تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) : يحتمل لا تبديل لكلمات الله من وعده ووعيده ، وذلك مما لا تبديل له ولا تحويل.

ويحتمل (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) القرآن لا تبديل لما فيه من الوعد والوعيد وغيره.

ويحتمل لا تبديل لما مضى من سنته في الأولين والآخرين من الهلاك والاستئصال بتكذيبهم الرسل والآيات ؛ كقوله : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) [فاطر : ٤٣] وقوله : (فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) [الأنفال : ٣٨].

ويحتمل قوله : (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) أي : لا تبديل للبشرى التي ذكر لهؤلاء الذين تقدم ذكرهم.

ويحتمل لا تبديل لحجج الله وبراهينه ، أو لا تبديل لوعيد الله ووعده ونحوه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي : تلك البشرى هي الفوز العظيم ، أو ذلك الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هو الفوز العظيم ؛ إذ لا خوف بعده.

وقال بعضهم من أهل التأويل : لا خوف عليهم من النار ، ولا هم يحزنون أن يخرجوا من الجنة أبدا ، والوجه فيه ما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) يحتمل قولهم : ما قالوا في الله بما لا يليق به من الولد والشريك (١) ؛ يقول : لا يحزنك ذلك (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً)(٢).

ويحتمل قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) الذي قالوا في القرآن إنه سحر وإنه مفترى ، أو قالوا في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنه ساحر وإنه يفتري على الله كذبا. ويشبه أن يكون قوله : (وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ) مكرهم الذي مكروا به ، وكيدهم الذي كادوه ، يؤيد ذلك قوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ

__________________

(١) في أ : والشرك.

(٢) قيل : المعنى : إن جميع العزة والقدرة لله ـ تعالى ـ يعطي ما يشاء لعباده ، والغرض منه : أنه لا يعطي الكفار قدرة عليه ، بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو أعز منهم ، ونظيره : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] ، (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١].

قال الأصم : المراد : أن المشركين يتعزّزون بكثرة خدمهم وأموالهم ، ويخوفونك بها ، وتلك الأشياء كلها لله ـ تعالى ـ فهو ـ تعالى ـ قادر على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء ، وينصرك ، وينقل أموالهم وديارهم إليك.

فإن قيل : قوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) كالمضادة لقوله : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[المنافقون : ٨].

فالجواب : لا مضادة ؛ لأن عزة الرسول والمؤمنين كلها بالله ، فهى لله.

ينظر : اللباب (١٠ / ٣٧٠).

٦١

جَمِيعاً) أي : إن العزة في المكر والكيد لله ؛ وهو كقوله : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً) [الرعد : ٤٢] أي : مكره ينقض مكرهم ويمنعه ، وكيده يفسخ كيدهم ؛ فعلى ذلك قوله : (إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) أي : ينقض جميع ما يمكرون بك ويكيدونك ، و (الْعِزَّةَ) القوة ، يقول : إن القوة لله ينصرك على أعدائك ويدفع عنك كيدهم ومكرهم الذي هموا بك.

(هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) : [لقولهم](١) الذي قالوه العليم بمصالحهم ، أو السميع المجيب للدعاء العليم بما يكون منهم.

قوله تعالى : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ)(٦٧)

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي : تعلمون أن من في السموات ومن في الأرض كلهم عبيده وإماؤه ، فكيف قلتم : إن فلانا ولده وإن له شريكا ، ولا أحد منكم يتخذ من عبيده وإمائه ولدا ولا شريكا ؛ كقوله : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ ...) الآية [الروم : ٢٨] ؛ فعلى ذلك هذا.

أو كيف يحتمل أن يتخذ ولدا وله ملك ما في السموات والأرض ، وإنما يتخذ في الشاهد الولد لإحدى خصال ثلاث : إما للاستنصار على غيره ، وإمّا لحاجة تمسه ، وإمّا لوحشة أصابته ، فهو غني له ملك السموات والأرض لا حاجة تمسّه ، فكيف نسبتم الولد إليه والشريك وما قالوا فيه مما لا يليق به؟! وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

أو يخبر عن غناه عما يأمرهم وينهاهم ويتعبدهم ، أي : ليس يأمر وينهى ويتعبد بأنواع العبادات ويمتحنهم بأنواع المحن لحاجة له أو لمنفعة له في ذلك ، ولكن لمنفعة لهم في ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ شُرَكاءَ) أي : ما يتبعون فيما يدعون من دون الله من الشركاء بالحجج والبراهين أو [اليقين بكتاب](٢) أو رسول ، إنما يتبعون بالظن والحذر.

(وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) أي : ما هم إلا يكذبون فيما يتبعون بدعائهم دون الله ؛ لأنهم كانوا أهل شرك لم يكونوا أهل كتاب ولا آمنوا برسول ، فهم قد عرفوا أنهم مفترون كاذبون

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : الكتاب بيقين.

٦٢

في اتباعهم دون الله ؛ إذ سبيل معرفة ذلك الكتاب أو الرسول ولم يكن لهم واحد من ذلك ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) : يبصر فيه ، وقال في آية أخرى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) [القصص : ٧٣] يعني : في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يعني : في النهار ، فهو في موضع الامتنان وتذكير النعم ، ليتأدى (١) بذلك شكر ما أنعم عليه.

وفيه أن الليل والنهار يجريان على التدبير والتقدير ؛ لأنهما لو كانا يجريان على غير تدبير ولا تقدير لكانا لا يجريان على تقدير واحد ولا سنن واحد ، ولكن يدخل فيهما الزيادة والنقصان ولا يجريان على تقدير واحد ، وإن كان يدخل بعضه في بعض ، فدل جريانهما على تقدير واحد أنهما يجريان على تدبير آخر فيهما ؛ إذ لو كان على غير تدبير يجريان على الجزاف (٢) على الزيادة والنقصان وعلى القلة والكثرة.

وفيه أيضا أن مدبرهما واحد ؛ لأنه لو كان مدبرهما عددا لكان إذا غلب أحدهما الآخر دام غلبته ، ولا يصير الغالب مغلوبا والمغلوب غالبا ، فإذا صار ذلك ما ذكرنا دل أن مدبرهما واحد لا عدد.

وفيه دلالة البعث بعد الموت ؛ لأن كل واحد منهما إذا جاء أتلف صاحبه تلفا حتى لا يبقى له أثر ولا شيء منه ، ثم يكون مثله حتى لا يختلف الذاهب والحادث ولا الأول من الثانى ، فدل أن الذي قدر على إنشاء ليل (٣) قد ذهب أثره وأصله لقادر على البعث ، ومن قدر على إحداث نهار وقد فني وهلك لقادر على إحداث ما ذكرنا من الموت.

