تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

كقولهم : (رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) [إبراهيم : ٤٤] ؛ وكقوله تعالى : (رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ) [المؤمنون : ٩٩ ، ١٠٠] وكقولهم : (نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) [فاطر : ٣٧] وأمثاله (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] ؛ فما عاينوا هم من العذاب أكبر وأشد مما عاين فرعون ، ثم أخبر أنهم لو ردوا لعادوا إلى ما كانوا يعملون لكنهم قالوا ذلك قول دفع ، فعلى ذلك إيمان فرعون إيمان دفع البأس عن نفسه لا إيمان حقيقة واختيار.

والثاني : أن الإيمان والإسلام هو تسليم النفس إلى الله ، فإذا آمن في وقت خرجت نفسه من يده لم يصر مسلما نفسه إلى الله ؛ إذ نفسه ليست في يده ولذلك لم يقبل الإيمان في ذلك الوقت وقت الإشراف على الهلاك.

ويحتمل وجها آخر : وهو أن الإيمان بالله [لا يكون إلا بالاستدلال](١) بالشاهد على الغائب ، ولا يمكن الاستدلال بالشاهد على الغائب في ذلك الوقت ؛ إذ لا يكون ذلك إلا بالنظر والتفكر [وفي ذلك الوقت لا يمكن النظر والتفكر](٢) ؛ لذلك لم يكن إيمان حقيقة ، والله أعلم.

وأما قوله : (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ) قيل فيه بوجوه :

قيل : قوله : (نُنَجِّيكَ) من النجوة ، أي : نلقيك على النجوة وهو مكان الارتفاع والإشراف (٣) ؛ ليراه كل أحد أنه هلك ليظهر لهم أنه لم يكن إلها على ما ادعى لعنه الله ، وأما سائر أبدان قومه لم تلق على النجوة ولكن بقيت في البحر.

والثاني : قيل : (نُنَجِّيكَ) أي : نخرجك من البحر ولا نتركك فيه لتكون لمن خلفك آية.

والثالث : ننجيك ببدنك ولا نتبع بدنك روحك (٤) ؛ لأنه ذكر في القصة أنهم لما غرقوا هم وأغرق ، أخذ إلى النار ؛ كقوله : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) [نوح : ٢٥] أخبر أنه لم يهو جسده بروحه إلى النار ، ولكن أخرج بدنه وهوت روحه إلى النار مع سائر قومه ـ والله أعلم ـ ليرى جسده ويظهر كذبه ولا يشتبه أمره عليهم.

__________________

(١) في ب : إنما هو يكون بالاستدلال.

(٢) سقط في أ.

(٣) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٦٧) ، وكذا أبو حيان في البحر (٥ / ١٨٨).

(٤) أخرجه ابن جرير (٦ / ٦٠٧) (١٧٨٨٥ و ١٧٨٨٦ و ١٧٨٨٧ و ١٧٨٩٢ و ١٧٨٩٣) عن مجاهد.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٧٠) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

٨١

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يحتمل وجهين :

يحتمل ليكون هلاكك آية ، فلا يدعى أحد الربوبية والألوهية مثل ما ادعى هو (١) ، أو يقول : (لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) أي : من شاهدك كذلك غريقا ملقى كان آية له.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) : قال بعض أهل التأويل : يعني أهل مكة (٢) عن آياتنا لغافلون عن هلاك فرعون وقومه لما قالوا : (ما هذا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) [سبأ : ٤٣] ، و (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ) [القصص : ٣٦] [...](٣) يقول : هم غافلون عما أصاب أولئك ؛ إذ مثل هذا لا يفترى ، أعني : هذه القصص.

ويحتمل (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ) ، أي : كثير منهم كانوا غافلين عما أصابهم ، والغفلة تكون على وجهين :

أحدهما : غفلة إعراض وعناد بعد العلم به ومعرفة أن ذلك حق.

والثاني : يغفل بترك النظر والتفكر ؛ فكلا الوجهين مذموم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) : قال عامة أهل التأويل : بوأنا أنزلنا بنى إسرائيل منزل صدق (٤). وقال بعضهم : (بَوَّأْنا) : هيئنا لبنى إسرائيل ، (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) : مهيأ صدق حسنا ؛ كقوله : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ ...) الآية [آل عمران : ١٢١] ، أي : تهيئ للمؤمنين.

وقال بعضهم : قوله : (بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي : مكناهم تمكين صدق ؛ وهو كقوله : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ...) الآية [القصص : ٥ ـ ٦] يحتمل ما ذكر من التبوئة التمكين (٥) الذي ذكر في هذه الآية وقوله (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) قال بعضهم : منزل صدق ، أي : كريم وقال : منزل صدق أي حسن. ويحتمل وجهين آخرين :

أحدهما : أنه وعد لهم أن يمكن لهم في الأرض فأنجز ذلك الوعد ، فهو مبوأ صدق أي تمكين صدق ، حيث أنجز ذلك الوعد وصدق الوعد ما ذكر (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ) الآية.

والثاني : (مُبَوَّأَ صِدْقٍ) أي : مبوأ أهل صدق لأن الشام كان لم يزل منزل أهل صدق ،

__________________

(١) هذا كأنه على قراءة «خلقك» بالقاف.

(٢) ذكره أبو حيان في البحر (٥ / ١٨٩).

(٣) بياض في الأصول.

(٤) أخرجه بمعناه ابن جرير (٦ / ٦٠٨) (١٧٨٩٦) عن الضحاك ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٧٠) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الضحاك.

(٥) في أ : التمكن.

٨٢

وعلى هذا يخرج قوله : (رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ ...) الآية [الإسراء : ٨٠] ، أي : أخرجني مخرج أهل صدق وأدخلني مدخل أهل صدق ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) قال أهل التأويل : يعني المن والسلوى ، ولكن الطيبات هي التي طابت بها الأنفس مما حل بالشرع مما لا تبعة على أربابها مما لم يعص فيها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ) أي : فما اختلفوا في الدين إلا من بعد ما جاءهم العلم أنه حق.

