تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٧

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٧

أو جاءت حجج الحق وبراهينه وذهبت شبه الباطل وتمويهاته ، والحق : يحتمل ما ذكرنا من الإسلام ورسول الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَزَهَقَ الْباطِلُ) ، أي : ذهب وبطل غيره من الأديان ، وغيره من المذاهب ، وعبادة الأصنام ونحو ذلك.

قالوا : وأصله : أن الناس كانوا في حيرة وتيه قبل بعث الرسول ؛ لما كانوا فقدوا دين الله وسبيله منذ كان رفع عيسى من الأرض إلى السماء لا يجدون سبيل الله ، ولا يهتدون إلى شىء ، حيارى ، حزانى حتى بعث الله محمدا ، ليدعوهم إلى دين الله ، ويبين لهم سبيله الذي كان يتمسك به الأنبياء من قبله ، ويخرجهم من تلك الحيرة التي كانوا فيها ، ففعل صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فذلك الذي قال الله تعالى : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) ، أي : (جاءَ الْحَقُ) الذي [كانوا](١) فقدوه فسرّوا بذلك ، (وَزَهَقَ الْباطِلُ) ، أي : ذهب واضمحل ، (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) ، أي : ذاهبا مضمحلا ، لا يجدي خيرا ، ولا يعقب لأهله نفعا ، والحق هو الذي يعقب ويجدي نفعا لأهله.

ثم قوله : (جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ) لم يفهم أهل الخطاب بمجيء الحق : الانتقال من مكان إلى مكان ، ولا بذهاب الباطل على ما يفهم من مجيء فلان وذهاب فلان ، بل فهموا من مجيء الحق ظهوره وعلوه ، وفهموا من زهوق الباطل وذهابه : فناه واضمحلاله وتلاشيه ، وعلى ذلك لم يفهموا من مجيء الأعراض ما فهموا من مجيء الأجسام والأجساد ؛ فعلى ذلك لا يجب أن يفهموا من قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) : الانتقال من مكان إلى مكان ؛ وكذلك لا يفهم من قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) [الأعراف : ٥٤] استواء الخلق ، ولا من نزوله : نزول الخلق ؛ على ما لم يفهم مما أضيف إلى الأعراض من الأفعال ما فهموا من الأجساد والأجسام ، بل فهموا [من الله غير الذي فهموا من الآخر](٢) ؛ فعلى ذلك لا يفهم مما أضيف إلى الله تعالى ما يفهم مما أضيف إلى الخلق ، بل يتعالى عن أن يشبه الخلق أو يشبهه الخلق في معنى من المعاني ، أو في وجه من الوجوه ، بل هو كما وصف نفسه ؛ (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، وقوله : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) [الأنعام : ١٠٠] وتعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) ، كأن الآية نزلت في ابتداء الأمر ، حيث قال : (وَنُنَزِّلُ) ولم يقل : (ونزلنا من القرآن ما هو شفاء).

وجائز أن يكون قوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ) : نفس القرآن ، وهو ما ذكرنا.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

١٠١

ويحتمل المواعيد التي في القرآن من وقائع تكون عليهم ، وكأن في ذلك شفاء للمؤمنين ، كقوله : (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ ...) الآية [التوبة : ١٤].

أو نقول بأنه يجوز (نفعل) بمعنى (فعلنا) ، وذلك كثير في القرآن.

ثم قوله : (ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) ، أي : شفاء للمستشفين في الدنيا ، ورحمة لمن تمسك به في الآخرة ، فيه شفاء لمن استشفاه في الدنيا ، ورحمة في الآخرة لمن تمسّك به ، وعمى وخسار وظلمة لمن أعرض عنه ، ونظر إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء [والاستثقال](١) ، وأما من نظر إليه بعين التعظيم والإجلال فهو له شفاء ورحمة وإن كان القرآن نفسه شفاء ونورا (٢) ، وهكذا في الشاهد أن من أبصر شيئا إنما يبصر بنور البصر وبنور الهواء بارتفاع ما يستر النورين جميعا ؛ لأنه إذا كان عمى البصر لم يبصر شيئا ، وإن كان نور الهواء متجليا وكذلك لا يبصر إذا كان نور البصر متجليا ، بعد أن سترت الظلمة نور الهواء.

فإن كان ما ذكرنا أنه لا يبصر في الشاهد شيئا إلا بنورين : نور البصر ، ونور الهواء ، فالكافر لم يبصر نور القرآن وشفاءه ؛ لما سترت الظلمة نور قلبه ، والمؤمن أبصر نوره وشفاءه بنور إيمانه ، وهكذا الأدوية ؛ فإنها لا تجدى نفعا وإن كانت نافعة شافية في أنفسها إلا بقبول الطبيعة ؛ لأن الطبع إذا لم يقبلها وإن كانت نافعة شافية ـ لم تنفع صاحبها ، ولم تكن له شفاء ، وصارت كأنها في الأصل كانت ضارة غير شافية ؛ فعلى ذلك القرآن ـ وإن كان في نفسه شفاء ونورا ـ ضار للكافر عمى وخسارا ، كأن لا شفاء فيه ولا رحمة لما سترت ظلمة الكفر نوره فصار كالزائد رجسا وطغيانا ونفورا ، وهو ما قال : (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً(٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً)(٨٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ينظر : اللباب (١٢ / ٣٦٩).

١٠٢

فيشبه أن يكون النعمة التي ذكر هو محمد ؛ لما ذكرنا أنهم كانوا في حيرة وعمى لا يجدون السبيل إلى دين الله ، (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) [فاطر : ٤٢] فذلك الإعراض الذي ذكروا ، والله أعلم ، فبعث الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليدعوهم إلى دين الله ويبين سبيله ، فذلك منه نعمة عظيمة أعرضوا عنها وتباعدوا عنها.

ويشبه أن يكون ما قاله أهل التأويل إنه إذا وسع عليه الرزق والعيش أعرض عن الدعاء له وتباعد بجانبه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) ، أي : يائسا من الخير ألا يعود إليه أصلا ، وهكذا كانت عادتهم أنهم [كانوا](١) يخلصون الدعاء له إذا مسّهم سوء وأصابتهم شدة ، ويكفرون به إذا تجلى ذلك عنهم (٢) وانكشف ، كقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ ...) الآية [العنكبوت : ٦٥]. (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ ...) الآية. وأمثاله ، وكان الناس كلهم فرقا أربعة :

منهم من كان مذهبهم ما ذكرنا : أنهم كانوا يخلصون له الدعاء في حال الشدة ويكفرون في حال الرخاء.

