تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي

تأويلات أهل السنّة تفسير الماتريدي - ج ٦

المؤلف:

أبي منصور محمّد بن محمّد بن محمود الماتريدي


المحقق: الدكتور مجدي باسلّوم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-4716-1

الصفحات: ٦٠٦

وقوله ـ عزوجل ـ : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ).

الطبع : هو التغطية : تغطي ظلمة الكفر نور القلب والسمع ونور البصر ، كأن لكل أحد نورين وبصرين ، ظاهر وباطن يبصر بهما جميعا ؛ فإذا ذهب أحدهما أو عمي ـ صار لا يبصر ؛ كمن يبصر ببصر الظاهر ، إنما يبصر بنور بصره ونور الهواء ؛ فإذا دخل في أحدهما آفة ذهب الانتفاع ، وصار لا يبصر شيئا ؛ فعلى ذلك للقلب بصر خفي ، وبصر ظاهر الذي هو معروف ؛ فإنما يبصر بهما ؛ فإذا غطى ظلمة الكفر بصر القلب صار لا يبصر شيئا ؛ ألا ترى أنه قال : (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج : ٤٦] أخبر أن الأبصار الظاهرة لم تعم ؛ ولكن عميت القلوب التي في الصدور ، هذا يدل على ـ ما ذكرنا والله أعلم ـ معنى طبع السمع والبصر (١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ).

__________________

ـ ولا معلولا له ؛ فبطل هذا التأويل.

ينظر : اللباب (١٢ / ١٦٨).

(١) قال القاضي : الطبع ليس يمنع من الإيمان لوجوه :

الأول : أنه ـ تعالى ـ أشرك ذكر ذلك في معرض الذم ، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذم بتركه.

الثاني : أنه ـ تعالى ـ أشرك بين السمع ، والبصر ، والقلب في هذا الطبع ، ومعلوم أن مع فقد السمع والبصر قد يصح أن يكون مؤمنا ، فضلا عن طبع يلحقهما في القلب.

الثالث : وصفهم بالغفلة ، ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه ، فثبت أن المراد بهذا الطبع السمة والعلامة التي يخلقها في القلب ، وتقدم الجواب في أول سورة البقرة.

ثم قال ـ تعالى ـ (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ)[النحل : ١٠٨] ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : أي : عما يراد بهم في الآخرة.

ثم قال : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ)[النحل : ١٠٩] ، أي : المغبونون ، والموجب لهذا الخسران أنه ـ تعالى ـ وصفهم بصفات ستة :

أولها : أنهم استوجبوا غضب الله.

وثانيها : أنهم استحقوا العذاب الأليم.

وثالثها : أنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة.

ورابعها : أنه ـ تعالى ـ حرمهم من الهداية.

وخامسها : أنه ـ تعالى ـ طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.

وسادسها ـ أنه ـ تعالى ـ جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة ، فكل واحد من هذه الصفات من أعظم الموانع عن الفوز بالسعادات والخيرات ، ومعلوم أنه ـ تعالى ـ إنما أدخل الإنسان في الدنيا ؛ ليكون كالتاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة ، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة ، عظم خسرانه ؛ فلهذا قال ـ تعالى ـ : (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ)[النحل : ١٠٩] ، أي : هم الخاسرون لا غيرهم.

ينظر : اللباب (١٢ / ١٦٨ ، ١٦٩)

٥٨١

يحتمل : غافلون عن النظر في آياته وحججه ، ويحتمل : غافلون عما يحل بهم ؛ بكفرهم وتكذيبهم آيات الله وحججه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا جَرَمَ).

قد ذكرنا ما قيل فيه : لا بد ، وحقّا ، وقيل : هو حرف وعيد.

(لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ).

قال الحسن : إنهم ـ والله ـ خسروا الجنة ورحمة الله ، خسروا أهلهم ومنزلهم الذي كان لهم في الجنة ، وخسروا منهم أنفسهم حين قذفوها في النار.

وقال أبو بكر الأصم : خسروا النعم الدائمة الباقية بالزائلة الفانية ، وخسروا أنفسهم ؛ حيث قتلوا ، وأسروا في الدنيا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا).

قيل : عذبوا على الإيمان بمكة ، ثم جاهدوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عدوّهم ، وصبروا على ذلك.

(إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

قيل : من بعد الفتنة لغفور لما كان منهم ، (رحيم) ذكر مرتين :

أحدهما : قوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) ، ثم قال : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، [قيل : من بعد الفتنة](١) فيجيء أن يكتفى بواحد يقول : لغفور رحيم موصولا بقوله : للذين فعلوا ما ذكر ، لكنه ذكر مرتين ـ والله أعلم : إنه لغفور لهم يعني : لهؤلاء الذين فتنوا وعذبوا ، ولغيرهم.

ذكر أهل التأويل (٢) أن أناسا من المؤمنين خرجوا إلى المدينة فأدركهم المشركون ؛ ليردوهم ؛ فقاتلوهم ؛ فمنهم من قتل ، ومنهم من نجا ؛ فأنزل الله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا ...) الآية.

ومنهم من يقول ـ أيضا ـ : فيهم نزل قوله : (الم. أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا ...) الآية [العنكبوت : ١ ، ٢].

وأكثرهم قالوا (٣) : إن قوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ

__________________

(١) سقط في ب.

(٢) قاله قتادة ، أخرجه عبد بن حميد وابن جرير (٢١٩٥٢) ، وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٥٠).

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير (٢١٩٤٤) ، (٢١٩٤٥) ، وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم ، وصححه والبيهقي في الدلائل عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٤٨).

٥٨٢

مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) : إنما نزل في عمار بن ياسر ، وليس لنا إلى ذلك حاجة ؛ إنما الحاجة فيما ذكرنا من الحكم فيه (١) والحكمة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها).

قال الحسن : (تُجادِلُ) ، أي : تخبر ، (عَنْ نَفْسِها) : عما عملت من خير أو شرّ. وقال أبو بكر الأصم : إن كل نفس رهينة بما كسبت من شر حتى يكون طائرا في عنقه. ولكن ليس لنا فيما ذكر هؤلاء مجادلة ، المجادلة : المخاصمة ؛ كأنها تخاصم عن نفسها من ارتكاب أشياء ، ودعوى أشياء على ما ذكر في غير آية ؛ من قوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) [الأنعام : ٢٣].

