : (ماكِثِينَ فِيهِ) ، أي : لا تأخذهم سآمة ولا ملالة فيه ؛ فيريدون التحول منه إلى غير ؛ على ما يكون في الشاهد : أنه يسأم المرء ويمل من طعام ـ وإن كان رفيعا ـ

١٣٤

ويرغب فيما دونه ، وهو ما قال : (خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً).

والثاني : (ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً) ؛ لأن خوف الخروج والزوال عن النعمة ينقص النعمة على صاحبها ، وهو ما قال (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) [النساء : ٥٧] ؛ وقال : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ٦٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً. ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) :

هذا يحتمل وجهين :

أحدهما : أي : يعلمون أنه لم يتخذ ولدا ، ولكن يقولون ذلك على العلم منهم كذبا وزورا ؛ كقوله : (وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ. تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ) [غافر : ٤١ ، ٤٢] أي : أشرك ما أعلم منه : ليس هو لشريك له ، وكقوله : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ) [يونس : ١٨] ، أي : أتنبئون الله بما لا يعلم أنه ليس على ما تقولون.

والثاني : يحتمل قوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ) ، أي : عن جهلهم يقولون ما يقولون من الولد والشريك لا عن علم ؛ تقليدا لآبائهم ؛ لأنهم ليسوا بأهل كتاب يعرفون به ، ولا كانوا يؤمنون بالرسل ، وأسباب العلم هذان : الكتاب والرسل ، فما قالوا إنما قالوا عن جهل لا عن علم ، وكذلك آباؤهم ، فإن كان على هذا ، ففيه دلالة أن من قال شيئا عن جهل فإنه يؤاخذ به حيث قال : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا ...) الآية.

وقوله ـ عزوجل ـ : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ).

أي : كبرت وعظمت تلك الكلمة التي قالوها على من عرف الله حق المعرفة حتى كادت السموات والأرض أن تنشق ؛ لعظم ما قالوا في الله كقوله : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ...) الآية [مريم : ٩٠].

وقوله : (إِنْ يَقُولُونَ) :

أي : ما يقولون إلا كذبا ، ثم تكلم أهل الأدب في نصب (كَلِمَةً).

قال بعضهم : انتصب على المصدر ، أي : كبرت كلمتهم التي قالوها كلمة ؛ كقوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤].

وقال قطرب : هو على الوصف ؛ كما يقال : بئس رجلا ، ونعم رجلا ؛ على الوصف به ، وذلك جائز في اللغة فعلى ذلك هذا.

وقال الخليل : إنما انتصب ، لأنها نعت لاسم مضمر معرفة ، وهو بمنزلة قوله : (ساءَ مَثَلاً) [الأعراف : ١٧٧] وإنما كان نعتا لاسم مضمر ؛ لأنه قال : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا

١٣٥

اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) ، فهذا القول هو فرية ، فتأويله : كبرت الفرية كلمة.

وقد قيل : كبرت المقالة كلمة ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) :

أي : كبرت [كلمة] : تكلموا بها.

أو يقول : كبرت كلمة تتكلمونها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا).

وقال في آية أخرى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣] ، أخبر أنه فاعل ما ذكر ، ولم يقل له ، افعل أو لا تفعل في هذا ، فيشبه أن يكون النهي ما ذكر في آية أخرى ، وهو قوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ؛ ولهذا قال بعض الناس : إن في قوله : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ). نهيا عن الحزن عليهم (١).

وعندنا : ليس يخرج على النهي ، ولكن على التسلي والسلوة.

ثم اختلف في قوله : (إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً) : فى الأسف.

قال بعضهم (٢) : الأسف : هو النهاية في الغضب ؛ كقوله : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الزخرف : ٥٥] قال أهل التأويل : (آسَفُونا) أغضبونا.

وقال بعضهم (٣) : الأسف : هو النهاية في الحزن ، كقوله : (يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ) ، أي : يا حزنى.