ومنهم من كان يؤمن به في حال الرخاء والنعمة ويكفر به في حال الشدة ، كقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) الآية [الحج : ١١]. وهم أهل النفاق.

ومنهم من يكفر به في الأحوال كلها كقوله : [...](٣).

والفرقة الرابعة هم أهل الإسلام يؤمنون به في حال الرخاء وحال الشدّة في الأحوال كلها ، على هذا كانوا في الأصل ، وعلى هذا يجيء أن يكون قوله : (وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً) من الأصنام ، كقوله : (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ٦٧] فيكون إياسهم من الأصنام التي عبدوها.

لكن أهل التأويل صرفوا إلى ما ذكرنا من الإياس عن الخير من [أن يعود إليهم.

وقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) : لسنا نعلم إزاء أي سبب كان هنالك حتى قال : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) ؛ إذ إنه يجوز أن يقال هذا بلا سبب كان منهم ، لكن يشبه أن يكون](٤) قال هذا على الإياس من إيمانهم لما لم يزدهم دعاؤه إياهم وكثرة تلاوة

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : لهم.

(٣) بياض في أ ، ب ، وقد نبه عليه الناسخ في حاشية أ.

(٤) ما بين المعقوفين سقط في أ.

١٠٣

آياته عليهم وإقامة حججه عليهم ـ إلا عنادا وإنكارا ، فقال عند ذلك : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) ، أي : على دينه وطريقته ، كقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦] ، وكقوله : (وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) [يونس : ٤١] ، فهو كله على الإياس عن أن يؤمنوا به ويقبلوا دينه ، ثم قال : (فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً) ، أي : ربكم أعلم بمن منا على الهدى ، ومن ليس.

أو [من] منا أهدى سبيلا نحن أو أنتم؟

وقال أبو عوسجة : الشاكلة : الحاضرة أي : على ناحيته (١).

وقال القتبي (٢) : شاكلته ، أي : على خليقته [وطبيعته].

وقال قطرب : على طريقته ، وكأن هذا أشبه.

وقال بعضهم (٣) : على نيته.

وقيل : على دينه ومذهبه.

وقيل : على جديلته ومنهاجه ، وكله يرجع إلى واحد.

ويشبه أن يكون : أي : كل يعمل (٤) بما هو الشبيه به وما هو يشبهه ؛ لأن الشكل هو ما يشبه الشيء ، يقال : هذا شكل هذا ، وقوله : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ) على قول من يقول على خليقة خلق عليها ؛ لأنه خلق على علم منه أنه يختارها ويؤثرها ، والله أعلم.

وقوله : (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) قيل (٥) : ذاهبا باطلا ، لا يجدي لأهله نفعا ؛ لأنه يتلاشى ولا يبقى ، والحق يجدي لأهله نفعا ويبقى ، وعلى ذلك ضرب الله مثل الحق بالشيء الذي يبقى ، وضرب مثل الباطل بالشيء الذي لا يبقى ولا يثبت ؛ فقال : (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) [الرعد : ١٧] ، وقد ذكرناه في موضعه : ضرب مثل الباطل بالزبد وهو يتلاشى ، لا ينتفع به ؛ فعلى ذلك الباطل ، وضرب مثل الحق بالماء ، وهو يبقى في الأرض ، وينفع الناس ، وضرب مثل الباطل ـ أيضا ـ بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار بقوله : (وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ...) الآية [إبراهيم : ٢٦] ، وضرب مثل الحق

__________________

(١) وهو قول ابن عباس ومجاهد وقتادة ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢٢٦٧٠) و (٢٢٦٧١) و (٢٢٦٧٣).

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٣٦٠).

(٣) قاله الحسن أخرجه هناد بن السري وابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٦١).

(٤) في أ : عمل.

(٥) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٢٦٦٤) ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٦٠).

١٠٤

بالشجرة الطيبة الثابتة في الأرض ذات قرار وثبات بقوله : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [إبراهيم : ٢٤].

فهو على ما وصفها : الحق ثابت باق وله قرار ينفع أهله ، والباطل يرى ثم يتلاشى ولا بقاء.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) : اختلف فيه :

قال أبو بكر الأصم : الروح : القرآن هاهنا ، كقوله : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ) [النحل : ٢] ، وكذلك قوله : (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ ...) الآية [الشورى : ٥٢]. (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، أي : من تدبير ربي ، ما لو اجتمع الخلائق ما قدروا على مثله.

فإن قيل : كيف سألوا عن القرآن ، وهم لم يقروا بالقرآن؟ فقال : سمّوه : قرآنا وروحا على ما عنده ـ أعني : عند رسول الله ـ كقوله : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ) [الفرقان : ٧] وهم لم يكونوا أقروا أنّه رسول ، ولكن سمّوه : رسولا ؛ لما [أنه] عند نفسه وزعمه رسول ، أي : ما لهذا الذي يزعم أنه رسول يأكل الطعام؟ فعلى ذلك قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) وهو الذي به حياة الأبدان من هلاك الضلال ، أي : من تمسك به نجا من هلاك الضلال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، أي : بأمر ربي ينزل.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : (الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ، أي : من خلق ربي ، وهما واحد.

وقال بعضهم (١) : الروح : هو الملك وإنما سألوه عنه ، كقوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) [القدر : ٤] : يعني : الملك.

وقال بعضهم (٢) : إنما سألوا عن الروح المعروف الذي به حياة الأبدان ، لكنه لم يجبهم ، فوكل أمره إلى الله لما لا يدركون ذلك لو بين لهم وأمثاله.

وروى عن أبي يوسف ـ رحمه‌الله ـ أنه كان ينهى عن الخوض في الكلام ، ويحتج بظاهر هذه الآية ؛ حيث سألوه عن الروح ، فلم يجبهم ، ولكن فوض أمره إلى الله ، وما سئل من الأحكام إلا وقد بين لهم كقوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ...) الآية [البقرة : ٢١٩] ، و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ...) الآية [الأنفال : ١] ، (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى)

__________________

(١) قاله ابن عباس وعلي بن أبي طالب ، أخرجه ابن جرير عنهما (٢٢٦٨٥ ـ ٢٢٦٨٦).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٢٦٨٩).