وفيه أن الشيء إذا كان وجوبه لشيئين لم يجب إذا عدم أحدهما ؛ لأنه قال : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) وإنما يبصر بنور البصر ونور النهار جميعا ؛ لأنه إذا فات أحد النورين لم يبصر شيء من النور نور البصر أو نور النهار ، دل أن الحكم إذا وجب بشرطين لا يوجد (٤) إلا باجتماعهما جميعا ، والليل يستر وجوه الأشياء لا أنه لا يرى نفسه ، والنهار يكشف وجوه الأشياء ، وفي الليل فيما يستر وجوه الأشياء دلالة أن الحكم إذا كان وجوبه بشرطين يجوز منعه بعلة واحدة ؛ لأنه يستر نور النهار ونور البصر جميعا.

__________________

(١) في أ : سيتأدى.

(٢) في أ : الحرف.

(٣) في أ : نسل.

(٤) في أ : لا يوجب.

٦٣

وفي قوله : (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) وجوه من الدلالة :

أحدها : ما ذكرنا من تذكير النعم يدعوهم به إلى الشكران (١) وينهاهم عن الكفران ، وفيه تذكير القدرة له حيث أنشأ هذا وأحدثه وأتلف الآخر ، فمن قدر على هذا لا يعجزه شيء ، وفيه دليل السلطان حيث يأخذهم الليل ويستر عليهم الأشياء شاءوا أو أبوا ؛ وكذلك النهار يأتيهم حتى يكشف وجوه الأشياء ويجلي شاءوا أو أبوا ، وفيه دليل التدبير والعلم لما ذكرنا من اتساق جريانهما على سنن واحد ومجرى واحد.

وفيه دلالة وحدانية منشئهما (٢) بين هاهنا فيما جعل الليل حيث قال : (لِتَسْكُنُوا فِيهِ) أخبر أنه جعل الليل للسكون والراحة ، فدل ذكر السكون في الليل على أنه جعل النهار للسعي وطلب العيش ، ألا ترى أنه قال في النهار : (مُبْصِراً) أي : يبصرون فيه ما يتعيشون (٣) ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ...) الآية [القصص : ٧٣].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) : ولم يقل : يبصرون فظاهر ما سبق من الذكر يجب أن يقال : لقوم يبصرون ؛ لأنه قال : (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) ، لكن يحتمل قوله : (يَسْمَعُونَ) أي : يعقلون ؛ كقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ) [يونس : ٤٢].

ويحتمل قوله : (يَسْمَعُونَ) [ما ذكر من الآيات من أول السورة إلى هذه المواضع آيات لقوم يسمعون : ينتفعون بسماعهم أو يسمعون](٤) أي : يجيبون كقوله : سمع الله لمن حمده : أي : أجاب الله.

قوله تعالى : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ)(٧٠)

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ).

قال بعضهم : أرادوا بقولهم : اتخذ الله ولدا حقيقة الولد ؛ كقوله : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) [النحل : ٥٧] [...](٥).

__________________

(١) في أ : شكره.

(٢) في أ : منشئها.

(٣) في أ : يعيشون.

(٤) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٥) بياض في الأصل ولا يضر بالسياق.

٦٤

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَتِ الْيَهُودُ ...) [البقرة : ١١٣] كذا ، (وَقالَتِ النَّصارى ...) [البقرة : ١١٣] كذا فنزه ـ عزوجل ـ نفسه عمّا قالوا (١) بقوله : (سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) أنه لم يلد أحدا ولا ولد هو من أحد ؛ ولهذا قال : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [الإخلاص : ٣] ؛ إذ في الشاهد لا يخلو إما أن يكون ولد من آخر أو والد ، والخلق كله لا يخلو من هذا ، فأخبر أنه لم يلد هو أحد ولا ولد من أحد.

__________________

(١) نقل عن طوائف النصارى القول بالاتحاد ، وعن بعضهم القول بالحلول ، وعن بعضهم القول بأن عيسى ابن الله ، وعن بعض طوائف اليهود القول بأن عزيرا ابن الله.

واختلف النقل عن النصارى في معنى الاتحاد : فقيل : معناه : أن الكلمة ـ وهي صفة العلم ـ ظهرت في عيسى وصارت معه هيكلا ، وقيل : معناه : المخارجة ، بمعنى أنه تكوّن من الكلمة وعيسى شيء ثالث.

وأما القول بالحلول فمعناه على رأى بعض فرقهم : أن الكلمة ـ وهي صفة العلم ـ حلت في المسيح ، وعلى رأى البعض الآخر : أن ذات الله حلت في المسيح.

ولما كان كلامهم في الحلول والاتحاد مضطربا وغير منضبط على وجه صحيح نذكر الصور العقلية التي تتأتى في الاتحاد والحلول ، فنقول :

إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح ، أو حلول ذاته فيه ، أو حلول صفته فيه ، وكل ذلك إما ببدن عيسى أو بنفسه ، وإما ألا يقولوا بشيء من ذلك ، وحينئذ فإما أن يقولوا : أعطاه الله قدرة على الخلق والإيجاد أو لا ، ولكن خصه الله بالمميزات وسماه ابنا تشريفا كما سمى إبراهيم خليلا ، فهذه ثمانية احتمالات كلها باطلة ؛ للأدلة التي أحالت حلول الله واتحاده والسابع باطل ؛ لما ثبت أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله ، وبقي احتمال اتحاد الكلمة بذات المسيح ، وهو باطل أيضا ؛ لأن الكلمة المراد منها عندهم صفة العلم ، والاتحاد بجميع معانيه وأفراده مستحيل على الله بالأدلة السابقة.

والشبهة التي أوقعت النصارى في هذه الكلمات هي ما جاء في الإنجيل في عدة مواضع من ذكر الله بلفظ الأب ، وذكر عيسى بلفظ الابن ، وذكر الاتحاد والحلول تصريحا أو تلويحا ، فمن ذلك ما جاء في إنجيل (يوحنا) في الإصحاح الرابع عشر : (يا فيلسوف ، من يراني ويعاينني فقد رأى الأب ، فكيف تقول أنت : أرنا الأب ، ولا تؤمن أني بأبي وأبي بي واقع واقع ، وأن الكلام الذي أتكلم به ليس من قبل نفسى ، بل من قبل أبي الحال فيّ ، وهو الذي يعمل هذه الأعمال التي أعمل ، آمن وصدق أني بأبي وأبي بي).

هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربية المتداول عندهم ، فأخذ بعضهم الاتحاد من قوله : (من يراني ويعاينني فقد رأى الأب) ، وأخذ بعضهم الحلول من قوله : (أبي الحال فيّ) ، وأخذ البنوة من التصريح بلفظ الأب مرة بعد أخرى ، وهذا لا يصلح دليلا ؛ لوجهين :

الوجه الأول : توافرت الأدلة على حصول التغيير والتبديل في الإنجيل ، فاحتمل أن يكون ذلك المذكور في إنجيل (يوحنا) مما حصل فيه التغيير والتبديل ؛ فلا يصلح حينئذ أن يكون دليلا فلا يصح به الاستدلال.

الثاني : أن نتنزل ونقول : لا تغيير ولا تبديل في ذلك المنقول ، لكن دلالته على مدعاهم ليست يقينية ؛ لجواز أن يكون المراد من الاتحاد الذي فهمه بعضهم من الجملة الأولى : الاتحاد في بيان طريق الحق ، وإظهار كلمة الصدق ؛ كما يقال : أنا وفلان واحد في هذا القول ، ولجواز أن يكون المراد من الحلول المصرح به في بعض الجمل : حلول آثار صنع الله من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، ولجواز أن يكون المراد من الأب : المبدئ ؛ فإن القدماء كانوا يطلقون ـ

٦٥

وقوله : (سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تأويله ـ والله أعلم ـ أن في الشاهد من اتخذ ولدا إنما يتخذ لأحد وجوه ثلاثة : إما لحاجة تمسه ، أو لشهوة تغلبه ، أو لما يستنصر به على آخر ممن يخافه ، فإذا كان له ملك السموات والأرض وملك ما فيهما كلهم عبيده وإماؤه ، فلا حاجة تقع له إلى الولد ؛ إذ هو الغني وله ملك ما في السموات والأرض ومن هذا وصفه فلا يحتاج إلى الولد ، ولأنه لا أحد في الشاهد يحتمل طبعه اتخاذ الولد من عبيده وإمائه ، فإذا كان لله سبحانه الخلائق كلهم عبيده وإماؤه كيف احتمل اتخاذ الولد منهم لو جاز وقد بينا إحالة ذلك وفساده.

ولأن الولد يكون من شكل الوالد ومن جنسه كالشريك يكون من شكل الشريك ومن جنسه فكان في نفي الشريك نفي الولد ؛ لأن معناهما واحد وكل ذي شكل له ضدّ ومن له ضد أو شكل فإنه لا ربوبية له ولا ألوهية.

[وقال بعضهم : قولهم : اتخذ الله ولدا ، لم يريدوا حقيقة الولد ، ولكن أرادوا منزلة الولد وكرامته ، فهو ـ أيضا ـ منفي عنه ؛ لأن من لا يحتمل الحقيقة ـ أعني : حقيقة

__________________

ـ «الأب» على «المبدئ» ، فمعنى قوله : «أبي» : مبدئي وموجدي ، وسمى عيسى ابنا ؛ تشريفا له كما سمى إبراهيم خليلا.

وأيضا فمن كان متوجها لشيء ومقيما عليه يقال له : ابنه ، كما يقال : أبناء الدنيا وأبناء السبيل ؛ فجاز أن تكون تسمية عيسى بالابن ، لتوجهه في أكثر الأحوال إلى الحق واستغراقه أغلب الأوقات في جناب القدس ، ومما يؤكد ذلك : أنه جاء في الإصحاح السابع عشر من إنجيل (يوحنا) حيث دعا عيسى للحواريين ، ما لفظه : (وكما أنت يا أبي بي وأنا بك فليكونوا هم أيضا نفسا واحدا لزمن أهل العلم بأنك أنت أرسلتني ، وأنا قد استودعتهم بالمجد الذي مجدتني به ودفعته إليهم ؛ ليكونوا على الإيمان كما أنا وأنت أيضا واحد ، وكما أنت حالّ في كذلك أنا فيهم ليكون كمالهم واحدا) هذا لفظ الإنجيل ، وقد تبين منه معنى الاتحاد والحلول على وجه مغاير لما فهموه وجاء في الإصحاح التاسع عشر ما لفظه : (إني صاعد إلى أبيكم وإلهي وإلهكم) وهذا يدل بواسطة العطف على أن المراد من الأب : الإله ، وعلى أنه مساو لهم في معنى البنوة والعبودية.

فهذه النصوص تدحض حجتهم ، وتلزمهم إذا أرادوا الحق بالرجوع إلى ما قضت به الأدلة العقلية المتقدمة من استحالة الاتحاد والحلول والبنوة.

أما بعض اليهود الذين قالوا : إن عزيرا ابن الله فقد أشار الله تعالى إليه بقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) نسب الله ذلك القول إلى اليهود مع أنه قول لطائفة منهم ؛ جريا على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد ، والسبب الذي دعا هذه الطائفة إلى القول بأن عزيرا ابن الله : أن اليهود تركوا العمل بما في التوراة وعملوا بغير الحق ؛ فعاقبهم الله تعالى بأن أنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ؛ فتضرع عزير إلى الله وابتهل إليه ؛ فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ، فأنذر قومه به ، فلما جربوه وجدوه صادقا فيه ، فقالوا : ما تيسر لهذا العزير دون سواه إلا لأنه ابن الله. وهذه شبهة واهية لا يصح الاستناد إليها ؛ لأن إجابة المطلب مرتبطة بالقبول والقرب من الله والخضوع لأوامره واجتناب نواهيه ، لا بالبنوة كما يزعمون.

ينظر : الدرر السنية في تنزيه الحضرة الإلهية لأحمد المستكاوي ص (٣٢ ـ ٣٥).

٦٦

الولد ـ امتنع عن منزلته وكرامته ؛ لأن الحقيقة انتفت لعيب يدخل فيه ، فإذا ثبت له منزلة تلك الحقيقة والكرامة دخل فيه عيب الحقيقة](١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) بهذا قيل ما عندكم من حجة على ما تقولون إن له ولدا ؛ لأنهم كانوا أهل تقليد لآبائهم وأسلافهم ، وكانوا لا يؤمنون بالرسل والكتب والحجج ، وإنما يستفاد ذلك من جهة الرسالة والكتب وهم كانوا ينكرون ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي : تقولون على الله أنه اتخذ ما تعلمون أنه لم يتخذ (قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) هو ما ذكرنا أنهم علموا أنه لم يتخذ ولدا ، لكن قالوا ذلك افتراء على الله (لا يُفْلِحُونَ) في الآخرة ؛ لما طمعوا في الدنيا بعبادتهم دون الله الأصنام بقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] ، وقوله : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] لا يفلحون ، أي : لا يظفرون بما طمعوا في الآخرة (مَتاعٌ فِي الدُّنْيا) [أي ذلك لهم متاع في الدنيا](٢) ليس لهم متاع في الآخرة.

(ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ) : يخاطب رسوله بذلك لم يخاطبهم إلينا مرجعكم ، فهو ـ والله أعلم ـ لما اشتد على رسول الله ما افتروا به على الله يقول : إلينا مرجعهم فنجزيهم جزاء افترائهم. والثاني : يقول : إلينا مرجعهم فنذيقهم العذاب الشديد ، لا ما طمعوا من الشفاعة عندنا والزلفى ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ فَعَلَى اللهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ)(٧٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) أي : خبره (٣) وحديثه ، (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ).

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) لما بالغ في تقرير الدلائل ، والجواب عن الشبه ، شرع في بيان قصص الأنبياء ؛ لوجوه :

الأول : أن الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العلوم ، فربما حصل نوع من الملالة ، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفن إلى فن آخر ، انشرح ، ووجد في نفسه رغبة شديدة.

الثاني : ليتأسى الرسول وأصحابه بمن سلف من الأنبياء ؛ فإن الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكفار مع الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه ، خف ذلك على قلبه ؛ كما يقال : إن المصيبة إذا عمت ـ

٦٧

قال بعضهم : إن كان كبر عليكم طول مقامي ومكثي فيكم ودعائي إياكم إلى عبادة الله ، والطاعة (١) له ، وتذكيري إياكم بآياته. قال بعضهم : وتذكيري بعذابه بترككم إجابتي ودعائي.

ويحتمل قوله : (إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي) بما ادعى من الرسالة ، (وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللهِ) أي بحجج الله على ما ادعيت من الرسالة.

وفي قوله : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ) وجوه :

أحدها : اتل منابذة نوح قومه وما أرادوا به من الكيد والمكر به.

والثاني : اذكر عواقب قوم نوح ، وما حل بهم من سوء معاملتهم رسولهم.

والثالث : اذكر لهولاء عواقب متبعي قومه ومخالفيه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) قال بعضهم : أي اجتمعوا أنتم وشركاؤكم ثم كيدوني ، ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ، أي : اجعلوا ما تسرون من الكيد والمكر بي ظاهرا غير ملتبس ولا مشبه.

وقال بعضهم : قوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) أي : أعدوا أمركم وادعوا شركاءكم (٢) ؛ وكذلك روي في حرف أبي (٣) : فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم.

(ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) أي : اقضوا ما أنتم قاضون.

__________________

ـ خفت.

الثالث : أن الكفار إذا سمعوا هذه القصص ، وعلموا أن الجهال وإن بالغوا في إيذاء الأنبياء المتقدمين ، إلا أن الله ـ تعالى ـ أعانهم بالآخرة ، ونصرهم ، وأيدهم ، وقهر أعداءهم ، كان سماع هؤلاء الكفار لهذه القصص سببا لانكسار قلوبهم ، ووقوع الخوف في صدورهم ؛ فحينئذ يقللون من الأذى والسفاهة.

الرابع : أن محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما لم يتعلم علما ، ولم يطالع كتابا ، ثم ذكر هذه القصص من غير تفاوت ، ومن غير زيادة ولا نقصان ، دل ذلك على أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ إنما عرفها بالوحي والتنزيل.

ينظر : اللباب (١٠ / ٣٧٤ ، ٣٧٥)

(١) في أ : وإطاعته.

(٢) اخرجه ابن جرير (٦ / ٥٨٥) (١٧٧٧٥) عن الأعرج ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٦٣) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن الأعرج.

(٣) قرأ العامة : وشركاءكم نصبا ، وفيه أوجه :

أحدها : أنه معطوف على (أَمْرَكُمْ) بتقدير حذف مضاف ، أي : وأمر شركائكم ؛ كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)[يوسف : ٨٢].

الثاني : أنه عطف عليه من غير تقدير حذف مضاف ، قيل : لأنه يقال أيضا : أجمعت شركائي.

الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل لائق ، أي : واجمعوا شركاءكم بوصل الهمزة ، وقيل : تقديره : وادعوا ، وكذلك هي في مصحف أبي : وادعوا فأضمر فعلا لائقا ؛ كقوله ـ تعالى ـ (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) [الحشر : ٩] ، أي : واعتقدوا الإيمان. ـ

٦٨

وقال بعضهم : قوله : (ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً) أي : لا يكبر عليكم أمركم (١).

وقال الكسائي : هو من التغطية واللبس ، أي : لا تغطوه ولا تلبسوه ، اجعلوا كلمتكم ظاهرة واحدة.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : «لا يكن أمركم اغتماما عليكم» ، أي : فرجوا عن أنفسكم ؛ كقوله : (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ ...) الآية [الحج : ١٥].

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) أي : اعملوا بي ما تريدون ولا تنظرون ؛ وهو كقوله : (فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ) [طه : ٧٢].

وقال الكسائي : هو من الإنهاء والإبلاغ ؛ وهو كقوله : (وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ...) الآية [الإسراء : ٤] (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) [الحجر : ٦٦] ، أي : أنهينا إليه وأبلغنا إليه.

وقال أبو عوسجة : إن شئت جعلتها ظلمة فلا يبصرون أمرهم يعني غمّة ، وإن شئت جعلتها شكا واشتقاق (٢) الغمة ، من غم يغم غما أي غطى يغطي ، تقول : غممت رأسه أي غطيته ، (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) أي : افعلوا بي ما أردتم وفي قول نوح لقومه : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ...) إلى قوله : (وَلا تُنْظِرُونِ) ، وقول هود : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) [هود : ٥٥] ، وقول رسول الله : (قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) دلالة إثبات رسالتهم ؛ لأنهم قالوا ذلك لقومهم وهم بين أظهرهم ، ولم يكن معهم أنصار ولا أعوان ؛ دل أنهم إنما قالوا ذلك اعتمادا على الله واتكالا بمعونته ونصرته (٣) إياهم.

وقال بعضهم في قوله : (ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَ) أي : فافرغوا إلى يقال [قضى](٤) فرغ ؛ وهو قول أبي بكر الأصم.

__________________

ـ ومثله قول الآخر :

علفتها تبنا وماء باردا

حتى شتت همّالة عيناها

أى : وسقيتها ماء.

وكقوله :

يا ليت زوجك قد غدا

متقلدا سيفا ورمحا

وغير ذلك من الوجوه.

انظر اللباب : (١٠ / ٣٧٧).