ويحتمل أن يكون منه الحزن ؛ إشفاقا عليهم أن تتلف أنفسهم في النار بتركهم الإيمان ، أو كانت نفسه تغضب عليهم ؛ بتركهم الإجابة ، والقول في الله سبحانه على ما قالوا فيه ، وكلاهما يجوزان ، إذا كان ذلك لله كادت نفسه أن تتلف حزنا عليهم ؛ إشفاقا منهم ، أو كادت تتلف غضبا عليهم ، وفيه دلالة أنه لم يكن يقاتل الكفرة ، للقتل والتلف ، ولكن كان يقاتلهم ؛ ليسلموا حيث كادت نفسه تتلف ؛ إشفاقا عليهم منه ؛ فلا يحتمل أن يكون يقاتلهم للقتل وفي القتل ترك الشفقة ، ولكن كان يقاتلهم ، ليضطرهم القتال إلى الإسلام ، فيسلموا فلا يهلكوا ، وفيه تذكير للمسلمين وتنبيه لهم من وجهين :

أحدهما : ما أخبر عن عظيم محل الذنوب في قلبه ، فلعل ذلك يؤذيه ، فيلحقهم

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٢ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥).

(٢) قاله قتادة بنحوه أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٨٧٠).

(٣) قاله قتادة بنحوه أخرجه ابن جرير (٢٢٨٧٣) وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٨٢).

١٣٦

اللعن ؛ كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ ...) الآية [الأحزاب : ٥٧] وفي ذلك زجر عن ارتكاب ما يسوءه ، ويؤذيه.

والثاني : تعليم منه لأمته : أن كيف يعامل الكفرة وأهل المناكير منهم ، يقاتلون في الظاهر ، ويضمرون الشفقة لهم في القلب على ما فعل بهم رسول الله ، وعاملهم.

وقوله : (بِهذَا الْحَدِيثِ) سمى القرآن : حديثا ، وهو ما قال : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ...) [الزمر : ٢٣] سماه بأسام : قصصا ، وحديثا ، وذكرا ، وروحا ، وأمثاله.

والنهاية في الحزن والغضب للأنبياء ، أنفسهم تقوم لهذين ، وأما غيرهم من الخلائق ، فلا تحتمل أنفسهم إلا لأحدهما إذا كان الحزن ؛ ذهب الغضب وإذا جاء الغضب ذهب الحزن ؛ فالأنبياء هم المخصوصون بهذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها) :

اختلف فيما أخبر أنه جعل للأرض زينة :

قال بعضهم (١) : كل ما على وجه الأرض من النبات والشجر والإنسان وغيره هو زينة لها (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، فإن كان التأويل على هذا فيكون قوله : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) القيامة ، يعني : جميع ما على وجه الأرض فتبقى قاعا صفصفا ، وذلك إخبار عن القيامة.

وقال بعضهم : (زِينَةً لَها) : هو النبات الذي عليها ، وما جعل لهم من الرزق ؛ ليبلوهم بما جعل لهم من الأرزاق بالأمر والنهي والعبادات وغيره ، لم يجعل ذلك النبات عليها وتلك الأرزاق مجانا ، ولكن ليختبرهم ويبتليهم بأنواع الامتحان ، فإذا كان كذلك ففيه دلالة : أن ليس لأحد أن يتناول مما عليها إلا بإذن ، ولا يقدم على شيء منها إلا بأمر من أربابها.

وقال أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان : زينة لها : أهلها ، جعل ذلك ، ليبلوهم ، ذكر هاهنا : أنه جعل ما على الأرض ؛ ليبلوهم أيهم أحسن عملا.

وقال في آية أخرى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك : ٢] ثم من الناس من يجمع بين الآيتين ، فيقول : جعل الحياة للابتلاء والموت للجزاء ؛ فيستدل على ذلك بقوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

أخبر : أنه يبلوهم بالزينة والحياة لا بالضيق والموات.