وقال بعضهم : إن جهنم تزفر زفرة حتى لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلّا وقد جثا بركبتيه ؛ خوفا منها ؛ فعند ذلك تجادل وتخاصم كل نفس عن نفسها ، ويشبه أن يكون مجادلتهم على غير هذا ، وهو ما ذكر : (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ. وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) [فصلت : ٢٠ ، ٢١] ؛ فتلك مجادلتهم أنفسهم ، وكقوله : (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ) [الأنعام : ٢٣] ، وكذلك ما ذكر في المنافقين : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ ...) الآية [المجادلة : ١٨].

وذلك كله مجادلتهم أنفسهم ، أو أن يقال : (تُجادِلُ) لكن لا يفسّر : ما تلك المجادلة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ ذكر المجادلة ، ولم يذكر ما تلك المجادلة؟

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

أي : لا ينقصون من حسناتهم ولا يزدادون على سيئاتهم.

وهذه الآية تردّ على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون بالتخليد لصاحب الكبيرة ، وقد أخبر أنه : توفى كل نفس ما عملت من سوء ، ولا توفى ما عملت من الخيرات والطاعات.

قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ

__________________

(١) في أ : به.

٥٨٣

عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١١٩)

وقوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً).

اختلف في ضرب المثل بهذه الآية (١) ، وفي نزولها :

قال بعضهم : ضرب المثل لأهل مكة ، وفيها نزلت ـ بقريات نزل بهم العذاب ؛ بتكذيبهم رسلهم في بني إسرائيل ، يحذر أهل مكة بتكذيبهم رسول الله نزول العذاب بهم كما نزل بأوائلهم.

وقال بعضهم : ضرب المثل لأهل المدينة ، وفيهم نزل بأهل مكة ؛ يحذر أهل المدينة ؛ لئلا يكذبوا محمدا كما كذب أهل مكة ؛ فيحل بهم كما حل بأهل مكة من الناس الجوع والخوف ؛ بالتكذيب.

وقوله ـ عزوجل ـ : (قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ).

قيل (٢) : هي مكة ؛ أهلها كانوا آمنين فيها من خير أو شر ، مطمئنين يأتيهم رزقهم من كل مكان. ويحتمل قرية أخرى غيرها ؛ كانوا على ما ذكر.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ).

__________________

(١) اعلم أنه ـ تعالى ـ هدد الكفار بالوعيد الشديد في الآخرة ، وهددهم أيضا بآفات الدنيا ، وهي الوقوع في الجوع والخوف ، كما ذكر ـ تعالى ـ في هذه الآية.

واعلم أن المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معينة ، سواء كان ذلك الشيء موجودا أو لم يكن ، وقد يضرب بشيء موجود معين ، فهذه القرية يحتمل أن تكون موجودة ويحتمل أن تكون غير موجودة.

فعلى الأول ، قيل : إنها مكة ، كانت آمنة ، لا يهاج أهلها ولا يغار عليها ، مطمئنة قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتجاع كما يفعله سائر العرب ، (يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ)[النحل : ١١٢] ، يحمل إليها من البر والبحر ، (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ)[النحل : ١١٢] ، جمع النعمة ، وقيل : جمع نعمى ، مثل بؤسى وأبؤس فأذاقهم لباس الجوع ، ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين ، وقطعت العرب عنهم الميرة بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، حتى جهدوا وأكلوا العظام المحرقة ، والجيف والكلاب الميتة والعلهز : وهو الوبر يعالج بالدم.

قال ابن الخطيب : والأقرب أنها غير مكة ؛ لأنها ضربت مثلا لمكة ، ومثل مكة يكون غير مكة.

وهذا مثل أهل مكة ؛ لأنهم كانوا في الطمأنينة والخصب ، ثم أنعم الله عليهم بالنعمة العظيمة ، وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكفروا به ، وبالغوا في إيذائه ، فسلط الله عليهم البلاء وعذبهم بالجوع سبع سنين ، وأما الخوف فكان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ينظر : اللباب (١٢ / ١٧٢ ، ١٧٣).

(٢) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢١٩٥٦) ، وهو قول مجاهد وقتادة وابن زيد وعطية.

٥٨٤

أي : كفرت بالشكر لأنعم الله ، أي : لم يشكروها ، ليس أنهم لم يروها من الله ـ تعالى ـ وقوله ـ عزوجل ـ : (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ).

اللّباس : هو ما يستر وجوه الجواهر ، ألا ترى أنه سمى الليل لباسا ؛ لما ستر وجوه الأشياء ؛ فعلى ذلك الجوع يرفع الستر واللباس الّذي كان قبل الجوع ؛ لأن الجوع إذا اشتد غيّر وجه صاحبه ، ورفع ستره ، والجوع : ما ذكر أنه أصابهم جوع حتى أكلوا الكلاب والجيف والعظام المحرقة. والخوف : [ما] ذكر أنه بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ؛ ألا ترى أنه قال : «نصرت بالرّعب مسيرة شهرين» (١) ، وقيل : الخوف : القتل.

وقوله : (رَغَداً).

قال الكسائي : رغد الرجل إذا أصاب مالا أو عيشا من غير عناء وكدّ.

وقال القتبي (٢) : رغدا ، أي كثيرا واسعا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ).

قوله : (رَسُولٌ مِنْهُمْ) ، أي : من أنفسهم ، من نسبهم وحسبهم ، يعرفونه ، كقوله : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦].

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ).

بالتكذيب ؛ حيث وضعوا الشيء في غير موضعه ، أو ظالمون على أنفسهم.

أخبر أنه بعث الرسول من جنسهم ومن حسبهم ؛ لأنه إذا كان من غير جوهرهم لم يظهر لهم الآية من غير الآية ، ولا الحجة من الشبهة ؛ لأنه إذا خرج على غير المعتاد والطوق عرفوا أنه آية ، وأنه حجة ؛ إذ لا يعرفون من غير جوهرهم الخارج عن المعتاد والطوق ، ويعرف ذلك من جوهرهم ، وكذلك يعرف صدق من نشأ بين أظهرهم من كذبه ، ولا يعرف إذا كان من غيرهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً).

قال بعضهم : الحلال والطيب : واحد ، وهو الحلال ، كأنه قال : كلوا ما أحل لكم ؛ كقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) [النساء : ٣] ، أي : ما حل لكم. وقال بعضهم : (حَلالاً طَيِّباً) ، أي : حلالا يطيب لكم ما تتلذّذون به ؛ لأن من الحلال ما لا تتلذذ به النفس ولا

__________________

(١) أخرجه الطبراني كما في مجمع الزوائد (٨ / ٢٦٢) ، عن ابن عباس قال : نصر رسول الله بالرعب على عدوه مسيرة شهرين.