(١) أخرجه ابن جرير (٦ / ٥٨٥) (١٧٧٧٦) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٦٤) وعزاه لعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن قتادة.

(٢) في أ : وإشفاق.

(٣) في ب : ونصره.

(٤) سقط في ب.

٦٩

وقال بعضهم : ثم اقضوا إلي أي امضوا إلي كقوله : (فَراغَ إِلى أَهْلِهِ) [الذاريات : ٢٦] و (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) [الصافات : ٩١] ونحوه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) : التولي اسم لأمرين : اسم للإعراض والإدبار ؛ كقوله : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ) [البقرة : ٢٠٥] ، واسم للإقبال والقبول أيضا ؛ كقوله : (وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ...) الآية [المائدة : ٥٦] ونحوه ، فهاهنا يحتمل الأمرين جميعا ، أي : فإن توليتم أي أقبلتم وقبلتم ما أعرضه عليكم وأدعوكم إليه ، (فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ) أي : ما أجري إلا على الله. وإن كان في الإعراض فكأنه يقول : كيف أعرضتم عن قبوله ، ولم أسألكم على ذلك أجرا فيكون لكم عذر في الإعراض والرد؟! كقوله : (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) الآية [الطور : ٤٠] ، أي : لم أسألكم على ما أعرضه عليكم وأدعوكم إليه غرما حتى يثقل عليكم ذلك العزم ، فيمنعكم ثقل الغرم عن الإجابة ، ففي هذه الآية وغيرها دلالة منع أخذ الأجر على تعليم القرآن والعلم ؛ لأنه لو جاز أخذ الأجر على ذلك لكان لهم عذر ألا يبذلوا ذلك ولا يتعلموا شيئا من ذلك ، وفي ذلك هدم شرائع الله وإسقاطها ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أي : مسلما نفسي إلى الله ، أي : سالما ، لا أجعل لأحد سواه فيها حقا ولا حظا ، أو أمرت أن أكون من المخلصين [لله](١) والخاضعين له ؛ هو يحتمل ذلك كله.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكَذَّبُوهُ) يعني : نوحا كذبه قومه فيما ادعى من الرسالة ، أو ما آتاهم من الآيات ، أو ما أوعدهم (٢) من العذاب بتكذيبهم إياه.

(فَنَجَّيْناهُ) يعني نوحا ، (وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) أي : من ركب معه الفلك من المؤمنين.

(وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ) يحتمل خلائف خلفاء في الأرض وسكانا يخلف بعضهم بعضا ، ويحتمل جعلناهم خلائف أي خلف قوم أهلكوا واستؤصلوا بالتكذيب.

(وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) : يحتمل الآيات الحجج والبراهين التي أقامها على ما ادعى من الرسالة.

ويحتمل قوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) العذاب الذي أوعدهم بتكذيبهم إياه فيما وعد.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ) : كان أنذر (٣) الفريقين جميعا

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : أوردهم.

(٣) في أ : إنذار.

٧٠

المؤمن والكافر جميعا ؛ كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] فإذا كان ما ذكرنا فيكون تأويله : فانظر كيف كان عاقبة من أجاب ومن لم يجب : عاقبة من أجاب الثواب ، وعاقبة من لم يجب العذاب (١).

ويحتمل المنذرين الذين لم يقبلوا الإنذار ولم يجيبوا ، أي : انظر كيف كان عاقبتهم بالهلاك والاستئصال ، ويكون تأويل قوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) [يس : ١١] أي : إنما يقبل الإنذار من اتبع الذكر ، أو إنما ينتفع بالإنذار من اتبع الذكر ، أو أما من لم يتبع الذكر لم ينتفع ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً) أي : من بعد نوح رسلا إلى قومهم ، أي : بعثنا إلى كل قوم رسولا ، لا أنه بعث الرسل جملة إلى قومهم ، ولكن واحدا على أثر واحد.

(فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) : يحتمل البينات الحجج والبراهين التي أقاموها على ما ادعوا من الرسالة والنبوة.

ويحتمل البينات بيان ما عليهم أن يأتوا ويتقوا.

ويحتمل البينات بما أخبروهم وأنبئوا قومهم بالعذاب أنه نازل بهم في الدنيا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) قال بعضهم : ما كان كفار مكة ليؤمنوا وليصدقوا بالآيات والبيانات كما لم يصدق به أوائلهم.

وقال بعضهم : قوله : (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي : قبل بعث الرسل ، ففيه دلالة أن أهل الفترة يؤاخذون بالتكذيب في حال الفترة.

ويحتمل قوله : (بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل إتيان البينات ، أي : ما كانوا ليؤمنوا بعد ما جاءوا بالبينات بما كذبوا به من قبل مجيء البينات.

(كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ) أي : هكذا نطبع على قلوب أهل مكة كما طبعنا على قلوب أوائلهم ؛ إذ علم أنهم لا يقبلون الآيات ولا يؤمنون بها ، والاعتداء هو الظلم مع العناد والمجاوزة عن الحد الذي جعل.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) هو يخرج على وجهين ؛ أحدهما : ما كانوا ليؤمنوا بالبينات إذا جاءتهم البينات على السؤال ، وهكذا عادتهم أنهم لا يؤمنون بالآيات إذا أتتهم على السؤال.

والثاني : ما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا على علم منهم أنها آيات وأنه رسول ؛ والله أعلم.

__________________

(١) في أ : العقاب.

٧١

قوله تعالى : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ)(٨٦)

وقوله : (ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد من ذكرنا من الرسل.

(مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) : بعثهما إلى الملأ وغير الملأ.

(بِآياتِنا) : يحتمل الوجوه التي ذكرنا.

(فَاسْتَكْبَرُوا) : هذا يدل أنهم قد عرفوا أن ما جاءهم الرسول من الآيات أنها آيات ، لكنهم عاندوا وكابروا ولم يخضعوا في قبولها وكانوا قوما مجرمين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ).

قال بعضهم : قوله : (فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) أي : الحجج والآيات من عندنا ، (قالُوا إِنَّ هذا) يعنون الحجج والبراهين التي جاء بها موسى ، (لَسِحْرٌ مُبِينٌ) يسمون الحجج والبراهين سحرا لما أن السحر عندهم باطل ، لذلك قالوا للحجج إنها سحر ، وذلك تمويه منهم يموهون على الناس لئلا يظهر الحق عندهم فيتبعونه.

وقال بعضهم : الحق هو الإسلام والدين ؛ كقوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩]. (قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) يعنون الحجج والآيات التي جاءهم بها للدين لأنه جاءهم بالدين ، وجاءهم أيضا بحجج الدين وآياته ، قالوا : الحجج : الدين ، والإسلام : سحر ، ففي التأويلين جميعا سموا الحجج سحرا.