وقيل (١) : فما اختلفوا في محمد في أنه رسول الله إلا من بعد ما جاءهم العلم [أنه رسول الله وقيل : فما اختلفوا في القرآن والأديان التي أنزلها على رسوله إلا من بعد ما جاءهم العلم](٢) أنه منزل من عند الله. ويحتمل قوله : (فَمَا اخْتَلَفُوا) في موسى أنه رسول الله إلا من بعد ما جاءهم العلم أنه رسول الله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ...) الآية : ظاهرة من الوجوه التي ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ) يحتمل وجهين :

أحدهما : الجزاء والثواب ، والثاني : في تبيين المحق من المبطل.

قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٩٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ) : اختلف فيه ؛ قال بعضهم : [الخطاب به لرسول الله والمراد منه غيره. وقال بعضهم : الخطاب به المراد به جميعا غيره. وقال بعضهم](٣) الخطاب به والمراد به رسول الله ما كنت في شك مما أخبرتهم وأنبأتهم ، فمن قال : الخطاب لرسول الله والمراد به غيره ، وهو ما ظهر في الناس أنهم يخاطبون من هو أعظم منزلة عندهم وقدرا ويريدون به غيره ، وإلا لا يحتمل أن يكون رسول الله يشك فيما أنزل إليه قط أو يرتاب ؛ كقوله : (إِمَّا يَبْلُغَنَ

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٦٧).

(٢) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٣) ما بين المعقوفين سقط في أ.

٨٣

عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما ...) الآية [الإسراء : ٢٣] ، ومعلوم أنه في وقت ما خوطب به لم يكن أبواه أحياء دل أنه أراد به غيره ؛ فعلى ذلك الأول.

ومن قال : الخطاب والمراد به من غير (١) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : إن الوفود من الكفرة كانوا يتقدمون رسول الله فيسألونه شيئا فشيئا فيخاطب الذى (٢) يتقدم ، وكان يحضره الوحدان (٣) والجماعة يقول : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ).

وقوله : (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) على هذا التأويل هو منزل إليه ؛ إذ كل منزل على رسول الله منزل عليه وإليه وإلى كل أحد كقوله : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ٣] أمرهم باتباع ما أنزل إليهم دل أن كل منزل على رسول الله منزل عليهم.

ومن قال : الخطاب والمراد به رسول الله قال لما لا يحتمل أن يكون رسول الله يشك في شيء مما أنزل إليه ، ولكنه يريد به التقرير عنده لقول الكفار إن الذي يلقي على محمد شيطان فيريد به التقرير عنده ، أو يخاطب به كل شاك ؛ كقوله : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي) [الانفطار : ٦ ـ ٧] هو يخاطب إنسانا واحدا ، ولكن المراد به كل إنسان مغرور وكل كافر ، وذلك جائز في القرآن كثير أن يخاطب به كلا في نفسه.

ومن قال : خاطب به رسوله وأراد هو ـ أيضا ـ وهو كان في الابتداء على غير يقين أنه يوحى إليه أو لا ؛ كقوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) [العنكبوت : ٤٨] ، وقوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) [الشورى : ٥٢] فقال : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ) الأنباء التي أخبرتهم وأنبأتهم وادعيت أنها أوحيت إليك ليخبروك على ما أخبرتهم.

وقوله : (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) قال بعضهم : فاسأل الذين يقرءون الكتاب يعني من آمن منهم.

وقال بعضهم : سل أهل الكتاب منهم يخبرونك ؛ لأنه مكتوب عندهم ؛ كقوله : (يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ ...) الآية [الأعراف : ١٥٧].

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) قيل (٤) : الحق القرآن جاء من ربك ، وقيل : جاء البيان أنه من عند الله.

__________________

(١) في أ : حضر.

(٢) في أ : الذين.

(٣) في أ : الوفد.

(٤) ذكره أبو حيان في البحر (٥ / ١٩١).

٨٤

وقوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ) : الشاكين.

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ) : هو ما ذكرنا أنه يريد بالخطاب غيره ، وإلا لا يحتمل أن يكون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكون من الشاكين ، أو يكون من الذين يكذبون (١) بآيات الله ، أو يكون من الخاسرين.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) (١٠٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ).

قوله : (حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) هو قوله ـ عزوجل ـ : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود : ١١٩] هذا يكون في الختم من يختم به يعني بالكفر فقد حقت كلمة ربك لأملأن جهنم ، أو (حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) ما ذكر في آية أخرى : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ ...) الآية [الأعراف : ٣٧] ، أو كلمة ربك ما ذكر : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ) [الأنعام : ١١١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ) أي : علم ربك بأحوالهم ، أي : من كان علمه أنه لا يؤمن فلا يؤمن وقت اختياره الكفر ؛ كقوله : (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ) [الأعراف : ١٨٦] [أي : من يضلل الله فلا هادي له](٢) وقت اختيارهم الكفر ؛ وكذلك قوله : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ٢٥٨] وقت اختيارهم الظلم ونحو ذلك ، فالتأويل الأول يرجع إلى الختم به ، والثاني : إلى وقت من ثبت عليه علم ربه أنه لا يؤمن إلى وقت أنه لا يؤمن في ذلك الوقت.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) قيل : في الدنيا إيمان دفع العذاب ويحتمل في الدنيا ، وقد ذكرنا هذا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ ...) الآية ، أي : لم تكن القرى آمنت عند معاينة البأس إيمانا نفعها إلا إيمان قوم يونس ، فإنهم آمنوا إيمان حقيقة وعلم الله صدقهم من إيمانهم فنفعهم إيمانهم ، هذا يخرج

__________________

(١) في ب : كذبوا.

(٢) سقط في أ.

٨٥

على وجوه :

أحدها : أن سائر القرى كان إيمانها عند إقبال العذاب إليهم ووقوعه عليهم ، فلم ينفعهم [إيمانهم](١) إلا قوم يونس ، [فإن إيمانهم إنما كان لتخويف العذاب فينفعهم.

والثاني : يحتمل أن يكون قوم يونس](٢) كان نزول العذاب بهم على التخيير والتمكين إن قبلوا الإيمان أمنوا دفع العذاب عنهم ، وإن لم يقبلوا نزل بهم.