وقال الهيثمي : وفيه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، وهو ضعيف.

(٢) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢٤٩).

٥٨٥

تستطيب ؛ بل تكره ، وقوله : تستطيب له أنفسكم وتتلذذ به ، لا ما تستخبث [به](١) ؛ لأنّ الله جعل غذاء البشر ما هو أطيب وألذ ، وجعل للبهائم والأنعام ما هو أخبث وأخشن ؛ لأن ما هو أطيب أدعى للشكر له.

ويحتمل أن يكون قوله : (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) : لا تبعة عليكم.

وفي الآية دلالة أنه قد يرزق ما يخبث ولا يحل على ما يختاره ؛ حيث شرط فيه الحلال.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).

الشكر له عليهم لازم ، وإن لم تعبدوا ؛ وهو كقوله : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [الأنفال : ١] : طاعته وطاعة رسوله واجبة ، وإن لم يكونوا مؤمنين ، أو يقول : وجهوا شكر نعمه إليه إن كنتم عابدين له بجهة ، أي : افعلوا العبادة له والشكر في الأحوال كلها.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ) [البقرة : ١٧٣].

أي : حرم أكل الميتة وما ذكر ؛ كأنه قال هذا ، وذكر على أثر تحريمهم أشياء أحل لهم ـ لحوما حرموا على أنفسهم ـ أشياء أحل لهم : من الزرع والأنعام ، والبحيرة والسّائبة ، وما ذكر ؛ فقال : لم يحرم ذاك ؛ ولكن إنما حرّم ما ذكر من الميتة والدم ولحم الخنزير ونحوه ، على هذا يجوز أن يخرج تأويله ، وأمّا على الابتداء فإنه يبعد ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (فَمَنِ اضْطُرَّ).

إلى ما ذكر من المحرمات.

(غَيْرَ باغٍ).

على ما نهى عنه ، وهو الشبع ؛ كقوله : (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ) [المائدة : ٣].

(وَلا عادٍ).

إليه. وقال بعضهم : (غَيْرَ باغٍ) : يستحله في دينه ؛ فلا عاد ولا متعدّ في أكله.

وقال بعضهم : غير باغ : على المسلمين مفارق بجماعتهم مشاقّ لهم ، ولا عاد : عليهم ؛ يستفهم ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم وأقاويلهم.

وأمّا تأويله عندنا : (غَيْرَ باغٍ) : على المسلمين سوى دفع الإهلاك عن نفسه ، (وَلا

__________________

(١) سقط في أ.

٥٨٦

عادٍ) : متعد ومتجاوز اضطراره ، ولا يحتمل ما قاله بعض الناس : غير باغ على الناس ولا متعد عليهم ؛ لوجهين :

أحدهما : أنه لا يحتمل البغي على الناس في حال الاضطرار ؛ لأنه لا يقدر عليه والحال ما ذكر.

والثاني : أنه ـ وإن كان باغيا على ما ذكروا ـ لم يبح له التناول من الميتة ؛ يكون باغيا على نفسه ؛ لأنه إن لم يتناول هلكت نفسه ؛ فيصير باغيا على نفسه فدلّ أنّه على ما ذكرنا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) يحتمل : أي : لا تعودوا إلى ما وصفت ألسنتكم من الكذب هذا حلال وهذا حرام ، وألا تقولوا الكذب الذي تصفه ألسنتكم : هذا حلال وهذا حرام.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : لا تقولوا لما أحللتموه : هذا حلال ، ولما حرمتموه : هذا حرام ، وهو كقوله : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ ...) الآية [يونس : ٥٩].

وفي هذه الآية دلالة ألا يسع (١) لأحد أن يقول : هذا مما أحله الله وهذا مما حرمه الله ؛ إلا بإذن من الله ، ومن يقول بأن الأشياء في الأصل على الإباحة أو على الحظر ؛ فهو مفتر بذلك على الله الكذب ؛ لأن الله لم يأذن له أن يقول ذلك ؛ بل نهاه عن ذلك مما ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ).

أي : تكونوا مفترين على الله الكذب إذا قلتم ذا.

فإن قيل : كيف سماهم مفترين على الله بتسميتهم الحرام حلالا ، والحلال ـ حراما؟

قيل : لأن التحليل والتحريم ، والأمر والنهي ـ ربوبية ، فإذا حرموا شيئا أحله الله ، أو أحلوا شيئا حرّمه الله ـ فكأنهم على الله افتروا أنه حرم أو أحل ، أو حرموا هم وأحلوا فأضافوا ذلك إلى الله ـ تعالى ـ أنه هو الذي حرم أو أحل فقد افتروا على الله ؛ لأن من أحلّ شيئا حرمه الله ، أو حرم شيئا أحلّه الله ـ فقد كفر وليس من انتفع بالمحرم ، أو ترك الانتفاع بالمحلل ـ كفر ؛ إنما يصير آثما مجرما ، وكذلك تارك الأمر ومرتكب النهي.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ).

__________________

(١) في أ : يسمح.

٥٨٧

في تحليل ما حرم عليهم ، وفي تحريم ما أحله ، وقولهم : (وَاللهُ أَمَرَنا بِها) [الأعراف : ٣٨].

وقوله ـ عزوجل ـ : (لا يُفْلِحُونَ).

أي : لا يفلحون وهم مفترون على الله ، وأمّا إذا انتزعوا من الافتراء وتابوا أفلحوا ، ولا يفلحون في الآخرة ؛ إذا كانوا مفترين على الله في الدنيا.

ثم قوله : (مَتاعٌ قَلِيلٌ).

على الابتداء ؛ وإنما سمّى قليلا ـ والله أعلم ـ لوجوه :

أحدها : أن متاع الدنيا على الزوال والانقطاع ؛ فكل ما كان على شرف الزوال والانقطاع فهو قليل ، كما قيل لكلّ آت : قريب ؛ لما يأتي لا محالة ؛ فعلى ذلك كل زائل منقطع ـ قليل.

والثاني : سمي قليلا ؛ لما هو مشوب بالآفات والأحزان وأنواع البلايا والشدائد ؛ فهو قليل في الحقيقة ، أو أنّه سمّاه قليلا ؛ لما أن متاع الدنيا قليل عما وعد في الآخرة ؛ فمتاعها من متاع الآخرة قليل ؛ لما ليس فيها الوجوه التي ذكرنا ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ).