وقوله : (جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) أي : بأمرنا ، وكذلك قوله : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] أي : الإسلام هو الدين [الذي](١) أمر الله به ، لا أنه يفهم

__________________

(١) سقط في ب.

٧٢

لل (عند) مكان ينتقل من مكان إلى مكان ، ولكن معنى ال (عند) معنى الأمر ، وعلى هذا يخرج قوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) يعني الملائكة (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) [الأعراف : ٢٠] أي : [إن](١) الذين بأمر ربّك يعبدونه لا يستكبرون عن عبادته لما أنه لم يفهم من مجيء الحق من عنده مكان ، فعلى ذلك لا يجوز أن يفهم من قوله : (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ) المكان أو قرب المكان منه ، ولكن التأويل ما ذكرنا أن المفهوم من عند الله أمره ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا) : والحق ما ذكرنا.

(وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) : الإفلاح هو الظفر بالحاجة ، يقول : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أي : لا [يظفر الساحر](٢) بالحاجة ولا يغلب ؛ لأن السحر باطل ولا يغلب الباطل الحق ، بل الحق هو الغالب. والسحر هو المغلوب على ما غلب الحق الذي جاء به موسى السحر الذي جاء سحرة فرعون.

أو يقول : لا يفلح الساحرون في الآخرة بسحرهم في الدنيا.

ويحتمل قوله : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) بسحرهم في حال سحرهم ؛ كقوله : (لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [الأنعام : ٢١] ، و (لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [المؤمنون : ١١٧] أي : لا يفلحون بظلمهم في حال ظلمهم ، وأما إذا تركوا الظلم فقد أفلحوا ، فعلى ذلك السحرة إذا تركوا السحر فقد أفلحوا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا) قيل : لتصرفنا وتصدنا (٣).

قال القتبي (٤) : لفت فلانا عن كذا إذا صرفته ، والالتفات منه وهو الانصراف.

وقال أبو عوسجة : (لِتَلْفِتَنا) أي : تردنا وتصرفنا على ما ذكر القتبي ، قال : يقال : لفته يلفته لفتا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) : من عبادة الأصنام والأوثان.

ويحتمل ما وجدنا عليه آباءنا من عبادة فرعون والطاعة له.

(وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) قال عامة أهل التأويل : الكبرياء الملك والسلطان

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) في أ : يظفرون.

(٣) ذكره ابن جرير (٦ / ٥٨٨) ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٦٤) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن السدي.

(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن (١٩٨).

٧٣

والشرف (١) ، أي : الملك الذي كان لفرعون والسلطان يكون لكما [باتباع الناس لكما ؛ لأن كل متبوع مطاع معظم مشرف ويحتمل (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) أي : الألوهية التي كان يدعى فرعون لنفسه لكما](٢) لأن عندهم أن كل من أطيع واتبع فقد عبد ونصب إلها.

(وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ) أي : بمصدقين فيما تدعوننا إليه أو ما تدعون من الرسالة.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ) هذا من فرعون ينقض ما ادعى من الألوهية ؛ حيث أظهر الحاجة إلى غيره ولا يجوز أن يكون المحتاج إلها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ. فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ) أي : سيبطل عمل السحر الذي قصدوا به ، أي : يجعله مغلوبا ؛ كقوله : (وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) أي : لا يغلب الساحرون ولا يظفرون بالحاجة.

(إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) أي : لا يصلح ما أفسدوا من أعمالهم فيجعلهم صالحين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) : هو ما ذكرنا ، أي : لا يجعلهم بأعمالهم الفاسدة صالحين ، أو لا يجعل أعمالهم الفاسدة صالحة.

وقال بعضهم : (لا يُصْلِحُ) أي : لا يرضي بعمل المفسدين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) : ذكر أن يحق الحق والحق حق وإن لم يحق الحق ، وكذلك ذكر في الباطل ليبطل الباطل والباطل باطل وإن لم يبطل ، ولكن يحتمل قوله : (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَ) ويبطل الباطل ، أي : ليجعل الحق في الابتداء حقا فيصير حقا ، ويجعل الباطل في الابتداء باطلا ، فيكون باطلا أي : بإبطاله الباطل يكون باطلا وبتحقيقه الحق [يكون حقّا وهو ما يقال : هداه فاهتدى ، وأضله فضل ، أي : بهدايته اهتدى وبضلاله ضل ؛ فعلى ذلك بإبطاله الباطل بطل وبتحقيقه الحق حق](٣) ، والله أعلم.

وقوله : (بِكَلِماتِهِ) يحتمل وجوها :

__________________

(١) أخرجه بمثله ابن جرير (٦ / ٥٨٩) (١٧٧٨١ و ١٧٧٨٢ و ١٧٧٨٣ و ١٧٧٨٥ و ١٧٧٨٦ و ١٧٧٨٧ و ١٧٧٨٨) عن مجاهد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٦٤) وعزاه لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن مجاهد.

(٢) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٣) ما بين المعقوفين سقط في أ.

٧٤

يحتمل يحق الحق بكلماته [أي : برسله ؛ إذ بالرسل يظهر الحق وبهم يظهر بطلان الباطل وهم حجج الله في الأرض وبالحجج يظهر الحق ، وكذلك الباطل.

ويحتمل ما ذكر أهل التأويل بكلماته : آياته التي أنزل عليه ، بها ظهر حقيقة ما أتى به موسى وبها ظهر بطلان ما أتى به السحرة من السحر.

ويحتمل كلماته](١) ما وعد موسى قومه من العذاب الذي وعد [من الظفر بأعدائهم والنصر عليهم وغير ذلك ما وعد من](٢) النعمة لهم ؛ كقوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٠].

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ).

يحتمل قوله : (مِنْ قَوْمِهِ) من قوم موسى لما قيل : إن موسى كان من أولاد إسرائيل ، فهم من ذريته من هذا الوجه ، يقال : أهل بيت فلان وإن لم يكن البيت له.

ويحتمل [قوله](٣) : (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) من قوم فرعون فهو نسب إليه لما ذكرنا. وقال أهل التأويل : أراد بالذرية القليل منهم ، أي : ما آمن منهم إلا القليل ، ولكن لا ندري ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ).

يحتمل : ما آمن من آمن من قومه إلا على خوف من فرعون وملئه أي : آمنوا ، أي : وإن خافوا من فرعون وملئه.