والثالث : [إنما](٣) كان إيمان سائر القرى بعد ما عاينوا مقامهم في النار فآمنوا ، فيكون إيمانهم إيمان اضطرار ، وقوم يونس آمنوا قبل أن يعاينوا ذلك ، ويشبه أن يكون قوله : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ) بعد وقوع العذاب والبأس ، (فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ) فإنهم آمنوا إذ عاينوا العذاب قبل أن يقع بهم ، وإيمان فرعون وقومه إنما كان بعد ما غرقوا وبعد ما خرجت أنفسهم من أيديهم فلم يقبل ، وإيمان قوم يونس كان قبل أن يقع العذاب بهم وأنفسهم في أيديهم بعد فقبل ، وهو ما ذكر عزوجل : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ...) الآية [الأعراف : ١٧١] ، آمنوا بعد ما (٤) عاينوا قبل أن يقع بهم وسائر الأمم الخالية كان منهم الإيمان بعد وقوع العذاب بهم من نحو عاد وثمود وأمثاله ، وأصله ما ذكرنا آنفا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا).

قوله : (كَشَفْنا عَنْهُمْ) : بحلول العذاب بهم ، (عَذابَ الْخِزْيِ) : هو العذاب الفاضح وإلا الخزي هو العذاب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) : قالت المعتزلة : [قوله](٥) : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ) مشيئة القهر والقسر ، لو شاء لأجبرهم وقهرهم جميعا فيؤمنوا وإلا فقد شاء أن يؤمنوا مشيئة الاختيار لكنهم لم يؤمنوا ، واستدلوا على ذلك بقوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

فيقال لهم : إن مشيئة الاختيار هي الظاهرة عندكم ومشيئة الجبر والقهر غائبة (٦) ، فإذا وجد منه مشيئة الاختيار فلم يؤمنوا ولم تنفذ مشيئته فيهم كيف يصدق هو في الإخبار عن

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) في أ : عند ما.

(٥) سقط في ب.

(٦) في أ : غايته.

٨٦

المشيئة التي [هي غائبة](١) أنها لو كانت لآمنوا هذا فاسد على قولهم.

وبعد فإن المشيئة لو كانت مشيئة القهر لكانوا مؤمنين بتلك المشيئة وهي خلقة ؛ لأن كل كافر مؤمن بخلقته ؛ لأن خلقة كل أحد تشهد على وحدانية الله ، فإذا كانوا مؤمنين بالخلقة ثم ذكر أنه لو شاء لآمنوا دل أنه لم يرد به مشيئة القهر ولكنه أراد مشيئة الاختيار ، وتأويله عندنا هو أن عند الله تعالى لطف لو أعطاهم كلهم لآمنوا جميعا ، لكنه إذ علم أنهم لا يؤمنون لم يعطهم وهو التوفيق والعصمة ، لكنه إذ علم منهم أنهم لا يؤمنون شاء ألا يؤمنوا ، ثم لا يحتمل أن يتحقق الإيمان بالجبر والقهر ؛ لأنه عمل القلب والجبر والإكراه مما لا يعمل على (٢) القلب ، فهو وإن تكلم بكلام الإيمان فلا يكون مؤمنا حتى يؤمن بالقلب ، فيكون التأويل على قولهم : ولو شاء ربك فلا يؤمنوا ، فهذا متناقض فاسد.

وبعد فإن الإيمان لا يكون في حال الإكراه والإجبار ؛ لأن الإكراه يزيل الفعل عن المكره كأن لا فعل له في الحكم.

وقوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) فإن قيل : أليس قال الله ـ عزوجل ـ : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] أي : حتى يسلموا وذلك إكراه ، وقال [رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم](٣) : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله» (٤) فذلك إكراه ، فكيف يجمع بين الآيتين؟! قيل لوجهين :

أحدهما : ما ذكر أن هذه السورة مكية ، وقوله : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] مدنية ، فيحتمل قوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) أي : لا تكرههم ثم أمر بالقتال بالمدينة والحرب والإكراه عليه.

والثاني : يجوز أن يجمع بين الآيتين ، وهو أن يكون قوله : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] أي : تقاتلونهم حتى يقولوا قول إسلام ويتكلموا بكلام الإيمان ، دليله (٥) ما روي : «حتى يقولوا : لا إله إلا الله» ، والقول : بلا لا إله إلا الله على غير حقيقة ذلك في القلب ليس بإيمان ، وفي هذه الآية حتى يكونوا مؤمنين وبالإكراه لا يكونون مؤمنين

__________________

(١) في أ : هو غاية.

(٢) في أ : عمل.

(٣) سقط في ب.

(٤) أخرجه البخاري (٣ / ٣٠٨) كتاب الزكاة ، باب وجوب الزكاة (١٣٩٩) وفي (١٢ / ٢٨٨) كتاب استتابة المرتدين (٦٩٢٤) وفي (١٣ / ٢٦٤) كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة (٧٢٨٤) ومسلم (١ / ٥٢) كتاب الإيمان ، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا : «لا إله إلا الله» (٣٣ / ٢١).

(٥) في ب : حتى.

٨٧

حقيقة ؛ لأنه عمل القلب والإكراه مما لا يعمل عليه ، والله أعلم.

وتأويل قوله : (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ) أي : لا تملك أن تكرههم ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشدة حرصه ورغبته في إيمانهم كاد أن يكرههم على الإيمان إشفاقا عليهم ؛ كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قيل : بمشيئة الله ، وقيل : بعلم الله ، وقيل : بأمر الله (١) وبإرادته وهو ما ذكرنا لا تؤمن نفس إلا بمشيئة الله وإرادته في ذلك ، ولا يحتمل قوله : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) سوى المشيئة والإرادة ؛ لأنه كم من مأمور بالإيمان لم يؤمن ، فلم يحتمل الأمر ولا يحتمل الإباحة لأنه لا يباح ترك الإيمان في حال وأصله ما ذكرنا ؛ أنه لا يحتمل أن يكون الله ـ عزوجل ـ يعلم من خلقه اختيار عداوته والخلاف له ويشاء لهم الولاية ؛ لأنه يخرج ذلك مخرج العجز ؛ لأن في الشاهد من اختار عداوة أحد فالآخر يختار ولايته أنه إنما يختار لضعفه وعجز فيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) قيل : الإثم على الذين لا يعقلون (٢) ، وقيل : ويجعل العذاب على الذين لا يعقلون (٣) ، أي : لا يستعملون عقولهم حتى يعقلوا ، أو على الذين لا ينتفعون بعقولهم.