١٠٥

[البقرة : ٢٢٠](وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) [البقرة : ٢٢٢] ، (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ) [النساء : ١٢٧] ، مثل هذا ما سئل عن شيء من الأحكام إلا وقد أجابهم وبين لهم بيانا شافيا ، وقال هاهنا : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).

وقال جعفر بن حرب : إن الله قد أمر بالتكلم في الكلام بقوله : (وَجادِلْهُمْ ...) الآية [النحل : ١٢٥] ، وقال : (فَلا تُمارِ فِيهِمْ ...) الآية [الكهف : ٢٢]. ونحوه ، فكيف نهى عن الخوض في الكلام؟

لكن أبا يوسف إنما نهى عن الخوض في الكلام الذي لا يدرك ولا يزيد الخوض فيه إلا حيرة وضلالا نحو ما روى عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «تفكروا في المخلوق ولا تتفكروا في الخالق» لأنه لا يدرك ، فالتفكر فيما لا يدرك لا يزيد إلا عمى وحيرة وتيها ، وأمّا الخوض في الذي يدرك ويعقل فإنه لم ينه عن مثله.

وأصله : ما ذكرنا من إباحة التكلم في الدين والخوض في الكلام في كثير من الآيات من ذلك قوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ...) الآية [النحل : ١٢٥]. ونحوه.

قال الشيخ ـ رحمه‌الله ـ : أو لا نفسر الروح ما هو؟ لما لا يعلم ما أرادوا بالروح وهم قد علموا ما أرادوا.

أو علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما سألوا ، وإنما سألوا ذلك عما في كتبهم ؛ ليعلموا صدقه فيما يدعي من الرسالة ؛ لما علموا أن غير الرسول لا يعلم ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً).

قال بعضهم : أي : ما أوتيتم من العلم الذي به مصالحكم وما جاءكم إلا قليلا.

وقال بعضهم : أي : ما أوتيتم من العلم الذي أنشأه والعلم الذي عنده إلا قليلا ، وهو هكذا : أنا لم نؤت من العلم إلا علم ظواهر الأشياء وباديها ، لم نؤت علم بواطن الأشياء وحقائقها ، وذلك أنا نعلم أن البصر يبصر ، والسمع يسمع ، واللسان ينطق ، واليد تقبض وتأخذ ، والرجل تمشي ، والعقل يدرك ، لكن لا نعلم المعنى الذي جعل فيه به يسمع وبه يبصر وبه ينطق وبه يأخذ وبه يمشي وبه يدرك ، وكذلك نعرف هذه الحيوانات التي نشاهدها ونعايشها بأن هذا حمار ، وهذا ثور ، وهذا كذا ، ولكن لا نعرف المعنى الذي [به] صار هذا حمارا ، أو هذا ثورا ، وكذلك كل جواهر وأجناس ، فلا نعرف من العلوم التي أنشأها الله إلا القليل منها ـ ظواهرها ـ وأما الحقائق فلا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) من يقول بأن الروح الذي سألوه عنه هو الوحي والقرآن الذي أنزل عليه يحتج بهذه الآية ، وبقوله : (لَئِنِ

١٠٦

اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) لما خرج ذكرها على أثر سؤال الروح ، فدلّ أنه ما ذكرنا ، وقد ضل بهذه الآية فريقان : الحشوية ، والمعتزلة.

أمّا الحشوية فإنهم يقولون : إن القرآن والكلام هو صفة الله الذي هو لم يزل به موصوفا ، وإنه لا يزايله ، ثم [إنهم](١) يقولون : القرآن في المصاحف بعينه وهو في الأرض وفي القلوب ، فقولهم مناقض ؛ لأنه إذا كان صفته لا هو ولا غيره ، لا يجوز أن يكون في المصاحف بعينه أو في الأرض أو في القلوب.

قال الشيخ أبو منصور ـ رحمه‌الله ـ : أمّا الذي في المصاحف هذا ما يفهم به ذلك أو ما يوافق به ذاك ـ أعني : القرآن ـ ويقال : هذا حكاية عن ذلك.

وأما المعتزلة : فإنهم ينكرون خلق أفعال العباد ، ثم يقولون : إن القرآن مخلوق ؛ فعلى زعمهم يكون القرآن والكلام ما يكتب ويثبت ويمحى ، وذلك فعل العباد ، ثم يقولون : أفعالهم غير مخلوقة ؛ فذلك تناقض في القول بيّن.

وعلى قولنا : ما ذكر من الذهاب والمجيء كله على المجاز ، أي : الموافقة لا على الحقيقة ، كما يقال : سمعت كلام فلان وقول فلان ، وكتبت حديث فلان ونحوه ؛ فذلك كله على المجاز لا على التحقيق ؛ لأنه لا يسمع قول فلان حقيقة ولا كلامه ولا حديثه ، ولكن يسمع صوتا يفهم به قوله وكلامه وحديثه ، فعلى ذلك الأول يذهب بالذي يسمع ويكتب ، فأما حقيقة ذلك فلا يوصف بشيء من ذلك.

وبعد : فإنه قد أضيف المجيء إلى الذي لا يعرف منه ذلك ، ثم يحتمل قوله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، أن يكون صلة قوله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) حتى لا يظفر به ، وإلا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعلم أنه لو شاء لذهب بالذي أوحى إليه وقادر عليه وله رفعه ، وكذلك يعرف هذا كل مؤمن.

وإن كانت الآية على الابتداء فهو يخرج على ذكر المنة والرحمة ، أي : له أن يرفع هذا الذي أوحى إليه ؛ ليعلموا أن إبقاء النبوة والوحي فضل منه ورحمة ، وكذلك الوحي إليه في الابتداء وبعثه رسولا إليهم فضلا واختصاصا لا استحقاقا منه واستيجابا ، كقوله : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ١٠٥] ، وقوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) [آل عمران : ٧٣] أخبر أن النبوة له وما أرسل إليه اختصاصا منه وفضلا ، لا استحقاقا منه ؛ فعلى ذلك إبقاء النبوة والوحي رحمة وفضل منه.