وهو ما قصّ في سورة الأنعام ، وهو قوله : (حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) إلى قوله : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) ، وقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا ...) الآية [النساء : ١٦٠].

طوقوا له ـ عزوجل ـ : (وَما ظَلَمْناهُمْ).

بتحريم ما حرمنا عليهم ؛ لأنا إنما حرمنا عليهم تلك الطيبات عقوبة لهم ، وهو ما قال في سورة النساء ، وهو قوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا) [النساء : ١٦٠] ، وهو ما قال : (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) [الأنعام : ١٤٦] أخبر أنه إنما حرم عليهم ذلك ؛ بظلم كان منهم عقوبة وجزاء لبغيهم ، لكن هم ظلموا أنفسهم في ذلك.

أو أن يكون قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ) ؛ لأنهم عبيده وإماؤه ؛ ولله أن يمتحن عباده وإماءه بتحريم مرة ، وبتحليل ثانيا ، ولكن ظلموا أنفسهم ؛ حيث وجهوها إلى غير مالكها ، أو صرفوا شكر ما أنعم عليهم إلى غيره.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ).

أي : عمل السوء بجهالة ، ويحتمل وجهين :

أحدهما : أن الفعل فعل جاهل وسفيه وإن لم يجهل ؛ يقال لمن عمل السوء : يا جاهل يا سفيه.

٥٨٨

والثاني : جهل ما يحل به بعمله السوء.

ثم [قوله](١)(إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ...) إلى آخره ، يمكن (٢) أن يكون في الآية إضمار لم يذكر ؛ لأنه قال : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) ثم كرر ذلك الحرف على الابتداء من غير أن ذكر له جواب ، وهو قوله (إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ).

فظاهر الجواب أن يقول : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ؛ على ما ذكرنا في قوله : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا ...) الآية [النحل : ١١٠] ؛ لكن يخرج على الإضمار ، أو على التكرار : على إرادة التأكيد ، أو على الابتداء والاكتفاء بجواب ذكره في موضع آخر.

ثم قال : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) : هذا ـ والله أعلم ـ جوابه ، أي : إن ربك من بعد التوبة لغفور رحيم ، فهموا قبل أن يعمل السوء ، والعرب قد تكرر أشياء على إرادة التأكيد ، والله أعلم.

قوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)(١٢٤)

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً).

قال عبد الله بن مسعود (٣) : الأمة : الذي يعلم الناس الخير ، والقانت : المطيع لله.

وقال بعضهم : أمة قانتا ، أي : مؤمنا وحده والناس كلهم كفار.

وقال بعضهم (٤) : كان أمة ، أي : إماما يقتدى به [في كل خير ؛ كقوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤].

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) في ب : يجيء.

(٣) أخرجه ابن جرير (٢١٩٧٠) و (٢١٩٧٥) ، وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٥٣).

(٤) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢١٩٨٢) ، وابن أبي حاتم عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٥٣).

٥٨٩

وقال الحسن : كان أمة ، أي سنة يقتدى به (١)](٢).

ويحتمل أن يكون سماه : أمّة ، لما كان كالأمّة والجماعة من القيام مع الأعداء ؛ لأنه ، وإن كان منفردا وحده ، فكان قيامه مع الأعداء والأكابر منهم كالجماعة والأمة ، والممتنع عنهم كالمتفرد. وأصل الأمة ؛ قيل : الجماعة والعدد.

ويحتمل قوله : (كانَ أُمَّةً) ، أي : مجمع كل خير وكل طاعة ؛ لما عمل هو من الخير عمل الجماعة ، واجتمع فيه كل خير ؛ فسمّى أمّة لهذا الذي ذكرنا ، أو أن يكون تفسير الأمة ما ذكر على أثره : (قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً) ، والقانت ، قيل (٣) : المطيع ، والقنوت [هو القيام](٤) ـ كما ذكر ـ أنه سئل عن أفضل الصلاة ؛ فقال : «طول القنوت» (٥) ؛ أي :

__________________

(١) (أمة) : تطلق الأمة على الرجل الجامع لخصال محمودة ؛ قال ابن هانئ : [السريع]

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد

وقيل : (فعلة) تدل على المبالغة ، (فعلة) بمعنى لمفعول ، كالدخلة والنخبة ، فالأمة : هو الذي يؤتم به ؛ قال تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً)[البقرة : ١٢٤] ، قال مجاهد : كان مؤمنا وحده ، والناس كلهم كانوا كفارا ، فلهذا المعنى كان وحده أمة ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في زيد بن عمرو بن نفيل : (يبعثه الله أمة وحده).

وقيل : إنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ممتازين عمن سواهم بالتوحيد والدين الحق ، ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سماها الله تعالى بالأمة إطلاقا لاسم المسبب على السبب.

وعن شهر بن حوشب : لم تبق أرض إلا وفيها أربعة عشر ، يدفع الله بهم البلاء عن أهل الأرض ، إلا زمن إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ فإنه كان وحده ، والأمة تطلق على الجماعة ؛ لقوله ـ تعالى ـ : (أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) [القصص : ٢٣] وتطلق على أتباع الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ؛ كقولك : نحن من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتطلق على الدين والملة ؛ كقولهم : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) [الزخرف : ٢٣] ، وتطلق على الحين والزمان ؛ كقوله ـ تعالى ـ : (إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ) [هود : ٨] ، وقوله ـ جل ذكره ـ : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) [يوسف : ٤٥] ، أي : بعد حين ، وتطلق على القامة ، يقال : فلان حسن الأمة ، أي : حسن القامة ، وتطلق على الرجل المنفرد بدين لا يشرك فيه غيره ؛ كقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «يبعث زيد بن عمرو بن نفيل يوم القيامة أمة وحده» ، وتطلق على الأم ، يقال : هذه أمة فلان يعني : أمه ، وتطلق أيضا على كل جنس من أجناس الحيوان ؛ لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لو لا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها». ينظر : اللباب (١٢ / ١٨٢ ، ١٨٣).

(٢) ما بين المعقوفين سقط في ب.

(٣) هو قول الشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير ، أخرجه ابن جرير عنهم (٢١٩٧٦) و (٢١٩٨٠) و (٢١٩٨١) ، وهو قول ابن مسعود كما تقدم.