وقال بعضهم : في قوله : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها) أي : لم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها عند نزول العذاب إلا قوم يونس.

وقال بعضهم : فهلا كانت آمنت إذا رأت بأسنا ، فكانت مثل قوم يونس ، فإنهم آمنوا حين رأوا (٤) العذاب ، وأصله ما ذكرنا أنه لا يحتمل أن يكون الله تعالى يعلم من خلقه اختيار عداوته والخلاف له يسألهم ويشاء لهم الولاية ؛ لأنه يخرج ذلك مخرج العجز ؛ لأن في الشاهد من اختار عداوة أحد فالآخر يختار ولايته أنه إنما يختار لضعفه وعجزه فيه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) قيل : وما كان لنفس في علم الله أنها لا تؤمن فتؤمن ، أي : لا تؤمن نفس في علم الله أنها لا تؤمن إنما يؤمن

__________________

(١) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٧٠).

(٢) ذكره أبو حيان في البحر (٥ / ١٩٣) ونسبه لابن عباس.

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٧٤) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة ، والبغوي في تفسيره (٢ / ٣٧٠).

وكذا أبو حيان في البحر (٥ / ١٩٣) ونسبه للحسن والزجاج وأبي عبيدة.

(٤) في أ : يروا.

٨٨

من في علم الله أنه يؤمن ، وأما من في علم الله أنه لا يؤمن فلا يؤمن.

وقيل : (وَما كانَ لِنَفْسٍ) أي : لا تؤمن نفس إلا بمشيئة الله ، أي : إذا آمنت إنما تؤمن بمشيئة الله ما يفعل إنما يفعل بمشيئة الله ؛ كقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).

وقال بعضهم : [قوله](١) : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي : بأمر الله ، فمعناه إذا آمنت إنما تؤمن بأمره لا تؤمن بغير أمره فالأول أقرب ، والله أعلم.

وقوله : (وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) أي : يجعل جزاء الرجس ، أي : جزاء الكفر على الذين لا يعقلون ، أي : الذين لا ينتفعون بعقولهم ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ)(١٠٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) تأويله ـ والله أعلم ـ أي : انظروا إلى آثار نعمه وإحسانه التي في السموات والأرض [لكي تشكروه أو يقول : انظروا إلى آثار ربوبيته وألوهيته في السموات والأرض](٢) فتوحدوه وتؤمنوا به أو يقول : انظروا إلى آثار سلطانه وقدرته فتخافوا نقمته (٣) وعقابه ، أو انظروا إلى أجناس الخلق واتساقه على تقدير واحد ليدلكم على وحدانيته ونحو ذلك ، ليس شيء في السموات والأرض يقع عليه البصر إلا وفيه دلالة الربوبية حتى طرفة العين ولحظة البصر.

وقوله : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ) [يحتمل وجوها : يحتمل وما تغني الآيات والنذر عن قوم](٤) همتهم المكابرة والمعاندة ، إنما تغني الآيات من همته القبول والانقياد ، وأما من همته المكابرة والعناد فلا تغني ؛ وهو كقوله : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ...) الآية [الأنعام : ١١١].

ويحتمل وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون في الدنيا ، إنما تنفع وتغني لقوم يؤمنون ، فأما من لا يؤمن فلا تغني.

والثالث : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) يحتمل الرسل ، ويحتمل المواعيد (٥) التي أوعدوا والأحوال التي تغيرت على أوائلهم ، والله أعلم.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) في أ : نعمته.

(٤) سقط في أ.

(٥) في أ : الوعيد.

٨٩

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ) أي : فهل ينتظرون بي يوما من الهلاك إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟! أي : إلا مثل ما انتظر الذين خلوا من قبلهم برسلهم من الهلاك ، فهو يخرج على التوبيخ لانتظارهم هلاك الرسل وذهاب أمرهم. ويحتمل وجها آخر : فهل ينتظرون من نزول العذاب بهم إلا مثل ما انتظر أولئك من نزول العذاب بهم؟! إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل.

ويحتمل قوله : فهل ينتظرون من تأخيرهم الإيمان إلى وقت نزول العذاب بهم [إلا مثل ما أخر الذين خلوا من قبلهم الإيمان إلى وقت نزول العذاب بهم](١) ، فهذا يخرج على الإياس من إيمانهم ، أي لا يؤمنون إلى ذلك الوقت الذي لا ينفعهم إيمانهم.

والوجه الأول على التوبيخ والتعيير.

وقوله : (قُلْ فَانْتَظِرُوا) بي ذلك (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا).

قوله : (نُنَجِّي) أي : أنجينا الرسل والذين آمنوا ؛ لأنه لم يكن بعده رسول ، وتأويله ـ والله أعلم ـ أنه وعده أن ينجي الرسل والذين آمنوا كذلك حقا علينا أن ينجز ما وعدنا أن ينجي الرسل والذين آمنوا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ)(١٠٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي).

قوله : (إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) : الذي أدين به ، أو [إن](٢) كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه.

(فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : إذا شككتم في ديني الذي أدعوكم إليه كنتم

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) سقط في ب.