__________________

(١) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير (٢٢٨٧٥ ـ ٢٢٨٧٦) ، وابن أبي شيبة ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٨٣).

١٣٧

ومنهم من يقول : امتحنهم بهما جميعا بالحياة ؛ ليتزودوا فيها لما بعد الموت ؛ كما يتزود في حال السعة والرخاء لحال الضيق والشدة فمن لم يتزود في حال السعة فلا زاد له في حال الضيق ؛ فعلى ذلك من لم يتزود في الحياة فلا زاد له بعد الموت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) :

أي : نبتليهم ونختبرهم أيضا بذهاب النبات والأنزال وتأويله : أن يبتليهم بالرخاء والسعة وبالضيق والشدة ، كقوله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء : ٣٥] ، وقوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ...) الآية [البقرة : ١٥٥]. وقوله : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ) [الأعراف : ١٦٨] ونحوه ، فعلى ذلك قوله : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً) والله أعلم.

أي : نبتليهم بالسعة والرخاء والضيق والشدة.

وقال القتبي (١) : (باخِعٌ نَفْسَكَ) ، أي : مهلك نفسك.

وقال أبو عوسجة : (باخِعٌ) : بخع نفسه ، أي : أخرجها.

وقالا جميعا : الأسف : الحزن.

وقال غيرهما : الأسف : الغضب أيضا ، دليله قوله : (فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ) [الزخرف : ٥٥] أي : أغضبونا.

وقال القتبي (٢) : الصعيد : المستوي ، ويقال : وجه الأرض ، ومنه قيل للتراب : صعيد ؛ لأنه وجه الأرض ، والجرز : الأرض التي لا تنبت شيئا ، يقال : أرض جرز ، وأرضون أجراز ، وكذلك قال أبو عوسجة : والجرز : التي لا نبت فيها ، والصعيد : التراب.

قوله تعالى : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)(١٦)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَمْ حَسِبْتَ).

__________________

(١) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٣٩٣) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (٢٦٣).

(٢) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة (١ / ٣٩٣) ، وتفسير غريب القرآن لابن قتيبة (٢٦٣).

١٣٨

قيل (١) : أحسبت.

وقيل : قد حسبت.

ويحتمل بمعنى : بل حسبت ، كقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى) [الشورى : ٢٤] أي : بل يقولون ، فعلى ذلك قوله : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ).

وقد ذكرنا في غير موضع أن حرف الاستفهام من الله يكون على الإيجاب والإلزام ، ثم هو يخرج على وجهين :

أحدهما : على الأمر : احسب واعلم : أن أبناء الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا.

أو ما ذكرنا : بل حسبت ، وهو كذلك.

أو يقول : لا تحسبن أن أصحاب الكهف والرقيم من آياتنا عجب ليس أعجب منها ، بل أتاك آيات أعجب منها بكثير ، والله أعلم.

ثم اختلف في (وَالرَّقِيمِ) قال بعضهم (٢) : (وَالرَّقِيمِ) : الكتاب ؛ كقوله : (كِتابٌ مَرْقُومٌ) [المطففين : ٩] ، أي : مكتوب.

وقال بعضهم (٣) : (وَالرَّقِيمِ) : الوادي الذي فيه كهفهم.

وقيل (٤) : (وَالرَّقِيمِ) : اللوح الذي كتب فيه أسامي الفتية.

وقيل : (وَالرَّقِيمِ) : القرية التي خرجت الفتية منها وكذلك روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : ما أدري ما الرقيم؟ لكني سألت كعبا عنها فزعم أنها القرية التي خرجوا منها (٥).

وقيل (٦) : (وَالرَّقِيمِ) : الكلب الذي كان معهم.

قالوا أمثال ما ذكرنا ، وليس بنا إلى معرفة الكهف والرقيم حاجة ، إنما ذلك بلسانهم ولم يسألوا عن الكهف والرقيم ، وإنما سألوا عن أصحاب الكهف والرقيم مما ينبغي لهم أن يشتغلوا به.