__________________

(١) سقط في أ.

١٠٧

وفيه دلالة نقض قول المعتزلة من وجوه :

أحدها : ما قالوا : إنه لا يختار الله أحدا لرسالته ونبوته إلا من كان مستحقّا لها ومستوجبا لذلك ، وقد أخبر أنه بفضله واختصاصه أرسله رسولا ، وبفضله ورحمته أبقاها وتركها بعد ما أوحى إليه وأرسله رسوله.

والثاني : فيه أن له أن يفعل ما ليس هو بأصلح لهم في الدين ، حيث أوعد لهم برفع ما أوحى إليه [وأرسله](١) وإذهابه إياه ، ولا يوعد إلا بما له أن يفعل ما أوعد ؛ إذ لا يوعد بما ليس له الفعل في الحكمة ، ثم لا شك أن إبقاء النبوة وترك ما أوحى إليه أصلح لهم من رفعها وتركه إياهم خلوّا عن ذلك ، دلّ أنه قد يفعل ما ليس لهم بأصلح لهم في الدين.

وفيه أنه قد يكلف خلقه التوحيد والإيمان وإن لم يرسل رسولا ولا أوحى إليه وحيا ؛ لأنه معلوم أنه لو لم يرسل الرسول ، ولا كانوا مكلفين في أنفسهم ، لكان خلقه إياهم عبثا ليتركهم سدى ؛ فدل أنهم مكلفون بتوحيده ومعرفته وإن لم يرسل ولا أوحى ؛ حيث أخبر أن بعث الرسالة وإبقاءها فضل منه ورحمة بقوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً) :

وقوله : (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).

أي : إبقاء النبوة والوحي رحمة من ربك ، وفضله ـ أيضا ـ في إبقاء ذلك كبيرا.

وفيه أن الحفظ والنسيان ـ وإن كانا من العبد ـ فلله فيهما صنع به يحفظ ؛ حيث قال : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، أخبر أنه لو شاء ، لذهب بالمحفوظ في القلب وينسيه ؛ دلّ أن له قدرة في فعل العبد.

وفي قوله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) وجه آخر من الحكمة ؛ وهو أن يعلم المؤمنون : أن الفضل كله من الله ؛ لئلا يروا لأنفسهم في ذلك فضلا ومعنى ، وإليه يضيفون جميع ما يجرى على أيديهم من أفعال الخير والطاعة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ).

يشبه أن يكون هذا صلة قوله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، ثم لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما قدروا عليه ، وقوله : بمثله ، أي : به ، كقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] أي : ليس كهو شيء ؛ إذ لا مثل له ؛ فدلّ أن قوله : (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) ، أي : لا يقدرون أن يأتوا به بعد ما عرفوه وعاينوه ؛ فلئلا يقدروا على

__________________

(١) سقط في ب.

١٠٨

إتيانه ابتداء قبل أن نظروا فيه وعرفوا مثاله ـ أشدّ وأبعد ؛ إذ نظم الشيء وتصوره بعد ما عاينوا الأشياء والصّور أهون وأيسر من تصويرها ونظمها قبل أن يعاينوها ويشاهدوها.

وجائز أن يستدل بهذه الآية على أنه كان مبعوثا إلى الإنس والجن جميعا حيث قال : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) ؛ لأنه لو لم يكن مبعوثا إلى الفريقين جميعا لم يكن لذكرهما معنى وفائدة.

وفيه دلالة : أن في الجن من لسانه لسان العرب ؛ إذ لو لم يكن [كذلك ، لم يكن] لذكر أولئك [معنى] ثم جائز أن يكون قوله : (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ) ، أي : الإنس مع الجن ، أو هؤلاء مع هؤلاء ، (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ).

وقال بعض أهل التأويل : إنما ذكر هذا لقولهم : إنه سحر وإنما يعلمه بشر [النحل : ١٠٣] وقولهم : (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ : ٤٣] وقولهم : (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) [المؤمنون : ٣٨] ، ومثله ، يقول : إن الإفك والسحر وما ذكرتم لا يكون إلا من هذين ، من الجن والإنس ، فأخبر أنهم لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثله ما قدروا عليه.

والدلالة على أنهم عجزوا عن ذلك (١) ، ولم يطمع أحد منهم ذلك إلا سفيه أظهر الله سفهه وكذبه في القرآن ؛ حيث قال : (لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣١ ، ٣٢] لم يسأل التوفيق إن كان هو حقّا ، ولكن سأل العذاب ؛ دلّ أنه كان سفيها ، فآية السفه : (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، ثم ارتاب فيه وشك بقوله : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) [الأنفال : ٣٢] وإلا لم يطمع ولم يخطر ببال أحد من الخلائق التكلف لذلك ، دلّ أنه آية معجزة من الله تعالى.

ثم اختلف في قوله : (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ)

قيل : مثل نظمه ورصفه.

وقيل : مثل حقه وصدقه.

ويحتمل مثل حججه وبراهينه.

ويحتمل مثل علمه وحكمته.

ويحتمل مثل إحكامه وإتقانه.

يحتمل قوله : (عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) هذه الوجوه الخمسة التي

__________________

(١) ينظر : اللباب (١٢ / ٣٨٥).

١٠٩

ذكرنا.

ثم قوله : (بِمِثْلِهِ) يحتمل ما ذكرنا ؛ أي : بالذي رفع وذهب به ؛ على التأويل الذي جعلناه صلة قوله : (وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ) ، (لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ) الذي (١) ذهب به ورفع (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) ، أي : لا يقدرون على إتيانه.

وإن كان على الابتداء ، فهو على المثل ؛ أي : لا يقدرون على أن يأتوا بمثله ، على ما لم يقدروا عليه بعد ما قرع سمعهم هذا فلو كان في وسعهم هذا لفعلوا ؛ ليخرج قولهم صدقا وقول الرسول كذبا ، فإذ لم يفعلوا ذلك ، ولم يتكلفوا ؛ دل أنهم عرفوا أن ذلك من الله وأنه آية معجزة خارجة عن وسعهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا).