٩٠

شاكين في دينكم الذي أنتم عليه ، فتركتم ديني الذي أنا عليه بالشك ، [ثم تدعونني إلى دينكم الذي أنتم عليه بالشك ، يذكر سفههم بتركهم إجابتهم بالشك ودعائهم إياه بالشك إلى دينهم لأن الشك](١) يوجب الوقف في الأشياء ، ولا يوجب الدعاء إليه إنما يوجب الدعاء إليه بطلان غيره لا الشك ، هذا ـ والله أعلم ـ محتمل وهو يخرج على وجهين أيضا : أحدهما : على الإضمار ، والآخر على المنابذة ، والإضمار ما ذكرنا : إن كنتم في شك من ديني الذي أدين به [وأدعوكم إليه فإني لا أشك فيه ، هذا وجه الإضمار ، ووجه المنابذة : يقول إن كنتم في شك مما أعبد وأدين به](٢) فلا تعبدون ذلك ولا تدينون به ، فأنا لا أعبد ما تعبدون ولا أدين ما تدينون ؛ وهو كقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون : ٦].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) : والتوفي هو [النهاية والغاية](٣) في الإضرار ، وما تعبدون من الأصنام دونه لا يملكون توفيكم ولا الإضرار بكم إن لم تعبدوها ، يذكر سفههم ويلزمهم الحجة أن الذي يتوفاهم هو المستحق للعبادة لا الأصنام التي تعبدونها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : يشبه أن يكون قوله : (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من المرسلين ؛ كقوله : (إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات : ١٢٢] ، وقال : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) [الصافات : ٨١] فعلى ذلك هذا.

ويحتمل الإيمان نفسه على ما نهي أن يكون من المشركين أو الشاكين ؛ فعلى ذلك أمر أن يكون من المؤمنين المخلصين له المسلمين أنفسهم ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) أي : أمرت أن أقيم نفسي لله خالصة سالمة لا أشرك فيها غيره ولا أجعل لسواه فيها نصيبا ، أو أن يقول : إني أمرت أن أقيم نفسي على ما عليها شهادة خلقتها ؛ إذ خلقة كل نفس تشهد على وحدانية الله وألوهيته ، أو يقول : أقم وجه أمرك لما تدين به وتقيم عليه.

(وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) : هذا ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ) : إن أطعته وأجبته ، (وَلا يَضُرُّكَ) : إن تركت إجابته وطاعته.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٣) في ب : الغاية والنهاية.

٩١

وقوله : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ) يحتمل لا تعبد من دون الله ما لا يملك جر المنفعة.

ويحتمل الدعاء نفسه ، أي : لا تدعوا (١) من دون الله إلها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) : [ذكر هاهنا](٢) الظلم إن فعل ما ذكر والمراد منه الشرك ، وذكر في قصة آدم وحواء : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) [البقرة : ٣٥] ، وقد قرباها ولم يكونا مشركين إنما كانا عصاة ؛ ليعلم أن ليس في الموافقة في الأسماء موافقة في الحقائق والمعاني إنما يكون الموافقة في الحقائق في موافقة الأسباب ؛ لذلك كان ما ذكروا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) : فيه الرجاء والطمع إلى من دونه ؛ إذ أخبر أنه لا يوجد ذلك من عند غيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) : أخبر أنه إن أراد خيرا وفضلا فلا راد لذلك الفضل ، والخير ، والإيمان من أعظم الخيرات وأفضلها ، فإذا [أراده لإنسان](٣) كان لا يملك أحد دفع ما أراد ولا رده ؛ دل أنه إذا أراد الإيمان لأحد كان مؤمنا ، فهو ينقض على المعتزلة حيث قالوا : إنه أراد الإيمان للخلق كلهم. لكنهم لم يؤمنوا ؛ إذ أخبر أنه إذا اراد به خيرا فلا راد [لذلك الفضل](٤) ، وهم يقولون : بل يملك العبد رد ما أراد له ودفعه ، وبالله العصمة.

وفيه أن ليس على الله فعل [لهم](٥) ـ أعني فعل الخير ـ لأنه سماه فضلا ، والفضل هو فعل ما ليس عليه ، وهو المفهوم في الناس أن ما عليهم من الفعل لا يسمونه فضلا إنما يسمون الفضل ما ليس عليه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) : يصيب به من يشاء من الفضل والخير أو من الشر ، وفيه دلالة تخصيص بعض على بعض حيث قال : (يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).

(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) : لا يعجل بالعقوبة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ) : قيل : الحق محمد (٦) صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقيل : الحق : القرآن الذي أنزل عليه (٧) ، وأمكن أن يكون الحق هو الدين الذي كان

__________________

(١) في ب : تسم.

(٢) في ب : هاهنا ذكر.

(٣) في أ : أراد الإنسان.

(٤) في أ : لفضله.

(٥) سقط في ب.

(٦) ذكره أبو حيان في البحر (٥ / ١٩٦).

(٧) ذكره ابن جرير (٦ / ٦١٩) ، وأبو حيان (٥ / ١٩٦) ، والبغوي (٢ / ٣٧٢).

٩٢

يدعوهم رسول الله إليه ؛ لأنه قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي) [يونس : ١٠٤] فيشبه أن يكون الحق هو الدين الذي شكوا فيه ، أي : قد جاءكم ما يزيل عنكم ذلك الشك إن لم تكابروا لما أقام عليهم الحجج والبراهين.

ويحتمل الحق محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما ذكره بعض أهل التأويل وكان رسول الله في أول نشوئه إلى آخره آية.

ويحتمل الحق القرآن على ما ذكره بعضهم وهو ما ذكر. (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) [فصلت : ٤٢] ، سماه بأسماء مختلفة سماه حقّا وسماه نورا وشفاء ورحمة وهدى ونحوه ، وفيه كل ما ذكر من تأمله وتفكر فيه وتمسك به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها) أي : من اهتدى فإنما منفعة اهتدائه له في الدنيا والآخرة ، ومن ضل فإنما يرجع ضرر ضلالته إليه وخيانته عليه ، أي : ما يأمر وينهى ليس يأمر وينهى لمنفعة تحصل له أو لحاجة نفسه إنما يأمر وينهى لمنفعة الخلق ولحاجتهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ) أي : بمسلط. قال بعض أهل التأويل : هو منسوخ ، نسخته آية القتال ، لكنه لا يحتمل لأنه وإن كان مأمورا بالقتال فهو ليس بوكيل ولا بمسلط (١) على حفظ أعمالهم ، إنما عليه التبليغ ؛ كقوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) [الشورى : ٤٨] ؛ وكقوله : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ) [النور : ٥٤] ؛ وكقوله : (ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ...) الآية [الأنعام : ٥٢].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) يحتمل القرآن وغيره من الوحي غير القرآن.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللهُ) أي : اصبر على أذاهم لأنهم كانوا يؤذونه ويقولون فيه بما لا يليق به ، يقول : اصبر على أذاهم ولا تعجل [عليهم](٢) بالعقوبة حتى يحكم الله عليهم بالعقوبة وقت عقوبته وهو خير الحاكمين ، أو اصبر على تكذيبهم إياك حتى يحكم الله بينك وبين مكذبيك وهو خير الحاكمين ، أو اصبر على تبليغ الرسالة والقيام لما أمرت به ، والله أعلم (٣).