(٤) سقط في أ.

(٥) أخرجه مسلم (١ / ٥٢٠) ، كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب أفضل الصلاة طول القنوت (١٦٤ / ٧٥٦) ، والترمذي (١ / ٤١٢) ، أبواب الصلاة باب : ما جاء في طول القيام في الصلاة (٣٨٧) ، وابن ماجه (١ / ٥٣٣) ، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها : باب ما جاء في طول القيام في الصلوات (١٤٢١) ، وأحمد (٣ / ٣٩١) ، والبيهقي (٣ / ٨) ، من حديث جابر بن عبد الله.

٥٩٠

طول القيام ؛ فعلى هذا : المعنى : هو القائم لله في كل ما يعبده وأمر به.

وقيل : (أُمَّةً) ، أي : دينا ؛ لقوله : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) [الأنبياء : ٩٢] ، أي : دينكم دينا واحدا.

وقوله ـ عزوجل ـ : (حَنِيفاً).

قيل : الحاج ، وقيل : الحنيف : المسلم ، وقيل : المخلص ، وفيه كل ذلك : كان حاجّا مسلما مخلصا لله ، وأصل الحنف : الميل ، أي : كان مائلا إلى أمر الله وما يعبده به ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

لا شك أنه لم يكن من المشركين ، لكنه ذكر هذين الوجهين.

أحدهما : لما ادعى كل أهل الأديان أنهم على دينه وانتسب كل فرقة إليه فبرّأه الله من ذلك ، وأخبر أنه ليس على ما هم عليه من الدين ؛ وهو ما قال : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا ...) الآية [آل عمران : ٦٧].

والثاني : ذكر هذا : أنه لم يكن من المشركين بقوله : (هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٧] ؛ لأنه هو كان ذلك عنه على ظاهر ما نطق : كان ذلك في الظاهر إشراكا ، ففيه مشبه في ظاهره ؛ فبرأه الله عن ذلك وأخبر أن ذلك منه لم يكن إشراكا ، ولكن على المحاجة خرج ذلك منه محاجة قومه ؛ لقوله : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣] ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (شاكِراً لِأَنْعُمِهِ).

أي : لم يصرف شكر نعمه إلى غير المنعم ، بل صرف شكرها إلى منعمها ، والشكر في الشاهد هو المكافأة (١) ، ولا يبلغ أحد من الخلائق في المرتبة التي يكافئ الله في أصغر نعمة أنعمها عليه ، ولا يتفرغ أحد عن أداء ما عليه من إحسان الله عليه فضلا أن يتفرغ لمكافأته ؛ لكن الله ـ عزوجل ـ بفضله ومنّه سمّى ذلك شكرا ، وإن لم يكن في الحقيقة شكرا ؛ كما ذكر الصدقة التي تصدّق بها العبد إقراضا كما سمى تسليمه لنفسه وبذله الأمر لله ـ شراء ، وإن كانت أنفسهم وأموالهم في الحقيقة ـ له ، ولا يطلب المرء في العرف القرض من عبده ، وكذلك شراء ؛ لكنّه بلطفه [وفضله](٢) عامل عباده معاملة من لا ملك له في أنفسهم وأموالهم ؛ فعلى ذلك في تسمية الشكر ؛ والله أعلم.

__________________

(١) في أ : المكافآت.

(٢) سقط في أ.

٥٩١

وقوله ـ عزوجل ـ : (اجْتَباهُ).

قال بعضهم : لرسالته ونبوته ، واجتباه من بين ذلك القوم وجعله إماما يقتدى به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وهو دين الإسلام ، وهو ما ذكر : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً ...) الآية [الأنعام : ١٦١].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً).

قال بعضهم (١) : الثناء الحسن ، وقال بعضهم (٢) : الحسنة في الدنيا ؛ لأن جميع أهل الأديان يتولّونه ويرضونه.

ويحتمل أن يكون قوله : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) ، أي : ما آتاه الله ـ لم يؤته إلا حسنة ؛ على ما ذكر في قوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) [البقرة : ٢٠١] ـ أي : ما آتيتناه في الدنيا ، آتنا كلها حسنة ؛ لأن قوله : (حَسَنَةً) إنما هي اسم حسنة واحدة أو أن يكون (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) عند قبض روحه ، أي : على الحسنة قبض روحه.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).

أي : لم ينقص ما آتاه في الدنيا عما يؤتيه في الآخرة ، وقال بعضهم في قوله (٣) : (وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) : النبوة والرسالة ، أو أن يقال : إنّه لم يبين الحسنة التي أخبر أنه آتاها إياه ؛ لكنه خصّ به كما هو خص في قوله : اللهم صل على محمد كما صليت على إبراهيم (٤). قد كان من إبراهيم معنى ؛ حتى خص الله إبراهيم به من بين غيره ؛ فذلك الأوّل ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً).

أي : دين إبراهيم وسبيله ، وذكر في بعض الأخبار عن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال جبريل ـ عليه‌السلام ـ إلى إبراهيم ـ صلوات الله على نبينا وعليه ـ يوم التروية ، فراح به إلى منى فعلمه المناسك كلها ، وأراه أباه ، فأوحى الله إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)(٥) ؛ فنحن أمرنا أن نتبع ملّته في الحج وفي غيره.

__________________

(١) قاله البغوي (٣ / ٨٩).

(٢) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢١٩٨٧) ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٢٥٣).

(٣) قاله البغوي (٣ / ٨٩).

(٤) قاله مقاتل بن حيان بنحوه ، كما في تفسير البغوي (٣ / ٨٩).

(٥) أخرجه عبد الرزاق وابن أبي شيبة في المصنف ، وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن ابن عمرو بنحوه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٥٤).

٥٩٢

وأصل الملّة : الدّين ، والله أعلم ؛ كقوله : «لا يتوارث أهل ملّتين» (١) ، أي : أهل دينين.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ).

قال بعضهم (٢) : اختلافهم ؛ وذلك أن موسى ـ عليه‌السلام ـ أمر بني إسرائيل أن يتفرغوا في كل سبعة أيام يوما للعبادة ، وهو يوم الجمعة ، وينزعوا فيه عمل دنياهم ؛ فقالوا : نتفرغ يوم السبت ؛ فإن الله لم يخلق يوم السبت شيئا ؛ فقال فريق منهم : انظروا إلى ما يأمركم نبيّكم ؛ فخذوا به ، فذلك اختلافهم ؛ فجعل لهم يوم السبت على ما سألوا ، فاستحلوا فيه المعاصي ؛ فحرم الله عليهم العمل فيه ؛ عقوبة لهم.