أي : بيّنا ، وتحتمل ضربنا ، وتحتمل فرقنا للناس :

(مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ، أي : ذكرنا للناس مثلا على أثر مثل ، ومثلا بعد مثل ما لو تفكروا فيه ، وتأمّلوا لعرفوا صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذب أنفسهم وسفههم ، ولعرفوا الحق من الباطل والمحق من المبطل ، ولكن لم يتفكروا فيه ولم يتأمّلوا وعاندوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ كُلِّ مَثَلٍ).

لا يريد كل الأمثال ، ولكن ما ذكرنا من كل مثل لو تأملوا فيه ، وتفكروا ، لكان لهم معتبرا.

وفي قوله : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) ، يكون ما ذكر من تصريف الأمثال وضربها للناس من وجوه ثلاثة :

أحدها : ضرب المثل لهذه الأمة من شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وغيره من مكذّبهم ومصدّقهم بالأمم الماضية ما ذا حلّ بهم بالمكذبين منهم رسل الله من نقمته وعذابه ، وقد أخبر أن تلك سنته في المكذبين منهم ، وذكر أن سنته تلك لا تحول ، ولا تبدل ، [وهو قوله : (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) ، و (تَحْوِيلاً) ، فهي لا تبدل ، ولا تحول فكانت لأولئك معجلة ولهذه الأمة مؤخرة](٢) وهي غير محوّلة ولا مبدّلة لواحدة من الأمم.

والثاني : يحتمل تصريف الأمثال هو ما بين لهم ، وذكر ما به صلاح معاشهم ومعادهم ، وصلاح دينهم ودنياهم ما لو تأمّلوا فيه وتفكروا ، أدركوا ذلك.

__________________

(١) في ب : بالذي.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

١١٠

والثالث : يكون تصريف الأمثال التي ذكر دعاءه إلى دين الله وسبيله بالحكمة والموعظة الحسنة ، كقوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل : ١٢٥].

إلى هذه الوجوه الثلاثة يصرف جميع ما ذكر من الأمثال في القرآن والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) يحتمل أبى أكثر الناس إلا كفورا بالأمثال التي ضربها في القرآن ، وصرفها لهم.

أو يقول : فأبى أكثر الناس إلا كفورا بنعم الله في صرف الشكر إلى غيره ، أو كفورا في وحدانية الله وألوهيته.

قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً)(٩٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ ...).

إلى آخر ما ذكر من الأسئلة ، يشبه أن تكون هذه الأسئلة جميعا من فريق واحد.

ويجوز أن يكون من كل فريق سؤال ، لم يكن ذلك من غيره من الفرق ؛ كقوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥] كان من كل فريق غير ما كان من الآخر ؛ كان من اليهود : كونوا هودا تهتدوا ، ومن النصارى : كونوا نصارى تهتدوا ؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون الأوّل كذلك.

ثم إن الذي حملهم على هذه الأسئلة المحالة الفاسدة وجوه :

أحدها : سؤاله بما كان يعدهم رسول الله الجنان ، والأنهار الجارية ، والبساتين المثمرة إن هم تابوا وأجابوا ، وكان يعدهم العقوبات إن تركوا إجابته من إسقاط السماء كسفا كقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ ...) الآية [البقرة : ٢١٠] ، سألوه ذلك استعجالا منهم ؛ على الاستهزاء ، كقوله : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨] ، أو أن يكون أهل الكتاب علموا مشركي العرب الذين لا كتاب لهم هذه الأسئلة الفاسدة المحالة التي عرفوا أنهم لا يجابون فيها ليسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها ، فإنه لا يجيبهم ليرى [السفلة منهم والأتباع أن لو كان رسولا لأجابهم ؛ فيتمادون في طغيانهم وضلالتهم ، ويبغون عليهم ثم عليه.

أو أن يكون الرؤساء منهم والقادة سألوه عن ذلك ، على علم منهم أنه لا يجيبهم ؛

١١١

ليرى](١) أتباعهم وسفلتهم أنهم قد حاجّوا رسول الله ، واعترضوا لحججه وبراهينه لئلا ينظروا إلى حججه وبراهينه ؛ لتبقى لهم الرئاسة والمنافع التي كانت لهم ، ولا يذهب ذلك عنهم.

ثم بين أن أسئلتهم التي سألوها سؤال تعنت عن عناد لا سؤال استرشاد ، وحاجة ـ ما ذكر في قولهم : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً).

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ).

دل هذا كله أن سؤالهم إياه كله سؤال معاندة ، لا سؤال استرشاد واستهداء ؛ لأنه لو كانوا يسألون ما يسألون سؤال استرشاد واستهداء ، لكانوا لا يسألون إسقاط السماء عليهم ؛ إذ لا منفعة لهم في ذلك وإن في سؤالهم الجنة منفعة ، يذكر سفه القوم وتعنتهم وسوء معاملتهم رسول الله.

ثم الحكمة والفائدة في جعل سفههم قرآنا يتلى إلى يوم القيامة ؛ ليعرف المتأخرون معاملة السفهاء إذا بلوا بهم أن كيف يعاملونهم [بمثل](٢) معاملة رسول الله؟!

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) أمره أن [ينزه ربّه عن أن يكون لأحد الاحتكام عليه والحكم ، والذي سألوه احتكام منهم على الله.

وفي قوله : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)](٣).

ينزه ربه عن أن يملك سواه ما سألوا من إتيان الجنة وغير ذلك مما ذكر في الآية ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً).

أي : هل كنت إلا بشرا كغيره من الرسل الذين كانوا من قبل من البشر ، فلم يسألوهم بمثل الذي تسألونني أنتم من الأسئلة.

أو إن سألوا ذلك فلم يجابوا ، كقوله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) [البقرة ١٠٨] ، أو أن يكون قوله : (هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) ، أي : ليس للرسول أن يعترض على المرسل بشيء ، إنما على الرسول تبليغ ما أرسل وأمر بتبليغه.

أو يقول : إني لا أملك مما تسألونني سوى تسبيح ربي وتنزيهه.

وقوله : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي) أي : تعاظم ربي ، وتعالى عن أن يكون لعباده عليه احتكام

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

١١٢

أو (١) اختيار.

وقال أبو عوسجة والقتبي : الينبوع : العين ، والينابيع : جمع ؛ والكسفة : القطعة ، والكسف : جمع.

وقال غيره : الكشف ـ بالجزم ـ : عذاب ، وكسفا مثل قطعا ، [قال أبو عوسجة : (قَبِيلاً) ، أي : معاينة ، وقال : هو من المقابلة.