* * *

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٦١٩) (١٧٩٢٨) عن ابن زيد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٧٥) وزاد نسبته لابن أبي حاتم عن ابن زيد.

(٢) سقط في ب.

(٣) في أ : والله الموفق.

٩٣

[سورة هود عليه‌السلام](١)

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (١) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (٢) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (٣) إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(٤)

قوله ـ عزوجل ـ : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) :

قال الحسن : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) بالأمر والنهي (٢) ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بالوعد والوعيد.

وقال بعضهم : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) بالوعد والوعيد ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بالأمر والنهي.

وقال بعضهم : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) حتى لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها (٣) ، ولا يملك أحد التبديل ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بينت ما يؤتى و [ما](٤) يتقى ، أو بينت ما لهم وما عليهم وما لله عليهم.

وقال بعضهم : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) فلم تنسخ (٥) ، (ثُمَّ فُصِّلَتْ) بالحلال والحرام. وقيل : (فُصِّلَتْ) أي : فرقت في الإنزال أنزل شيء بعد شيء على قدر (٦) النوازل والأسباب فلم ينزل جملة ؛ لأنه لو أنزل جملة لاحتاجوا إلى أن يعرفوا الكل بسببه وشأنه وخصوصه وعمومه ، فإذا أنزل متفرقا في أوقات مختلفة على النوازل والأسباب عرفوا ذلك على غير إعلام ولا بيان ، والتفصيل هو اسم التفريق واسم التبيين ، وذلك يحتمل المعنيين جميعا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ) : أي : أحكمت حتى لا يرد عليها النقض (٧)

__________________

(١) في ب : السورة التي فيها ذكر هود ، عليه الصلاة والسلام.

(٢) أخرجه ابن جرير (٦ / ٦٢٠) (١٧٩٢٩ و ١٧٩٣٠ و ١٧٩٣١) عن الحسن البصري.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٧٨) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن الحسن البصري.

(٣) أخرجه بمعناه ابن جرير (٦ / ٦٢١) (١٧٩٣٣ و ١٧٩٣٤) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٧٨) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

(٤) سقط في ب.

(٥) ذكره البغوي (٢ / ٣٧٢) ونسبه لابن عباس ، وكذا الرازي (١٧ / ١٤٢).

(٦) ذكره البغوي (٢ / ٣٧٢) ، وكذا الرازي (١٧ / ١٧٣).

(٧) في ب : النقيض.

٩٤

والانتقاض ، أو أحكمت حتى لا يملك أحد التبديل والتغيير ، أو أحكمت عن أن يقع فيها الاختلاف.

وقال بعضهم : أحكمت آياته بالفرائض ، وفصّلت بالثواب والعقاب.

ثم (آياتُهُ) تحتمل وجوها :

أحدها : العبر.

والثاني : الحجج.

والثالث : العلامة.

ثم الآية كل كلمة في القرآن تمت فهي [عبرة أو حجة](١) أو علامة لا تخلو عن أحد هذه الوجوه الثلاثة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) : من عند حكيم عليم جاءت هذه الآيات.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ) أي : من الله ينذر من ينذر ومن عنده يبشر من يبشر ؛ يبشر من اتبع وينذر من خالف.

وقوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) في شهادة خلقتكم هو المستحق للعبادة ويحتمل (أَلَّا تَعْبُدُوا) ألّا توحدوا إلا الذي في شهادة خلقتكم وحدانيته.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ) : إن كانت الآية في الكفار فيكون قوله : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) أي : أسلموا ثم توبوا إليه ، أي : ارجعوا إليه عن كل معصية وكل مأثم تأتونها ، وإن كان في المسلمين فهو ظاهر ، فيكون قوله : استغفروا وتوبوا واحدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً) أي : يمتعكم في الدنيا متاعا تستحسنون في الآخرة ذلك التمتع ، وأمّا الكفار فإنهم لا يستحسنون في الآخرة ما متعوا في الدنيا ؛ لأن تمتعهم في الدنيا للدنيا ، والمؤمن ما يتمتع في الدنيا يتمتع لأمر الآخرة والتزود لها (٢) ،

__________________

(١) في ب : حجة أو عبرة.

(٢) قال المفسرون : يعيشكم عيشا في خفض ودعة وأمن وسعة (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) إلى حين الموت.

فإن قيل : أليس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر». وقال أيضا : «خص البلاء بالأنبياء ، ثم الأولياء ، فالأمثل فالأمثل» ، وقال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ)[الزخرف : ٣٣] ؛ فدلت هذه النصوص على أن نصيب المؤمن المطيع عدم الراحة في الدنيا ، فكيف الجمع بينهما؟

فالجواب من وجوه :

الاول : أن المعنى : لا يعذبهم بعذاب الاستئصال كما استأصل أهل القوة من الكفار. ـ

٩٥

والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) : يحتمل قوله : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ) في الدنيا جزاء فضله في الآخرة.

ويحتمل (وَيُؤْتِ) بمعنى أتى ، أي : ما أتى كل ذي فضل في الدنيا إنما أتاه بفضله.

وقوله : (وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ) أي : ويؤت كل ذي فضل في دينه في الدنيا فضله في الآخرة ، أو يقول : يؤت كل ذي فضل في الدنيا والآخرة فضله ؛ لأن أهل الفضل في الدنيا هم أهل الفضل في الآخرة.