وقال الحسن وقتادة : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ) ، أي : إنما لعن في السبت ؛ فمسخوا قردة (الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) ، وكان اختلافهم أنه حرمه بعضهم ، واستحله بعض.

وقال أبو بكر : اختلافهم كان في تكذيب الرسل والأنبياء فمنهم من صدق ، ومنهم من كذب ؛ فحرم عليهم يوم السبت ؛ عقوبة [لهم](٣) ؛ أو أن يكون اختلافهم ما سألوا موسى من الآيات العجيبة والأسئلة الوحشة ؛ كقولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً)

__________________

(١) أخرجه أحمد (٢ / ١٧٨) ، وأبو داود (٣ / ٣٢٨) كتاب : الفرائض ، باب : هل يرث المسلم الكافر ، حديث (٢٩١١) ، وابن ماجه (٢ / ٩١٢) كتاب : الفرائض ، باب : ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك ، حديث (٢٧٣١) ، وسعيد بن منصور في سننه رقم (١٣٧) ، وابن الجارود في المنتقى رقم (٩٦٧) ، والدارقطني (٤ / ٧٥) كتاب : الفرائض ، حديث (٢٥) ، وابن عدي في الكامل (٥ / ٨٢) ، والبيهقي (٦ / ٢١٨) كتاب : الفرائض ، باب : لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ، والبغوي في شرح السنة (٤ / ٤٧٩) ، والخطيب في تاريخ بغداد (٥ / ٢٩٠) ، وابن عبد البر في التمهيد (٩ / ١٧٢) كلهم من طريق عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يتوارث أهل ملتين شتى».

والحديث صححه ابن الملقن في خلاصة البدر المنير (٢ / ٣٥) ، فقال : رواه أبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه ، والدارقطني من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وإسناد أبي داود والدارقطني إسناد صحيح اه.

قال الألباني في إرواء الغليل (٦ / ١٢١) : وهذا سند حسن اه ، وللحديث شاهد من حديث جابر :

أخرجه الترمذي (٤ / ٤٢٤) كتاب : الفرائض ، باب : لا يتوارث أهل ملتين ، حديث (٢١٠٨) من طريق ابن أبي ليلى عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يتوارث أهل ملتين» ، وقال الترمذي : هذا حديث لا نعرفه من حديث جابر إلا من حديث ابن أبي ليلى.

وضعفه ابن الملقن في «الخلاصة» (٢ / ١٣٥) ، فقال : رواه الترمذي من رواية جابر بإسناد ضعيف.

(٢) قاله الكلبي كما في تفسير البغوي (٣ / ٩٠) ، وعن السدي أخرجه ابن أبي حاتم ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٥٤).

(٣) سقط في أ.

٥٩٣

[البقرة : ٥٥] ، وكقوله : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] ، ونحوه بعد ما أقام عليهم من الآيات ما كانت لهم فيها كفاية فيشبه أن يكون اختلافهم الذي ذكر ذلك.

وقوله : (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) : يخرج على وجهين :

أحدهما : إنما جعل محنة السبت على الذين اختلفوا فيه ، أي : على الذين فسقوا فيه ؛ حيث قال : (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ).

والثاني : إنما جعل عقوبة السبت على الذين اعتدوا فيه دون الذين اختلفوا فيه ؛ لأن فريقا منهم قد نهوهم عن ذلك ، وفريقا قد اعتدوا ؛ فأهلك الذين اعتدوا دون الذين نهوهم.

وقوله : (اخْتَلَفُوا فِيهِ) : يحتمل فيه ، أي : في موسى ، أو في يوم السبت الذي اختلفوا فيه وعوقبوا فيه ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

يحكم بينهم بالجزاء ، ويحكم بما بين لهم المحق من المبطل :

[لكن لو قيل : قد بين في الدنيا : بين المحق من المبطل ؛ حيث أهلك](١) فريقا ؛ وأنجى فريقا ؛ فكيف قال : يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون؟ لكن يشبه أن يكون ذلك بالجزاء على ما ذكرنا.

قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)(١٢٨)

وقوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ).

قيل : دين ربك.

(بِالْحِكْمَةِ).

قال الحسن : الحكمة : القرآن (٢) ، أي : ادعهم إلى دين الله بالقرآن.

وقال بعضهم : بالحكمة : بالحجة والبرهان ، أي : ادعهم إلى دين الله بالحجج والبراهين ؛ أي : ألزمهم دين الله بالحجج والبراهين ؛ حتى يقروا به.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ).

قال الحسن : أي عظهم بالمواعظ التي وعظهم الله ـ تعالى ـ في الكتاب.

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ذكره البغوي (٣ / ٩٠) ، ولم ينسبه لأحد.

٥٩٤

وقال أبو بكر : أي ذكرهم النعم التي أنعم عليهم ، (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، أي : جادلهم أحسن المجادلة بلين القول ، وخفض الجانب والجناح ؛ لعلهم يقبلون دينهم ، ويخضعون لربهم.

وكذلك اختلفوا في قوله : (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) [المائدة : ١١٠] ، وقوله : (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) [آل عمران : ٨١] : قال الحسن : الكتاب والحكمة : واحد ؛ اسم شيء ، وهو القرآن.

وقال بعضهم : الكتاب هو القرآن ، وهو سماع الوحي ، والحكمة : وحي الإلهام ، وهو السنة.

وقال بعضهم : الكتاب : هو التنزيل ، والحكمة : هي المعنى المودع فيه ؛ فمن يقول : إن الكتاب والحكمة واحد ، وهي القرآن يقول في قوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) : القرآن ، ومن يقول عنه : إنهما غير ـ يقول ـ هاهنا ـ : إنّ الحكمة : الحجة والبرهان ، إمّا من جهة الإلهام أو من جهة الانتزاع من الكتاب.

ويحتمل أن يكون قوله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) : التي ذكر في هذه السورة ؛ من ذلك قوله : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) [النحل : ٦٩] : يعني : من بطون النحل ، وقوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ) [النحل : ٦٦] ، وما ذكر أنه يخرج من الخشب اليابسة ـ الأعناب وأنواع الثمرات ونحوه ؛ فذلك كله بحكمته ، أي : ادعهم إلى دينه وذكرهم بهذا ، وهم يقرون به ؛ ليقبلوا دينه ويخضعوا لأمره.