و (بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ) ، أي : من زينة.

وقال أبو عوسجة : المزخرف : المزين ، يقال : زخرفت البيت ، أي : زينته.

(أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ) ، أي : تصعد.

(وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ) ، أي : لارتقائك ، وهو من الارتفاع.

وقال بعضهم : كشفا بالجزم ، أي : جانبا ، وكسفا : مثل : قطعا](٢). والله أعلم.

قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً)(١٠٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) أي : إذ جاءهم الرسول بالهدى (إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) ، وقال في آية (٣) أخرى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) [الكهف : ٥٥] ، لكن هذا على الإياس عن إيمانهم ، إنهم لا يؤمنون إلا عند (٤) معاينتهم بأس الله ، والإيمان في ذلك الوقت لا يقبل ولا ينفعهم.

__________________

(١) في أ : و.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٣) في ب : سورة.

(٤) في ب : بعد.

١١٣

وأما (١) قوله : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) ، فيخرج هذا القول منهم مخرج الاحتجاج : لو شاء الله أن نؤمن لأنزل ملائكة كقوله : (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً). ففيه يوضح الشبهة لهم أن يقولوا : هو بشر [ونحن بشر](٢) فليس هذا أولى بالرسالة إلينا من أن نكون نحن رسلا إليه ، فذلك موضع الشبهة ، فأجابهم لذلك لما استنكروا واستبعدوا بعث الرسول إليهم من جوهرهم وجنسهم ، فقال : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ) أي : مقيمين ساكنين فيها (لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) ؛ ثم اختلف فيه.

قال بعضهم : (لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ) ، أي : لو كان سكان الأرض ملائكة ، فبعث إليهم رسولا منهم أكان لهم أن (٣) يقولوا : أبعث الله ملكا رسولا ، أي : أبعث الله إلينا من جوهرنا؟! أي : ليس لهم أن يقولوا ذلك ؛ فعلى ذلك إذا كان سكانها البشر ليس لهم أن يقولوا : أبعث الله إلينا من جوهرنا رسولا.

والثاني : لو كانت الأرض مكان الملائكة ، وهم سكانها ، لكان لكم أن تقولوا : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) من غير جوهرنا ، فأمّا إذا كانت الأرض مكان البشر ، وهم سكانها ، فليس لهم أن ينكروا بعث الرسول منهم ومن جوهرهم ؛ لأنهم لا يعرفون الملائكة ، ولا من كان من غير جوهرهم ، ويعرفون من كان من جوهرهم ، فبعث الرسول من جوهرهم أولى بهم من غير جوهرهم.

أو يقول : لو كان في الأرض ملائكة وبشر ، فعرفوا الملائكة ، لكان لهم أن يسألوا رسولا من الملائكة لما عرفوهم ، فأمّا إذا كان سكان الأرض ليسوا إلا بشرا فليس لهم أن يقولوا ذلك ؛ لأنهم لم يعرفوا قوى الملائكة ، ولا قوى الجن ، وقد عرفوا قوى البشر فيعرفون الآيات والحجج من التمويهات إذ عرفوا قواهم ولم يعرفوا قوى الملائكة والجنّ ؛ فلا يعرفون ما أقاموا أنها آيات وحجج ، أو كان ذلك بقواهم ، ويعرفون ذلك من البشر إذا خرجت من احتمال وسعهم وقواهم.

وبعد فإنهم قد أقروا برسالة البشر ؛ لأنهم لا يعرفون الملائكة إلا بخبر من البشر أنه ملك ؛ إذ لم يكن [لهم خلطة معهم](٤) ليعرفوهم ؛ وإنما يعرفونهم بخبر من البشر : أنه

__________________

(١) في أ : وكذا.

(٢) سقط في أ.

(٣) في ب : من.

(٤) في أ : معهم خلط.

١١٤

ملك ؛ فليس لهم أن ينكروا رسالة البشر.

وأصله ما قال : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً) [الأنعام : ٩] ؛ لما ذكرنا أنهم لا يعرفون الملائكة ، ومن كان من غير جوهرهم ؛ فلا بدّ من أن يكون رجلا ، فكان في ذلك تلبيس عليهم على ما أخبر ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ).

قال بعضهم : كفى بما أقام الله من الآيات والحجج على رسالتى وأنى رسول إليكم ؛ إذ كان ذلك [في قول كان](١) من أولئك الكفرة من إنكار الرسالة.

وقال بعضهم : يحتمل أن يكون على الإياس من إيمانهم كقوله : (لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا ...) ، الآية [الشورى : ١٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً).

يذكر هذا. والله أعلم. بأنه. عن علم بإجابتهم وردّهم. بعثه إليهم رسولا لا عن جهل بأحوالهم ، وليس فيما يعلم أنهم يردون ، ولا يجيبون رسله خروج عن الحكمة ؛ لأنه ليس في إجابتهم منفعة للرسل ، ولا في ردّهم ضرر له ، وإنما المنفعة في الإجابة لهم ، وفي الردّ الضرر عليهم ؛ لذلك لم يكن في بعث الرسل على علم منه بالردّ خروجا عن الحكمة [وفي الشاهد كان خروجا عن الحكمة ؛ لأن](٢) ؛ في الشاهد إنما يبعث الرسول لمنفعة تتأمّل وتصل إليه أو دفع ضرر عنه ، فإذا علم أنه يرد رسالته ، ولا يجيب ، كان في بعث الرسول إليه بعد علمه بالردّ خروج من الحكمة.

أو يخرج قوله : (إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) على الوعيد ، وكذلك أمثاله.

وإن احتج علينا بعض المعتزلة بقوله : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) ، يقولون له : منعنا القضاء والقدر ؛ إذ من قولهم : إن ما يفعل الإنسان من فعل أو معصية أو طاعة ، فإنما يفعل بقضائه وتقديره ؛ فيكون لهم الاحتجاج عليه بأن يقولوا : منعنا قضاؤك وتقديرك.