(وَإِنْ تَوَلَّوْا) : ولم يسلموا ، (فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ) الآية ظاهرة.

وقال بعضهم (١) في موضع آخر ، وهذا لما يكبر على الخلق ويعظم ذلك اليوم.

وقال بعض أهل الفقه : في قوله : (الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) دلالة تأخير البيان ؛ لأنه قال : (أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) ، وحرف ثم (٢) من حروف الترتيب ، ففيه جواز تأخير البيان ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ) أي : إلى ما أعد لكم مرجعكم من وعد ووعيد.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أي : وهو على كل ما [أوعد ووعد](٣) قدير.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ)(٥)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) : عن عبد الله بن شداد قال : كان أحدهم إذا مر بالنبي تغشى بثوبه وحنى صدره.

__________________

ـ الثاني : أنه تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان ، وإليه الإشارة بقوله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ)[طه : ١٣٢].

الثالث : أن المشتغل بالعبادة مشتغل بحب شيء يمتنع تغيره وزواله وفناؤه ، وكلما كان تمكنه في هذا الطريق أتم كان انقطاعه عن الخلق أتم وأكمل ، وكلما كان الكمال في هذا الباب أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل ؛ لأنه أمن من تغير مطلوبه ، وأمن من زوال محبوبه.

وأما من اشتغل بحب غير الله ، كان أبدا في ألم الخوف من فوات المحبوب وزواله ؛ فكان عيشه منغصا وقلبه مضطربا ؛ ولذلك قال تعالى في حق المشتغلين بخدمته : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً)[النحل : ٩٧]. ينظر : اللباب (١٠ / ٤٣٢).

(١) في أ : عظيم.

(٢) في ب : الثم.

(٣) في ب : وعد وأوعد.

٩٦

وقال قتادة : كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله وذكره (١).

وقال بعضهم : نزلت الآية في رجل يقال له : الأخنس بن شريق الثقفي ، كان يجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويظهر له أمرا حسنا ، وكان حسن المنظر حسن الحديث ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعجبه حديثه ويقر به مجلسه ، وكان يضمر خلاف ما يظهر ، فأنزل الله : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ)(٢) يقول : يكتمون ما في صدورهم ويستترون ؛ وهو قول ابن عباس.

وأصل تثنية الصدور هو أن يضم أحد طرفي الصدر إلى الطرف الآخر ليكون ما أضمروا أستر وأخفى.

ويشبه ما ذكر من ثني الصدور أن يكون كناية عن ضيق الصدور ؛ كقوله : (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) [الأنعام : ١٢٥] ، أو عبارة عن الكبر ؛ كقوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ ...) الآية [الحج : ٩] ، وكان أصله الميل إلى غيره ، وهو ما قال أبو عوسجة : (يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) أي : يميلون إلى غيره ؛ وكذلك قوله : (ثانِيَ عِطْفِهِ) [الحج : ٩].

وقوله : (لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ) قال بعضهم : من الله (٣) ، وقال بعضهم : منه أي من رسول الله (٤) ، لكن إن كانت الآية في المنافقين على ما ذكره بعض أهل التأويل ، فهو الاستسرار والاستتار من رسول الله ؛ لأنهم كانوا يظهرون الموافقة ويضمرون الخلاف له والعداوة ، وإن كانت الآية في المشركين فهو على الاستسرار والاستتار من الله ؛ لأنهم لا يبالون الخلاف لرسول الله وإظهار العداوة له ، وعندهم أن الله لا يطلع على ما يسرون ويضمرون في قلوبهم ، فأخبر أنه يعلم ما أسروا وما أعلنوا ، ففيه دلالة إثبات رسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنهم كانوا يسرون ذلك عنه ويضمرونه ، فأخبرهم بذلك ليعلم إنما علم ذلك بالله تعالى.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) أي : يستترون بها. قال الحسن : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ) في ظلمة الليل وفي أجواف بيوتهم يعلم تلك الساعة ما يسرون

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٦٢٤) (١٧٩٥٢ و ١٧٩٥٣ و ١٧٩٥٤) عن عبد الله بن شداد.

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٧٩) وزاد نسبته لسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن عبد الله بن شداد.

(٢) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٧٣) ونسبه لابن عباس.

(٣) ذكره ابن جرير (٦ / ٦٢٧) ، والبغوي في تفسيره (٢ / ٣٧٤) ونسبه لمجاهد.

(٤) ذكره البغوي في تفسيره (٢ / ٣٧٤).

٩٧

وما يعلنون (١) ، وأصله أنهم يعلمون أن الله هو الذي أنشأ هذه الصدور والقلوب ، والثياب هم الذين نسجوها واكتسبوها ، ثم لا يملكون الاستتار [بما كسبوا هم فلألّا يملكوا الاستتار](٢) بما تولى هو إنشاءه أحق.

وقوله : (أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ) ألا إنما هو تأكيد الكلام ، وهو قول أبي عبيدة (٣) وغيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) : قال أهل التأويل عليم بما في الصدور ولكن يشبه أن قوله : (عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) عبارة عن صدور لها تدبير وتمييز وهو البشر.

قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(٨)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) : قال بعضهم : عنى بالدابة الممتحن به وهو [البشر ، وأما غيره من الدواب فقد سخرها للممتحن به.

وقال قائلون : أراد كل دابة تدب على وجه الأرض من الممتحن به وغيره وتمامه : ما من دابة في الأرض](٤) جعل قوامها وحياتها بالرزق إلا على الله إنشاء ذلك الرزق لها ، ثم من الرزق ما جعله بسبب ، ومنه ما جعله بغير سبب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) : اختلف فيه أيضا :

قال بعضهم : قوله : (عَلَى اللهِ رِزْقُها) [الذاريات : ٢٢] أي : على الله إنشاء رزقها وخلقه لها الذي به قوامها وحياتها ؛ وهو كقوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أي : ينشئ ويخلق رزقنا بسبب من السماء من المطر وغيره ؛ فعلى ذلك قوله : (عَلَى اللهِ رِزْقُها) أي : على الله إنشاء رزقها وخلقه لها.