والموعظة الحسنة : ما ذكر في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ...) الآية [النحل : ٩٠] ، وذلك كله مستحسن في العقل وتوجبه الحكمة ؛ لأن العدل والإحسان ، وما ذكر من إيتاء ذي القربى ـ الصدقة ـ مستحسن في عقل كل أحد. والانتهاء ـ أيضا ـ عن الفحشاء والمنكر مستحسن ، مستقبح ارتكابه وإتيانه ؛ كأن الحكمة هي التي تشتمل على العلم والعمل جميعا ؛ كأنه قال : ادعهم إلى دين الله بالعلم والعمل جميعا ؛ حتى ينجع ذلك فيهم ؛ أو : ادعهم باللّين وخفض الجناح مرة ، [و] بالعنف والخشونة ثانيا ؛ فيكون وضع الشىء موضعه ، ثم قال : (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

يحتمل ـ والله أعلم ـ أي : جادلهم بالذى يقرون على ما ينكرون ، وهو ما ذكر : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ ...) الآية [النحل : ١٧] ، وقوله : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً)

٥٩٥

[النحل : ٧٣] ، وقوله : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً ...) الآية [النحل : ٧٥] ، وقوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ ...) الآية [النحل : ٧٦] ، وقوله : (وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ...) الآية [النحل : ٧١] ، ونحو هذا.

يجادلهم بأحسن المجادلة بالذى يقرون أنه كذلك على الذي ينكرون ؛ فيلزمهم القبول والخضوع له.

ثم في الآية دلالة تعليم المناظرة في الدين وكيفية المعاملة ـ بعضهم لبعض ـ فيها ؛ حيث قال : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ) : التي عنده بالقرآن أو غيره من الحجج والبينات ، (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) : هكذا يجب أن يناظر بعضهم بعضا بالوجه الذي وصف الله ، وعلى ذلك ما ذكر الله في كتابه : مناظرة الأنبياء والرسل مع الفراعنة والأكابر ، وهو ما قال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ ...) [البقرة : ٢٥٨] إلى آخر ما ذكر ، وقوله : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ ...) الآية [الأنعام : ٨٠] ، [و] مناظرة فرعون مع موسى ـ صلوات الله عليه ـ حيث قال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ...) الآية [الشعراء : ٢٣ ، ٢٤] ، ولما قال : (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [الشعراء : ٢٨] ، وقوله : (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَأَلْقى عَصاهُ) [الشعراء : ٣١ ، ٣٢] ، وما قال : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى. قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) [طه : ٤٩ ، ٥٠] وأمثاله ممّا يكثر ، فهذه مناظرة الرسل والأنبياء مع الفراعنة والأعداء ؛ فكيف المناظرة بين الأولياء؟! فهذا كله يردّ على من يأبى المناظرة في الدين ويمتنع عن التكلم فيه والاحتجاج.

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ).

في الآية نسبتهم إلى الضلال إشارة وكناية لا تصريحا ؛ لأنه لم يقل لهم مصرحا : إنكم قد ضللتم عن سبيله ؛ لحسن معاملته التي علم رسوله وأمره أن يعاملهم ؛ لأن ذلك أقرب إلى القبول وأميل إلى القلوب وآخذ (١) ؛ ألا ترى أنه قال لموسى وهارون حين أرسلهما إلى فرعون : (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) [طه : ٤٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ).

اختلف في سبب نزول ذلك :

__________________

(١) في أ : وأحن.

٥٩٦

قال بعضهم : [نزلت](١) في أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أن نفرا منهم قد مثلوا يوم أحد مثلة سيّئة : من قطع الآذان ، وتجديع الأنوف ، وبقر البطون ، ونحوه ؛ فقال أصحابهم : لئن أدالنا الله منهم لنفعلن ولنفعلن كذا وكذا. فأرادوا أن يجازوا بذلك ؛ فأنزل الله : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ...) الآية [النحل : ١٢٦](٢).

وفيه البشارة لهم بالنصر والظفر على أعدائهم ؛ لأنه لو لم يكن لهم الظفر فكيف يقدرون على معاقبة مثل ما عاقبوا ؛ دل أنه على البشارة لهم بالنصر والظفر بهم. وفيه دلالة جواز أخذ من لم يتولّ القتل والأخذ والضرب ؛ لما لعلهم لا يظفرون بأولئك الذين تولّوا ذلك ، لكن لا يؤاخذ إخوانهم بهم ؛ لما بمعونة بعضهم بعضا فيها ، ويكون فيه دليل أخذ قطاع الطريق بالقتل والقطع ، وإن كان الذي تولّى ذلك بعض منهم ؛ لما أن من تولّى ذلك إنّما تولى بمعونة من لم يتول.

وقال بعضهم (٣) : إنما نزلت الآية في ابتداء الأمر الذي كان القتل مع الكفرة قتل مجازاة ؛ مثل قوله : (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [التوبة : ٣٦] ، وكقوله : (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة : ١٩١] ، ومثله ؛ فإذا كان على المجازاة أمر ألا يتجاوزوا عقوبتهم ، ولكن بمثله ، وأمّا إذا كان القتال معهم لا قتال مجازاة فإنهم يقتلون جميعا إذا أبوا الإسلام ؛ بقوله : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ...) الآية [التوبة : ٢٩] ، وقوله ـ عليه‌السلام ـ : «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله» (٤) ، وقوله ـ تعالى ـ (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦].

وقال بعضهم (٥) : لا ، ولكن قد نزلت في أهل الإسلام ، وحكمه في القصاص والقطع فيما دون النفس والجراحات : أمر ألا يتجاوزوا حقوقهم ؛ كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ، وقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ ...) الآية [البقرة : ١٩٤] ، وقوله :

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) ورد في هذا المعنى أحاديث عن أبي بن كعب وأبي هريرة وابن عباس.

حديث أبي بن كعب : أخرجه الترمذي وحسنه ، وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، والنسائي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان وابن مردويه والحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل.

حديث أبي هريرة : أخرجه ابن سعد والبزار وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل.

حديث ابن عباس : أخرجه ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل ، وهي جميعها في الدر المنثور (٤ / ٢٥٥) ، وهو قول الشعبي وعطاء بن يسار وقتادة وابن جريج.

(٣) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير (٢٢٠٠١) ، وابن مردويه عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٢٥٦).

(٤) تقدم.