لكن هذا فاسد ؛ لأنهم لا يفعلون هم ما يفعلون عند وقت فعلهم لأن الله. تعالى. قضى ذلك وقدر ، ولو جاز لهم [هذا](٣) الاحتجاج لأنه كذلك قضى وقدر ، فإذا كانوا هم عند أنفسهم لا يفعلون ما يفعلون ؛ لأنه كذلك قضى وقدر ، لم يكن لهم الاحتجاج عليه

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في أ : لأنه.

(٣) سقط في ب.

١١٥

بذلك ؛ لأن القضاء والقدر ، لم يضطرهم إلى ذلك ، ولا قهرهم عليه ، بل كان غيره ممكنا لهم ؛ لذلك لم يكن لهم الاحتجاج [عليه بذلك ؛ لأن القضاء](١) بهذا أعني بالقضاء والقدر ، لكان لهم الاحتجاج عليه. أيضا. بالعلم ؛ إذ لا شك أنه علم ذلك منهم ، فإذا لم يكن الاحتجاج عليه بما علم منهم ذلك ؛ إذ لا يقدرون أن يفعلوا غير الذي علم منهم ، فعلى ذلك لم يكن الاحتجاج عليه بالقضاء والقدر [لأن القضاء والقدر](٢) لما علم أنه يختار ذلك ويؤثره على ضدّه لجاز ذلك لهم بالعلم ونحوه ، دلّ أن ذلك ليس بشيء لما قضى ذلك عليهم وقدر ، وإذا كانوا هم عند أنفسهم لا يفعلون وقت فعلهم ؛ لما كذلك قضى عليهم ؛ فلم يكن الاحتجاج لهم عليه بذلك ؛ إذ القضاء والقدر لم يمنعهم عن ذلك لما لا يضطرون على ذلك ، وإنما قضى ذلك لما علم أنهم يفعلون ويختارون ذلك ؛ لذلك كان ما ذكرنا ، وكذلك كل من قضى في الشاهد على آخر إنما يقضي ؛ لما سبق منه العلم به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ).

أي : من وفقه لقبول ما كان من الهدى وعصمه عما وسوس إليه الشيطان ، فهو المهتدي عند الله وعند من عقل الهدى ، (وَمَنْ يُضْلِلْ) ، أي : من خذله ولم يعصمه حتى يقبل من الشيطان ما جاء من وساوسه هو ضال.

(فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ).

يحتمل : لن تجد لهم أولياء من دونه يهدونهم لدينهم ويوفقونهم.

أو لن تجد لهم أولياء ينصرونهم من دونه ، ويدفعون عنهم ما نزل بهم من العذاب ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا).

قال الحسن : يحاسبون حتى يعلموا سوء صنيعهم الذي صنعوا في الدنيا ، ثم يحشرون إلى جهنم ما ذكر عميا وبكما وصمّا ، أو كلام نحو هذا.

ثم يحتمل قوله : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ما ذكر في آية أخرى : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) [القمر : ٤٨] وقوله : (أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ ...) الآية [الزمر : ٢٤] ، إنما يتقي بوجهه ؛ لما تكون أيديهم مغلولة إلى أعناقهم ، وقوله : (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) هذا يحتمل وجهين :

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

١١٦

أحدهما : أسماهم : عميا وبكما وصمّا لذهاب منافع هذه الحواس ولذاتها في الآخرة ، ليس على حقيقة ذهابها ، لكن حال بينهم وبين الانتفاع بها ما ذكر لهم : (مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ ...) الآية ، فتلك الظلل تحول بينهم وبين رؤية الأشياء.

وسماهم في الدنيا : عميا وبكما وصمّا ليس على حقيقة ذهاب أعينها ، ولكن لما لم ينتفعوا بهذه الحواس في الدنيا ، ولم يستعملوها فيما أمروا باستعمالها ـ نفى ذلك عنهم ، فعلى ذلك في الآخرة.

ويحتمل على حقيقة ذهاب أعين هذه الحواس ؛ عقوبة لما لم يستعملوها في الدنيا لما له خلقت ، كقوله : (لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) [طه : ١٢٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ).

أي : مقامهم جهنم ، وإليها يأوون.

وقوله : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً) [اختلف فيه :

قال الحسن : قوله : (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ) ، أي : كلما خبا لهبها ، وسكن (زِدْناهُمْ سَعِيراً)(١) قال : يخمد لهبها من غير أن يذهب وجع ما أصابهم ، ثم يزداد لهم سعيرا.

[و] قال بعضهم : (كُلَّما خَبَتْ) ، أي : نضجت جلودهم ، وسكنت النار (زِدْناهُمْ سَعِيراً) ، أي : نعود بنار على ما كانت ، وجعلت تلتهب ، وتستعر ؛ كقوله : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ).

وقال بعضهم : وذلك أن النار إذا أكلتهم فلم يبق منهم غير العظام وصاروا فحما ، سكنت النار ؛ فهو الخبت ، ثم بدلوا جلودا غيرها ، فتكون وقودا لها ، والله أعلم ، وكله واحد.

وقال بعضهم : (كُلَّما خَبَتْ) ، أي : كلما أحرقتهم النار ، فصاروا رمادا ، خلقوا لها خلقا جديدا ، فتعاودهم النار فتحرقهم ، وذلك قوله : (زِدْناهُمْ سَعِيراً) ، وهو قول الله : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) [المدثر : ٢٨] لا تبقي منهم شيئا إذا أخذت حتى تحرقهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ).

أي : ذلك الذي ذكر جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا ، وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ، ثم قال : (أَوَلَمْ يَرَوْا).

أي : أو لم يعتبروا ، ولم ينظروا أن الله الذي خلق السموات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم.

__________________

(١) سقط في أ.

١١٧

هذا الاعتبار يحتمل وجهين :

أحدهما : أنكم تقرّون : أن الله هو خالق السموات والأرض ، وخالقكم ، فخلق السموات والأرض على الابتداء ، وخلق سائر الخلائق على الابتداء بلا احتذاء ، تقدم وسبق ـ أعظم وأكبر من خلق من دونه ، فمن قدر على إنشاء ذلك ، فهو على إنشاء أمثالكم وإعادتكم أقدر ، وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من ابتدائه.

والثاني : تعلمون أنه خلق السموات والأرض ، وخلقكم أيضا ، فلم يخلقهما للفناء خاصة ؛ إذ خلق الشيء للفناء خاصة لا لعاقبة عبث ولعب ؛ فدلّ أنه خلقكم ، وخلق السموات والأرض ؛ لعاقبة ، وهي البعث.