وقيل : (عَلَى اللهِ رِزْقُها) أي : على الله أن يبلغ إليها رزقها وما قدر لها وما به معاشها كقوله : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها ...) الآية [فصلت : ١٠] : عليه تبليغ رزقها وما به معاشها.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٦٢٥) (١٧٩٦٠) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٧٩) وعزاه لابن جرير عن الحسن البصري.

(٢) سقط في أ.

(٣) ينظر : مجاز القرآن (١ / ٢٨٥).

(٤) ما بين المعقوفين سقط في أ.

٩٨

ثم قوله : (عَلَى اللهِ رِزْقُها) : قال بعضهم : ما جاءها من الرزق إنما جاءها من الله لم يأتها من غيره وعلى الله بمعنى من الله وذلك جائز في اللغة ؛ كقوله : (إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ) [المطففين : ٢] أي : من الناس ؛ وهو قول مجاهد (١). ويحتمل قوله : (عَلَى اللهِ رِزْقُها) أي : على الله وفاء ما وعد ، وقد كان وعد (٢) أن يرزقها ، فعليه وفاء وعده وإنجازه.

ويحتمل وجها آخر : وهو أنه علم لما خلقها علم أنه يبقيها إلى وقت عليه تبليغ ما به تعيش إلى ذلك الوقت والأجل الذي خلقها ليبقيها إلى ذلك ؛ وبعضه قريب من بعض.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها) : اختلف فيه :

قال بعضهم : مستقرها بالليل ، ومستودعها بالنهار في معاشها (٣).

وقال بعضهم : المستقر : الرحم ، والمستودع : الصلب.

وقال بعضهم : المستقر : الصلب (٤) ، والمستودع : الرحم.

وقال بعضهم : المستقر : المتقلب في الدنيا ، والمستودع : مثواها في الآخرة ؛ كقوله : (وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ) في الدنيا وتحرككم في معاشكم (وَمَثْواكُمْ) [محمد : ١٩] أي : قراركم ومقامكم في الآخرة.

وقال بعضهم : مستقرها في الدنيا ، ومستودعها في القبر.

ويشبه أن يكون هذا إخبارا عن العلم بها في كل حال في حال سكونها وفي حال حركتها ؛ لأنها لا تخلو إما أن تكون ساكنة أو متحركة ، أي : يعلم عنها كل حالها ويشبه أن يكون صلة ما تقدم وهو قوله : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ ...) الآية [هود : ٥] ، يخبر أنه إذا (٥) لم يخف عليه كون كل دابة في بطن الأرض ، وما تغيض به الأرحام وما استودع في الأصلاب ، كيف يخفى عليه أعمالهم التي عليها العقاب ولكم بها الثواب وفيها الأمر والنهي؟! والله أعلم.

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٧ / ٣) (١٧٩٧٣) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٨٠) وزاد نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) في ب : أوعد.

(٣) ذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٨١) وعزاه لأبي الشيخ عن أبي صالح ، وذكره البغوي بمثله عن ابن عباس (٢ / ٣٧٤).

(٤) أخرجه ابن جرير (٧ / ٤) عن كل من : مجاهد (١٧٩٧٩) ، وابن عباس (١٧٩٨٠) ، والضحاك (١٧٩٨١).

وذكره البغوي (٢ / ٣٧٤) ونسبه لعطاء وقال : رواه سعيد بن جبير وعلى بن أبي طلحة وعكرمة عن ابن عباس.

(٥) في ب : إذ.

٩٩

و (كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ) أي : مبين في كتابه. قيل : في اللوح المحفوظ (١) ، ويحتمل القرآن وغيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ).

وقال في موضع آخر : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [السجدة : ٤] ، وقال في موضع آخر : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ٩] ، وقال : (فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ) [فصلت : ١٢] ، وقال : (وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) [فصلت : ١٠].

يجوز أن يكون جعل للأرض يومين : يوما لوجودها ويوما لعدمها ، وكذلك السماء جعل يوما لوجودها ويوما لعدمها ؛ كقوله : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ ...) الآية [إبراهيم : ٤٨] ؛ وكقوله : (يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ) [الأنبياء : ١٠٤] (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ) [الفرقان : ٢٥]. وكذلك ما بينهما جعل يوما لوجوده ويوما لعدمه ، فيكون يوم السابع يوم البعث يكون لكل من ذلك يومان : يوم لوجوده ، ويوم لعدمه ، وقد ذكرنا شيئا في ذلك مما احتمل وسعنا في سورة الأعراف.

وفي هذه الآية دلالة أن السموات والأرض دخلتا (٢) تحت الأوقات بقوله : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) [الأعراف : ٥٤] إذ الأيام عند الناس إنما هي (٣) مضى الأوقات ، فإذا دخلتا (٤) تحت الأوقات ليستا بأزليتين ـ على ما يقول بعض الملحدة إنهما أزليتان ـ كانا كذلك ، والله أعلم ، [وجائز أن يكون اليوم السابع هو اليوم الذي أنشأ الممتحن فيه ، فهو المقصود في خلق ما ذكر من الأشياء ، أعني من البشر ، وقوله :](٥).

(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) إن كان العرش اسم الملك والسلطان على ما قال بعض أهل التأويل ، فتأويله ـ والله أعلم ـ كان أظهر ملكه عن الماء (٦) «على» بمعنى «عن» ،

__________________

(١) ذكره البغوي (٢ / ٣٧٤) ، وأبو حيان في البحر (٥ / ٢٠٥).

(٢) في أ : دخلت.

(٣) في ب : هو.

(٤) في أ : دخلت.

(٥) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٦) فإن قيل : ما الفائدة في ذكر أن عرشه كان على الماء قبل خلق السموات والأرض؟

فالجواب : أن فيه دلالة على كمال القدرة من وجوه :

أحدها : أن العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماء ؛ فلولا أنه تعالى قادر على إمساك الثقيل بغير عمد لما صح ذلك.

وثانيها : أنه تعالى أمسك الماء لا على قرار ، وإلا لزم أن يكون أجسام العالم غير متناهية ؛ فدل على كمال القدرة. ـ

١٠٠