(٥) قاله محمد بن سيرين بنحوه ، أخرجه ابن جرير (٢٢٠٠٣) ، وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٢٥٦) ، وهو قول إبراهيم والحسن وعبد الرزاق وسفيان ومجاهد.

٥٩٧

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ...) الآية [البقرة : ١٧٨](١).

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ).

على ذلك.

(لَهُوَ خَيْرٌ) أي : الصبر خير (لِلصَّابِرِينَ).

ودل قوله : (وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) على أن الآية في القصاص لا في الحرب ؛ لأنه في الحرب لا يقال اصبر ولا تصبر ، بل يكون الصبر جهادا ؛ دل أنه في غير المحاربة ، والله أعلم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ).

أي : ما توفيقك على الصّبر إلا بالله ؛ كقول شعيب : (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ ...) الآية

__________________

(١) قال الواحدي ـ رحمه‌الله ـ : هذه الآية فيها ثلاثة أقوال :

أحدها : وهو قول ابن عباس في رواية عطاء وأبي بن كعب والشعبي ـ رضي الله عنهم ـ : أن النبي (لما رأى حمزة وقد مثلوا به ، قال : «والله لأمثلن بسبعين منهم مكانك» ؛ فنزل جبريل ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بخواتيم سورة النحل ، فكف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمسك عما أراد ؛ وعلى هذا قالوا : سورة النحل مكية إلا هذه الثلاث آيات.

والقول الثاني : أن هذا كان قبل الأمر بالسيف والجهاد ، حين كان المسلمون لا يبدءون بالقتال ، ولا يقاتلون إلا من قاتلهم ، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ : (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا)[البقرة : ١٩٠] ، وفي هذه الآية أمروا بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا ، فلما أعز الله الإسلام وأهله ، نزلت «براءة» وأمروا بالجهاد ، ونسخت هذه الآية ، قاله ابن عباس والضحاك.

والقول الثالث : أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم ، وهذا قول مجاهد ، والنخعي ، وابن سيرين.

وقال ابن الخطيب : وحمل هذه الآية على قصة لا تعلق لها بما قبلها ، يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله ـ تعالى ـ وهو في غاية البعد ، بل الأصوب عندي أن يقال : إنه ـ تعالى ـ أمر محمدا بدعوة الخلق إلى الدين الحق بأحد الطرق الثلاثة ، وهي الحكمة ، والموعظة ، والجدال بالطريق الأحسن ، ثم إن تلك الدعوة تتضمن أمرهم بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم ، والحكم عليهم بالكفر والضلالة ، وذلك مما يشوش قلوبهم ، ويوحش صدورهم ، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الداعي بالقتل تارة ، وبالضرب ثانيا ، وبالشتم ثالثا ، ثم إن ذلك الداعي المحق إذا تسمع تلك السفاهات ، لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء ، تارة بالقتل ، وتارة بالضرب ، فعند هذا أمر المحقين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف ، وترك الزيادة ، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه.

فإن قيل : فكيف تقدحون فيما روي أنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ترك العزم على المثلة ، وكفر عن يمينه بسبب هذه الآية؟

قلنا : لا حاجة إلى القدم في تلك الرواية ؛ لأنا نقول : تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية ، فيمكن التمسك بتلك الواقعة بعموم هذه الآية ، وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله تعالى.

ينظر : اللباب (١٢ / ١٨٨ ، ١٨٩).

٥٩٨

[هود : ٨٨].

والثاني : واصبر وما صبرك إلا بالله ، أي : تركك القصاص لأمر الله ؛ حيث أمرك به ، لا لضعف أو عجز فيك.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ).

قال : إنه كان يحزن ويضيق صدره ؛ لمكان كفرهم بالله ، وتركهم الإيمان بالله ؛ كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٢] ، وقوله : (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) [فاطر : ٨] ؛ فقال : (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) : لذلك على التسلي والتخفيف لا على النهي عن ذلك.

ويحتمل : أن يكون قوله : (وَلا تَحْزَنْ) : على المؤمنين الذين قتلوا واستشهدوا ؛ لأنهم مستبشرون فرحون عند ربّهم بما آتاهم الله من فضله [؛ كقوله : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ)](١) أي : لا تحزن عليهم ، وهم فيما ذكر.

أو لا تحزن على المؤمنين ، ولا يضيقن صدرك مما يمكر بك أولئك الكفرة ؛ إذ كانوا يكفرون برسول الله وبأصحابه ويؤذونهم ، أخبر أن لا يضيقن صدرك لذلك.

وقال بعضهم : نزلت في أمر حمزة سيّد الشهداء : أنه مثل به وجرح جراحات عظيمة ؛ فاشتد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «لئن ظفرنا بأولئك لنفعلنّ كذا ولنفعلنّ كذا» ؛ فنزلت الآية : (وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ ...)(٢) ، لكن إن ثبت هذا فإنه يكون في الوقت الذي كان يؤخذ غيره ـ القاتل والجارح ـ بالقتل ، وذلك قد كان في الابتداء ؛ ألا ترى أنّه قال : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ...) [البقرة : ١٧٨] : كانوا همّوا أن يأخذوا الحرّ بالعبد والذكر بالأنثى ، حتى نزل هذا فصار منسوخا به ، وبقوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] ، ولو كان يؤخذ غير القاتل بالقصاص ـ لم يكن فيه حياة ، أو إن قالوا في الحرب مع الكفرة فذلك لا يحتمل ؛ لأنه في الحرب لهم أن يقتلوا الكل ، وألا يتركوا واحدا منهم ؛ دلّ أنه يخرج على أحد وجهين :

على النسخ الذي ذكرنا.

أو على النهي عن أخذ أكثر من حقه ، وكقوله : (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ ...) الآية [البقرة : ١٩٤].

وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا).

__________________

(١) سقط في أ.

(٢) تقدم.

٥٩٩

[يحتمل : اتقوا](١) مخالفة الله ورسوله بالنصر لهم والعون ؛ فإن الله ناصركم ومعينكم عليهم.

وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

في العمل والتوحيد ، أو يقول : إن الله مع الذين اتقوا محارم الله وارتكاب مناهيه بالنصر لهم والمعونة.

(وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ).

إلى نعم الله ـ عزوجل ـ بالقيام بالشكر لها.

وبالله التوفيق ، وصلى الله ـ تعالى ـ على سيدنا محمد وآله أجمعين.

* * *

__________________

(١) سقط في أ.

٦٠٠