__________________

(١) انظر تفسير غريب القرآن لابن قتيبة (٢٦٣).

(٢) قاله ابن عباس أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٨٩٨).

(٣) قاله مجاهد أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٨٩٦) ، وهو قول قتادة والضحاك وغيرهما.

(٤) قاله سعيد بن جبير أخرجه ابن جرير (٢٢٨٩٩) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٨٤).

(٥) أخرجه ابن جرير (٢٢٨٩٥) وسعيد بن منصور وعبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والزجاجي في أماليه وابن مردويه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٨٤).

(٦) قاله أنس بن مالك أخرجه ابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٨٤).

١٣٩

ثم قال أهل التأويل : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن قصة أصحاب الكهف والرقيم وأنبائهم ، فقال : أخبركم غدا ولم يستثن ، فعاقبه الله فيه أن حبس عنه الوحى كذا وكذا يوما ، فنزل : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ)(١) [الكهف : ٢٣ ، ٢٤].

لكن ذلك فاسد ، وما توهموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم محال ؛ لأنه كذب لا يجوز أن يكون رسول الله يقول : (أخبركم غدا) والله لم يأمره بذلك ، أو قال ولم يستثن ؛ فيحبس الله الوحي عنه ، ولا يخبرهم في الوقت الذي قال إنه يخبرهم ؛ فيظهر كذبه عندهم بعد ما اختاره لرسالته ، واصطفاه لموضع وحيه ، ثم يكذبه فيما أخبر ؛ هذا فاسد محال غير محتمل ما توهموا به على الله وعلى رسوله ، قد كان من كفار مكة السعي في منع رسول الله عن تبليغ الرسالة إلى الناس ، والحيلولة عن الدعاء إلى ما أمر أن يدعوهم ، واستقبال حججه وبراهينه بتمويهاتهم ، وقد ذكر في غير قصة وخبر : أنهم سألوا اليهود عنه ، وعن نعته : هل تجدون نعته في كتبكم؟ أن لم يكونوا أهل كتاب يعلمون ذلك ؛ فاحتاجوا إلى من يعلمهم ويخبرهم عنه ، فسألوا يهود المدينة عنه وعن خبره ، فقالوا : نجد نعته في كتابنا كما يقولون ، فهذا وقت خروجه وأوانه ، فقالوا لهم : حدثونا بشيء نسأله لا يعلمه إلا نبيّ ، فقالوا : سلوه عن ثلاث خصال ، فإن أجابهن ، فهو نبي ، وإلا فهو كذاب ، اسألوه عن أصحاب الكهف ، واسألوه عن ذي القرنين فإنه كان ملكا ، وكان من أمره كذا وكذا ، واسألوه عن الروح ، فإن أخبركم فهو نبي ، وإن لم يخبركم فهو كذاب ، فسألوه ، فأخبرهم عن ذلك.

وفي بعض القصة : اسألوه عن الروح ، فإن أخبركم عنه ، فهو ليس بنبيّ وإن لم يخبركم ، ولكنه وكل أمره إلى الله فهو نبي (٢).

ثم قوله : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) :

يحتمل أن يكون الخطاب وإن كان لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالمراد به غيره ، على ما خاطبه في غير آي من القرآن والمراد به غيره.

ويحتمل أن الخطاب له والمراد هو ، وإن كان هو المخاطب بهذا ، فإنه يحتمل قوله : (أَمْ حَسِبْتَ ...) إلى آخره وجهين :

أحدهما : يقول : قد حسبت أن أنباءهم وأخبارهم كانت من آياتنا لرسالتك ونبوتك

__________________

(١) أخرجه ابن المنذر عن مجاهد مرسلا كما في الدر المنثور (٤ / ٣٩٤).

(٢) بقية حديث مجاهد السابق.

١٤٠