ويحتمل ما ترك من قومه الإيمان بموسى من ترك إلا على خوف من فرعون أن يفتنهم أي : يقتلهم ويعذبهم ، ففيه دلالة أن الخوف لا يعذر المرء في ترك الإيمان حقيقة ، وإن كان يعذر في ترك إظهاره ؛ لأن الإيمان هو التصديق والتصديق يكون بالقلب ولا أحد من الخلائق يطلع على ذلك ؛ لذلك لم يعذر في ترك إتيانه لأنه يقدر على إسراره ، ألا ترى إلى قوله : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) [غافر : ٢٨] كان مؤمنا فيما بينه وبين ربه وإن لم يظهر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ) وهو ما قال ـ عزوجل ـ : (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ) [القصص : ٤] أي : قهر وغلب على أهل الأرض وإنه لمن المسرفين.

__________________

(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٢) سقط في أ.

(٣) سقط في ب.

٧٥

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) فيه دلالة أن الإيمان والإسلام واحد في الحقيقة ؛ لأنه بدأ بالإيمان بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ) وختم بالإسلام بقوله : (إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) دل أنهما واحد هو اعتقاد ترك تضييع كل حق ، والإسلام اعتقاد تسليم كل حق وترك تضييعه ، والله أعلم. والإسلام هو جعل كلية الأشياء لله سالمة ، والإيمان هو التصديق بكلية الأشياء فيما فيها من الشهادة لله بالربوبية له والألوهية.

وقوله : (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ) يحتمل هذا وجهين :

يحتمل : أن يكون قال ذلك لما خافوا مواعيد فرعون وعقوباته ؛ كقوله للسحرة لما آمنوا : (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ...) الآية [الأعراف : ١٢٤] ، فقال عند ذلك : (فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا) في دفع ذلك عنكم ، فقالوا : (عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

قوله : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يحتمل ما قاله على خوف من فرعون وملئه أن يفتنهم ما قيل أى (١) : يقتلهم ويعذبهم ، والله أعلم.

هذا يخرج على وجهين :

أحدهما : أي لا تجعل لهم علينا الظفر والنصر ، فيظنون أنهم على هدى وعلى حق ونحن على ضلال وباطل (٢).

والثاني : لا تجعلنا تحت أيدي الظلمة فيعذبونا ؛ فيكون ذلك فتنة لنا ومحنة على ما فعل فرعون بالسحرة لما آمنوا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) فيه أن قوله : الظالمين والكافرين واحد ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(٨٩)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ...) الآية يحتمل وجهين :

__________________

(١) في أ : أن.

(٢) في أ : وبطلان.

٧٦

[أحدهما](١) : يحتمل قوله : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما) أي : اتخذا لقومكما مساجد يصلون فيها ، (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ) أي : اجعلوا في بيوتكم التي اتخذتم مساجد قبلة ؛ [فيكون في قوله :](٢)(أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً) [الأمر باتخاذ المساجد ، ويكون في قوله : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) الأمر باتخاذ القبلة في المساجد التي أمر ببنيانها.

والثاني : قوله : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً)(٣) أي : اتخذا لقومكما بمصر مساجد على ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً) أي : اجعلوا في بيوتكم التي بنيتم لأنفسكم قبلة تتوجهون إليها ، ويكون فيه دلالة أن نصب الجماعة واتخاذ المساجد والقبلة متوارثة مسنونة ليست ببديعة لنا وفي شريعتنا خاصة ، ويؤيد ما ذكرنا أن فيه الأمر باتخاذ المساجد.

وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) دل الأمر بإقامة الصلاة على أن الأمر ببناء البيوت أمر باتخاذ المساجد واتخاذ القبلة.

فإن قيل : هذا في الظاهر أمر باتخاذ المساجد ، والآية التي ذكر فيها اتخاذ المساجد تخرج مخرج الإباحة لنا ، وهو قوله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) [النور : ٣٦] هو في الظاهر إباحة.

قيل : هو أمر في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر إباحة ، ألا ترى أنه قال : (وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها ...) الآية [النور : ٣٦] ، ولا شك أن ذكر اسمه والتسبيح له أمر ؛ فدل أنه ما ذكرنا ، والله أعلم.

وأما أهل التأويل فإنهم قالوا : إنهم كانوا يخافون فرعون وملأه ، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلة الكعبة يصلون فيها سرّا خوفا من فرعون (٤) ، هذا يحتمل إذا كان قبل هلاك فرعون وقبل أن يستولوا على مصر ، وإذا كان بعد هلاكه وبعد ما استولوا وملكوا على مصر وأهله فالأمر فيه ما ذكرنا ؛ أمر باتخاذ المساجد ونصب الجماعات فيها وإقامة الصلاة فيها.

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) سقط في أ.

(٣) ما بين المعقوفين سقط في أ.

(٤) أخرجه بمعناه ابن جرير (٦ / ٥٩٧) عن : ابن عباس (١٧٨٢٢ و ١٧٨٢٣ و ١٧٨٢٤) ، ومجاهد (١٧٨٥٢ و ١٧٨٢٦ و ١٧٨٢٧ و ١٧٨٢٨) ، وقتادة (١٧٨٣٠ و ١٧٨٣١) ، والضحاك (١٧٨٣٢).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٦٦) وزاد نسبته لابن مردويه عن ابن عباس ، ولأبي الشيخ عن قتادة.

٧٧

وقال بعضهم من أهل التأويل : وجهوا بيوتكم ومساجدكم نحو القبلة لكن هذا بعيد ؛ لأنه لا يكون بيتا إلا ويكون جهة من جهاته إلى القبلة ، فلا معنى له. والوجه فيه ما ذكرنا.

ويحتمل الأمر ببناء البيوت لقومهما بمصر وجعل البيوت قبلة وجهين :

أحدهما : الأمر بالانفصال من فرعون وقومه حتى إذا أرادوا الخروج من عندهم قدروا على ذلك ولا يكون المرور عليهم وكان ذلك الانفصال إنما كان من جهة القبلة.

والثاني : ما ذكرنا أرادوا أن يعتزلوهم حتى يتهيأ لهم الصلاة فيها ، وكان لا يتهيأ لهم في بيوت فرعون.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يحتمل البشارة في الآخرة بالجنة وأنواع النعيم [ويحتمل أن يبشرهم بالملك في الدنيا والظفر على فرعون وأنواع النعم](١) بعد ما أصابوا الشدائد من فرعون ؛ كقوله : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [المائدة : ٢٠].