وعلى ذلك يخرج قوله : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) أنه كائن لا محالة.

وجائز أن يكون قوله : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ) جوابا لما استعجلوا من العذاب ، فقال : وجعل لهم أجلا لا يتقدم عنه ولا يتأخر.

أو أن يكون قوله : (وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ).

الموت الذي به تنقضي آجالهم ، لكنه لم يخلقهم للموت خاصّة ولكن للعاقبة ، وهو ما ذكرنا.

وقال القتبي : «خبت» أي : سكنت : [يقال : خبت](١) إذا سكن لهبها تخبو ، فإذا سكن لهبها ولم يطفأ الجمر ، قلت : خمدت تخمد

خمودا ، فإذا طفئت ، ولم يبق منها شيء ، قيل : همدت تهمد همودا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (زِدْناهُمْ سَعِيراً).

أي : نارا تتسعر ، أي : تتلهب

وقال أبو عوسجة : «السعير» : النار ، يقال : سعرت النار : إذا أوقدتها ، ويقال : نار مسعورة ، أي : موقدة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً).

أي : كفرا بالبعث ، [و] «الظالمون» هاهنا هم الكافرون ، ولو قال : فأبى الكافرون إلا ظلموا ، ما كان واحدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ).

تحتمل الآية وجوها :

__________________

(١) سقط في أ.

١١٨

قال بعضهم : هي صلة ما تقدم من أسئلتهم ، وهو قوله : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً. أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣].

وقوله : (أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) [الفرقان : ٨].

كانوا يسألون هذه الأشياء على التعنت والعناد والاستهزاء ، فأخبر أنّه وإن أعطاهم ما سألوا لا ينفقون ، بل يمسكون عن الإنفاق ، ومن سنته : أنه إذا أعطاهم ما سألوا على السؤال ، فتركوا الإيمان به والوفاء ـ : أنهم يهلكون ، فأخبر أنهم يسألون سؤال تعنت ، لا سؤال ما يتوسعون بها.

وفى الآية إثبات الرسالة ؛ وهو ما بين من بخلهم وإمساكهم عن الإنفاق.

وقال بعضهم : قوله : (قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ) في قوم خاص يعلم الله أنهم لو أعطوا ما سألوا لفعلوا ما ذكر ، لا في كل منهم ، وهو كقوله :

(أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ...) الآية [البقرة : ٦] ، وكقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) الآية [الأنعام : ١١١] ، كان في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون فعلى ذلك الأوّل.

ويحتمل أن تكون الآية في قوم ضمنوا آية الإنفاق والتوسيع ، وعاهدوا الله على ذلك إن وسع عليهم ، فأخبر أنهم لا يوفون ما عاهدوه وضمنوا ؛ كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) الآية [التوبة : ٧٥].

ويحتمل أن يكون هذا إخبارا منه عن طبع الخلق وعادتهم : وذلك أنهم إذا استكثروا من الأموال وجمعوا يزداد لهم بذلك حرص على جمعها ، وبخل على التوسيع والإنفاق ما لم يكن قبل الجمع والاستكثار ، هذا [هو] المعروف في الناس ، فأخبر أنهم يمسكون عن الإنفاق والتوسيع إذا ملكوا ما ذكر على ما طبع الإنسان بالبخل والتضييق عند الاستكثار ما لم يكن قبل ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً).

يحتمل أن يكون هذا صفة كل كافر ، وكذلك قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩] و (مَنُوعاً) [المعارج : ٢١] يكون عادتهم البخل والجزع عند المصائب.

وجائز أن يكون هذا صفة كل إنسان في الابتداء هكذا يكون ، ثم بالامتحان والتجربة ، يكونون أسخياء صابرين.

أو يكون يخبر أنهم لو ملكوا وأعطوا جميع ما يرزقون في عمرهم على التفاريق بدفعة واحدة مجموعا ، لأمسكوا عن الإنفاق ؛ خشية الفقر في آخر عمرهم ؛ إذ لا يعلمون إلى ما

١١٩

ينتهون من آجالهم ؛ فيحملهم ذلك على البخل والإمساك.

أو يذكر لما أنه جبلهم ، وأنشأهم على الإمساك والمنع في الابتداء ، وإن لم تكن حاجة لهم إلى ذلك : ترى الصبيان والصغار من الأولاد يمنعون ما في أيديهم عن غيرهم وإن لم يكن لهم حاجة إلى ذلك ، هذا معروف فيهم ، وإنما جبلهم وأنشأهم هكذا ؛ ليمتحنهم بالجود والتوسيع ، والبخل والتضييق ، وإلا كانوا في أصل خلقتهم وابتداء إنشائها على ما ذكرنا أشحة بخلاء وهو [ما أخبر](١)(إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) [المعارج : ١٩] و (جَزُوعاً) [المعارج : ٢٠] ، و (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً) [الإسراء : ١١] أنشأهم جزوعين عن الألم والمصائب غير صابرين عليها ، وكذلك أنشأهم عجولين لا يصبرون على أمر واحد ، ولا حال واحد.

ثم امتحنهم على الصبر ، وترك الجزع والعجلة ؛ فعلى ذلك قوله : (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) أي : طمعا بخيلا ممسكا مضيقا ، والله أعلم.

ثم ترك ذلك بالامتحان واعتياد ذلك ، وخلافه.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً)(١٠٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ).

هذا. والله أعلم. فيما آتاه من الآيات وأمره أن يحاج بها فرعون ، وإلا كانت آيات موسى ـ عليه‌السلام ـ أكثر من تسع ، كأنها تبلغ عشرين ، وتزداد عليها ؛ إذ كان في عصاه أربع من الآيات :

إحداها : حيث ضرب بها البحر فانفلق.

و [الثانية] : حيث كان يضرب بها الحجر فينفجر منه عيونا.

و [الثالثة] : حيث ألقاها فصارت ثعبانا.

و [الرابعة] : حيث كانت تلقف حبالهم وعصيهم ، وأمثاله ، كأنها تبلغ إلى ما ذكرنا ، لكنه ذكر تسع آيات بينات التي أمره أن يحاج بها فرعون ، وقومه.

__________________

(١) في ب : ما ذكر.

١٢٠