وقال أبو عوسجة : قوله : (أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما) تهيئا من هيأ ، أي : هيئا لهم موضعا ؛ كقوله : (وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ) [يونس : ٩٣] أي : هيأنا لهم مهيأ صدق.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً) ويحتمل قوله (زِينَةً) : من أنواع ما آتاهم من الأنزال والنبات ؛ كقوله : (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ) [يونس : ٢٤] ونحوه. ويحتمل الزينة التي كانوا يتزينون بها من المركب والملبس ، وما يتحلون بها من أنواع الحلي وأموال كثيرة سوى ذلك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) : قالت المعتزلة تأويل قوله : (رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) أي : آتاهم لئلا يضلوا الناس عن سبيله ، ولكن أضلوهم عن سبيله وقالوا هذا كما يقال [لم أقل كذا لأجل كذا](٢) ، ولكن فعلت ونحوه من الكلام ، ولكن عندنا هو ما ذكر : آتاهم الأموال وما ذكر ليضلوا عن سبيله ؛ لأنه إذا علم منهم أنهم يضلون الناس عن سبيله آتاهم ما آتاهم ليضلوا وهو كما ذكرنا في قوله : (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] ؛ وقوله : (نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ ...) الآية [المؤمنون : ٥٦] وأمثاله فكذا هذا والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) يحتمل هذا وجهين : يحتمل : أي : اطمس على أموالهم ، واجعل في قلوبهم قساوة وغلظة تنفر الأتباع ومن

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في أ : لم تك هذا كذا لنفعل كذا.

٧٨

يقلدهم عن اتباعهم وتقليدهم ، فيكون ذلك أهون علينا في استنقاذ الأتباع منهم وأدعى لهم إلى الإيمان أعني الأتباع ومن يقلدهم ، ويكون ذلك سببا لإبعادهم عن اتباعهم وتقليدهم إياهم ؛ هذا وجه.

والثاني : قوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ) أي : اجعل ذلك آية تضطرهم إلى الإيمان ، فإنهم لم يؤمنوا بالآيات التي أرسلتها عليهم من الطوفان والجراد وما ذكر من البلايا ، فيكون قوله : (فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) هذا من طمس الأموال وقساوة القلوب وشدتها ، والله أعلم.

وقال بعض أهل التأويل : واشدد على قلوبهم واطبعها فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم وهو الغرق (١) فعند ذلك يؤمنون ، وأما بهذه الآيات فلا.

هذا يحتمل إذا كان الله ـ عزوجل ـ أخبر موسى أنهم لا يؤمنون فيسع له هذا الدعاء ، وأما قبل أن يخبره بذلك فلا يسع له أن يدعو بهذا ، وهو إنما أرسله إليهم (٢) ليدعوهم إلى الإيمان والطمس.

قال أبو عوسجة : هو الذهاب بها ، أي : اذهب بها.

وقال القتبي (٣) : قوله : (رَبَّنَا اطْمِسْ) أي : أهلكها (٤) ، وهو من قولك : طمس الطريق إذا عفا ودرس.

وقال غيره : الطمس هو المسخ (٥) ؛ كقوله : (لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) [يس : ٦٦] أي : مسخناهم.

وقال بعضهم : الطمس هو التغيير عن جوهرها (٦) ، دعا موسى بهذا الدعاء بالأمر لما أيس من إيمانهم ؛ وهو كقول نوح : (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) الآية [٢٦ ، ٢٧] عند الإياس منهم فعلى ذلك موسى ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) قال بعضهم : إن موسى كان يدعو وهارون يؤمن على دعائه (٧) ، فقال الله ـ عزوجل ـ : (قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما) سمى كليهما

__________________

(١) في أ : الفرق.

(٢) في أ : عليهم.

(٣) ينظر : تفسير غريب القرآن (١٩٨).

(٤) ذكره البغوي (٢ / ٣٦٥) ونسبه لمجاهد.

(٥) ينظر السابق.

(٦) ذكره بمعناه ابن جرير (٦ / ٥٩٩) وكذا أبو حيان في البحر (٥ / ١٨٦).

(٧) أخرجه ابن جرير (٦ / ٦٠٣) عن كلّ من :

عكرمة (١٧٨٦١ و ١٧٨٦٧ و ١٧٨٦٨) ، وأبي صالح (١٧٨٦٢) ، ومحمد بن كعب (١٧٨٦٣ ـ

٧٩

دعاء ، ولهذا قال محمد بن الحسن ـ رحمه‌الله ـ في بعض كتبه : إن الإمام يدعو في القنوت في الوتر والقوم يؤمنون.

وقوله تعالى : (فَاسْتَقِيما) على الرسالة وما [أمرتكما به](١)(وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) ؛ وهو كقوله لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الجاثية : ١٨] ؛ وكقوله : (وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [المائدة : ٤٨ ـ ٤٩] ونحوه ، وإن كان العلم محيطا أن الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ لا يتبعون سبيل أولئك ولا يتبعون أهواءهم لما عصمهم ـ عزوجل ـ ولكن ذكر هذا ـ والله أعلم ـ ليعلم أن العصمة لا تزيل النهي والأمر بل تزيد حظرا ونهيا ، والله أعلم.

قوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(٩٣)

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ) : هذا ظاهر.

وفى قوله : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) دلالة خلق أفعال العباد ؛ لأنه أضاف إلى نفسه أنه جاوز بهم ، وبنو إسرائيل هم الذين تجاوزوا ، دل ذلك أنه خالق فعلهم.

وأما قوله : (حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ) أي : حتى إذا غرق ؛ لأنه ذكر في بعض القصة أن فرعون لما انتهى إلى ساحل البحر ، فرأى البحر منفرجا طرقا ، فقال : إنما انفرج البحر لي ، فلما دخل غرق فعند ذلك قال غريقا : (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ثم إيمانه لم يقبل في ذلك الوقت لوجهين :

أحدهما : لما يحتمل أن يكون إيمانه عند رؤية البأس وخوف الهلاك ، فهو إيمان دفع البأس لا إيمان حقيقة ، وهو على ما أخبر عن إيمان الكفرة في الآخرة لما عاينوا العذاب ؛

__________________

ـ و ١٧٨٦٤) ، وأبي العالية (١٧٨٦٥) ، والربيع بن أنس (١٧٨٦٦) ، وابن عباس (١٧٨٦٨) ، وابن زيد (١٧٨٦٩).

وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥٦٧) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن عباس ، ولعبد الرزاق وأبي الشيخ عن عكرمة ، ولسعيد بن منصور عن محمد بن كعب القرظي ، ولابن جرير عن أبي صالح والربيع بن أنس وأبي العالية وابن زيد مثله.

(١) في ب : أمر بكتابه.

٨٠